أحمد بيضون
سجّلنا في عجالة سابقة أن اتّخاذ الوحدة الطبيعية الصغرى أو الوحدة العصبية قاعدةً لتفكيك الأوطان القائمة، باسم إرساء السلم الأهليّ، لا تختلف حظوظه في إدراك الغاية المرجوّة منه، من حيث الأساس، عن اتّخاذ الوحدة الطبيعية الكبرى قاعدة لدمج الأوطان القائمة باسم القوّة القومية. فعند التأمّل يتضح أنه لا وجود لوحدة صغرى بل توجد، على الدوام وحدات أصغر من الصغرى محتملة الظهور. أي أنك إذا هبطت من القومي إلى الطائفي، على سبيل المثال، بقيت العصبية القبلية أو الجهوية محتملة النزوع إلى تقسيم الطائفة.
وإذ يسلّم ذو الصفة للطبيعة أو للتقليد الذي هو بمثابتها، حين يكون دينياً على التخصيص، بالقدرة على تعيين الوحدة السياسية المثلى، يُشرع الأبواب أمام الاستبداد في هذه الوحدة. فليس اتّفاقاً أن الحميّة القومية، حين تضطرم، لا تتولّد منها دولة ديمقراطية. وذاك أن الأمّة، في مفهوميها التقليدي والديني، وحدة صوفية نزّاعة إلى التجسّد في فرد أو في هيئة من الطراز الذي لا يقبل مثيلاً في مواجهته ولا يقرّ بشرعية للتعدد إلا عرضاً أو اضطراراً. وهذا هو أيضاً حال المذهب وحال النسب بما هما عصبية مستعلية، نبذية الوجهة، توّاقة إلى الهيمنة.
فهذا النوع من الوحدات يختلف بطبيعته، إذ يرى لنفسه صفة الكلّية المكتملة الوظائف، عن الوحدات الوظيفية التي يتشكّل منها المجتمع: من قبيل الطبقات الاجتماعية أو القطاعات الاقتصادية أو الهيئات المهنية، إلخ. هذه يمكن أن تتصارع ولكنها تستبقي إدراك جزئيتها وحاجتها إلى سائر ما يجانسها من مكوّنات. وهو ما يلجم الصراع أو يسعه لجمه فلا يصل عنفه إلا شذوذاً إلى السوية الرهيبة التي يبلغها عنف النزاع الإثني أو الطائفي، ناهيك بالقومي. نقول هذا مع علمنا أن الصراع الطبقي حين يغادر ميدان الحقوق الاجتماعية الاقتصادية ليتّخذ قيافة سياسية وليصبح موضوعه السلطة بأسرها يسعه أن يصل بالتصعيد إلى حدّ يتعيّن معه «القضاء على العدو الطبقي» على أنه الهدف الأخير للمواجهة. وهو ما ينذر بفتح أبواب العنف على مصراعيها وبنشر منطق التصفية نشراً متسلسلاً في أرجاء المجتمع بطبقاته وفئاته كافّةً.
فإذا عدنا إلى شاغلنا الذي يفرضه علينا ما يشهده محيطنا من مواجهات وما تثمره المواجهات من مدارات للمجادلة وجب أن نبرز واقعة تستذكر النفَس الديمقراطي الذي وسم المراحل الأولى من هذه المواجهات أو من معظمها. وهي أن بين العواقب التي تترتّب على اتّخاذ الجماعة الإثنية أو الطائفية وحدة سياسية وهويّة لوطن جديد تسليم رقاب الأقليات المعارضة لتفكيك الوطن القائم إلى السلطة المقبلة على خيول الإنجاز المتمثّل في مطابقة الهوية الطبيعية والدولة. سيحصل في هذه الحالة «تطهير» عنصري أو هو بمثابة العنصري (هبّت رياحه في الآونة الأخيرة ولم تُبْقِ حاجة للاستدلال النظري) يقصي من كانوا منتمين إلى جماعات طبيعية أو عرقية أخرى أحلّها التاريخ في النطاق الجغرافي نفسه. ولن يكفي استعداد هؤلاء للخضوع ضماناً لسلامتهم في ظل الهيمنة الجديدة. وسيذوق الويل أيضاً من كانوا أقلّية سياسية في الجماعة المهيمنة نفسها يَظهر إيثارها، بحكم الرأي أو المصلحة، للوضع السابق ويسعها أن تشكّل أو أن تقود معارضة للسلطة الجديدة.
تنزع دواخل الأوطان المقترحة، إذن، إلى اعتماد سلام القبور مثلاً أعلى وغاية يتعذّر نيلها بغير الاستبداد. ويبقى التنازع عبر الحدود الجديدة، على اختلاف صوره، مرجّحاً أيضاً ولا يُستبعد اتّخاذه صيغة الحرب الصريحة إذا آنس طرفٌ من الأطراف في نفسه قدرةً على الغلبة. يزكّي هذا الاحتمال أن الأوطان الجديدة ستكون، في الحالات المطروحة على آهلي هذا الشرق العربي، دولاً صغيرة، مختلّة الموازين من جهاتٍ مختلفة، عاجزةً عن تغليب نازعها الاستقلالي، جانحةً، بالتالي، إلى تبعيةٍ تميل بها العداوة نحو التوزّع بين أقطابٍ كبيرة متناحرة.
في كلام سابق، أشرنا أيضاً إلى صيغ تقع دون التقسيم القطعي يتداولها المحللون على أنها مخارج متاحة من هذه أو تلك من المواجهات الدموية المدمّرة التي انتهت إليها حركات التغيير في أقطارٌ عدّة من حولنا. على أننا لم نتوقّف عند الشروط التي يفترضها استقرار هذه الصيغ ولا عند حظوظ هذه الشروط في التحقّق عند وضعها بإزاء طبيعة النزاع الجاري في هذه البلاد أو تلك ومداراته. أمرٌ آخر سيكون علينا أن نقول فيه كلمة هو دعوى «الفرادة» التي يزعمها ناشطون أو محلّلون للحركة التي نشأت في بلادهم وأورثت نزاعاً لا يبدو مشْرفاً على نهايته. واجهت هذه الدعوى ولا تزال تواجه أحياناً كلَّ محاولة للتنبيه إلى خروج الحركة عن السكّة المفضية إلى أهدافها المعلنة ابتداءً وهي أهدافٌ كبرى مشتركة بين حركات التغيير الديمقراطية. فكان يقال للنقّاد أن ما يرونه خروجاً عن الجادّة إنما هو الجادّة المميّزة للحركة في مجتمعهم هذا… نحاول عودة إلى المسألة الأولى وتعريجاً على الأخيرة في عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني
أحمد بيضون