مَسارُ العلاقة السورية اللبنانية: الاقتصاد السياسي للسيطرة

أحمد بيضون

Sep 27, 2016

ما هو من بعدُ هذا «الاقتصاد السياسي للسيطرة السورية» على لبنان الذي تكرّس له اليزابيث بيكار ذاك الفصل الألمعيّ من كتابها الأخير؟
تقول المؤلّفة إنها لا تقصر المقاربة الاقتصادية على ما هو مادّي من وسائل وغايات، وإنما تلحظ المساق الاجتماعي والتجربة التاريخية في معاينتها تكوين الهويّات وتشكّل التصرّفات والمصالح. فهي تقتفي أثر كارل بولانيي في النظر إلى الاقتصاد على أنه بعدٌ من أبعاد الاجتماعي، بل هي تصل أيضاً إلى الاعتراف بقيمة معرفية لما يسمّيه جيمس ياسبرز وبرتراند بادي «البعد العاطفي» من الاقتصاد السياسي.
عليه تقرّر المؤلّفة أن السيطرة السورية على لبنان غادرت في الأعوام 1990 – 2005 حال الثمرة المباشرة للتدخل السوري في الحرب اللبنانية لتتخذ لها مرتكزاً شبكاتٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية فيها لبنانيون وسوريون وفيها فلسطينيون أيضاً.
كانت الحرب اللبنانية، على ما سبقت الإشارة إليه في عجالتنا الماضية، قد أسهمت في تحويل المعايير والممارسات الاقتصادية تحويلاً مرشّحاً للدوام عقوداً بعدها. فإذ فتّتت المشهد العام وعسكرَتْه خرّجت أيضاً مقاولين للسياسة من عداد السلك المقاتل مدخلةً العنف الصريح في الضبط الاجتماعي. والأهمّ أن الخروج من الحرب حكمه سياق سياسي ومؤسّسي كان أبرز معالمه الخروج السوري من اشتراكية الدولة ومغادرة سورية الخيار العسكري في مواجهة إسرائيل. كانت الساعة الأمريكية تدقّ في العراق وفلسطين فيما كان اتّفاق الطائف يتّخذ مساراً التبس فيه التطبيق بالتحوير. ويستوقف المؤلّفة «سَيْلُ» الاتفاقات التي تبعت «معاهدة الأخوة والتضامن والتنسيق» بين لبنان وسورية. وهذه اتفاقات تَصاحَب في صياغتها وإقرارها قدْرٌ من الاستعجال وقدْرٌ من قلّة الاكتراث. ولكن يستوقف المؤلّفة، على الأخصّ، ما نشأ من شبكات سورية لبنانية، في تلك المرحلة، مثّلت نسيجاً للمجال السوري اللبناني الجديد. داخلت هذه الشبكاتُ الهياكلَ المؤسّسية ولابس عملُها التشغيلَ البيرقراطي وعدّل إوالاته.
كانت الحرب قد مهّدت لهذا كلّه بإفقاد السلطات اللبنانية سيطرتها على الأرض وعلى الحدود. وهو ما أسفر في المنطقة المحاذية للحدود السورية عن مضاعفة زراعة الحشيش بين عامي 1975 و1984. وفي سنة 1984، أَحلّت القيادةُ السورية في جُرْد بعلبك مجموعاتٍ مسلّحة منها الفلسطيني (فتح المجلس الثوري لصاحبها أبو نضال) ومنها الأرمني (الجيش الأرمني السرّي-ASALA) ومنها الكردي (حزب العمّال الكردستاني) فبدأت، في المنطقة، زراعة الخشخاش. وموّل تصديرُ مشتقّاته شراءَ الأسلحة وأرضى شيئاً من جشع قادة الحرب وشركائهم من «المدنيين».
هكذا شهد أصحاب الثروات الموروثة الذين مالأوا المليشيات مضطرّين أو مختارين ظهورَ مقاولين جدد كثيراً ما كانوا ذوي اختصاص حقوقي أو هندسي وقد راكموا بعض الثروة من هجرات حديثة مختلفة الآفاق. وضع هؤلاء، على وجه السرعة، أيديهم على الفرص التي أتاحها تعطّل التموين العمومي (بالحبوب والمحروقات خصوصاً) وأفادوا بلا خوفٍ من حسابٍ من تلف السجلّات العقارية أو تعذّر الوصول إليها واستثمروا عجز الشرطة عن قمع الاستهلاك الهمجي للمياه والمقالع والرمول. في حمّى الاستعجال وفقدان الضوابط هذين، تكوّنت الثروات الجديدة بفعل أنشطة مضاربية وريعية غيّرت تكوينَ الرأسمالية اللبنانية ووجوهَ ممارستها. وفي جميع الطوائف، قَلَب ظهورُ الأغنياء الجدد ما كان معروفاً من تراتباتٍ اجتماعية منذ زوال الدولة العثمانية.
ذاك هو الوضع الذي انطلقت منه الوصاية السورية على لبنان بعد اتّفاق الطائف. فمذ ذاك استوى الاقتصاد اللبناني أرض «افتراس» سلّمت به أوساطٌ من المجتمع اللبناني أعرَضُ بكثير من تلك المؤيّدة أصلاً للنظام السوري. ومثّل تكوين «الشبكات» جواباً على قصور سلطة الدولة. فالشبكات، بتكثيرها فرص التفاعل، تُصرّف ما لا يسع المؤسسات استقطابَه من ولاءات الأفراد، ولكن هذا كان يقتضي، في الحالة التي نتناول، ما سمّاه جوزف مايلا انتقالاً لبنانيّاً «من الخضوع إلى الخنوع»…
في ختام هذا الاستعراض لجوانب السيطرة السورية على لبنان وصيغها، تتوقّف بيكار عند المعالجة الأسدية لأوضاع القوّات المسلّحة اللبنانية. وخلاصة الأمر ههنا أن الجيش اللبناني حُمِلَ على اعتماد النموذج الذي ميّز ما كان يسمّى «الجيوش الوطنية» في عددٍ من الدول العربية. وهذا في حينٍ كانت فيه الجيوش المذكورة في سبيلها إلى مجافاة هذا النموذج. والسمة الرئيسة لهذا النموذج هي شركة الجيوش الوثيقة في حماية الأنظمة السلطوية القائمة. وهذا يقتضي وفرةَ العديد ويقتضي الأفضليةَ الإجمالية في المعاملة على أسلاك الوظيفة المدنية إلى إخضاع العسكر، مع ذلك، لرقابة أجهزة أمنية مختلفة وجعل مهمّات الجيش شبه محصورة في النطاق المعتاد لعمل الشرطة. في هذا المساق، أعيد تنظيم ما كان يطلَق عليه اسم «المكتب الثاني» واختير قائد الجيش لرئاسة الجمهورية وتوالى اختيار وزراء الدفاع من بين المقرّبين إلى دمشق وأصبح ضابطٌ سوريّ رفيع الرتبة يحضر اجتماعات مجلس الدفاع اللبناني وبوشر السعي إلى «تطبيع» الضبّاط اللبنانيين في دورات مدفوعة البدل من 18 شهراً في المدارس الحربية السورية وأفاد هؤلاء أيضاً من إقامات في منتجعات مخصّصة للضبّاط على الشاطئ السوري. وتستذكر بيكار من بين أصناف النشاط «العسكري» أن رفعت الأسد الذي كانت مليشياه قد ضلعت في النهب والمصادرة منذ الثمانينيات، في أرجاء لبنانية مختلفة، قد بسط حمايته على فريق من رجال الأعمال وهذا قبل أن يتحول إلى الاستثمار المباشر شريكاً لبعض أسر الشمال اللبناني. وعلى الإجمال، أصبحت كلّ شبكة لبنانية تحظى برعاية ضابطٍ سوري يعاونه رديفٌ لبناني عند اللزوم. فيما بقيت الشبكات ذات الطابع الدولي كتلك المختصة بتهريب الهيرويين الأفغاني خاضعة حصراً لإشراف القادة الكبار، تعرف طريقها المباشر من البرّ السوري إلى المرافئ اللبنانية. كان تعدّد الرؤوس هذا في العلاقة اللبنانية السورية، كما في توزّع الأجهزة الاستخبارية في سورية نفسها، مناسباً لحافظ الأسد الذي كان غضُّ النظر عن الإثراء الشخصي لمعاونيه يضمن له ولاءهم ويمثّل، في الوقت نفسه، ذريعة لإزاحة من يظهر داعٍ لإزاحته بدعوى مكافحة الفساد! هذا يستوفي عناصرَ ما تطلق عليه بيكار اسم «التذاوت» أي إسفار علاقة التداخل الموضوعي عن نوعٍ من الامتزاج التفاعلي بين الذاتين السورية واللبنانية. على أن هذا «التذاوت» استبقى عناصر «تمايز» هي التي يصفها القسم الثالث (الأخير) من كتاب بيكار. وهو القسم الذي نكرّس له ولخلاصة الكتاب عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

الحربُ ضابطاً للعلاقة السورية اللبنانية

أحمد بيضون

Sep 20, 2016

لا تجد إليزابيت بيكار ما هو أولى من العنف بصدارة العوامل التي صاغت العلاقة اللبنانية السورية في نصف قرنٍ انقضى بين أواسط القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الجاري. كان العنف سيّداً، في هذه المدّة، بما هو أسلوب للعلاقة بين الدولتين وبما هو تغليب للقوّة على القانون وبما هو إرساء لاقتصادٍ افتراسي سيطر عليه حملة السلاح وبما هو ثمرة في العلاقات الاجتماعية لتأويلها بلغة العداء بين هويّات. ولم يكن مسارا البلادين متشابهين ولكنّهما تداخلا إلى حدّ الاستواء في نظام واحد والانخراط، وهما في حال التداخل ذاك، في النظام الإقليمي.
تنتظم هذا التحليل البيكاري ثلاثة تصوّرات هي «السيادة» و»الأمن» و»العنف». ولكن الأخير هو ما يقبع في قلب ديناميّات العلاقة الثنائية وهو ما يستوي «صَرْفاً ونحواً» للاجتماع هنا وهناك وكاشفاً للسياسة بما هي «مواصلة للحرب بوسائل أخرى» بخلاف عبارة كلاوسفيتس التي استوقفت ميشال فوكو بعد قلبها رأساً على عقِب. وليس أقلّ ما تفعله الحرب أنها تحوّل الاقتصاد بعمومه وعلاقات الإنتاج على الخصوص إذ تطلق العنان لنموّ القطاع غير النظامي وتبيح الفساد الكبير الذي يتحكّم فيه أهل السلاح أيضاً وتستدرج، في المواجهة، نشوء إستراتيجيات شعبية مدارها البقاء. تعبث الحرب بالمراتب الاجتماعية أيضاً فتخفض وترفع وتنشئ علاقة متفاوتة بالسلطة وبالعدالة تضع فَعَلة العنف في القمّة وتمكّنهم، إلى هذا الحدّ أو ذاك، من إلحاق الجهازين الديني والثقافي بركابهم. هذا التغيير العميق في المعايير الاجتماعية يأتي موعوداً ببقاء مديد وتصبح معه القطيعة مع دولة القانون عسيرة المعالجة ويسود لتبرير الممارسات المستجدّة خطابُ الذاكرة القائم على إبراز موقع الضحية التاريخي وطلب الثأر.
تباشر بيكار تتبعّها لوطأة الحرب هذه على العلاقة السورية اللبنانية بمقارنة بين البلادين تواجه ما بين المعالم الرئيسية لهذه ولتلك على أصعدة الأرض والسكّان والدخل والنموّ… ولا غرو أن تختتم هذه المقارنة بالمعطيات المتعلّقة هنا وهناك بالقوّات المسلّحة. ولا غرو أيضاً أن تظهر جليّة حدّة التفاوت في القوة بين الدولتين. ولكن هذا التفاوت تعوّضه شيئاً ما، في ما ترى المؤلّفة، فاعلية استثنائية للقوّة «الناعمة» في الحالة اللبنانية. تتمثّل هذه القوّة في ما يتمتّع به النموذج اللبناني من جاذبية ثقافية بالمعنى الأعمّ أي، على الخصوص، بما هو أسلوب حياة رخيّة لا يناظرها في الدنيا العربية لجهة مسايرة التنوّع ووفرة المبادلات الاجتماعية سوى مكانة التمتع في الحياة المغربية. وهو ما جعل قادة القوّات السورية التي طالت مرابطتها في لبنان يقلقون على عناصرهم لا من اعتياد التجاوز على الحقوق ومن الفساد بل من الرخاوة اللبنانية. وهو ما جعل القوّة السورية أيضاً تعمد إلى وضع حدّ قطعي لحالات لبنانية اكتسبت وهجاً غير متناسب ومقتضيات السيطرة السورية وأبرزها حالتا كمال جنبلاط ورفيق الحريري.
وأما السيادة بما هي مدار نزاع في العلاقة السورية اللبنانية فينبغي إدراج مصيرها، في العقود الأخيرة، في مسارٍ يتجاوز الدولتين. لا بدّ للسيادة من مقوّمات موضوعية أهمّها الحدود الثابتة والإدارة المستقرّة والهويّة المواطنية. ولكن تعاظمت الحاجة إلى احتساب الدلالات التي يسبغها الفاعلون الاجتماعيون على هذه المقوّمات في مبادلاتهم المختلفة. وهو ما يسوّغ للمؤلّفة اعتبار السيادة حالةً «ذاتية» أيضاً يتحوّل التعلق بها بما هي كذلك.
ولمقاربة إشكالية السيادة هذه تختار المؤلّفة ثلاثة تشكّلات تتقدّم فيها العلاقة السورية اللبنانية. الأوّل في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي وقد اندرجت هذه العلاقة في أثنائه في التجاذب الأمريكي المصري لموازين الشرق الأوسط وهذا في ظلال الحرب الباردة. والثاني في مطلع السبعينات أي بعد أن أصبحت الأرض اللبنانية محلا للتنازع بين الكفاح الوطني الفلسطيني والمطامح السورية. وهو ما أفضى بالعلاقة بين كلّ من هذين الطرفين ولبنان إلى علاقة أكثر نزاعية وأكثر حميمية في آن. وهذا في ظرف تنازع الدولتين العظميين للقواعد والموارد وتعاظم أهمّية الشرق الأوسط. وهو ما أفضى إلى توزّع إجماليّ للنخب، في الإقليم، ما بين نوعين من الأنظمة: «اشتراكية» و»محافظة». وأما التشكل الثالث فوافق نهاية حرب لبنان في آخر الثمانينات وذلك في مناخ دولي تبدّل تبدّلاً جذريّاً وأفضى تبدّله إلى فتح أفق لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية وإلى تهميش القوّة العراقية. وهو ما انتهى أيضاً إلى إرساء وصاية سورية على لبنان كان لها وجه السيطرة العسكرية الفجّة وكان لها أيضاً وجه تمثّل في مكاسب اقتصادية بقيت حتى ذلك الحين غير مأمولة.
تخصّ المؤلّفة كلا من هذه التشكّلات بصفحات تبدي تغيّراً حصل من حالة إلى حالة في «صيغة تأطير العلاقة الثنائية بالإطار الدولي». وهذه مقاربة تظهر ما لكلّ من هذه التشكّلات من فرادة وتوضح ملامح الأفق الذي دخل فيه. فبينما حُسمت أزمة 1958 اللبنانية على وجه السرعة في أعقاب الانقلاب العراقي بفعل التفاهم الأمريكي المصري، وذلك في ظرف الهيمنة الناصرية على سوريا، تفاعلت الأزمة اللبنانية أيضاً من عام 1973 إلى عام 1976 على نحو أنشأ علاقة «سلطانية» بين ساسة لبنان وحكّام دمشق. وقد أصبحت هذه العلاقة، بحكم تقبّلها الدولي، أشدّ وقعاً، في ما ترى المؤلّفة، على السيادة اللبنانية من الضربات الإسرائيلية ومن الاجتياح الإسرائيلي. ففي ما يتعدّى محو الحدود بين الدولتين السورية واللبنانية بالدبّابات أدّت مصادرة الحقّ اللبناني في تقرير المصير إلى إنشاء «مجالٍ تَذاوُتيّ» اختلطت فيه السيادتان على تفاوت وطّد خضوع إحداهما للأخرى. وأمّا تشكّل ما بعد الحرب اللبنانية فقد شهد تشدّداً سوريّاً أصبح «تلازم المسارين» عنواناً له وذلك بعد أن لم يبق في يد دمشق غير «الورقة» اللبنانية للضغط والمقايضة في موسم التفاوض.
وكان للتشدّد السوري، فضلاً عن وجه التعسّف السياسي، وجه اقتصادي تكرّس له بيكار فصلاً بالغ الأهمّية هو الخامس من كتابها. على أننا قبل الإفضاء إلى محتوى هذا الفصل، نرى فائدة في إبراز ملاحظات احتوتها الصفحات التي سبقته، وهي عيّنة من حصاد النظر الثاقب ومن القدرة على إجمال لوحة جامعة أو انعطاف كبير في كلام قليل. مثاله تعيين العام 1957 على أنه عام «انقلاب القوّة» الذي باشر نقل سوريا من حال «الموضوع» للصراع الدولي على الشرق الأوسط إلى حال «القوّة الإقليمية» الناشئة. هذا الانقلاب الذي كان الدور السوري في أزمة 1958 اللبنانية من «منجزاته» الأولى، لم يدرأ طفرات عنيفة نزلت بسوريا من الوحدة مع مصر إلى الانفصال فإلى سلطة البعث وما شهدته من صراعات قبل الإفضاء إلى العهد الأسدي. هذا الأخير اجتاز بدوره مرحلة اضطراب وقمع مهولين، فضلاً عن تدخّله في النزاع اللبناني وعن حرب تشرين 1973… قبل أن يستتمّ إطباق قبضته الحديدية على البلاد… بل على البلادين معاً. مثال ثانٍ ملاحظة المؤلّفة أن أيّ قياديّ لبناني من الصفّ الأوّل لم يثبت على ممالأة الدور السوري أو على معارضته مدة الأعوام الـ15 التي استغرقتها حرب لبنان.
مثالٌ ثالث أن تكوين المجتمع اللبناني ظلّ يستبعد وجود قائد يسعه أن يملي خطّاً استراتيجياً واحداً في السياسة وفي الحرب في حين كانت القوّات السورية ومعها وحدات جيش التحرير الفلسطيني منضوية تحت الإمرة الصارمة لقيادة تنتهي إلى الرئاسة السورية. إلخ.
ما قول بيكار بعد هذا في الاقتصاد السياسي للسيطرة السورية على لبنان بعد مرحلة الحرب، على الخصوص؟ نكرّس لهذا الجانب من علاقة السيطرة عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني

سورية ولبنان: مفاعيلُ الانفصال

أحمد بيضون

Sep 08, 2016

لعل «التردد» أو «امتناع القطع» أو «اللايقين» هي الألفاظ الدالّة، مجتمعة أو منفردة، على ما تراه اليزابيث بيكار، في الكتاب الذي كرّسَته للعلاقة السورية اللبنانية، سمةً عامة لهذه الأخيرة بما هي مسارٌ تواصَل منذ انهيار الدولة العثمانية وأيلولة البلادين معاً، بعد مرحلةٍ من السعي المحموم هنا والمقاومة هناك، إلى حجر الانتداب الفرنسي.
فقد ظلّ التوق إلى وحدة بلاد الشام وإلى تحصيل نوع من الاستقلال لها من جهة، والسعي إلى نوع من الانفصال اللبناني من الجهة الأخرى، يتجاذبان مواقف الجماعات في الردح الأخير من القرن التاسع عشر، وفي العقدين الأوّلين من القرن العشرين، أي في مرحلةٍ شهدت أيضاً «اختراع الأمة العربية» على أيدي مثقفين وسياسيين وتشابك هذا المنطلق مع الخيارين الآخرين على نحو أدخل على الساحة نسبة مضافة من اللبس والتردد، فبدا القرار الفرنسي الذي باشر رسم الخرائط الجديدة، بعد ميسلون، ترجيحاً لوجهةٍ على أخرى: ترجيحاً كان التنبّؤ به قد ظلّ إلى عهدٍ غير بعيد مطبوعاً بالمجازفة.
لم يكن القرار الفرنسي، حين اتُّخذ، يعوزه المؤيّدون بين كتل الأهالي. وهو ما كانت أشارت إلى شيء منه (وإلى شيء من خلافه أيضاً) بعثة كينغ كرين الأمريكية في سنة 1919. ولكن القرار، أيّ قرار، لم يكن له أن يفرض على التاريخ الجديد وجهة وحيدة متخلصة من ميراث العهد السابق ومن وَقْع ما كان محمولاً عليه من بنىً ونوازع وحدةٍ وانقسام. يحمل هذا الحدّ المرسوم لفاعلية القرار الذي اتّخذته قوّةٌ أجنبية محتلّة مؤلّفةَ الكتاب على استدعاء تصوّر «العثمانية». وهي توضح أن ما تريده بـ»العثمانية» مفهومها الأنثروبولوجي لا مفهومها التاريخي ولا مفهومها الأيدلوجي، أي أن عثمانيّتها ليست استعادة لمساقٍ طويل المدّة، متقلّب الوجوه والمفاعيل، ولا هي دعوة ذات عبارة سياسية، وإنما هي جملة أعراف تنتظم علاقات التضامن والتنازع في مجتمعات تؤلّف العشيرة والعائلة والطائفة وحداتها الرئيسة وتمثّل العصبية «صَرْفها ونحوها» الإجماليان.
لم تجهل الدولتان الناشئتان أهمّية العصبيّات. ولكن الصورة المستخلصة من جملة تاريخهما المعاصر تفيد بأن الدولة اللبنانية اعتمدت العصبيات قاعدة صريحة، وإن لبثت موضوع شكوى، لنظامها فيما نَحَت الدولة السورية نحو الجمع ما بين إنكارها، في المبدأ، وتسخيرها، في الواقع، لحماية السلطة القائمة. ههنا تنبّه بيكار إلى بُعد هذا التشخيص عن المنزع الثقافوي الذي يعوّل على فاعلية ثابتة لما يسمّيه «البنى التقليدية». فتشدّد على أن هذه البنى إنما تفعل بتوسّط التمثّلات المتغيرة التي تتّخذها مرجعاً. وهي قد بقيت ذات امتياز فعليّ، من هذا الباب، يعاد النظر في دلالاتها وأدوارها ولكنها تفلح في استيعاب المصالح الاقتصادية والمطامح الفردية، مثلاً، حائلة بينها وبين الاستقلال والاستقرار.
وإذا كانت الطائفة هي التي بدت متصدّرة بين الجماعات العصبية حين طرح موضوع النظام السياسي في نطاق الدولة، فإنها بدت أيضاً في وضع منافسة وخلخلة لهذا النظام. هي من جهة سور حماية للأفراد المنتمين إليها، وخصوصاً للفئات الدنيا منهم، وهي بابُ تراكُمٍ للسلك المذهبي وللأعيان، على اختلاف المنابت الفئوية، حيث يفلح هؤلاء في فرض توسّطهم ما بين الطائفة والدولة. ولكن الطائفة، حيث تتخذ قيافة «الجماعة المتراصّة»، على الخصوص، تميل بأتباعها إلى تجاهل الحدود بين الدولتين. وإنما يحدّ من هذا الميل أو يطوّعه، في الحالة التي نعرض لها، وجود استقطاب طائفي أيضاً ما بين الساحل والداخل منح لبنان، في معظم تاريخه المعاصر، مُسْكة مسيحية واجهت المسكة الإسلامية الغالبة على سورية. بل إن التضامن الطائفي نفسه يمكن أن يتراخى – في ما ترى بيكار – بفعل تباين المواقع التي تتوزّع كتل الطائفة في الجغرافيا الإقليمية وتنابذ الزعامات في كلّ طائفة.
في المساق نفسه، لا بدّ من الالتفات إلى عصبية العشيرة أيضاً. وهو ما يملي ملاحظة التآكل الذي أصاب البداوة الشامية في قرن من الزمان بأثر من الحدود السياسية الجديدة ومن تقدّم النقل الذي أتاح جلب العلف إلى الماشية عوض الرحيل بها إليه. على أن ما بقي يخبو وينبعث من عصبية العشيرة زكّى مقاومة بعيدة الغور لسلطة القانون الحديث وبيرقراطية الدولة أساسها اعتياد سلطة الشيخ والعرف. وهو ما تَمثّل في إباء التشكّلات العصبية أن تعتمد في تحرّكاتها المنطق الطبقي أو المصلحة القطاعية وأن تتقبّل إرساء التراتب في مؤسّسات الدولة والمجتمع على مبدأ الكفاءة الذي تعتمده البيرقراطية الحديثة.
مع هذا تبقى إليزابيت بيكار بعيدة عن الاستهانة بالقطع الذي مثّله إنشاء الدولتين. هي ترى أن نظام الدولة الجديد هذا لم يبطل القديم بمثلّثه العصبي. تداخل النظامان وبقي تنافرهما دون عتبة التنافي، إذ لم يكن لهما أن يتنافيا. وقد أورثت هذه الحال نوعاً من اللايقين ذكرناه بقي مخالطاً صفات الدولة حين يدور الحديث على سورية ولبنان، بعد قرن تقريباً مضى على تقسيم الدولة العثمانية. ومع أن العصبيات أعادت تأويل نفسها في ضوء نظام الدولة الجديدة، فإن موقف هذه الأخيرة منها بقي غير مستقرّ. مثلاً، ظلّت الدولـــة تترجّح بين الاعتراف بهذه العصبية أو تلك وبين منازعتها تمثيل المنتمين إليها.. لداعٍ قد يكون أيدلوجيّاً وقد يتعلّق بتقدير كلفة الاعتراف.
من الجهة اللبنانية تتابعت، من غير أن تنسخ كلّ منها الأخريين، ثلاث روايات لتاريخ البلاد كان لكلّ منها وقع خاصّ بها على تمثّل العلاقة اللبنانية السورية. فإن تصوّر «الوطن المسيحي في الشرق الإسلامي» كان يرسم موقعاً من سورية غير ذاك الذي رسمه التوازن الميثاقي اللاحق بين التطلّعات المتعارضة للجماعتين المسيحية والإسلامية. وكان تصوّر النظام التعدّدي القائم على الطائفية السياسية (وهو الأخير) يفتح بدوره منافذ أخرى مغايرة للتفاعل وللتغالب بين النظامين.
ومن الجهة السورية، تواكب في العقود الأخيرة حماسٌ سوري لاجتثاث الطائفية في لبنان ودأبٌ سوريّ أيضاً لتطييف ممارسة السلطة في سورية. وكان مسار العلاقة اللبنانية السورية في أثناء حرب لبنان وفي غدواتها دليلاً على تقصير الميثاق اللبناني عن احتواء تحرّكاتٍ وهويّات بدا لها من التعقيد ما لا تتسع له الثنائية المسيحية الإسلامية. فكان أن تمخّضت التعدّدية الطائفية عن تهميش للرابط الوطني الوليد لمصلحة رابط عمودي يشدّ كلّاً من الكتل الطائفية إلى سيّد وحيد هو النظام السوري. في نطاق أعمّ، كان الخطاب الوحدوي العربي – بين ما كان – تشريعاً للتدخّل السوري في لبنان. وفي ما يتعدّى الفشل الذي لازم تجارب الوحدة العــربية، بقيت وحدة بلاد الشام أفقاً يتطلّع إليه أصحاب السلطة في دمشق ويسهم في رســم إستراتيجيتهم وإملاء ممارستهم السياسية.
تلك هي اللوحة التي اندرج فيها سعي حافظ الأسد، ابتداء من سنة 1970، من جهة أولى إلى تكوين شبكات علوية يسعه التعويل عليها لحماية سلطته وإلى تمكين مواقع لأقاربه وأتباعه تتيح لهم تحكّماً في قطاعات نامية من الاقتصاد السوري، ومن جهةٍ أخرى إلى الاستحواذ على ما بات يسمّى «الورقتين» اللبنانية والفلسطينية. وإذا كان الاحتلال المباشر هو ما أمّن لدمشق سيطرة حاسمة على لبنان إذ جعل معظم مناطقه ومرافقه في متناول قوّاتها وأجهزتها، فإن الولوج إلى دواخل المجتمع اللبناني لم يحصل إلا بتوسط «نُخَب» لبنانية من وسط الأعمال خصوصاً نسّقت أنشطتها مع سلسلة الإمرة العابرة للحدود. وبخلاف ما قد يُظن، ترى إليزابيت بيكار أن هذه المنظومة التي اشتملت على البلادين لم يكن لها مفعولٌ توحيدي هنا أو هناك. لم يمارس حافظ الأسد سلطته على «شعب واحد في دولتين»، بل توسّط التفــتيت الاجتماعي والتنافس بين الشبكات الجزئية فأصبح لبنان وسوريا، في ظلّ هذه السلطة «السلطانية»، قطرين «متشظّيين».
وراء هذا التردّد بين حدّي التوحيد والتجزئة دونما لزوم للحدود الدولية في الحالتين، ترى بيكار نوعاً من الاستمرار لما تسمّيه بالاصطلاح الغرامشي «كتلة تاريخية» اجتازت عهدي الانتداب والاستقلال إلى اليوم بما شهداه من تحوّلات لا تجوز الغفلة عنها. كانت السلطة الانتدابية التي أرست كياني الدولتين الجديدتين، بعد مخاض، قد حفظت الوحدة الاقتصادية بينهما واستبقت في يد أجهزتها صلاحيّات حاسمة في كثير من الحقول. بل إنها استبقت ما سمّته «موازنة عامّة» لسورية ولبنان بجانب الموازنة الخاصّة بكلّ من الدولتين. غير أن هذا كلّه لم يثمر مفاعيل توحيدية إذ بقيت مصالح الدولة المنتدبة، لا مصالح الكتلة المؤلّفة من الدولتين، هي الموجِّهة والمتغلّبة.
وحين سلّمت «الكتلة الوطنية» السورية في سنة 1936 باستقلال لبنان في حدوده القائمة شرطاً فرنسياً لإبرام معاهدة سورية فرنسية تضع حدّاً للانتداب، جاء أركانها إلى لبنان لإقناع شركاء لهم فيه بهذا الخيار. وقد وجد الشركاء المذكورون تعويضاً عن هذه التضحية في المناداة مذ ذاك بـ»عروبة لبنان» بما هي داع إلى استمرار الحضور السوري في صفّهم بين ظهراني دولتهم. وهو ما مثّل لاحقاً، في صعوده وهبوطه، تعبيراً عن وجود تلك الكتلة التاريخية المزاحمة للدولتين والهازئة، بمعنى ما، بسيادتهما. هذا الاستهزاء لم يكن له أن يدوم من غير عقاب. وكان العقاب هو الحرب بما هي مهندس أكبر لم يلبث أن فرض نفسه من لبنان أوّلاً للعلاقة اللبنانية السورية. لأطوار هذه الهندسة الجديدة وتقلّباتها، تكرّس بيكار القسم الثاني من كتابها. وهو ما نعرض له في عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني

أحمد بيضون