كِتابٌ وجائزة

http://www.almodon.com/opinion/b0366731-ae43-43c9-897e-dc7eb6b72916

أحمد بيضون|الخميس20/06/2013

  مساء الأربعاء 19 الجاري، تسلّمتُ، في لقاء اجتمع له أصدقاء ومهتمّون، “جائزة ميشال زكّور”. توّجت الجائزة كتابي الأخير “لبنان: الإصلاح المردود والخراب المنشود” الذي صدر في ربيع السنة الماضية عن دار الساقي في بيروت. والجائزة المرشّحة للاستواء تقليداً سنوياً أنشأتها هذه السنة مؤسسة ميشال زكّور على اسم الصحافي والسياسي الراحل، فكان كتابي أوّل عمل ينالها. وكانت هيئة المحكّمين قد أعلنَت، قبل أشهرٍ، لائحة قصيرة ضمّت ستة عناوين مرشّحة. وستُمنح الجائزة كلّ سنة لعملٍ بحثي موضوعٍ بالعربية أو الفرنسية أو الإنكليزية ومكرّس لموضوع لبناني.

وأمّا كتابي فيتّصل جذره الفكريّ بمقالة صغيرة نسبياً نشرَتها لي جريدة السفير في 25 أيار من سنة 1987 تحت عنوان “وجه الصيغة وقفاها”. تتكئ هذه المقالة على ملاحظتين استعارت أولاهما من كتاب لي أقدم منها عهداً وخلَصت منها إلى الثانية. الملاحظة الأولى أن اعتياد اللبنانيين إعلان المقت لطائفية نظامهم السياسي وإنكار الصفة الطائفية لمواقفهم ولتشكيلات مختلفة لهم أي ما أسمّيه بخفر الطوائف أو الحشمة الطائفية أمرٌ لا يجوز إلحاقه بالرغبة المجرّدة في مجاملة الحداثة وإنكار التعلّق بتقليد يعود إلى عهود بائدة وإنما هو شرطٌ حيوي لتحرير فسحة لا يستغنى عنها وإن تكن محدودة الرقعة ومهدّدة دائماً تظهر فيها الدولة اللبنانية وتزاول وظائفها وهو، في آخر المطاف، ضرورة لوجود هذه الدولة نفسه. معنى هذا أن اللبنانيين حين يجنحون إلى الاستواء طائفيين غير محتشمين، معتدّين، في الاجتماع وفي السياسة، بهويّاتهم الطائفية حصراً وغير مقرّين بدواعٍ تدعوهم إلى النأي عنها، في تناولهم شؤونهم العامّة، وذلك لتكوين مجالٍ وطني لهم، إنما يكونون قد باشروا الجنوح بدولتهم نحو التخلّع والتهاوي وباشروا، بالتالي، التوجّه بجماعاتهم نحو اعتماد العنف في التنازع.
تلك إذن هي الملاحظة الأولى، وعنوانها لزوم لبناني للحشمة في الانتساب إلى المدار الطائفي شرطاً لبقاء الدولة. وأما الملاحظة الثانية فمستقاة من نزوعٍ لبنانيّ معاكس، مكتومٍ عادة إلى هذا الحدّ أو ذاك في حيّز الطائفة. وهو النزوع إلى الشكوى من تفرّق الصفّ الطائفي وإلى إعلان الرغبة في توحيد هذا الصف على غرار ما يراه الداعية أو يتوهمه حاصلاً في طائفة أخرى أو أكثر من طائفة واحدة… وعلى التخصيص، في تلك التي يعُدّها الداعية نفسه مصدر الخطر. ملاحظتي في مواجهة هذه الشكوى من الفُرْقة الطائفية ومن توزّع المواقف في الطائفة الواحدة هي أن تحقق الوحدة السياسية في كلّ من الطوائف إنما هو إعلان نهاية، ولو آجلة، للتجربة الطائفية من أصلها.
أقول: “تحقّق الوحدة في كلّ من الطوائف” ولكن أعلم أن تحققها في واحدة، لا أكثر، من الطوائف الرئيسة يكفي لزلزلة النظام السياسي القائم وذلك بوضع المؤسسات السياسية للدولة أو السلطات العامّة تحت وطأة ابتزاز لا يطاق. فإن الطائفة الممتعة بالوحدة السياسية المشار إليها تصبح قادرة على تخيير الدولة بين التلبية غير المشروطة لمطالب تعصي على التلبية أو  التحمّل غير المحدود لمسلكيات يتعذّر تحمّلها وبين مغادرة الطائفة الموحّدة بقضّها وقضيضها لسفينة الدولة أي لمؤسسات الحكم بادئ بدء. هذا أمر لا يطيقه النظام الطائفي بمبدئه نفسه. وهو ينتهي إلى عطلٍ في الشرعية قد يشفعه، في جهة الطائفة المتراصّة الصف، إغراء بالجنوح إلى القوّة يزكّيه ظرف التفاوت في الحال بينها وبين شقيقاتها الأخريات. هذا التفاوت نفسه لا بدّ أن ينزع إلى الضمور. فهذا يحتّمه منطق الدفاع عن النفس، من جهة الجماعات الأخرى، وفلّ الحديد بالحديد.
أقول هذا مع علمي أن الرغبة في المحاكاة لا توفّر وحدها الطاقة اللازمة ولا الظروف المواتية لمماثلة الخصم الداخلي. ففي الحالة اللبنانية، يحصُل استشعار دائم للمواجهات الدائرة في المحيط وفي ما هو أبعد و يستمدّ من هذا الخارج المركّب، حين تميل به مصالحه إلى الاستجابة أو إلى المبادرة، جانب صالح بل حاسم من الطاقة اللازمة لمواجهة الندّ أو الخصم الطائفي، دفاعاً أو هجوماً. في كلّ حال، لا تبقى “وَحْدة الصفّ الطائفي”، بمفاعيلها المدمّرة، مدّة طويلة امتيازاً لطائفة واحدة. فلا بدّ من استوائها تحريضاً على النزوع إلى المحاكاة ولو بقيت هذه أسيرة معطيات تتعلّق بأوضاع الجماعة الراغبة فيها، أيّة تكن، وبموقعها بين قوى الداخل والخارج.
وحين يعلو منسوب الوحدة السياسية في كلّ من الطوائف (مع بقاء التباين قائماً في هذا المضمار بين هذه وتلك منها ومع التعذّر المؤكّد لتحقق الوحدة المشار إليها تحقّـقاً مطلقاً) تزداد أزمة النظام عسراً ومؤسسات السلطة وغيرها من مؤسسات الدولة تهالكاً. وتعظم أيضاً حظوظ الجنوح إلى القوّة في إدارة التنازع الجاري. فهذه الحظوظ لا ينقصها، في الواقع، بل يزيد فيها التوجّه إلى التكافؤ بين قوى الطوائف المعبّأة حين تزكّيه حبكة الظروف. وذاك أن البديل من العنف ههنا لم يكن غير الرضوخ للقوّة وحصاد الخسائر والمخاطر المترتبة على ذواء سلطة الدولة والمنطق الوطني. الخلاصة أن ما قد يُرى كمالاً لتحقق المبدإ الطائفي المؤسس لنظام لبنان الاجتماعي السياسي إنما هو، في حقيقته، افتتاح لتضعضعٍ عميق: لأزمة قصوى قد تدارى بعض مفاعيلها وقد تتمادى في الزمن ولكنها تتوجّه بهذا المبدإ نحو الإفلاس الكلّي إذ تضرب النظام القائم عليه بعطل يبدو عصيّاً على المعالجة والإصلاح.
وما يجب تسجيله، دون الدخول في كيفياته هنا، هو أن الحرب التي خبرَتها بلادنا عِقْداً ونصف عِقْدٍ هي ما توجّه بكلّ من الطوائف، وبنجاح متباين في ما بينها، نحو الاستواء وحدةً سياسية أو ما هو بهذه المثابة. وهي، أي الحرب، ما ضرب “حشمة الطوائف” أيضاً، فأصبحت الطوائف تميل إلى الاستغناء عن كلّ تمويه لطائفية مسالكها في كلّ أمر تقريباً. وهي، أي الحرب أيضاً، ما أنشأ الخلل الذي بلغ فتكه بالمنطق الدستوري أو المؤسسي بعض ذراه اليوم وأخذ يبدو وكأنه يدفع البلاد دفعاً نحو حربٍ جديدة.
وفي مدى عقدٍ ونصف عقد آخرين تَبِعا الحرب، كانت هيمنة الحاكم السوري على لبنان، بمزاولتها وظيفة التحكيم الداخلي في البلاد، تحجُب عجز المراجع الشرعية المفترضة لها هذه الوظيفة بحكم الدستور. وكانت هذه الهيمنة تتيح ظهور هذا العجز، أحياناً، وتطاول في الحسم لتحمي مسوّغ بقائها. وحين انجلَت الهيمنة مفسحة في المجال لتغيّر متعدّد الوجوه في هندسة المجتمع السياسي التي كانت قد فرضتها على البلاد فرضاً، انكشفت أستار العجز المتهالكة عمّا لا نزال فيه من أزْمة مفتوحة: أصلُها في الطور الذي بلغه النظام الطائفي برمّته وإن تنوّعت مجاليها السياسية واختلفت أطوارها الظرفية.
يُبْرِز هذا الطور، بما ينطوي عليه من مخاطر ومهالك، ضرورةَ الإصلاح. وقد التفت الكتاب إلى هذا الأمر فاقترح عناوين للإصلاح مستوحاةً من كَثَ ب مما أجمله اتّفاق الطائف في باب الإصلاحات وما سمّاه إلغاء الطائفية السياسية. على أن الكتاب يجرؤ على القول أننا نبتعد عن إرادة الإصلاح وإمكانه بمقدار ما تظهر ضرورته. وذاك أن أزمة النظام التي نحن فيها متشكّلة بحيث تزيد في تشقق الشعب وذوائه، بما هو إمكان لذاتٍ مريدة، وتمنع، إلى أجلٍ يتعذّر تعيينه، تشكّل ما يقتضيه إجراء الإصلاح من كتلة شعبية فاعلة، متعدّدة الموارد والمصادر السياسية ولكنها مجمعة على إرادة الإصلاح. تلك هي المحطّة التي أدركناها اليوم: نرى الحاجة إلى الإصلاح ماسّة ولكن نرى ما هو متحصّل لنا من مؤسّسات مسؤولة عن إصلاح نفسها آخذاً في التهاوي.
وإذ أقول إن النظام الطائفي بلغ طوراً جديداً من أطوار مساره أُبْرِزُ ركناً من أركان هذا الكتاب هو اللزوم المثابر للقول إن الطائفية لها تاريخ وإنها، بخلاف الشعور الذي تنشئه هي نفسها أحياناً، ليست شيئاً خالداً ولا هي لبثت، من أيّ وجه من الوجوه، على حالٍ ثابتة عبر تاريخ البلاد الحديث أو المعاصر. وحين أبرزتُ، في نصوص يضم هذا الكتاب بعضها ويرقى بعضها الآخر إلى سنة 2000 ويرقى أوّلها، وقد أشرت إليه، إلى سنة 1987، تباشيرَ هذا الطور الجديد وملامحَ الأزمة التي ينطوي عليها، لم أكن أتنبّأ بشيء. وما أزال أميل إلى البَرَم بمحلّلين لا يرون من الوقائع والحوادث إلا تفرّغها المزعوم لإثبات توقّعاتهم. كانت مهمّتي تقتضي جرأة الإدراك أو الإقدام في القراءة لا صواب التوقّع. ويقتضي حسن الإدراك، فضلاً عن المثابرة وعن بعض المعرفة، دأباً في مناضلة خصم يحاصر عقل اللبناني من كلّ جانب. ذاك هو العصبية، على اختلاف مجاليها والمعاني، وهي ما تتعيّن حماية استقلال العقل من هجماته. وإذا كان ثمّة في هذا الكتاب ما قد يستحقّ جائزة ميشال زكّور، فهو – بقطع النظر عن حظوظ الفلاح والخيبة فيه – هذا الجهد لدحر إغراء العصبية وضغطها ولتحصيل ما أمكن من حصانة للعقل.
بخلاف ذلك، أرى الصورة المكفهرّة التي يرسمها لحالنا هذا الكتاب، وهو يوشك أن يُقْرأ من عنوانه: “الإصلاح المردود والخراب المنشود”، مستحقّة عقوبةً لمؤلّفه لا جائزة. وفي ضوء اللحظة الحاضرة، تستحقّ عقوبةً أيضاً المقالة المسمّاة “أشياعُ السنّة وأسنانُ الشيعة”: تستحقّها (وهي المكتوبة سنة 2007)عنواناً ومضموناً. عوض العقوبة، نال الكتاب جائزة يعتزّ بها مؤلّفه ويشكر لمنشئها تشجيعه ولهيئة محكّميها تقديرها. وقد جاء في الكتب أن سبُل الله لا تدرك وأخمّن بدوري أن الله له في العقوبات وفي الجوائز شؤون.

– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/6/20/%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d9%88%d8%ac%d8%a7%d8%a6%d8%b2%d8%a9#sthash.kgfsZTAC.dpuf

قَبْلَ مائة عام: ذلك المؤتَمَرُ العربيُّ الأوّل

http://www.almodon.com/opinion/5e6e6ad6-21d3-4e6f-94ba-714f629f3333

أحمد بيضون|الخميس13/06/2013
تتمّ في هذا الشهر دورة مائة سنة على انعقاد المؤتمر الذي اصبح يسمّى “المؤتمر العربي الأوّل” في باريس. فيُطرح سؤال يتعلّق بمسوّغ الاستذكار: استذكارِ لقاءٍ يسعُ أيّ مركزٍ معتبر للأبحاث اليوم، متّصل بما يسمّى الجهات المموّلة، أن يعقد مثله بل أوسع منه في باريس، لا في غيرها، وعلى جادّة سان جرمان دو بري نفسها إذا لزم الأمر. وقد يسعه أن يجمع لهذا المؤتمر الجديد من هم أظهرُ أمراً من الصحافيين وأعيان المدن والطوائف ووجهاء المهاجر الذين جمعتهم قاعة الجمعية الجغرافية قبل قرن… اليوم لن يُعِدّ أحد نفسَه لتذكّر لقاء من هذا القبيل بعد عشرة أشهر، لا بعد مائة سنة… وهذا إذا وُجد من يرى فائدةً في عقده.
وأما الفارق بين حدث حزيران 1913 وحدث حزيران 2013 (إذا وُجد من يُحْدثه) فهو أن الأخير لن يجد دولة عثمانية متهالكة، مستغرقةً في دوّامة ثورة دستورية وفي حربٍ مصيرية ذات فصول، توجس من انعقاده وتسعى في البداية إلى استيعابه ثم تعمد، بعد ارفضاضه بحين، إلى شنق بعضٍ من أهمّ المشاركين فيه… ولن يجد المؤتمر الجديد المفترض عرباً يتّخذون اللامركزية عنواناً رئيساً لمطالبهم القومية. بل هو قد يقع على اللامركزية مطلباً يرفع هنا أو هناك في وجه العرب من جانب جماعات قومية أخرى ترزح عليها من عقود كثيرة مركزيةُ السلطة العربية. أو هو سيقع على اللامركزية نفسها طموحاً لجماعات استبدلت باللافتة القومية برمّتها ما هو أدنى منها: اللافتات الطائفية مثلاً. وهي قد وضعت في المحلّ الذي كانت تشغله قبل قرن مجابهةُ العرب والترك مواجهاتٍ متحرّكة ما بين الطوائف.
انعقد مؤتمر حزيران 1913 بعد أشهر من الإعداد في خضمّ تسارعٍ للتاريخ العثماني كان يُحسب فيه للأشهر حسابٌ غير قليل إذ كان يصعب أن يصمد الظرف السياسي الذي تُرسم فيه ملامحُ مشروعٍ من قبيل المؤتمر إلى حين تنفيذه فعلاً. والحقّ أن الظرف السياسي تغيّر كثيراً في الحالة التي نحن بصددها ما بين مباشرة الإعداد للمؤتمر وانعقاده فعلاً… ثم واصل الظرف طفراته بعد ذلك نحو حالٍ أصبح العنف والقمع أبرز سماتها، فيما انتقلت الحرب من تسلسل فصولها المتردّد على الأراضي الأوروبية للدولة وعلى ساحلها الإفريقي إلى طورٍ عالميّ أصبح يتناول وجود الدولة من أصله وذلك بعد سنة وبضعة أشهر من انفضاض المؤتمر الباريسي.
بين خريف 1912 وأوائل 1913، كانت الحرب البلقانية تأكل معظم ما كان قد بقي للدولة العثمانية من “ممالك” أوروبية. فتستكمل سيرة من التضعضع والخسارة استغرقت معظم القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. وهذا بعد انقضاض إيطاليا على سواحل بنغازي وطرابلس الغرب وقصف اسطولها بيروت في سنة 1911، بحيث انتشر إلى الولايات العربية الشعور بخطر الاجتياح الأوروبي وبعجز الدولة عن حماية أراضيها. كانت الجيوش المعادية قد وصلت إلى أبواب الآستانة إذ استولت على أدرنة، بوّابتها، واحتاج الأمر إلى معجزة ليستردّها جيش السلطان، حين بدا أن المهاجمين الأوروبيين موشكون على التذابح فيما بينهم حول جثمان “الرجل المريض” حالما يُسْلِم الروح. وكانت لندن التي حمت السلطنة طوال القرن السابق قد استضافت، في أثناء حرب البلقان الثانية هذه، مؤتمراً بدت مهمّته ترجمةَ نتائج الحرب على الأرض وفي موازين الدبلوماسية.
حصل هذا كلّه في أعقاب ثورة دستورية شهدها صيف سنة 1908 وتبعَتْها ردّة وارتداد على الردّة في السنة التالية وقد جعل القائمون بالثورة في رأس أهدافهم المعلنة حفظ سلامة الدولة واستعادة عنفوانها المتداعي، إلى الخروج من الاستبداد الحكومي بالعودة إلى الدستور وإلى ما يكفله من حرّيات ومن إصلاح مؤسّسي لهياكل السلطة.
كان العرب قد اغتنموا ظَرْفَ الحرب البلقانية، على التحديد، ليواجهوا بمطلب الإصلاح اللامركزي تباطؤَ التغيير في الوصول إلى ديارهم وما كانوا قد أخذوا يلمسونه لدى ضباط “الاتّحاد والترقّي”، القوّة المحرّكة للثورة، من نزعة تركية إلى الاستئثار حالت دون تحسين الشركة العربية في مؤسسات السلطة والدولة. وهذا في وقتٍ بدا فيه أن الدولة توشك أن تتحوّل من مجالٍ إمبراطوري متعدّد القومية إلى دولة ثنائية القومية تشهد نوعاً من التكافؤ الإجمالي، في أكثر من ميزان واحد، بين الأتراك والعرب.
اغتنم العرب ظرف أواخر العام 1912 وأوائل تاليه إذن ليشكّلوا هيئات إصلاحية موزّعة المراكز ولكنها متضافرةُ الأهداف وعلنيّةُ النشاط. وكان أسرعَها إلى البروز اثنتان: حزب اللامركزية الإدارية في مصر والجمعية الإصلاحية في بيروت. وكان الأوّل من هاتين محصّناً باتّخاذه الملاذَ المصري مقاماً له. وأما الثانية فلم تلبث أن باءت بالحلّ بعد إعلانها برنامجها وهذا على الرغم من الغطاء الذي وفّرته لها المجالس الملّية إذ تولّت اختيار أعضائها بواقع اثنين عن كلّ من الملل المسيحية واثنين عن اليهود وما يعادل مجموع هؤلاء من الأعضاء للمسلمين. فكان أن بلغ العدد الإجمالي نيّفاً وثمانين عضواً اعتُبروا ممتّعين بقوّة تمثيل وطيد للمدينة. وهو ما لم يمنع حلّ الجمعية، على ما سبقت الإشارة إليه، بعد أن أطاحت ظروف الحرب وزارةَ الصدر الأعظم كامل باشا الثانية، وهي التي كان الإصلاحيون العرب يعوّلون على مجاراتها لهم وعلى قوّتهم في حزب “الحرية والائتلاف” المهيمن عليها. أطاح جماعة “الاتّحاد والترقّي” هذه الوزارة وجاؤوا بأخرى أعادت نفوذهم المتوجّس من المطالب العربية والأرمنية خصوصاً والمناوئ لمنحى الإصلاح اللامركزي. فكان أن تغيّر مناخُ الدولة والعاصمة كثيراً في أشهرٍ قليلة فَصَلت ما بين تأسيس الجمعية البيروتية والحزب القاهري والبدء بالإعداد للمؤتمر العربي في باريس.
لم يتجاوز عدد الذين اعتبروا أعضاء رسميين في المؤتمر خمسة وعشرين شخصية. كانت سورية مدار البحث فلم يتمثل العراق إلا بعضوين ألقى أحدهما كلمة قصيرة وأعلن الرئيس أن الشأن المصري غير مطروح للبحث. وكان وفد بيروت (بما هي مدينةٌ “سورية” وعاصمةٌ للولاية المسمّاة باسمها) أكبرَ الوفود إذ ضمّ ستة أعضاء. هذا فيما كان صوت الموالين للسلطات عالياً في دمشق وتعذّر على بعض من أبرز ممثّلي الإصلاحيين فيها السفر إلى باريس لأسباب مالية. ولم يحضر من حزب اللامركزية الإداري سوى عضوين، على الرغم من اعتماد المعدّين للمؤتمر هذا الحزب راعياً لمبادرتهم. وتمثّل في المؤتمر المغتربون من أصقاع شتّى وكان أبرز جماعاتهم تمثيلاً، بطبيعة الحال، سوريو باريس ولبنانيوها.
وقد رئس المؤتمر لاذقيّ هو عبد الحميد الزهراوي أحد الموفَدَين من جانب الحزب وعيّن كاتباً له البيروتي عبد الغني العريسي. وكانت اللجنة التحضيرية الثمانيّة قد توزّعت مناصفة ما بين المسلمين والمسيحيين، وكان هذا التوزيع محبّذاً في تلك المرحلة على ما بدا من تجربة الجمعية البيروتية. وفي الحالتين – حالة الجمعية وحالة المؤتمر – كان الموقف السياسي متبايناً على أساس طائفي. فكان الأعضاء المسيحيون أصرحَ ميلاً إلى المطالبة بحماية فرنسية لسورية لم يكن بعضهم يمانع في وصولها إلى حدّ الاحتلال. هذا فيما كان المسلمون يحصرون همّهم في “الإصلاح” اللامركزي ولكن لا يمانعون في استقدام خبراء أوروبيين يتولّون توجيه دفّة الإصلاح حيث يلزم. ومما تشي به مذاكرات الأعضاء المسيحيين في جمعية بيروت ثم في مؤتمر باريس مع وزارة الخارجية الفرنسية وقنصلياتها، يتبين أن اللغم الطائفي كان مزروعاً في المبادرتين وكان انفجاره محتملاً لو أفلحت أيّ من المبادرتين في الاقتراب من أفق التنفيذ.
هذا وكانت اللامركزية هي العنوان الكاسح للحركة كلها. وكان أهمّ معانيها اعتمادُ اللغة العربية لغةً للتعليم وللمعاملات حيث تكون كثرة الرعايا عربية اللسان وتوسيعُ صلاحية المجلس العمومي للولاية في مواجهة سلطة الوالي وجعلُ الخدمة العسكرية تجري في موطن المجنّد ما لم يستوجب نقلَه داعٍ ملحّ ومنحُ الولايات أفضليّةً في إنفاق الواردات المجبية منها ومنحُ المسلمين الحقّ في إدارة أوقافهم واستثمارها على غرار غير المسلمين… إلخ. ولم يكن هذا البرنامج يمنع المطالبة بتحسين الأنصبة العربية من الوظائف المركزية ومن التمثيل السياسي…
لم يحظ هذا البرنامج بتنفيذ عملي. استبَقَته الدولة بتشريعات اعتُبرت تمويهاً لرفضها إياه وكان أهمّها قانونُ الولايات الجديد. وقد سُلّمت مقرّرات المؤتمر إلى السفير العثماني في باريس وإلى ممثّلي الدول الكبرى ثم سافر إلى الآستانة وفد من المؤتمر لمفاوضة السلطات. وكان عبد الكريم الخليل، وهو المقيم في الآستانة أصلاً، طليعة الساعين لدى جمعية “الاتّحاد والترقي” في سبيل اعتماد المقرّرات ولدى عرب العاصمة لإقناعهم بما توصّل إليه بالمفاوضة. ولكن هذا كلّه لم يَجِدْ طريقه إلى التنفيذ.
مضى التاريخ، بعد المؤتمر، في مسيرته المتسارعة المفضية إلى المزيد من تضعضع الدولة العثمانية ثم إلى الحرب العالمية التي ستلحق فيها الدولة بالجانب الألماني مواجِهةً فرنسا التي كان ظلّها قد هيمن على مؤتمر باريس ومتخلّية، على الأخص، عن مودّة بريطانيا التي كانت قد حالت دون انهيار الدولة الكلّي طوال القرن التاسع عشر. وعِوَضَ اختبار الإصلاح اللامركزي صيغةً لبقاء الدولة جنَح النافذون في إستانبول لمزيد من المركزية ولمواجهة القوميات الناهضة، وأولاها العربية والأرمنية، بالعصبية الطورانية وبالعنف.
وبين ضحايا الديوان العرفي في ساحتي الإعدام البيروتية والدمشقية، علّق ما بين صيف 1915 وربيع 1916 كلّ من رئيس مؤتمر باريس عبد الحميد الزهراوي وكاتب المؤتمر عبد الغني العريسي والمفاوض باسمه عبد الكريم الخليل وعضو هيئته التحضيرية محمد المحمصاني وأحد أبرز خطبائه أحمد طبّارة ومع هؤلاء نفر من الذين بعثوا إلى المؤتمر بتأييدهم أو رغبوا في المشاركة فيه فلم يتيسّر لهم ذلك لسبب عارض. من هؤلاء الذين جهروا من بعيد بولائهم لأهداف المؤتمر، لقي كلّ من صالح حيدر وعبد الوهاب الإنكليزي ورفيق رزق سلّوم حتفهم على أعواد المشانق أيضاً. وإذا كان عدد الضحايا من بين المؤتمرين لم يتجاوز هذا الحدّ فلأن كثيرين من هؤلاء كانوا مقيمين في مصر، متمتّعين بالحماية البريطانية، أو في خارج الأراضي العثمانية فلبثوا بمنجاة من ديوان جمال باشا العرفي ومشانقه.
وفي كلّ حال، لم تلبث الدولة العثمانية برمّتها أن علّقت على أعواد هزيمتها في الحرب ومطامع المنتصرين. فأنشأت فرنسا وبريطانيا ما أنشأته من دول في سورية الطبيعية وصحبتا ما شهدته هذه الدول من أطوار. وتكفّلتا أيضاً برعاية الطوائف والطائفية وما اتّصل بهما من أزماتٍ صغيرة وكبيرة، من طورٍ إلى طور. وذلك إلى حين استقلال سورية ولبنان والأردن ونشوء دولة إسرائيل. وعلى التعميم، برزت في كلّ من هذه الدول، قبل استقلالها وبعده، عصبيةٌ طائفية أو قوميةٌ غالبة رزَحَت بثقلها على غيرها من الجماعات. وكان الذين ورثوا إصلاحيي الهزيع العثماني الأخير، من العرب على الخصوص، أوّلَ من تَسبّب في بقاءِ حديث اللامركزية أو ما يجري مجراه سائراً على ألسنة الراغبين في الإصلاح واليائسين من إمكانه.
– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/6/13/%d9%82%d8%a8%d9%84-%d9%85%d8%a7%d8%a6%d8%a9-%d8%b9%d8%a7%d9%85-%d8%b0%d9%84%d9%83-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a4%d8%aa%d9%85%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%88%d9%84#sthash.I0fwS15g.dpuf

ما يستَحِقُّهُ الفسابكة

http://www.almodon.com/opinion/38f72896-2e28-411d-b6ea-fd5614091047

أحمد بيضون|الخميس06/06/2013

 قبل أيّامٍ، غادرتُ الفيسبوك. غادرتُه إلى أمدٍ لا أدري إن كان يقصر أم يطول. هذه ليست أوّل مرّة. فقد سبق أن رحلتُ ثم عدت. مرّةً أو اثنتين. وقد أعود هذه المرّة أيضاً بعد شهرٍ أو شهرين. ولكن لا مانعَ يمنع ألّا أعود أبداً.
أمضيت في زرقة هذا العالم البديل سنتَي نشاطٍ معتدلٍ سبقتهما أعوامٌ ثلاثة من صمتٍ شبه مطبق: صمتٍ لم تكن تقطعه غير مجاملات عابرة كانت تصحب أحياناً قبولَ “صحبةٍ” بادرتُ إلى طلبها أو هي طُلِبت إليّ. وهذه حاشية: أقولُ “صحبة” لأنني في معرض معارضتي لبعض ما شاع من مصطلحٍ عربيّ للفيسبوك، اقترحت “صاحب” أو “صاحبة” مقابلاً للـ”فرند” بدلاً من “صديق” أو “صديقة” التي وجدتها في غير موضعها ههنا.
وما أرغب في قوله بادئ بدءٍ أن شعوري، وقد غادرت هذا “المحيط” أو “الوسط”، يشبه شعور الخارج لتوّه من طاحون. هذا ما ألـِفْنا قوله حين نخرج من موضع فيه ضجيج يصمّ الآذان إلى آخر يُكتم فيه الضجيج بغتة. والكناية ريفية الأصل لأن الريف هو الوسط الذي يكاد لا يصدر فيه الضجيج المفرط إلا عن الطاحون. وما أراه، من جهتي، أن ضجيج الفيسبوك أشبه باللغط الكثيف تارة والمتناثر أخرى نقع عليه أو يقع علينا في أرجاء مطارٍ أو في محطّة قطار…
هي إذن مغادرة لمجالٍ يجري فيه هدرٌ مهول للكلام المكتوب (وللصور والأصوات أيضاً): هدْرٌ يخلّف شعوراً بالغرق في الهذْر، بالتخبّط في لغط يعزّ، في كثير من الأحيان، أن تخرج منه بمعنى. فتوشك أن تتّخذ الموقف الذي تتّخذه عفواً في ردهات المطار أو في محطّة القطار: تستغني عن الإصغاء وعن الفهم. مع ذلك… مع ذلك تفرض نفسها عبارة هنا وصورة هناك وموسيقى هنالك يستدرجك إليها من تعوّل على ذائقته. أغادر هذا كلّه إذن ولكن لا أنكر أن الفضول سيعاودني مراراً إلى معرفة ما قد يكون جرى في غيابي: ما قد يكون نشَره هذا أو ذاك فأثار غباراً مما تبعثه حوافر العصبية في هذه الأيام أو أنزلَ سكينة لا غنى عنها لانبعاث الشعر في النفس… مثلاً.
هذا وأعلم أن الهذر وإن يكن سيد الموقف لا يستنفد ما يتقدّم الفيسبوك مجالاً ووسيلة لعرضه وإذاعته. ولأذهب إلى لبّ المسألة من غير مزيد من الإطالة: يضيف الفيسبوك إلى كلّ فسبوكي معتبر بعداً أو دوراً يدخل، بفاعلية تتباين من حالة إلى أخرى، في رسم شخصية الشخص أو في تعيين وجهه: ولهذا التعيين الأخير وجاهته هنا إذ يدور حديثنا هنا على “كتاب الوجوه”. فإذا كان الشخص المعنيّ مهندساً مقصوداً وزوجاً عنيفاً وأباً مهملاً ومقامراً غير مدمن ومزاولاً بانتظام للمشي في الجبال ومشاهداً مثابراً لأفلام الخمسينات والستينات المصرية فقد يكون عليك أن تضيف إلى  هذه الأدوار تشخيصاً ما لما يصدر عنه بما هو فسبوكيّ حتى تكتمل في خاطرك صورته الشخصية وتحتلّ مكانها بين صور معارفك. إلى هذا الحدّ – بل إلى أبعد منه –  يسع الفيسبوك أن يكون مهمّاً.
أقول هذا مع علمي أن ما تحويه كثرة كاثرة من الصفحات لا يعدو كثيراً ما توحيه تسمية “موقع التواصل الاجتماعي” التي تطْلَق على الفيسبوك وعلى غيره من مواقع شبيهة لم يُكتب لها النجاح نفسه. “التواصل الاجتماعي” أي تبادل المجاملات فوق كلّ شيء. هذا ما نقع عليه فعلاً ولا نقع على غيره تقريباً في صفحات فيسبوكية لا عدّ لها. ولكن الأهميّة الواضحة للموقع وللموضوع توجب إمعان النظر…
ولقد أتاحت لي إمعانَ النظر في ما كانه الفيسبوك في حالتي صاحبةٌ، أي “فرندة”، أجرت تحقيقاً جعلَت موضوعه ما يمثّله الفيسبوك للفسابكة وطرحَت عليّ (في نطاق عيّنة  انتقَتْها لتحقيقها) سؤالها هذا.
قلت لـ”فرندتي” تلك إنني أرى في الفيسبوك وسيلة إعلام شخصية: جريدةً خاصة، مثلاً، لكلّ واحدٍ من مستخدمي الموقع. وهو، في الواقع، أكثر من جريدة: فإن إمكانية نشر التسجيلات الصوتية تجعله شبيهاً بالإذاعة أيضاً. وتجعله إمكانيةُ نشْر الصور وأشرطة الفيديو يشبه محطة التلفزيون. وسيلة الإعلام ههنا هي إذن نوع من “وسيط” عام. وهذا الوسيط نحصل عليه بلا جهد يذكر وبلا كلفة باستثناء كلفة التجهيزات الأساسية والاشتراك في الإنترنت.
بعد امتلاك الوسيط، يصبح كل واحد مسؤولاً إلى حدّ بعيد عما يصنعه به. هكذا توجد صفحات رفيعة المستوى وأخرى ساقطة. وتوجد صفحات وافرة النشاط وصفحات ميتة أو شبه ميتة. يجتذب بعض الصفحات زوّاراً بالألوف ويمتلك نفوذاً هائلاً كذاك الذي ظهر في حركات التغيير العربية. فيما تبقى صفحات أخرى بلا أدنى تأثير. هذا كله يتبع الأشخاص: أمزجتَهم وكفاءاتِهم، والأهدافَ: أي القضايا التي يحدّدونها لوجودهم في الموقع، ويتبع جهودَهم…
وفي كل حال، يشعر صاحب الصفحة بأن له جمهوراً لا يعرف ملامحه إلا معرفة تقريبية وأنه يستطيع مخاطبة هذا الجمهور متوقعاً تأثيراً ما لهذه المخاطبة في أيّ وقت يختاره.
هذا يكسر العزلة التي تفرضها الحياة المعاصرة على أكثرنا ويمنح صاحب الصفحة شعوراً بالأهمية. وقد يحمله على قول أشياء لا يقولها في محيطه المعتاد ويشعره بشجاعة وذكاء لا يعرفهما عادةً في نفسه. وقد يحرّضه أيضاً على الاستنباط لتجديد ما ينشره على صفحته وإرضاء متابعيه الذين قد ينتظرون منه نوعاً من الانتظام في التدخل أو من التفاعل مع أمورٍ بعينها.
بالطبع، تؤثّر درجة التفاعل من قبل المتصفحين في هذا الشعور بأهمّية الذات أو باهتمام الغير فتحبطه أو تؤكّده. مع ذلك، يجب القول أن حيازة منبر وجمهور بهذه السهولة من جانب أيّ كان ليست بالأمر القليل. فهذا كان يقتضي كثيراً من الجهد والكفاءة ومواتاة الفرص قبل أن يوجد الفيسبوك وغيره مما يشبهه فيصبح الأمر في متناول العموم تقريباً ويتحوّل كلّ فردٍ إلى مشروعِ نجمٍ على طريقته.
من جهةٍ أخرى، يتعرّض كلّ واحد منّا لمؤثّرات تصل إليه من الصفحات الأخرى ولا يتحكّم بماهيّتها: منها ما يزيدنا معرفة او يحملنا على التفكير ويرفع سوية أذواقنا ومنها ما يؤذي أو يضلل أو ينحدر بمستوى الذوق. فالفيسبوك الذي هو وسيلة إعلام يستوي وسيلة استعلام ايضاً. وهي وسيلة سيّئة، مثخنة بالثغرات، إذا شئتَ الاستعلام منها عن الأخبار ولكنها أوفر فائدة إذا رغبتَ في الاطّلاع على المواقف. وهي سبيل إلى مُتَعٍ متنوّعة أيضاً بطبيعة الحال، إذا وفّق المتصفح إلى موادّ جميلة (بوجوه ومعانٍ مختلفة للجمال) يعرضها عليه آخرون.
هذا ويتعلق مقدار التعرّض بالوقت الذي نرتضي قضاءَه في التصفّح وباتّساع شبكة معارفنا وتنوعها، إلخ. ويتفاعل بعضنا مع هذا كله أو لا يتفاعل: بالإكثار أو بالإقلال من الـ”لايك”ـات ومن التعليقات. ويورّطنا ما ننشره أحياناً أو التعليق على ما ينشره الغير في مواجهات قد تصبح عنيفة وتخرج بسرعة على قواعد الحوار المفيد أو اللائق. فإذا نحن تجاوزنا عمّا هو ظرفي كان علينا الالتفات إلى أمر أخير جدير بالانتباه فعلاً: وهو أن الفيسبوك أصبح مادّة من موادّ علاقتنا بالمحيطين بنا في خارجه، أي في عالم “الواقع”. فهو واحد من موضوعات الحديث بيننا وبين من نحادثهم ويتّخذ بين أبواب الحوار اليوميّ أهمّية متنامية.
والخلاصة أن وسيلة الإعلام الشخصية هذه يسعها أن تغيّر نظرة مستخدميها إلى أنفسهم فتمنحهم ثقة بالنفس وشعوراً بالأهمية ويسعها أيضاً أن تذكي شعوراً بالنقص ينجم من قياس النفس بالغير. فإن للفسبكة وجوهاً تنافسية مختلفة تؤثّر أحياناً في العلاقة بيننا وبين أناس نعرفهم. وهي تدفع، في كثير من الحالات، إلى التبعية للـ”نجوم” وتكوين الشلل المسلوبة الإرادة واستقلال الفكر حول هذا أو ذاك منهم، إلى هذا الحدّ أو ذاك. وعلى الأعمّ، يفضي قضاء الوقت الطويل في التصفّح إلى شعور بالضيق وبالتبعية يشبه ذاك الذي يصحب أنواع الإدمان كافّة.
 لا أتلبّث هنا عند الصفحات غير الشخصية: تلك التي ترمي إلى إنشاء جماعة حول موضوع ما: قد يكون هواية أو غواية وقد يكون سلعةً وقد يكون قضية. هذا جانبٌ (أو جوانب) على حدةٍ من الفيسبوك. ويقتضي الكلام فيه متابعة واهتماماً لا أدّعيهما. أكتفي بالإشارة إلى الطموح العامّ للصفحات غير الشخصية: طموحها إلى تكوين جماعات متنوّعة. فيكون مدار الجماعة شخصية أو تنظيماً أو تيّاراً في السياسة، موضوعاً أو قضيّة، نوعاً أو مدرسةٌ في الفنّ أو الأدب أو الفكر، مؤسسةً ترغب في تقديم نفسها أو سلعةً تباع، إلخ.، إلخ. وفي كلّ بابٍ من الأبواب تأتي الصفحات غير الشخصية متنوّعة على غرار البرامج في وسيلة للإعلام، تعلو أو تهبط تبعاً للنهج والكفاءة وللهدف.
يبقى مع ذلك أن الفضاء غير المادّي – ومنه الفيسبوك – ليس، على التعميم، أرضاً للخلود. وهذا على الرغم من اتّساعه المهول لحفظ الموادّ الرمزية. الموادّ هنا عابرة، عادةً، على غرار ما يتعاطاه الإعلام، تتراءى لنظر المهتمّ لحظاتٍ أو ساعات، أيّاماً في أحسن الأحوال. ثم تختفي وتصبح العودة إليها محتاجة إلى بحث يزداد المكترثون لإجرائه ندرة كلّما طالت المدّة. هذا وليس ثمة ما هو أسهل من إزالة صفحة فسبوكية من أصلها. تُزال فلا يحفظ منها أثرٌ أو عينٌ في موضع، وهذا بخلاف الكتاب أو قرص التسجيل. وتبدو هذه الهشاشة مجافية لأنواع من الجدّية توحي بها أنواع من الصفحات. فما يستثير الحنينَ أو الحماسةَ أو غبارَ المساجلات اليوم ينطفئ غداً ويصير تذكّره على همّة معنيين قلائل.
وفي هذا درسٌ لمن يحسب أن الفيسبوك يصلح قياساً لقوّة فكرة أو لمستقبل قضية. وقد اختُبر هذا الوهم في الديار العربية في الشهور الثلاثين المنصرمة وكان من أمره ما كان. هذا ونحن نشير هنا إلى ما صارت إليه صفحات جادّة كانت، في أيامها، شاسعة النفوذ. فما بالك بتلك التي يستسهل الفسابكة إنشاءها ويفرطون في انتحال القضايا لها، متفائلين بخير ليس في أيديهم ما يضمنه. فتصمد الصفحة عشية أو ضحاها وقد تسيء حيث أرادت أن تحسن إذ تُظهر قلّةُ الاستجابة عزوفاً لا يكون مردّه إلى البرَم بالقضية المطروحة بل إلى الشكّ في جدّية الموقع الذي تطرح منه.
في هذا كلّه أسباب للإشاحة عن الفسبكة لم يكن شعوري الشخصي بشيء من التعب أو الملل مبتوت الصلة بها. أضيف إلى هذه الأسباب ما يعرفه فسابكتنا من تفاقم العنف في السجال على صفحاتهم هذه الأيام. هذا العنف المستشري سوري ولبنانيّ على التخصيص. وهو طائفيّ أيضاً: أصلاً أو بالتبعية. وهو يتمثّل كثيراً في انحطاط السجال إلى البذاءة. وفي ظروف تتّسم بالحدّة السياسية من قبيل ما نحن فيه في هذه الأيام، تنشُر البذاءة الملازمة لهذا النوع من الحدّة مناخاً ثقيل الوطأة على النفوس ينحطّ أحياناً إلى درجة توشك أن تذهب بالمتصفح الملتزم إلى شفير الغثيان. وتكاد لا تختلف الحال، لهذه الجهة بين أن يكون المتصفّح طرفاً في الجدال وأن يطّلع عليه وهو يتفقّد موادّ منشورة.
ومن كلام “فرند” لي أن الفيسبوك إنما هو، في واحد من تجلّياته، شارع. ويعبُر هذا الشارع أناسٌ من ذوي الأدب ولكن يرابط فيه آخرون أيضاً يصحّ وصفهم بـ”أولاد الشارع”. ولعلّ عبارات صاحبي تصبح أكثر إنصافاً للفيسبوك وأهله إذا أبرزنا قابليتها للقلب رأساً على عقب. ففي وسع “أولاد الشارع” أن يكونوا هم المارّة العابرين لضيقهم بالمتابعة وفي وسع ذوي الأدب أن يكونوا هم المرابطين للزومهم الذودَ عن قضيّة يحرصون عليها. ذاك إذن وصف يصحّ فيه الوجهان على قول النحويين.
…وهذا، أيّاً يكن الأمر، ما ارتأيت تسجيله فيما أنا ذاهب إلى غيبة عن الفيسبوك قد تكون الكبرى وقد لا تكون.

– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/6/6/%d9%85%d8%a7-%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d8%ad%d9%82%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d9%83%d8%a9#sthash.dyuzmq45.dpuf

لبنان ودعوى أمومة الأرض للتاريخ

العدد 655 – 2013/6 – تاريخ و اشخاص و تراث – أحمد بيضون لبنان ودعوى أمومة الأرض للتاريخ
لا جدال في أن تاريخ المجتمعات والحضارات الذي تتعاقب فصوله على نطاق معين من الأرض تستجيب ملامحه، على أنحاء مختلفة، لأثر الأرض التي يدور عليها، بموقعها وتضاريسها ومناخها وسائر بناها. فإن العين المجردة – إن جازت العبارة هنا – تبصر ما تتصف به المجتمعات الصحراوية، مثلا، من وجوه شبه تقرّب ما بينها وتميزها عن مجتمعات الجبال – مثلا أيضا – أو عن مجتمعات أحواض الأنهار أو مجتمعات المدن الساحلية.. إلخ.

 

  • منذ استواء المسيحية دينًا للدولة البيزنطية ثم بعد الفتح الإسلامي، تعزّز السكن في الجبل واستقرت فيه، واحدة بعد الأخرى، طوائف لم تكن على دين الدولة أو لم تكن، في الأقلّ، على مذهبها. وهذه صفة معروفة للجبال في الدول الإمبراطورية ولأطراف الصحارى
  • موقع لبنان وتكوينه الجغرافي جعلا منه أرضًا للتنوع. فهو كان أكثر انفتاحًا على المتوسط بحواضر ساحله وأكثر لصوقًا بالداخل السامي بسهله الداخلي. وكان الجبل، إلى عهد غير بعيد، أميل إلى الانطواء على تقاليد سكّانه وانقساماتهم

 

على أن الاعتراف بهذا الأمر، باعتباره معطى بين معطيات جديرة بالنظر لفهم التاريخ، لا يجعل أهل النظر التاريخي يجنحون بالضرورة إلى نوع من الحتمية الجغرافية تحيل الأرض إلى قدر لأهلها لا يترك لفعلهم الحرّ ولا لما يضطرب به تاريخهم من عوامل أخرى دورًا يذكر في توجيه هذا التاريخ ورسم مساراته.

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان الألماني هيردر مؤسسًا لمدرسة الحتمية الجغرافية هذه، فشكّل فكرة ركيزة للقومية الرومنطيقية أو لقومية الأرض في القرن التالي.

ولكن هذه النظرة، بغلوّها المفقر لما في التاريخ من كثرة العوامل وتنوع الممكنات، لم تكن قط محل توافق بين أهل النظر في التاريخ وإن تكن استوت رافدًا فكريًا لبعض عصبيات القرن العشرين القومية وخصوصًا للألمانية منها. وهذا قبل أن يصل أثرها إلى الفكر التاريخي الناطق بالعربية على يد أنطون سعادة خصوصًا.

وعلى العموم، سعى كتّاب التاريخ الراغبون في تأسيس شخصية تاريخية خاصة للبنان وقومية منفردة، بالتالي، لأهله، وسعى خصومهم أيضًا إلى استمداد الأرض حججًا وأسانيد تشهد بصواب رغبتهم وبوار رغبة مناهضيهم. ولعل المؤرخ جواد بولس (الذي كان في مرحلة من مراحل شبابه من محازبي سعادة) أبرز من تظهر عندهم من بين أصحاب النزعة «اللبنانية» هذه الأطروحة الجغرافية في تفسير التاريخ. ولكنه وإن يكن قد ذهب بها إلى نهاية إمكاناتها، لم يكن حاملها الوحيد. فهي قد بقيت ثابتة من الثوابت التي اعتمدها مؤرخون لبنانيون كثيرون ممن حمّلوا أنفسهم مهمة التأسيس لكيان لبناني يستحق الانفراد عن محيطه بدولة مستقلة.

فكيف هي أرض لبنان في علاقتها بتاريخه وما الذي يمكن التوصّل إليه من وصفها دون أن يكون الانحياز المسبق حاديًا للاستدلال؟

 

مفاعيل البحر

تتشكّل أرض لبنان من شريط ساحلي ضيّق يتوسّط الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط, ومن سلسلة جبال موازية للبحر عن كثب، ثم من سهل داخلي أكثر عرضًا بقليل من الساحلي، فمن سلسلة جبال شرقية أقل عمرانًا من الغربية، في شطرها الشمالي على الأخص.

وقد كان موقع لبنان على البحر سببًا، عبر معظم عصور التاريخ، في أمرين: غلبة التجارة على نظام معيشة الجماعات التي أهلّت سواحله واستدراج الغزاة الذين كانوا يرون في السيطرة على ثغوره شرطًا لتوسيع ممالكهم أو لحمايتها. أما التجارة فقد اضطلعت بها في العصور القديمة حواضر الساحل الفينيقية. ومعلوم أن سكّان هذه الحواضر أتقنوا بناء السفن وأسعفتهم في ذلك كثرة الغابات على جبالهم، ونشروا مستعمرات تجارية لهم على ضفتي المتوسط، بل تجاوزوا أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق لاحقًا) إلى سواحل إفريقيا الغربية.

وعندنا ما يشير إلى أنهم قد يكونون داروا حول القارة الإفريقية، من جهة، ووصلوا، من الجهة الأخرى (وهذا لايزال محلّ جدال) إلى السواحل الأمريكية. معلوم أيضا أن حواضرهم كانت أبوابًا لتجارة الإمبراطوريات الداخلية التي سيطرت على بلادهم أحقابًا طويلة من الزمن، وكانت عواصمها في بلاد ما بين النهرين وفي مصر وفي بلاد فارس لاحقًا. ثم انقلبت دائرة السيطرة إلى الشمال الغربي في عهد الإسكندر المقدوني وخلفائه السلوقيين ثم إلى روما فبيزنطة.

ذلك يظهر أهمية هذا الساحل بما هو بوابة مفتوحة على عالمين: متوسطي وآسيوي. وهو كان بهذه المنزلة موقعًا ومنطلقًا للثقافات القديمة ولتفاعل العادات والمعتقدات والخبرات فضلاً عن تبادل السلع. على أن هذه الأهمية نفسها كانت تجعل منه هدفًا للفاتحين وموضوع صراع بينهم.

وكان ذلك سببًا، في بعض المراحل، لدمار حواضره. وكان سببًا أيضًا، في الجانب الأعظم من العصور القديمة، لدخوله تحت حكم الفاتحين القدماء واحدًا بعد آخر. وهو ما تشهد به النقوش الباقية على صخرة نهر الكلب الذي استوى ممرًا تقليديًا للجيوش، عبر التاريخ القديم. وقد تميّزت عصور هذا التاريخ بعضها عن بعض بتعاقب الموجات الغازية ومنها القادمة من بلاد ما بين النهرين ومنها القادمة من وادي النيل. وهذا قبل أن تستقر الغلبة للإمبراطوريات الهندية الأوربية: الفارسية أولا فاليونانية فالرومانية. وقد وجد جيش الفتح الإسلامي نفسه يواجه جيوشا بيزنطية في الداخل السوري وعلى السواحل. ولم يكن قد مضى ربع قرن على دحر البيزنطيين آخر موجة فارسية في أوائل القرن السابع الميلادي حين استولت جيوش المسلمين على بلاد الشام كلّها. وهو الحدث الذي رسم مصيرها منذ نيّف وثلاثة عشر قرنًا إلى اليوم.

كانت حواضر الساحل الفينيقي قد أخذت تفقد خواصّها اللغوية والحضارية بالتدريج وتكتسب خواص الداخل السامي وتتلقى معها آثار الحضارة الهلينستية منذ أوائل العهد السلوقي أي قبل الفتح الإسلامي بنحو ألف سنة. على أن الساحل حفظ دوره التجاري، في ظل السلم الروماني، وعرفت حواضره ازدهارًا عمرانيًا وثقافيًا بارزًا. وهو حفظ هذا الدور على تقطع في معظم العهود الإسلامية، إذ كانت الخلافة الإسلامية قد شكلت عالمًا قائمًا بذاته ضم إليه معظم سواحل المتوسط من الغرب وترامت أطرافه الشرقية إلى الهند وإلى حدود الصين.

وعلى الرغم من أن حال الحرب كانت تحدّ من التبادل التجاري بين الشرق الإسلامي وأوربا و(آسيا الصغرى) المسيحية، في بعض المراحل، فإن هذه الحركة كانت نشطة نسبيًا قبل العهد الفرنجي بقرون عدّة وكان لموانئ الساحل الشامي نصيب مرموق منها.

وقد استولى الفرنج على هذا الساحل كله أو على أجزاء منه مدة قرنين تقريبًا، ابتداء من نهاية القرن الحادي عشر. وطبيعي أن التبادل انتعش كثيرًا في ذلك العهد بين ممالكهم الشرقية والممالك التي جاءوا منها في أوربا. على أن دائرته كانت تتّسع إلى الأقطار الإسلامية المحيطة بهم أيضًا في مراحل الهدنة والمسالمة وهي كانت كثيرة. إلا أن هزيمة الفرنج الأخيرة ورحيلهم عن هذه البلاد أفضيا إلى خمول بعض الحواضر الساحلية وذوائها زمنًا طويلاً، فقد أقدم المماليك على تخريب القلاع والمرافئ في بعض المدن درءًا لغزوات الفرنج الذين لبثوا في جزر المتوسط القريبة مدة غير قصيرة وكانوا يغيرون منها على السواحل. هكذا لم تستعد الحواضر المذكورة حيويتها إلا بالتدريج في العهد العثماني. وكانت بيزنطية قد سقطت وسيطر العثمانيون على حوض المتوسط الشرقي. مذّاك أخذ الساحل يسترد دور حلقة الربط بين الشرق والغرب. وهو دور لبث يتعزّز مع تنامي النفوذ الأوربي بكل منطوياته في الأقطار الشرقية ولايزال مستمرًا إلى اليوم.

 

الوديان وعصبيات الجبليين

هذا عن الساحل. وأما الجبل فكان في القديم ملاذًا دفاعيًا لسكّان الحواضر وكانت غاباته تستثمر لأغراض شتّى, أهمها صناعة السفن. وكانت تجتازه مسالك متجهة نحو الداخل وتقوم على بعض قممه معابد ومنشآت مختلفة. ومنذ استواء المسيحية دينًا للدولة البيزنطية ثم بعد الفتح الإسلامي، تعزّز السكن في الجبل واستقرت فيه، واحدة بعد الأخرى، طوائف لم تكن على دين الدولة أو لم تكن، في الأقلّ، على مذهبها. وهذه صفة معروفة للجبال في الدول الإمبراطورية ولأطراف الصحارى البعيدة، إذ كثيرًا ما يكون الانفراد المذهبي أو الديني سببًا للإقامة فيها وتؤدي هذه الإقامة أحيانًا إلى تعزيز الانفراد المذكور حفظًا لتماسك الجماعة. وقد كانت الدول الإسلامية المتعقبة – شأنها شأن سائر الإمبراطوريات في التاريخ – دولاً متنوعة العناصر والثقافات لا تفترض الاندماج الاجتماعي أو القومي أساسًا لها وتحتمل في العادة وجود جماعات شبه منفصلة تترك لها إدارة شئونها الداخلية بشرط ألا تصل إلى العصيان وأن تحترم العقد القائم بينها وبين الدولة القائمة وكان محوره الأهم، في الأغلب، أداء الضريبة.

هكذا تكوّنت شخصيات أو عصبيات خاصة للطوائف اللبنانية. وكانت هذه الشخصيات أو العصبيات تميل بالجماعات إلى الانغلاق النسبي وتنطوي على عادات وتقاليد بعضها ذو أصل ديني قريب أو بعيد (وثني أحيانًا) وبعضها مستقى من ظروف الحياة في بيئة الجبل الطبيعية وبعضها مستوحى من المحيط الأوسع. وكان أهم ما بقي مشتركًا بين الطوائف وبينها وبين محيطها في السهول وفي الصحارى والسواحل نظام العائلة الأبوي. هذا النظام (وهو عربي وشرقي) استبقاه الإسلام وإن كان نشر فوقه هوية دينية جامعة. وهو استوى، في الجبل وفي غيره، أساسًا للتنظيم الاجتماعي ولسياسة الجماعات ولجانب كبير من قيم السلوك. وهو كان يظهر في الحواضر، بالرغم من الاختلاط الذي ميّز معظمها ومن خصوصية نظام الحياة فيها. وكان يظهر أيضًا في السهول والبوادي فيقسمها بين القبائل والعشائر والأقوام. وكان يظهر في الجبال فيلابس استقلال الطوائف بأجزاء منها. هذا الاستقلال كان، في الأصل، انفصالاً للطوائف بعضها عن بعض. وكان أيضًا حدًا للصلات بالمحيط الأوسع ولم يكن استقلالا عن الدولة كما أسلفنا، إلا في حالات محدودة من الزمن انعقدت فيها ظروف تاريخية استثنائية عزّزت الدواعي إلى العصيان. وأما الانغلاق النسبي دون المحيط فحدّ، مثلاً، لقرون عدة من فعل التعريب في بعض مناطق الجبل، مستبقيًا فيها جزرًا سريانية ترقى إلى العهد الآرامي المتأخر. وكان التعريب قد بدأ في الشام قبل الإسلام بقرون عدة. فحلّت العربية شيئًا فشيئًا محل الآرامية والسريانية بعد مسيرة لا شك أنها كانت متقطعة, ولكن ندرة الأصول لا تسمح برسم مراحلها ترسّمًا تفصليًا.

وأما انفصال الطوائف بعضها عن بعض فبقي غالبًا إلى العهد العثماني وأسعفته طبيعة الجبل الذي تفصل بين أقاليمه وديان عميقة رسمت بفصلها ما بين الجماعات ملمحًا من ملامح لبنان التاريخي شأنها في ذلك شأن الموقع الساحلي والمعتزل الجبلي وانبساط السهل الداخلي وخصوبته. فلا يسعنا أن نتمثّل جغرافية لبنان الطائفية في تطورها التاريخي ما لم ننتبه إلى هذه الوديان التي استوت حدودًا بين الطوائف في مراحل استقرارها وتكوّنها وأخّرت بدء تجربة الحياة المشتركة بينها على نطاق واسع إلى العهود العثمانية.

 

السهل الداخلي وهاجس الأمان

وأما السهل الداخلي ففرضته خصوبته وانبساطه مكانًا للسكن المستقر منذ أقدم العصور. وتدلّ آثاره وأخباره القديمة على عراقة مراكزه الحضرية وأهميته الزراعية. وهو كان أيسر اتصالا، في القديم، بالمجال الآرامي الواسع. فغلب عليه الالتفات إلى الشرق في ما حفظ الساحل، عهودًا طويلة، خصوصيته الكنعانية وانفتاحه على حضارات المتوسط المختلفة. ولكن السهل كان أيضًا ممرًا لقبائل البدو المترحلة وكان أمان سكانه رهنًا بفاعلية الحماية المتاحة له من جانب الدول التي تعاقبت عليه بولاتها وحامياتها. وكان لبعلبك أهمية استراتيجية كبيرة باعتبارها محطة وحامية على الطريق الممتدة من العقبة إلى حمص وحلب. وقد تبع السهل إداريًا مركز دمشق القريب إليه، منذ العهد الروماني على الأقل. وحين عمر الجبل في العهود الإسلامية، تشابكت الصلات بين مناطقه ومناطق السهل. فبات لكثير من العشائر والعائلات مصيف في الجبل ومشتى في السهل، بحسب حاجات الرعي والزراعة. وكان لهذا الأمر انعكاسه على تكوين السلطة الإقطاعية في كل من المنطقتين، فنشأت زعامات إقطاعية مشتركة. وباتت السيطرة على البقاع لاحقًا مطمحًا لأمراء الجبل. على أن الجبل شهد منذ القرن التاسع عشر حركة تحديث ألحقت إنتاجه الزراعي بشبكة الرأسمالية الأوربية وحاجاتها وأثّرت تأثيرًا بالغًا في بناه الاجتماعي. وأما البقاع، لاسيما جروده فبقي إلى عهد قريب – ولايزال من بعض الوجوه – أكثر المناطق اللبنانية محافظة على بنى عشائرية ورثها من غلبة الرعي والزراعة التقليدية على معيشة أهله ومن ألفة هؤلاء للقبائل البدوية ومقتضيات أمنهم في قراهم وأراضيهم.

 

خلاصة: التنوّع والوحدة وحدود النزاعات

والخلاصة أن موقع لبنان وتكوينه الجغرافي جعلا منه أرضًا للتنوع. فهو كان أكثر انفتاحًا على المتوسط بحواضر ساحله وأكثر لصوقًا بالداخل السامي بسهله الداخلي. وكان الجبل، إلى عهد غير بعيد، أميل إلى الانطواء على تقاليد سكّانه وانقساماتهم. ولكن حاجته إلى الساحل والسهل كانت مستمرة وظلّت شبكة العلاقات بينه وبينهما تتنامى وتزداد عضوية منذ أوائل العهد العثماني على الأقل. وكان التنوع الطائفي فيه ينزع بكل قسم من أقسامه إلى المحافظة على شخصية خاصة به. ولكن حركة السكان من طوائف مختلفة بين مناطقه تحوّلت إلى واقع ذي دلالة تاريخية حاسمة منذ العهد المملوكي، على الأقل، فدفعت طوائفه إلى مزيد من الاختلاط وأكسبته موقعًا توحيدي النزعة تدريجيًا. وكان اندراج هذه المناطق اللبنانية في المجال الشامي الأوسع واقعًا مؤكدًا عبر التاريخ.

ولكن هذا المجال اللبناني نفسه، وإن تكن له سمات حضارية غالبة، كان بدوره بالغ التنوع. فلم يشكل بمفرده دولة مستقلة، بل كان في العادة جزءًا من دول أوسع رقعة منه. وشكّلت أجزاء منه، في مراحل تاريخية كثيرة، دويلات أو أشباه دول بقيت تابعة، إلى هذا الحد أو ذاك، للإمبراطوريات الكبيرة. وحين نشأت دولة لبنان سنة 1920، كانت شرائحها الطولية متكاملة في إقليم رائع التوازن، وكانت شبكة العلاقات التاريخية بينها قد بلغت درجات متباينة من الكثافة تبعا لتباين المناطق وتنوع العناصر الطائفية. ثم اكتسبت هذه الشبكة كثافة جديدة، إذ تعزّزت بمؤسسات الدولة الواحدة وبجاذبية العاصمة الواحدة وبسبل التواصل المختلفة. هذا كله حوّل البلاد (برقعتها الصغيرة نسبيًا) إلى جسم واحد وأبطل إلى حد بعيد ما كان للخصائص الجغرافية التي تتميّز بها كل من مناطقها من مفاعيل اجتماعية. فقد انتشر النموذج المدني الواحد من الساحل إلى الجبل والسهل. ولم تعد الوديان حوائل يشعر بها الناس في تنقّلهم اليومي. وإذا كانت قد بقيت، مع ذلك، أسباب تكوينية للنزاع بين الجماعات التي تشكّل منها المجتمع اللبناني تاريخيًا، فهي كانت تتصل بالطموح إلى تحسين شروط الشراكة في الدولة الواحدة وفي المجتمع الحديث الواحد. أي أن النزاع – حين وقع – كان نزاعًا في إطار الوحدة والتحديث ولم يسعه – بالرغم من بعض المظاهر المخالفة لهذا الرأي – أن يكون نزوعًا إلى فكّ الوحدة أو نكوصًا إلى عزلة فات زمانها.

—————————————-

* مؤرخ من لبنان.