السوابق

أحمد بيضون

في التصدير الذي وضعه لـ»كتاب التاج في أخلاق الملوك» المنسوب إلى أبي عثمان الجاحظ، وقد حقّقه تحقيقاً ضافياً ونشره في القاهرة سنة 1914، أقدَمَ العلامة أحمد زكي باشا (وكان يلقّب بـ»شيخ العروبة») على أمرٍ أجده مثيراً للتأمّل. فهو قد وجد الكتاب، أوّلَ ما وجده، في مجلّدة وقع عليها في خزانة سَراي طوب قبّو في إستانبول… وكانت هذه المجلّدة التي يصفها المحقق الناشر بأنها «من أنفس الذخائر التي خلّفها الأوائل للأواخر» تضمّ إلى هذا الكتاب كتابَي «الأدب الكبير» و»الأدب الصغير» لعبد الله بن المقفّع. نقل الباشا هذا المخطوط وغيره بالتصوير الشمسي وعاد بصيده إلى مصر.
إلى هنا وكلام الرجل يدخل في باب الخبر الذي هو بعضٌ من قصّة إفضاء الكتاب إلى يدي قارئه. ولكن الرجل حين يدخل في التأريخ للمخطوط الذي وقع عليه ينتقل وينقل معه قارئه إلى همّ آخر هو همّ الحقّ الوطني (أو القومي بالمصطلح الغالب في مصر) في ملكية المخطوط. فهو إذ يجد ما يفيد أن رجلاً يدعى يوسف الحلبي قرأ المخطوط في سنة 894 للهجرة يرى أن النسخة قد تكون كتبت في تلك المدّة في حلب… أو في القاهرة. ثم يضيف أن حلب كانت، في تلك الأيام، عُمالةً لسلطان مصر ليخلص إلى أن المجلّدة هي، أيّاً كان الأمر، «من ذخائر مصر»!
ما الذي يحمل الباشا على هذا الاستدلال كلّه لينتهي إلى تسويغ أمرٍ لا يجادله أحد أصلاً في مسوّغ الإقدام عليه ولا في فضله فيه؟ هل العودة من السفر بصورة لمخطوط نفيس والتهيّؤ لتحقيقه ونشره أمرٌ يحتاج إلى إثبات ملكية وطنية (أو قومية) للمخطوط؟ وما هو المنطق الذي يجعل احتمال الانتماء الحلبي للمخطوط قابلاً للتجاوز بإثبات تبعية حلب، بأمّها وأبيها، لسلطان مصر المملوكي، بتاجه وصولجانه؟
ولأقل ههنا أن جهد الباشا للاستيلاء القومي رمزياً على هذا المخطوط ردّني إلى حالة أخرى وجدتها مشابهة لهذه ومعزّزة لما أجده لها من دلالة. تتعلّق هذه الحالة الأخرى بالاستيلاء الرمزي، لا على مخطوط، بل على مدينة بأسرها هي مدينة طرابلس المعروفة تاريخياً باسم طرابلس الشام تمييزاً لها عن عاصمة ليبيا الحالية. فقد لاحظت أن الاستيلاء هذا يحصل في الحالين من طريق إثبات سابقة بعينها هي سابقة السلطان السياسي، وهي عادةً سابقةُ تغلّبٍ ووضعِ يد.
وأما صاحب المأثرة الطرابلسية فهو المؤرّخ اللبناني الكسرواني نجيب الدحداح وكان سفيراً في السلك الخارجي نشر، بعد خمسين سنة من نشر «شيخ العروبة» كتاب «التاج»، مؤلّفاً وضعه بالفرنسية وجعل عنوانه «تطوّر لبنان التاريخي». على رأي العبارة الفرنسية، يوقد الدحداح «ناراً من كلّ حطب» يجده ليثبت التابعية اللبنانية للمناطق التي ضمّت سنة 1920 إلى متصرّفية جبل لبنان، وقد نشأت من هذا الضمّ «دولة لبنان الكبير»، وهي على وجه التقريب، جمهورية لبنان الحالية. والواقع أن التبعية للسلطة الجبلية المصدر هي الحجّة الرئيسة التي يعتمدها الدحداح إثباتاً للبنانية المدن والمناطق المضمومة. هكذا تردّ الحجج، بتنوعها التاريخي إلى حجّة أصلية رئيسة: استولى حاكم لبناني، مدّة من الزمن، على هذه المدينة أو تلك المنطقة (ويستحسن أن يكون هذا الاستيلاء قد حصل بالقوّة) فهي إذن مدينة أو منطقة لبنانية تعتبر تابعيتها هذه تامّة الشرعية: لا عند اتّخاذ قرار الضمّ المشار إليه أعلاه بل أيضاً في يوم المؤلف الحاضر…
تستجيب مناطق البلاد ومدنها لرغبة المؤلّف هذه استجابة متباينة الدرجات. وتبدو طرابلس، وهي عاصمة لبنان الثانية، في أيامنا، أقلّ المدن طواعية تاريخية لعمل الضمّ الرمزي الذي يسعى إليه الدحداح. فهو يضطرّ إلى الاكتفاء في هذه الحالة بإخافة فخر الدين الثاني أمير الجبل حكّام طرابلس من آل سيفا ثم باستيلائه على مقاليد المدينة أعواماً قبل أن يستردّها الوالي العثماني إلى حكمه المباشر. هذه زبدة البرهان. ولا يقع الدحداح على ما يعززه سوى «اهتمام» حكام لبنان المستمر بطرابلس والمصادر اللبنانية لبعض المأمورين الذين عهدت الدولة العثمانية بشؤون مختلفة في طرابلس. ذاك يكفي المؤرخ شرّ النظر في سائر التاريخ وفي الحاضر: أي في تبعيّاتٍ كثيرةٍ تداولتها طرابلس في مدى تاريخها الطويل أو أيضاً في موقف طرابلس من لبنانيتها، على ما بدا عليه في الوقائع. يكفيه هذا الزاد الضئيل أيضاً همّ البحث عن مسوّغات غير سابقة الاستيلاء لضمّ طرابلس وغيرها في دولة واحدة هي الدولة اللبنانية. السابقة تبدو منتهى البحث وأقصى المراد.
يضمّ أحمد زكي باشا إلى بلاده مخطوطاً وجده في إستانبول. هذا مع أنه لا يعرف عن أصل النسخة سوى أن ذلك الحلبي قد قرأها. وهو يلجأ في هذا الضمّ إلى السلطان فلا يضيمه، بعد ذلك، أن يكون القارئ المشار إليه غير مصري: لا هو ولا ابن المقفّع ولا الجاحظ بطبيعة الحال. السلطان (الذي يبدو إثبات مصريته صعباً أيضاً) قام بما يلزم: استتبع حلباً وهذه غاية المراد.
ثمة شيء فاقع نقرأ ملامحه في حالتي الباشا المحقق والدحداح المؤرّخ. الاستيلاء هو أساس الشرعية ولا بحث بعد الاستيلاء في واقع الاندماج ودرجته ولا في عدمه. يحتاج المحقق إلى استيلاء السلطان على حلب في أواخر القرن التاسع الهجري (والخامس عشر الميلادي) مسوّغاً لحيازة صورة لمخطوط حصلت قبل مائة سنة من يومنا هذا. ويكتفي المؤرّخ بسابقة الاستيلاء على مدينة (هي طرابلس) مدّة بضع سنين من القرن السابع عشر دليلاً على شرعية تابعيتها للدولة المعلنة سنة 1920. وهو ما يستبعد مسائل مقلقة من قبيل تاريخ المدينة بسائر معطياته والدروس المستفادة منه ووظائف المدينة وتكوينها الاجتماعي وتوزّع أهلها الطائفي وعلاقة ذلك كله بما فيها من أهواء سياسية.
نحن في حصن حصين من كل ما قد ينغّص مزاجنا وذلك بفضل السابقة: سابقة حكم السلطان قايتباي لحلب وسابقة استيلاء فخر الدين على طرابلس. السابقة – سابقة الاستيلاء والسلطة – هي كلّ ما يلزم. والمحقق والمؤرّخ يجلسان مطمئنين مع غيرهما من «أصحاب السوابق» وقد نسيا أن صحبة أصحاب السوابق لا تجلب الطمأنينة إلى القلوب!

كاتب لبناني

أحمد بيضون

نجاةُ الفَشَل والقَدَر

أحمد بيضون

قبل عامين كتبتُ مقالةً قصيرة خرجتُ فيها من زحمة السير في بيروت بدعوةٍ إلى التأمّل في معنى الحياة. كنت أسأل إن كان يبقى للحياة معنىً حين يضطر واحدنا إلى قضاء هذا المقدار الجسيم منها محتجزاً في سيّارة، ممنوعاً من صنع أيّ شيء يرغب في صنعه بوقتٍ طويلٍ يُقْتَطَع عَنْوةً من أعمارنا القصيرة…
اليوم أعود إلى موضوع السير والسيارات في بيروت وفي لبنان، على الأعمّ، من زاويةٍ أخرى هي اعتبار أزمة السير والمنظومة الاجتماعية- السياسية التي تندرج فيها نطاقاً للمسؤولية العامّة عن جرائم قَتْلٍ وجرْحٍ يقع ضحاياها مارّة وركّابٌ وسائقون… وهي مسؤولية قلّما يلحظها أحدٌ بما في ذلك الضحايا الذين يبقون على قيد الحياة، إذ ينحو هؤلاء إلى النظر في الحوادث واحداً واحداً وإلى حصر المسؤليات في الأفراد وفي اللحظة التي يقع فيها الحادث والموضع الذي يشهده.
لا ريب أن هذا الحصر ضروري حين تراد معالجة النتائج ويعوَّل على الأصول المتبّعة لهذه الغاية من فنّيةٍ وقانونية. ولكن تبقى، في ما يتعدّى هذا الهمّ، نظرةٌ أخرى ممكنة – بل واجبة – يسع المرءَ أن يجيلها في موضوع حوادث السير هذا من زاوية السياسة والاجتماع ومن زاوية الفلسفة التي يستدعيها هذان أيضاً. وإذ أفعل هذا أدرك أن قرّاءً غير لبنانيين سيلحظون شَبَهاً بين ما أصفه وأقوله وبين ما يلقونه وما قد يخطر لهم حيث يقيمون…
إذا كنتَ مقيماً في بيروت واجتزتَ بين حين وآخر كيلومتراً واحداً أو اثنين سيراً على قدميك أو اجتزت ستة كيلومترات أو ثمانية للانتقال من حيّ إلى آخر في المدينة في سيارة تقودها أنت أو يقودها غيرك قاصداً، مثلاً، أن تذهب إلى محلّ عملك وأن تعود، بعد ساعات، إلى محلّ سكنك…
… أو أقدَمْتَ طوعاً أو كرهاً على اجتياز مائة كيلومتر – مثلاً – في سيارة تقودها أنت أو يقودها غيرك للانتقال إلى موضع ما من هذه البلاد الصغيرة وللعودة بعد ذلك إلى مقامك…
إذا فعلتَ واحداً من هذه الأشياء حصَلَ لك، على الأرجح، أمرٌ أو أمورٌ تستحقّ الذكرَ استحقاقاً تامّاً، عند إمعان النظر، ولكنّك قلّما تذكرها. من ذلك أن تكون ماشياً على رصيف فيثب عليك درّاجٌ ناريّ استحسن أن يترك أرض الشارع بداعي العجلة ويفرض عليك أن تنزاح متراً أو نصفَ مترٍ في اللحظة المناسبة ليتمكّن من المضيّ في سبيله بين مارّةٍ آخرين. من جهتي أعزّي النفس كلذما تعرّضتُ لوثبةٍ من هذا القبيل بأنني أزداد علماً بما قصده الشيوعيون العراقيون حين أطلقوا اسم «الوثبة» على حركةٍ تولّوا قيادتها في سنة 1948…
يدخل في هذا الباب أيضاً أن يقتحم الضوء الأحمر أمامك، بعد احمراره بعشرِ ثوان، سائق قرّر أن إقلاعك في اتّجاه الضوء الأخضر الذي حسبتَه فرجاً لكربتك إنما هو أمرٌ في غير محلّه إذ هو يلزمه بالانتظار دقيقة أو نحوها خلافاً لرغبته… من ذلك أيضاً أن يتجاوزك من جهة اليمين على الطريق السريع سائق قرّر أن يستفيد من خط الطوارئ متجاهلاً لزومك، أنت أيضاً، خطّ اليمين وضيقَ الممرّ الذي شاء أن يباغتك (مشكوراً) بسلوكه مشعراً إيّاك بأن انعطافك المباغت أيضاً نحو اليسار هو شرط نجاتك ونجاته ومن معكما جميعاً إذا هو حصل في الثانية المناسبة أي إذا كان برج كليكما برج سعدٍ في تلك اللحظة المشهودة…
لا طمع لي في حصر الحالات التي «ينجو» فيها اللبنانيّ أو المقيم في لبنان يوميّاً من الموت أو من الإصابة في بدنه، على اختلاف الدرجات والأنواع. ولأذكر لك، أيها القارئ الشاهد، بعض ما خبرته بنفسي، أي في بدني، في الأشهر الأخيرة… لا أذكر هذا إثقالاً عليك بالشكوى بل دليلاً على عجزي عن الإحاطة بما يعرض لنا أو يلمّ بنا من مخاطر بالغة التنوّع، متعلّقة بالانتقال، متأتية من رفضنا التسليم بالامتناع المطلق عن التنقّل في المدينة وفي البلاد…
قبل أسابيع، كنت أمشي على رصيف من أرصفة المدينة قاصداً منزلَ قريبٍ لي دعيت إلى غداءٍ فيه. ولم تكن متعتي قد طالت بالسير الآمن على ذاك الرصيف حين اضطررت إلى مغادرته بسبب سورٍ لورشةٍ صادَرَه بتمامه. نزلتُ إلى أرض الشارع مكرهاً إذن… ولم أكن مشيتُ أمتاراً وأنا متسلّحٌ بحقّ العودة إلى الرصيف قبل أقرب الأجلين، حتى شعرت بحلول واحد من هذين: اختار سائق قادمٌ من الخلف أن يميل إلى أقصى اليسار أي نحوي… فما كان من مرآة سيارته إلا أن لطمت ذراعي مخلّفة فيه رضّة لا يعتدّ بها كثيراً وجرحاً لا يعتدّ به ابداً. تابع السائق الذي لم يبلغه احتجاجي الأخرس سيره ولم تلبث متعة الطعام ان أنستني الحادثة كلّها بما فيها بعض الثقل الي كنت لا أزال اشعر به في ذراعي. فنحن قد أصبحنا، لفرط ما ننجو، نكاد لا ننتبه إلى نجاتنا. كنت قد «نجوت» إذن… وعلى غرار اللبنانيين وغيرهم، على التعميم، في هذا النوع من المواقف «رضيتُ من الغنيمة بالإياب»!
قبلَ ذلك بأشهر، كنت أجتاز شارعاً مجاوراً لمنزلي بعد أن استوثقتُ بالنظر إلى الجهة التي تأتي منها السيارات أنني آمن! ولكن السائق الذين كان قد توقّف أمامي، خلف سيّارات أخرى، اختار في لحظة عبوري، أن يقلع بسيارته القهقرى وذلك لسببٍ لم يوصله إلى علمي من قبلُ ولا من بعدُ. عليه لطمَتْني مؤخّرة السيارة المتراجعة مضطرّةً إيّاي إلى قفزة عريضة جاءت غير ملحوظةٍ في برنامجي ورميتُ منها (رميةً من غير رامٍ) إلى تجنّب السقوط تحت عجلات السيّارة. نزل السائق من سيارته قاصداً الاطّلاع على جليّة الأمر والاعتذار فشتمتُه بأنفاسٍ مبهورة وصرفتُه راشداً… كنت قد «نجوتُ» هذه المرّة ايضاً.
وأمّا ما يحصلُ لي وأنا أقود سيّارتي فأغضي عن ذكره خَفَراً إذ هو قسمةٌ عامّة لكلّ السائقين في بلادنا هذه. وقد أشرتُ أعلاه إلى حالة واحدة من حالات «النجاة» التي يحظى بها كلّ جالس على طرقنا خلف مقود… ولا أرى في الزيادة إفادة. أنا سائق مشهودٌ لي بالاتّزان وخبرتي في السياقة تزيد عن خمسين سنة وقد أورثتني حذقاً يطمئنّ إليه الراكبون معي. ولا نتوقّف عن النجاة، أنا ومن معي، حين أقود السيارة. لا يتوقّف عن النجاة أي مواطن أو مقيم في هذه البلاد طالما بقي غدر الزمان يلزمه بالتنقّل. ينجو واحدنا من الموت أو من الإصابة في بدنه مرّة كلّ يومٍ، مثلاً، أو مرّتين في الأسبوع تبعاً لمتغيّراتٍ عديدة أهمّها، بطبيعة الحال، وتيرة تنقّله.
وأما السؤال الاجتماعيّ في موضوع النجاة هذا فيتعلّق بفشل نظامٍ برمّته هو النظام الاجتماعي السياسي المعتمد هنا في إنجائنا من هذا النوع من النجاة: إذ هذا نوعٌ تشهد الخبرات المكتسبة من مجتمعات ودولٍ أخرى بإمكان النجاة منه. فإن من المؤكّد أن هذا النظام هو من يعدّ المسرح ومن يصمّم المَشاهد ومن يدرّب الممثّلين. وهو يتّبع في هذا كلّه أصولاً عامّة يمليها عجزه عن اتّباع الأصول المفترضة. لذا لا تكفي نسبة حالات النجاة التي تحصل ولا حالات عدم النجاة، بالتأكيد، إلى جناةٍ وضحايا أفراد.
في الأمر شيء من منسوب العداوة في العلاقات بين البشر في المجال العامّ وفيه شيء من نسبة العجز عن إعمال القانون وفيه شيء من التسيب في مقتضيات السلامة ومن الاستخفاف بالحياة ناجم عن استبعاد المسؤولية عن النفس واستبعاد المحاسبة. في النجاة المتكرّرة وفي عدمها الذي قد لا يحتاج إلى تكرار منفذ إلى التأمّل في فشل نظام مشتملٍ على المجتمع والدولة من أقصاه إلى أقصاه… وهذا بالضرورة تأمّل في ما ينبغي أن يكون عليه الموقف من هذا النظام إذا نحن صمّمنا على الخروج من نظام النجاة المتكرّرة.
وأما السؤال الفلسفي فتطرحه، مثلاً، واقعة امتناع عجلات السيارة التي صدَمَتْني وهي تتراجع عن الدوران دورةً أخرى… وتطرحه أيضاً واقعة امتناع المرآة في السيارة الأخرى عن زيادة عرض اللطمة التي أنزلتها بذراعي عشرة سنتيمترات أخرى… فإن هذه السنتيمترات وتلك الدورة هي عرض الفارق وطوله بين «النجاة» وعدمها. أي إننا نحظى ههنا، بعد فرصة التأمّل في مسألة الفشل، بفرصةٍ لا تفوّت للتأمّل في مسألة القضاء والقدر.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

متى وُجِد الاقتصاد؟

أحمد بيضون

يَعْرِض لك أحياناً كلامٌ يحلو إلقاؤه على عواهنه. تعلم أنه ذو خطر وأنه قد لا يصحّ أن يُعتدّ به بعد التمحيص إذ قد يتبين أنه «ليس بشيء» على ما كانت تقول العرب حين تقع على قولٍ لا يقوم على صحّته دليل بل تقوم الأدلّة على بطلانه.
من ذلك ما كانت قد أوحت به إليّ قراءة قديمة لكتابٍ معترفٍ بمكانته في حقله وقد عدت إليه في هذه الأيام الأخيرة. ذاك هو كتاب الاقتصادي النمساوي (المجري الأصل) كارل بولانيي «التحوّل الكبير» وقد صدر سنة 1944 أي في العام الأخير من أعوام الحرب العالمية الثانية، وكان مؤلّفه قد أصبح، منذ انتصار الهتلرية في ألمانيا، مقيماً في لندن.
لا يمثّل ما أريد استخراجه من كتاب بولانيي موضوع كتابه المتصدّر وإنما هو أسانيد لنظرة يمكن استنباطها من الكتاب. موضوع الكتاب هو الأزمة العالمية التي عاناها الاقتصاد الرأسمالي بين أواخر العشرينيات من القرن الفائت ونهاية الحرب العالمية الثانية. وهو ما واكب هذه الأزمة من تحوّل سياسي مهول مثّل نشوء الهتلرية وطغيان مفاعيلها صُلْبَه وأبْلَغَ ظواهره. هذه الأزمة يرى فيها بولانيي تعبيراً عن موت النظام الاقتصادي الليبرالي الذي كانت أوروبا قد شهدت ولادته قبل ذلك بقرنٍ من الزمان. ولنشر ههنا إلى أن هذا النظام هو نفسه الذي أعلن فرنسيس فوكوياما، بعد أقلّ من نصف قرن كان قد مضى على صدور كتاب بولانيي، سيادته المؤبّدة على العالم: على ذاك العالم الذي كان ينفض عنه غبار جدار برلين المهدوم!..
على أن بولانيي لا يصل إلى إعلان الوفاة هذا إلا بعد تأريخ يجهد في ضبطه لنشأة الاقتصاد الليبرالي وما اجتازه من أطوار. وما يميّز طريقة بولانيي في وضع هذا التاريخ (وما يجعل روايته ذات أهمّية قصوى للمجتمعات الواقعة في خارج مسرحه الأوروبي) إنما هو وضعه مسار النظام المؤرّخ له بإزاء الأنظمة غير الرأسمالية التي كان على النظام الناشئ أن يجاذبها ويسعى في تدميرها: سواءٌ أتعلّقَ الأمر ببنى وشبكات كانت تحمي الأفراد في المجتمعات الأوروبية من التذرية (التي هي شرط علاقة العمل المناسبة لرأس المال) أم تعلّقَ بالجماعات الأصلية في البلدان المستعمرة… وهذه الأخيرة جماعات فرض استتباب السيادة عليها لرأس المال أن تُنْزَلَ بها بليّةُ الجوع الذي كانت صيغ التضامن التقليدية فيها تقي منه الأفراد وقايةً تامّة.
سعى النظام الجديد في تدمير هذا كلّه وأنشأ عوضاً عنه قوّة العمل «الحرّة» (أي المجرّدة من كلّ حماية والمعرّضة للموت إذا لم تَعْرِضْ نفسها للبيع وتَجِدْ من يشتريها) وسعى، في المساق نفسه، إلى نشر منطق السوق إلى كلّ تبادلٍ لخدمةٍ أو لسلعةٍ يحصُل في المجتمع.
وأما أهمّ ما أثمره هذا التدمير فلا تدلّ عليه بالدقّة المتوخّاة ـ إذا نحن أحْسَنّا قراءةَ بولانيي ـ تسمية الاقتصاد الرأسمالي أو تسمية النظام الليبرالي. وذاك أن ما حصل كان اختراعاً للاقتصاد من أصله باعتباره قطاعاً لإنتاج معاش البشر قائماً برأسه أي مستقلّاً عن المجتمع وإملاءاته المختلفة وخاضعاً لقوانينه الخاصة به ولقواعد عمله ومتّجهاً إلى إبطال ما قد يعترض هيمنته على المجتمع بوجوه نشاطه كلّها ومؤسّساته وبنى العلاقات فيه.
وذاك أن ما يتبدّى من ترسّم بولانيي لتاريخ الرأسمالية هو أن الاقتصاد لا يعدو أن يكون صنيعةً للنظام الرأسمالي لم يكن لها وجود قبل استتباب الأمر لهذا الأخير. الاقتصاد: لا بصفته فرعاً من معرفة المجتمعات البشرية بنفسها وحسب بل بصفته نظاماً مادياً مستقلاً أيضاً يملي استقلالُه تكريسَ فرعٍ خاصّ به من فروع المعارف.
يشير بولانيي إلى أن أرسطو، وهو الموسوعي الذي رأى فيه فلاسفة الإسلام معلّمهم «الأوّل» في كل باب، قد أدرج الكلام في الاقتصاد، لا في تأليف من تآليفه على حدةٍ، بل في كتاب «السياسة». وهو قد ميّز في كلامه على الاقتصاد، في حَدْسٍ يراه بولانيي عبقرياً، بين «تدبير المنزل» أي تحصيل المعاش (وهذا هو معنى اللفظ اليوناني الدالّ على «الاقتصاد») وبين كسب المال أو إنماء الثروة الذي هو شيءٌ آخر.
لم يبلُغ استقلالُ الاقتصاد، بهذا المعنى الثاني، مداه إلا في النظام الراسمالي. حتى أن بولانيي يرى أن آدم سميث الذي يُنْسَب إليه تأسيسُ علم الاقتصاد السياسي الحديث لم يكن قد بلغ الغاية من هذا التأسيس. فهو لم يتوصّل، في زمانه، أي في أواخر القرن الثامن عشر، إلى إبراز الانفصال المنشود لمنطق رأس المال عن المجتمع بمؤسساته وبناه الموجَّهة إلى حماية الجماعات والأفراد. وأما الذي بلغ هذه الغاية، بعد كتاب سميث بعقود قليلة، فهو ريكاردو الذي يلاحظ بولانيي ما بينه وبين نظرية ماركس من قُرْبى وثيقة. ولا بدّ ههنا من الإشارة إلى أن بولانيي الذي يُسَخّف التصوّرَ الاقتصادي للطبقة ولصراع الطبقات (وكذلك حصرَ صيغ الصراع الاجتماعي في هذا الأخير) ينحو نحو تبرئة ماركس من هذا كلّه. ولكن ماركس الذي يبرّئه ليس ماركس الريكاردي أو ماركس الأعمال المتأخرة، أي «رأس المال» على التخصيص. بل هو ماركس الشاب المتفلسف، الحَفِيّ بالمجتمع والإنسان بسائر أبعادهما. معنى هذا أن بولانيي (الذي كان اشتراكياً ولم يكن ماركسياً) يتّخذ لتقويم النظرية الماركسية مقياساً معاكساً كلّياً لذاك الذي اعتمده لويس ألتوسير وتلاميذه بعد كتاب بولانيي بعقدين من الزمن.
ما يعنينا من هذا كلّه هنا هو أن الاقتصاد، علماً وموضوعاً، إنما هو ـ في ما رآه هذا المؤلف ـ حصيلةُ تجريدٍ مهولٍ أجراه نظامٌ مؤرَّخُ الميلاد في الزمان ومعروفٌ مكانُ ولادته أيضاً وإن يكن لم يَبْقَ بمنجاةٍ من أفاعيله صقعٌ من أصقاع الأرض. فبأيّ منطقٍ يراد للاقتصاد أن يكون المحرّك الأوّل للتاريخ إن لم يكن له وجود مستقلّ في التاريخ قبل هذا العهد القريب؟ وبأيّ منطقٍ يراد له أن يكون ذا فاعلية منفصلة عن فاعلية سواه من مُقَوّمات الوجود الاجتماعي حيث بقي متّحداً، في الواقع، وهذه العناصر أي في كثيرٍ من مجتمعات الأرض؟ أعلم أن ملجأ «اللاشعور» الفرويدي (وقد وجده ألتوسير، مثلاً، في متناوله) يبقى متاحاً لمن احتاج إليه. فيُقال أن الاقتصاد كان يفعل فِعْلَه الحاسم من غير أن يكون ماثلاً، بما هو فاعلٌ مستقل، في شعور الخاضعين لفعله ذاك. ولكن وجاهةَ هذا الكلام تبقى محتاجة إلى إثبات. يبقى الآخذون به محتاجين إلى ما يثبت أنه ليس مجرّد مهربٍ من الحَرَج يفتعلونَه.
فإذا نحن اسْتَجَبْنا لما في كتاب بولانيي من دعوةٍ إلى تَرْكِ عادةٍ فكرية رسّخها فينا قرن ونيّف من سيادة النظام الرأسمالي الغربي وسيادة الرؤيا الموهمة بأبدية تلك السيادة… وإذا نحن لبّينا الدعوة إلى الخروج من سيادة الماركسية أيضاً بما هي نظام فكري مأسور في النطاق الذي فرضه نقده للاقتصاد الرأسمالي الغربي أيضاً… أمكن أن نباشر ببصيرةٍ جديدة نظرَنا في الكلّ الاجتماعي الذي نحن فيه غير مندهشين من فاعليةِ عواملَ تبدو غالبةً عليه لا تنتمي إلى الاقتصاد: من قبيل الرغبة في تحصيل الحرية وفي تحصيل الكرامة أي الاعتراف الاجتماعي ومن قبيل استنفار الدين أيضاً ومعه (أو ضدّه) سائرُ مقوّمات الثقافة الأوّلية من نُظُمِ قرابةٍ وقِيَمٍ أخرى…
لا ننطلق إذن من تلقائية التمييز بين البنيتين المشهورتين أيّاً يكن المجتمع. بل ننطلق من تنوّع المجتمعات ومن تنوّع علاقاتها بالرأسمالية. ننظر في المجتمع بما هو كلٌّ مبدئيّ مدركين أن ما نفرِده من مقوّماته قد يكون أصبح ممتّعاً بقسطٍ من الاستقلال الفعلي يجب التوصل إلى تعيينه وقد لا يكون سوى ثمرة عقلية لما نجريه من عمل التحليل. ونتعلّم أن الحالين (أي حالَ معاينة التميّز وحالَ افتراض التمييز) لا تستويان وأن علينا أن نقوّم فاعلية كلّ فاعلٍ بحسب ما تبيّنها لنا المعاينة لا بحسب ما تسرّب إلى عقولنا من مسبقات. لا نفعل هذا إزراءً بالاقتصاد (الذي تتعلّق به حياةُ البشر، في نهاية المطاف) بل حفاوةً واقعية بالتكاوين الحسّية وبأنظمة الأفكار والقِيَم التي قد لا يكون الاقتصادُ غيرَ ركنٍ من أركان تشكيلها يشيل الكلّ الاجتماعي بمكانته أو يحطّ.
سبق القول أن هذا كلامٌ ملقىً على عواهنه. هو ملقىً بين يَدَيْ من يرغب في تدبّره أو تدبّر موضوعه.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

«نظريّة كل شيء»

أحمد بيضون

يكفي التضادّ بين ما في المقاطع التي تعلن عن أفلامٍ أخرى يجري عرضها أو هي ستعرض في مجمّع الصالات الذي جئتَ إليه لمشاهدة هذا الفيلم من صخبٍ مهول وبين البطء المضني الذي يلزم المرض به ستيفان هوكن
غ وهو يحاول صعود السلّم الداخلي في منزله… يكفي هذا التضادّ لتعلم أنك تشاهد عملاً يقع خارج موجة استثارة الحواسّ بمقادير من عنف المؤثّرات تفترض بلوغ بشر اليوم أغوار البلادة القصوى. وهي الموجة التي تتصدّر صالات العالم، من زمن غير قليل، ومعها شبابيك تذاكره، على ما يبدو.
لا يتأتى حبسُ الأنفاس هنا من تسارع الصدمات أو الانفجارات الرهيبة والسرعة المرعبة للصواريخ أو للمركبات المنخرطة في مواجهةٍ كونية ما وما يصحب ذلك كله من تضافر الأضواء الباهرة واستشراء النيران المدمّرة وتلاحق الضربات المدوّية التي توجّه إلى الأعداء وضخامة الوسائل التي تتقى بها الضربات… وإنما يتأتى من مراقبة رجلٍ يجمع هشاشة البدن المتفاقمة إلى ملحمية التصميم وهو يقطع خطواتٍ في غرفته تبدو كلّ منها منطويةً على خطرٍ عليه أو يحاول إبلاغَ اللقمة فمَه أو ابتلاعَها.
وهذا مع أن الكون وزمنه غامرا الحضور في هذا العمل من أوّله إلى آخره. بل هما الطبقة الأساسية من طبقات الوقائع التي تتبادل الدلالات ويعزّز بعضها بعضاً في تيّارٍ يجمع بين التوتّر والبطء هو تيّار السيرة التي وضعتها جين وايلد لزوجها عالم الفيزياء النظرية البريطاني ستيفن هوكنغ وكانت هي أساس هذا الفيلم.
ولنقل بلا مزيدٍ من الإبطاء أن المشاهد يخرج شبه يائس من أن يتاح له أن يحظى بعد عمل جيمس مارش هذا بشريط آخر ينطوي، بين بدايته ونهايته، على هذا القدر من مجد الإنسانية المتمثّل ههنا في مسارِ فيزيائيٍّ ألمعيِّ القدرات والهموم يواجهه مرضٌ في جهازه العصبي يعده بالقتل المتدرّج لقدراته الحركية وبالموت القريب من ثمّ. ومسار الرجل هو هنا مساره مع شريكته أو هو مسارُ شريكته معه. هذا الذي نسمّيه تجسيداً لمجد الإنسانية ينبني بلبناتٍ صغيرة من تفاصيل الحياة اليومية تخلو – بخلاف ما توحي به كلمة «مجد» – من كلّ إطنابٍ أو خطابة. غير أنه يكتسب عظمته من نوعٍ من الوصل المستمرّ يجترحه ما بين السماء والأرض: ما بين الزمن الضيق الذي يمنحه المرض للعالم والزمن الكوني الذي يبحث له هذا العالم عن أوّلٍ وآخر… أو هو يبحث، بالتردّد المرجّح للبحث بين مرحلةٍ ومرحلة، إن كان له أوّلٌ او آخر. ولا تبدو الصلة بين هذين الزمنين سوى صلة الحبّ التي تجمع جين الصبية، دارسة أدب القرون الوسطى في شبه الجزيرة الإيبيرية، بمن سيصبح زوجها. وهي نفسها صلة العزيمة التي ينفخها الأمل في جسم الرجل وهو يشهد المرض ينزلق به من الخلل في التوازن واضطراب المشي وبطئه إلى الاحتباس في كرسي درّاج ثم إلى فقدان القدرة على النطق، بعد جراحة اضطرارية، فضلاً عن قدراتٍ حركية أخرى يوشك أن يحيله فقدانها إلى روح محضة: روحٍ أصبحت لا تجد في الجسم سوى «المحبس»، على قول المعرّي.
وما يزيد هذه الملحمة بعداً عن الخطابة – بخلاف ما قد توحي به تسمية «الملحمة» وهي مستحقّة ههنا – أن الخلل الملازم لكلّ شيءٍ بشري يتطرّق إلى العلاقة بين الزوجين ويفضي بهما إلى الانفصال. ينفصلان بعد مطافٍ طويل مدّت الطاقة التي تولّدت فيه في عمر ستيفن واستهلكت ردحاً غير يسير من عمر جين وأثمرت ثلاثة أولادٍ كبروا تباعاً في المناخ الذي فرضته معاركة والديهم للمرض.
هذا الانفصال يبدو اختياراً من ستيفن، بمعنى ما، أراده لتحرير زوجته من عبء البطولة التي كانتها حياتها معه. وهو اختيار سهّلته العلاقة الرقيقة التي نشأت بين ستيفن وإلين: الممرّضة التي جاءت بها زوجته لتحمل معها بعض العبء ولتحرّر جانباً من وقتها لنفسها وللأولاد. والانفصال نفسه محطّة تفضي إليها الزوجة أيضاً في مساق علاقة متقطّعة بالقسّ الأرمل جوناثان الذي جاءت به إلى البيت مدرّس بيانو لولدها ثم أصبح مساعداً لستيفن أيضاً وصديقاً للأسرة بادلته الزوجة عاطفةً أفلتت من كوابحها بعد حين…
لا زعم إذن لكمالٍ ما لا يقدر عليه البشر في الحبّ الذي جمع بين جين وستيفن في مسار علاقتهما الملحمي. ولكن الخلل البشري الذي يتطرّق إلى هذه العلاقة المديدة الشاقّة يبقى أبعد ما يكون عن الاستواء مطعناً في جمال هذه العلاقة. بل هو لا يزيد نبضها إلا رقّةً ولا يضفي عليها إلا المزيد من الألق فيما هو يتّجه إلى فصم عروة الزوجية التي تمثّل نطاقها الحسّي أو المؤسّسي.
تتراكب في مسار هذا الشريط طبقات عدّة تمثّل كلّ منها نوعاً من الكناية عن الأخرى. فالفيزيائي الباحث عن بدء للزمن والملحد الذي يبدو وكأنه يقارب شيئاً فشيئاً نوعاً من الحلولية، في محطّة يقترن فيها بحثه العلمي بمأساته الشخصية، والعائد تكراراً إلى حوار في مسألة الخلق تستدرجه إليه زوجته المؤمنة يبدو وكأنّما يستعيد في مسلكه حيال المرض نظرية الثقوب السود والطاقة التي يزيدها التراجع نحو بدء الزمن الكوني كثافةً ولكن مرحلةً أخرى من البحث ترجّح تبدّدها… يبدو هذا الرجل المحتاج إلى طاقة الأمل الهائلة فيه وكأنه يجسّد، على نحوٍ ما، كثافة الطاقة الأصلية التي نشأت منها المجرّات والثقوب السود وكأنه يستعيد مخاطر التبدّد التي صحبت هذه النشأة ومعها ما يقابلها من توسّع للكون لا حدّ معلوماً له ولا نهاية.
في قصّة هذا الرجل وامرأته حوارٌ في مسألة الله والخلق لا يُحسم. وفيها تردّد في الرواية التي يصحّ اعتمادها لنشأة الكون وفيها إقرار بالعجز، حتى تاريخه، عن الوصول إلى المعادلة الأخيرة المنشودة: تلك التي تمثّل خلاصة لـ»نظرية كلّ شيء»… للنظرية التي تحلّ لغز العالم. ولكن هذا الفيلم يزعم أن ثمة محلاًّ يبقى للأمل في طاقة الحبّ وفي عزيمة العقل أي في الإنسان.
لا أتنطّح هنا لتناول المزايا السينمائية لهذا الفيلم. مع ذلك لا أملك أن أتجاهل ما تركه الشريط في نفس مشاهد هو أنا من شعورٍ بكمال الإخراج، بسائر وجوهه. لا أملك أيضاً أن لا أتوقّف، بخاصّةٍ، عند أداء إدي ريدمان الذي اضطلع بدور ستيفن هوكنغ وهو يتقدّم في علّته من طورٍ إلى طور. ذاك أداءٌ معجزٌ حقّاً…
كاتب لبناني

أحمد بيضون