مُثُلٌ ناقصة

أحمد بيضون

ثمّةَ شَبَهٌ بين مِثالِ الموضوعية في عُلوم الإنسانِ والمجتمعِ وبين التزامِ الديمقراطية في حُكْمِ المجتمعات. وكذلك بين هذين وبين الإنصافِ في أحكامِ القانون الدولي وفي تطبيقه. قد لا يبدو هذا الشبه جليّاً لأوّل وهلة ولكن بعض التمعّن يكفي لإظهاره من جهتين لا من جهة واحدة. فهذه المثل تفترض كلّها، من جهة أولى، درجةً من التجريد لموضوعها تحيل هذا الموضوع صناعةً عقلية. تستلهم هذه الصناعة طلباً واقعياً، ولا ريب، ولكنها تلبث مستقرّة في سماء الكلّيات فلا يقع الباحث على تجسيد لها يسعه ادعاء المطابقة للمثال في عالم الجزئيات أو الحسّيات.
من جهة ثانية، متّصلة بالأولى أشدّ الاتّصال، يقترن وجوب النقص في التجلّيات العيانية لهذه المثل بوجوب الاحتجاج الدائم عليه والدعوة إلى إصلاحه وتجاوزه وإلى اتّخاذ المثال قدوةً لا يصحّ الاستغناء عنها أو نسيانها. ولا يمنع هذا كلَّه ولا يسوّغ اليأسَ من مواصلته أن يلاحَظَ بقاءُ النقص الذي يحدثه التقصير أو التسويات الناجمة عن مصالح واعتبارات تقاوم الاستجابة التامّة للمثال. إذ يعود هذا النقص إلى الحصول ـ ولو تباينَتْ وتائرُ حصوله أو تفاوتَتْ درجاتُه ـ عند كلّ تجسيد حسّي لواحد من هذه المثل.
ويمكن إلقاء الحبل على الغارب شيئاً ما في اختيار أمثلة يستعان بها على إظهار هذا الشبه بين المثل الثلاثة بوجهيه: وجهِ النقص المتكرر في التحقق ووجهِ الاستمرار الواجب في السعي إلى تجاوزه.
في الكتاب الذي أراده ريمون آرون مدخلاً إلى فلسفة التاريخ وجعل همّه تعيين حدود الموضوعية التاريخية (وهو كتابٌ لا يزال يشاد بألمعيته من وقت صدوره سنة 1948 إلى اليوم) يرى المؤلّف ثلاث صيغ لمعاملة المؤرّخ موضوعه. فهو إما أن يعتبر التاريخ واقعاً موضوعياً فيجعل الإحاطة همّاً له ولكنه لا ينجو من الجزئية ولا من النسبية. وإما أن يريد، باعتباره هو نفسه ممثّلاً للروح الحيّ، تمثّلاً لأعمال الروح الماضية فتأتي استعادة الماضي الروحي متعلّقةً بتمثّل الفرد لمصيره التاريخي. وإمّا أن يتّخذ وجودَ الفرد البشري صورةً يقارن بها التاريخ فتبدو وجهة هذا الأخير رهناً بقرار متّجه نحو المستقبل ولا يُفْهَم الغيرُ إلا بتعيين موقعه من الذات. في كلّ حالٍ تبقى الذات حاضرةً، من خلال المؤرّخ وحمولته الوجودية، وهذا مع كون التاريخ يصبح موضوعاً بالضرورة بسعي المؤرّخ وبالنسبة إليه.
تلك حالاتٌ لا يصعب العثور على نظائر لها في أعمال الذين أرّخوا لهذه المنطقة من العالم من بين أهلها، على التخصيص. بل إن ما يشهد لطغيان هذه الحالات هو الطاغي على أعمال هؤلاء. فالسائد أن ينطلق المؤرّخ من غبن ما طاول جماعته في حاضر يرجى الخروج منه أو في ماضٍ تمادى واعتبار مهمة المؤرّخ جمع الأسانيد المفضية إلى ما يعدّه المؤرّخ إنصافاً للجماعة. هذا دليل للرواية لا يمكن أن ينجو من واحدة من العلل التي أحصاها آرون ولا يستقيم معه ما يسمّى الموضوعية.
في صدد الديمقراطية، اقترحنا قبل عقود تصوّراً جعلنا «عمل التجريد السياسي» اسماً له واعتبرناه العمل المهيئ للديمقراطية أو شرط الإفضاء إليها على صعيد الفرد-المواطن وعلى صعيد الأمّة سواءً بسواء. والمقصود بالتجريد السياسي تحييد الهويّات الموسومة بـ»الأوّلية» أو بـ»الجزئية» توصّلاً إلى إدراك الفرد نفسه بما هو مواطن أي فرد ذو وجود سياسي يتعين وجوده هذا بانتمائه المباشر إلى دولة ويعرّف بحقوقه وواجباته السياسية التي يعينها دستور يمثّل تصوّر المواطنة هذا، أي التصوّر الذي يحفظ ميزان العلاقة بين المواطن والأمة مستوياً، مرشد أحكامه. استواء الميزان هذا ما بين قطبي الوجود الديمقراطي أي المواطن والأمة هو غاية السعي الذي يفترض له حظّ معتبر من النجاح ليصحّ القول بوجود نظامٍ ديمقراطي. وفي أفق هذا السعي، يمثل تصوّر «الإنسان» بما هو الغاية القصوى للسياسة مقياساً لا تجوز الغفلة عنه.
هذا وينطوي «عمل التجريد السياسي» ذاك على نقد للنقد السائد للديمقراطية السياسية بما هي نظامٌ «حقوق صورية» يعوزه إحقاق الحقوق المادّية أو الإجتماعية ـ على الأعمّ ـ ولا يقدّم علاجاً للقهر والاستغلال الإجتماعيين ولا للتفاوت بين البشر. فإذ لا يمسّ هذا التصوّر، بأيّة صورة من الصور، شرعية النضال الإجتماعي ولا قيمه، يؤكّد وجود مستوىً حقوقي لا يستغنى عنه هو مستوى حقوق المواطنة أي مستوى «المساواة الصورية» بين المواطنين أمام القانون. وذاك أن هذا المستوى، إلى كونه قيمة تتعلّق بحرّيات ذات اعتبار، يمثّل نموّه وسلامته شرطاً للسعي المتّصل إلى إحقاق الحقوق الإجتماعية أو تلك التي تعدّ، على اختلافها، «حسيّةً» وتوضَع بإزاء تلك الموصوفة بـ»الصورية».
يفترض «عمل التجريد السياسي» قدراً من إمكان التحييد للهويّات الأوّلية أو الجزئية عندما تُرى في حال منازعةٍ لقيم المواطنة. أي إن هذه الأخيرة توجب من جانب المواطن ومن قبل جماعات المواطنين قدرةً ما على لجم نوازع مختلفة، عصبية أو أنانية، تعارض ما يتوجب اعتباره «مصلحةً عامّة» أو قيمة أو قاعدة للسلوك المواطني حاظية بتكريس شرعي. والحال أن هذا التحييد أو اللجم لا يبلغ تمامه، عادةً، في أي مضمار من مضامير التصرّف الفردي أو الجماعي، ولا هو يجد رعاية تامّة لموجباته من جانب الفاعل المقابل أي الدولة، بسائر هيئاتها. هذا كله يجعل الديمقراطية تبدو ناقصة التحقق دائماً معرّضة للمَطاعن من قبل الذي يريدون لها مزيداً من الفلاح ومن قبل الذين يريدون سقوطها سواءً بسواء.
وأما القانون الدولي، بأوضاع نصوصه وأحوال هيئاته وصيغ تطبيقه، فيلقى بين ظهرانينا من النقد اليومي ما يغني عن التبسط في الأمثلة. يكفي تاريخ القرارت المتعلّقة بحقوق الفلسطينيين أو بإسرائيل في مجلس الأمن دليلاً على ما في النظام الدولي من انحراف يتحكّم في ما يشترعه وما يقرّره وتصل مفاعيله إلى تعطيل القرارت أو الحدّ من تنفيذها إذا هي جاءت منصفة أو قريبة من الإنصاف. وما يتيح هذا الانحراف إنما هو بقاء القوّة محكّمة في مصير الحقوق وفي درجة الأخذ بما يحفظها في الشرائع وفي قرارت الهيئات المسؤولة. ويتيسّر للقوّة، حين تبلغ مداها، أن تسخّر الشرائع لحماية الحلفاء ولإضعاف الأعداء بقطع النظر عن موضع الحقّ في هذين المعسكرين. ويتيسّر لها، في هذا المساق، أن تملي على الهيئات الدولية ما اعتدنا تسميته سياسة المعايير المزدوجة. فما العمل حيال هذا النوع من الطغيان؟
تَسْتحقّ أحوالُ هذه المُثُل كلّها أشَدّ النقد ولا تتّجه أمورُها نحو شيءٍ من الاستقامة أصلاً إلا بالنقد وطَلَبِ التغيير. ولكن حين يتّجه النقد إلى محالفة أعدائها المعلومين ويوحي باستحسانٍ ما للاستغناء عنها يصبح النقدُ المزعوم تزكيةً للكذب في محلّ الموضوعية وللاستبداد في موضع الديمقراطية وللهمجية في تصريف العلاقات الدولية.
هذا مع العلم أن التسليم بالضرورة التي تتّصف بها هذه المثل لا يجوز أن يُجعل دليلاً على لزوم الاستسلام لنقائصها أو لمُراد الذين يسخّرونها لما يغاير روحها أو يحيلون الأخذ بها إلى ملهاة لا تفضي إلى إحقاق أي حقّ. وإنما هي تنفع ستاراً لتوظيف الزمن في تبديد الحقوق وفي توسيع نطاق المظالم. فإن هذه، في كلّ حالٍ، مُثُلٌ يلازِم النَقْصُ كلّ تجسيدٍ لها. ولا ريبَ أن السُكوت عن هذا النَقْصِ يُعْتَبَر خيانةً لها أو مجافاةً لروحها. ولكن هذا النقصَ – مهما يَبْلُغْ – لا يَسْتَقيم حُجّةً للإعراض عنها… دَعْ عنك مُعاداتَها. بل هو دافِعٌ لطَلَبِ المَزيدِ منها دائماً.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

بيروت عاصمة الإباحتَين

أحمد بيضون

أبريل 18, 2015

أصل بعد حديث غير اللبنانيين من أنصار بيروت (وهو ما أوجزته في مقالتي السابقة) إلى ما يلتقي عليه بصدد العاصمة اللبنانية مثقّفون لبنانيون لا يخلو صفّهم من اختلاف المشارب. هؤلاء ينتظمون في جوقة تترنّم بصوتٍ واحد، هي أيضاً، بما ينسبه غير اللبنانيين من فضائل لبيروت. هذا أوّلاً. على أنهم لا يخيّبون الأمل فيهم فيضيفون إلى أسباب التبجّح مواضيع من إبداعهم. ولا نستغني عن الإشارة، بادئ بدءٍ، إلى كونهم ينصبون جداراً صفيقاً ما بين المدينة التي تبقى عظيمةً في نظرهم والنظام السياسي الذي يشنّون عليه الغارات بلا تحفـّظ فينسبون إليه الموبقات كلّها بما فيها تلك التي تعصف بقبول البيروتيين ما تمليه إقامتهم سويّة وتعصف أيضاً بمقوّمات ما يريده أكثر هؤلاء المثقفين لأنفسهم من حياةٍ يومية رضيّة.
ولقد كان مني أن نوّهتُ، قبل سنوات عديدة، بمدارين للمدائح التي يزجيها هؤلاء المسبّحون بحمد بيروت لمدينتهم المحبوبة. فبيروت عندهم، من جهةٍ أولى، هي بيروتوس الرومان التي كان هؤلاء قد أنشأوا فيها مدرسة ذائعة الصيت للحقوق وأطلقوا عليها لقب «أمّ الشرائع». ويرى أعضاء جوقة بيروت من اللبنانيين أن المدينة يسعها أن تحمل أيضاً لقب عاصمة الحرّيات. غير أن في التزامن بين هاتين الصفتين أو في تساكنهما ـ إن جازت هذه العبارة ـ إشكالاً يبرز على الفور.
وذاك أننا إذا نظرنا في الأمر عن كثب ظهر لنا أن تعهّد الشرائع واقعة من وقائع التاريخ البيروتي القديم لم يبق منها في بيروت الزمن الحاضر كبير أثر. فإن المدينة، بما هي عاصمة للبنان، تبدو واجهة غير مناسبة لسلطة القانون إذ هي أقرب إلى أن تكون بيئة للتحلل منه. فإن القوانين التي تسود المدينة فعلاً لا تسودها بما هي قوانين الدولة أوّلاً. بل يسود منها ما يأذن للسلطة العامّة بسيادته هنا أو هناك سادةُ الموقع. ويسود، على الأخصّ، شرع لا يشترط فيه كمال التدوين هو شرع الجماعات المحليّة.
وما من ريب في أن حال القانون هذه تترك أثراً في حال المزيّة الأخرى التي يُنعم بها مثقّفونا على بيروت وهي مزيّة الحرّيات. فبالقياس إلى حجم البلاد، تضمّ العاصمة عدداً يعتبر ضخماً من دور الصحافة وقنوات التلفزة وإذاعات الـ»إف. إم». ولا ننسَ الجمعيات من ثقافية ومطلبية ومراكز الأبحاث وكذلك الجامعات. ولنُشرْ، ما دمنا في هذا المعرض، إلى كون النموّ الصاعق الذي يشهده القطاع الجامعي في اليلاد منذ نهاية الحرب اللبنانية (1975-1990) ظاهرة تبدو ملازمةً لإهدار ما كانت أقدم الجامعات قد راكمته من رأس مالٍ في مجال نوعية التعليم العالي. هذا وتشهد بيروت الكثير أيضاً من التظاهرات الثقافية المتنوعة على مدار السنة. ومع أن النشاط المسرحي يثير بتقطّعه قلقاً على ديمومة المؤسّسات المعنية به، فإن ما يحيي فصول السنوات البيروتية من عِجافٍ وسِمانٍ من العروض المسرحية وعروض الرقص لا يعدّ قليلاً فعلاً. وأما الحفلات الموسيقية والغنائية فهي أوفر نصيباً. ولنا أن نقول الشيء نفسه في معارض الفنون التشكيلية. وتجذب المهرجانات السينمائية جمهوراً وفيّاً لها. وأوفر عدداً من هذا كله ما ينظّم من ندوات ومحاضرات وما شاكل تقترحها المراكز ذات الاختصاص على جمهور المتردّدين عليها.
ويُتّخذ مناخ الحرّية تعليلاً لا ريب في وجاهته الظاهرة لهذا الفوران الثقافي الذي عرف صعوداً وهبوطاً، والحقّ يقال، ولكن المدينة أثبتت براعةً في بعثه كلّما تركت لها مراحل الاضطراب المتكرّر فسحة كافية من الزمن للعودة إليه. بل إنه يجوز القول أن الأنشطة الثقافية تفلح، إلى حدّ ما، في مزاولة نوع من التجاهل العجيب لما تشهده البلاد في معظم الأوقات من توتّر سياسي واجتماعي. وهذا توتّرٌ ينذر، إذا هو أسفر عن اضطراب في حبل الأمن، بردع المشاهدين الممكنين لمسرحية من المسرحيات أو الجمهور المحتمل لمهرجان موسيقي. يتواصل الإعداد على الرغم مما يجري. ويَصْلُح التمويل الخارجي الذي يسهم إسهاماً طاغياً في تغذية هذا النوع من النشاط تفسيراً لجانب من مثابرة أصحاب المشروعات الثقافية على تحدّي العقبات. ولكن الحاجة إلى البقاء في قيد الحياة، مهما يكن من شيء، هي ما يفسّر الباقي.
وأما السؤال المؤرّق هنا فيتعلّق بجواز الفصل في التحليل ما بين أشياء يضطرّ لبنانيون كثيرون إلى الفصل بينها نفسيّاً ليتمكنوا من مواصلة العمل والتنفّس. بيروت عاصمة يحضر فيها لبنان كلّه. وهي قد أفلحت، بحكم موازين التعدّد اللبناني، في تجنّب ما ساد بلاد الشرق الأدنى من مركزية تسلّطية. على أن هذا الإنجاز تحصّل لقاء ترك مكوّنات البلاد كلٍّ لشيطانه الطائفي. وهذا الأخير ضعيف المقاومة لإرادة العرّاب الخارجي الذي يخصّه بالعون والمساندة. وما يظهر من قبيل المجال العمومي، وقد حفظته المدينة واستبقت فيه تفكّكاً يشبه تفكّكها، لا ينجو من الضمور، بطبيعة الحال، في آونة التوتّر. فهو يجنح إلى الاختناق بمقدار ما ترتدّ المدينة إلى نسيج المتضادّات الأوّلية الذي هو نسيجها.
فهل حرّية الخلق البيروتية متميّزة حقّاً، لجهة اصلها وشروط إمكانها، عن إمكان القتل في بيروت دون التعرّض لإزعاج فعلي، وهذا على الرغم من ظواهر قد تشي بخلاف ذلك؟ والقتل هنا قتلُ سياسيٍّ أصبح لا يطاق أو صحافيٍّ أصبح لا يُعْجِب. وأمّا سعة الحيلة التي يبديها المثقّفون المغرمون ببيروت فلا تعدو حدود الفنّ البدائي المتمثّل في التظاهر بفصل ما لا يُفْصَل. هل تكفي حفلات الموسيقى التراثية (شرقيةً كانت أم غربية) لتمويه طوفان البغضاء والعنف الذي تنشره وسائط الإعلام وتصدي له شبكات التواصل؟ وهل يكفي العزل الذهني للحياة الثقافية عن آفات أصبحت غير قابلة للعلاج يشتكيها النظام السياسي وعن حال التضعضع المتقدّم التي تقيم فيها سلطة القانون لدحض وحدة الأصل الجامعة لهذا كلّه؟ وهل فقدان الضمانات الواقعية اللازمة للمضيّ قدماً في أيّ مشروع، وإن يكن قصير الأجل، وهل نُذُر العودة إلى العنف الأهلي غير التعبير الآخر عن «الحرّية» نفسها التي تتنفّسها المشروعات الإبداعية في بيروت؟
وإذا تبدّى، عند إمعان النظر، أن تلك الحرّية ذات الحدّين بعيدة كلّ البعد عن تلك التي تكفلها القوانين في بلاد ديمقراطية وأنها أقرب إلى أن تكون ثمرةً لمَواتٍ متقدّمٍ في القوانين فهل يستقيم الاستمرار في إطلاق اسم «الحرّية» عليها؟ لا مَراءَ في أن امرأةً تعود وحدها إلى مسكنها في وسط الليل وهي سكرى بما أصغت إليه من موسيقى رفيعة لا تخشى على سلامتها في بيروت ما تخشاه في نابولي أو في ديترويت. فبيروت، في التفاصيل، مدينةٌ يعوّل عادةً على الأمان فيها.
غير أن بيروت تستبدّ بها بلا انقطاع نوازع التدمير الذاتي الواسع النطاق ويبقى عليها أن تسهر باستمرار على لجم غريزة الموت المتوثّبة فيها.
أفلا يكون الأصحّ، والحالة هذه، أن نطلق اسم «الإباحة»، عوض اسم «الحرّية»، على هذه المَلَكة التي تتلازم فيها القدرة على القتل والقدرة على إنشاء الجمال… وأن نرى في بيروت عاصمةً لإباحتين؟
كاتب لبناني

أحمد بيضون

بيروت بعيون نزلائها

أحمد بيضون

أبريل 11, 2015

يروت مدينة لا يعوزها المدّاحون. هي تجد حاجتَها منهم بين اللبنانيين المتأصّلين فيها وتجدها بين غير اللبنانيين، على اختلاف التابعيّات، ممّن يقيّض لهم أن يقيموا فيها مُدداً طويلة إلى هذا الحدّ أو ذاك. ولا غَرْوَ أن تكون أصوات المثقّفين هي التي تُسمع قبل سواها حين يخطر لهذا أو ذاك منهم أن يعدّد مزايا العاصمة اللبنانية فإن إسماع الصوت من لوازم صناعتهم. وهم يتوزّعون في هذا إلى فئات ثلاث، لجهة المصدر، وتحدّد مصادرُهم (وهذا طبيعي) ما تغلّبه كلّ فئة في علاقتها بالمدينة. هم، من حيث المصادر، لبنانيون أو عرب أو أجانب. فإن العرب يجدون سبيلاً إلى تشكيل مجموع على حدة يخرج عن حصرية التوزّع المعتادة بين مواطنين وأجانب. ههنا أستلهم شذرات من أحاديث ومن قراءات أستخلصها من ذاكرتي لأغامر باقتراح «نموذج مثالي» يرسمه لبيروت كلامُ كلّ من هذه الفئات الثلاث. ومع إقراري بنصيب للتعسّف من هذا المشروع، يبدو لي مدخلاً موحياً إلى حقيقة بيروت المعاصرة.
نسمع مراسل واحدة كبرى من الصحف البريطانية، مثلاً، أو نسمع باحثاً فرنسياً في العلوم الاجتماعية يسترسل، على الخصوص، في مدح الشمس والبحر. وقد يضيف إلى دواعي افتتانه ببيروت إيقاع الحياة اليومية الذي يجنح إلى التراخي وإلى التفكك. وقد يجاهر بتعلّقه بالمطبخ اللبناني (وهذا مطبخ لا يدين لبيروت إلا بالقليل). وقد يظهر تعلقه بالموسيقى العربية التراثية وهذه لا تدين إلا بالقليل للبنانيين، على العموم، ولكن بيروت تجد سبلاً لنشر أصدائها. ولا يستبعد أن يتوج المعجب نفسه مرافعته بالتنويه بالحيوية النسبية للحياة الثقافية. ولكنه قد يجعل مسكَ الختام (إذا كان سنّه ووضعه الزوجي يأذنان له بالإقبال على هذا النوع من المُتَع) ذكْرَ الصخب الذي تتّسم به حياةُ الليل في المدينة نفسها وفي ضواحيها على الأخصّ.
والراجح أن يغفر هذا «الأجنبي» لبيروت زحماتِ السير المهولة في شوارعها والتقطّعَ المزمن – وقد بات ميؤوساً من إصلاحه – لإمدادها بالتيّار الكهربائي وندرةَ الماء التي تلابس الفصل القائظ خصوصاً وضيقَ الأرصفة التي يتنازعها المشاةُ والدراجاتُ النارية والسياراتُ أيضاً إذ تتّخذها مواقف، في بعض الأحيان… وقد يغفر صاحبُنا نفسه للمدينة ما يجتاحها من قبحٍ معماري وقد يغفر الغلاء الفاحش الذي تتّصف به المطاعم الجيدة فيها، إلخ. فعلى الإجمال، تتّسع إمكاناتُ المراسل أو الباحث الأوروبي أو الأميركي لمداورة هذه البلايا أو معظمها. فهو يتدبّر أمرَه للإقامة غير بعيد عن مكتبه. بل هو قد يجد لنفسه سكناً على شاطئ البحر. وهو حُكْماً أحدُ المشتركين في أقرب مولّد خاصّ للكهرباء، وهذا إن لم تكن البناية التي هو فيها مستقلّةً بمولّد لها وحدها. وهو يبتاع منفرداً أو مع السكّان الآخرين في البناية ما يحتاج إليه حفظُ النظافة وطيبُ المزاج من ماء، وهذا بلا اكتراثٍ زائدٍ للكلفة، إلخ.
على أن هذا السيد نفسه يـُلْفي نفسَه مضطرّاً، لقاءَ ما يجده لحياته البيروتية من محاسن، أن يحتمل من المدينة آفةً صعبة التدبّر: تلك هي آفةُ الأخطار التي ترتّبها الإقامةُ في الديار البيروتية على سلامته وقد ترتّبها على سلامة عائلته. وهذه، في حالة الأجنبي، أخطارٌ مختلفة عن تلك التي تكابدها عامّة البيروتيين في أوقات التوتّر (ويكون الأجانب من هذه الفئة، عادةً، أشدّ حصانةً عليها من نظرائهم اللبنانيين). وهي أيضاً أخطارٌ مختلفة عن تلك التي تترصّد، في بعض الفصول، حياةَ البعض من سياسيّي لبنان وصحافيّيه. فإن التهديد الذي يتّخذ هدفاً له صحافياً أو دبلوماسياً غربياً أو، على التعميم، مواطناً من مواطني الدول الغربية مقيماً في بيروت أو مارّاً بها (ولا تكون الضحية شاعرةً بوجوده، بالضرورة) يقعُ دائماً على تقاطع مساعٍ سرّية ومتشابكة للغاية تشتمل ساحتُها على الشرق الأوسط كلّه. وهو ما يجعل الخطرَ عصيّاً على التوقّع ويجعل ردَّه أمراً شبه متعذّر. عليه يكون على المواطن الغربي الذي يختار بيروت موقعاً لتقاعده أو يتدبّر أمورَه بحيث يمضي عشراتٍ من سنيّ خدمته فيها أن ينشئ حاجزاً نفسياً يفصل الشمس والبحر عن كلّ سياق سياسي.
وأما المثقفون العرب الذين تنشأ ألفةٌ ما بينهم وبين عاصمتنا فإن وجوهاً مغايرة جدّاً لما ذكرنا هي ما يستهويهم من العيش فيها. وذاك أن المواقعَ التي تجذبهم فيها، فضلاً عن دور الصحف ودور النشر ومراكز الأبحاث التي يعمل كثير منهم فيها، هي المقاهي والحانات قبل شاطئ البحر. لا ريب أن الطعام والشراب يستهويهم أيضاً ولكن ما يجذبهم أشدّ الجذب يبقى تبادلَ الحديث ومناقشةَ ما يشهده هذا أو ذاك من بلاد منشئهم من تطوّرات سياسية أو من ركود يوحي باليأس من كلّ تطوّر. وقد لا يحسب هؤلاء أنفسهم بمنأىً من عيون جهاز المخابرات التابع لكلّ من دولهم ومن أعوانه اللبنانيين ولكنهم يقدّرون مع ذلك حرّيةَ التعبير التي تتيحها لهم الصحافة اللبنانية ويحتضنها عالم الثقافة البيروتية الصغير. وهم يؤْثرون أن يعهدوا بكتبهم لدور النشر البيروتية، وهو ما يؤْثره نظراؤهم الصامدون في ديارهم الأصلية أيضاً. وهذا مع العلم أن العاصمة اللبنانية مدينةٌ لسوريين ولعراقيين بالبعض من دور النشر العاملة فيها.
بيّنٌ من بعدُ أن اتّساع الميزات التي تمنحها عاصمةٌ يتمتّع فيها بعض الدول العربية (أو كان يتمتّع) بنفوذ طاغٍ إلى هذا الحدّ أو ذاك، ومنافسٍ لغيره من أمثاله، على الخصوص، قد تزيده أو تنقصه كثيراً هوية الدولة التي جاء منها الصحافي أو الكاتب المعني. ويسع هذه الميزاتِ نفسَها أن تختلف باختلاف الأوقات وأمزجتها. فإن الصحافي الفلسطيني مثلاً لا يُلْفي نفسَه اليومَ ممتّعاً بما كان له من حصانات في بيروت السبعينات من القرن الماضي. وقد قيّض للصحافي السوري أن يشعر، تبعاً لموقعه السياسي، بمزيد من الهشاشة أو بمزيد من الحماية بعد 2005 عمّا كانت عليه حاله قبلها، إلخ. ويدين المثقّف العربي اليوم، في بيروت، بمعظم ما يُتْرك له من حرّية للحماية الطائفية التي يؤهّله انتماؤه السياسي للإفادة منها. وأما الخطر فمصدره المعسكر الطائفي المقابل. ويفضي تآزرُ القوى الطائفية وأجهزة الاستخبارات الخارجية إلى ضمورٍ في هامش الاستقلال المتاح للصحافي ويجعله يبدو مفرطَ الامتثال لخطّ جريدته السياسي ويجعل الضماناتِ المتوفّرة لأمنه أشبهَ بالرمال المتحرّكة. ولقد أمضى مثقفون عرب كثيرون جانباً معتبراً، إلى هذا الحدّ أو ذاك، من أعمارهم في بيروت. واختارت قلّةٌ منهم جعلَها مقاماً دائماً لهم. ومن مرحلةٍ إلى أخرى، تتغير وجهة السياسة فتضطرّ فئةٌ من هذا الجمهور إلى سلوك طريق المنفى. وقد لا يقيّض للبعض أن ينجوا بأنفسهم فينزل بهم القضاء المحتوم.
هذا ولا ينكر الراحلون، على الإجمال، ما لبيروت من دَيْن في أعناقهم. وهم إذ يذكرون هذا الدَيْن ينطقون عادةً باسم قضيةٍ أو باسم شعب. فبينما يميل المثقفون الغربيون إلى تفسير تعلّقهم ببيروت بالذوق الشخصي أو بالأفضليات الثقافية، يجنح نظراؤهم العرب إلى ذكر الملجإ السياسي الذي مثّلته لهم، دون احتياج إلى اللجوء الرسمي، بالضرورة، مدينةٌ منَحَتْهم حريّةَ تعبير بقيت، على علاّتها، مخرجاً من ضيق بلادهم بحريّتهم. ولا غرْوَ أن هؤلاء يستكثرون من عبارات الشكر للتضحيات التي تكبّدتها بيروت أو تكبّدها اللبنانيون، على الأعمّ، من جرّاء مغامراتٍ كان هؤلاء المثقفون جزءاً لا يتجزّأ من طواقمها. ويتظاهر معظم هؤلاء بأن حالات الصدام الذي خاض فيه اللبنانيون في ما بينهم بصدد هذه المغامرات لا ينبغي لها أن تنتقصَ من الضيافة الغريبة الزيّ التي ينسبونها إلى بيروت.
يبقى ما يلهج به مدّاحو بيروت من المثقّفين اللبنانيين ويبقى ما يمكن الخلوص إليه من مقابلة هذه الصور الكلامية كلّها بواقع الحال. ذاك ما نكرّس له عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

إكليروس الشيعة

أحمد بيضون

أبريل 4, 2015

ثمة ما يستوقف في كتاب بيار جان لويزار الأخير «التاريخ السياسي للإكليروس الشيعي». والمؤلّف باحثٌ فرنسيّ متخصص في تاريخ العراق المعاصر وهذا كتابه الرابع المركّز على العراق (أو هو الخامس إن تجاوزنا التردّد في ضمّ كتابٍ آخر له إلى هذه الفئة). وما يستوقف فيه ليس اتخاذ العراق وتكوّنِ دولته المعاصرة مداراً. فقد كان هذا دأب كثيرين قبله زادهم كثرةً عنفُ المحن التي تقلّب فيها الوطن العراقي وما يزال في ثلث القرن الذي انقضى على بدء الحرب الإيرانية العراقية. ليس البحث في أحوال الشيعة المعاصرين، في إيران والعراق، على الخصوص، وفي محيطهما، هو ما يستوقف أيضاً وقد ازدحمت رفوف المكتبات، في الحقبة نفسها، بكتب دعت إلى تكاثرها الثورة الإسلامية في إيران وما أعقبها من هزّات في بلادٍ قريبة إلى إيران أوّلها العراق وفي أخرى بعيدة عنها بُعدَ اليمن أو لبنان.
يستوقف أوّلاً جعلُ علماء الدين الشيعة – منذ العنوان! – مسمّىً لاسمٍ غير مألوف في المصطلح المكرّس للدلّ على تكاوين الجماعات المذهبية في الإسلام وهو «الإكليروس». فهذا مخالف لقول شائع ذائع مفاده أن «لا إكليروس في الإسلام». وهو قولٌ يمثّل توسّعاً في الحديث المشهور (ولو اختلف في وروده بهذا اللفظ) «لا رهبانية في الإسلام». وأما ما يحمل لويزار على اعتبار علماء الدين الشيعة متشكّلين في «إكليروس» (وهو ما يوحي باعتبار التشيع نوعاً من «كنيسة») فهو مسارُ تشكّلٍ تاريخي معقّد كان مسرحاه المتداخلان، على تنافس، الدولتين العثمانية والفارسية. وما يجعل علماء الدين الشيعة مستحقّين أن ينعتوا بالـ»إكليروس» إنما هو استقلالهم عن الدولة وأجهزتها بتنظيم خاصٍ بهم ذي مراتب وموارد.
ينفرد هذا التنظيم بمدارس يتولّى فيها العلماء ذوو الصفة تجديد السلك وبموارد تتمثّل، على الخصوص، في الخمس والزكاة وتضاف إليها موارد الأوقاف وغيرها… ويتميز التنظيم نفسه بتراتب يقع في قمّته «المرجع الأعلى» يليه ثلّة من المراجع الذين يتبعهم مجتهدون يتوزّعون حيث تظهر حاجةٌ إليهم وقد أخذ يطلق عليهم لقب «حجة الإسلام» بعد أن انفرد المراجع بلقب «آية الله» أو «آية الله العظمى»… وهذه كلّها صفاتٌ تخضع لاعتراف الأنداد ولإقبال المقلّدين وفقاً لنظامٍ يتّسم بمزايا الأنظمة العرفية وبعيوبها لجهة المرونة التي قد لا تكون سوى اسمٍ للنقص في دقّة المفهوم وفي قوّة الإلزام. ويتّصل هذا الهرم بجماعة المؤمنين بحكم مبدأ التقليد الذي يجعل الفرد الشيعي ملزماً باختيار مرجع له يقتديه في العبادات وفي المعاملات سواءً بسواء.
ولقد أمكن أن يتآزر في إتاحة الاستقلال لهذا السلك من علماء الدين أو الفقهاء وضعان متخالفان: فارسي وعثماني. فالتقت- على نحوٍ لا يخلو من المفارقة – «شيعية» الدولتين الصفوية والقاجارية في بلاد فارس و»سنّية» الدولة العثمانية (التي لم تعترف للشيعة بوضع «الملّة» الذي أسبغته على المذاهب المسيحية، مثلاً) على ترك جوانب ذات أهمّية من تدبير أمور الجماعة الشيعية لعلماء الدين. فأصبح منوطاً بهؤلاء تدبير شؤون حيوية لعامّة الشيعة في هذه المملكة وفي تلك. وأصبح لهم من الموارد المستقلّة ومن النفوذ ما يعادل نوعاً من الوصاية المعنوية- وإن تكن محلّ نزاع – على السلطة القائمة في بلاد فارس ونوعاً من السلطة البديلة في جنوب العراق العثماني. وهو ما لم يكن ممكناً أن يبقى بلا فاعليةٍ سياسية أو طموحٍ إلى الفاعلية حين تلوح الفرصة هنا أوهناك.
على أن بين ما يظهره كتاب لويزار – مما تنساه الذاكرة العامّة – ما تتّسم به ظاهرة الإكليروس الشيعي من جدّة نسبية في العراق الذي هو موئلها الأهمّ، العربي والفارسي، إذ كانت المدن الشيعية المقدّسة فيه تضمّ أبرز المراجع الشيعة من عرب وإيرانيين ومن منتمين إلى اقوامٍ أخرى أيضاً. وذاك أن الإرهاص بالمرجعية العليا في النجف (وهي التي تبدو اليوم وكأنها بنت قرونٍ لا تحصى) لا يرقى في الواقع إلى ما هو أبعد من أواخر القرن الثامن عشر. نقول «إرهاص» لأن السمات المميّزة للمرجعية العليا ولما يليها من هياكل لن يظهر مكتملاً، بحمولته السياسية الصريحة، إلا مع السيد حسن الشيرازي في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر. وأمّا ما يعدّ سنداً عقدياً لهذه الصيغة التنظيمية فكان استظهار المدرسة «الأصولية» على منافستها «الأَخْبارية» في الفقه الشيعي. فإن هذا الاستظهار هو ما منح الاجتهاد موقعه في مزاولة الفقه وجعل للمجتهدين مكانة رفيعة في الجماعة إذ أملى على المؤمن اتّخاذ مرجعٍ يقلّده من بينهم في أمور دينه أو يقلّده توجيه هذه الأمورَ من غير حاجةٍ إلى حرف الجرّ.
هذا وليس الإكليروس الشيعي وحده هو الحديث الظهور أو الاكتمال بل الغلبة الشيعية على عشائر الفرات الأوسط وجنوب العراق جديدة نسبياً أيضاً. فإن منشأ هذه الغلبة كان ميل هذه العشائر إلى الاستقرار الحضري وتعرّضها من ثمّ لغزوات البدو الجمّالين من آهلي جزيرة العرب واحتياجها، في مواجهة هذا الخطر، إلى قيادةٍ توحّد صفّها وتتدبّر لوازم حمايتها. وقد وجدتها في العلماء الشيعة المتوطّنين في مدن الشيعة المقدّسة، وكان معظمهم من الفرس ذوي النفوذ في بلادهم وذوي الموارد. هذا التحوّل الواسع إلى التشيّع، وهو يوهم من يعاينه اليوم برقيّه إلى صدر الإسلام، لا يرقى في الغالب من حالاته، على ما يقرّره لويزار – بعد آخرين – إلا إلى قرنين من الزمن أو أزيد من ذلك بقليل.
أمرٌ آخر يتبدّى لقارئ لويزار هو تبادل الحماية والدعم ما بين الفرعين العراقي (أي العربي) والفارسي من الإكليروس إلى حدّ لا يصحّ اعتباره مبطلاً التمييز بين هذين الفرعين (الرئيسيين في وسطٍ متعدّد القوميات) ولكنه يجعل هذا التمييز ثانوياً في معظم المراحل ويحصر فاعليته في ظروفٍ استثنائية. وهو ما يشي بتغليب لوحدة المذهب على وحدة القومية يستوي قاعدةً على الرغم من خرقه في بعض الأحيان. فقد كانت المزارات العراقية ملجأً عثمانياً لمعارضة العلماء الفرس سلطة بلادهم الأصلية كلـّما اقتضى الأمر. وكانت هذه المزارات تتمتّع بنوع من الحصانة النسبية أقرّت لها بها السلطة العثمانية نفسها. وكانت إيران مستعدّة أيضاً لاستقبال اللاجئين من علماء العراق حين تدعو الحاجة إلى ذلك في العهد العثماني وبعده: أي أيضاً في عهد الدولة العراقية المعاصرة. وكان هؤلاء يجدون في بلاد فارس (وهي بلادهم الأصلية، في أكثر الحالات) أي في مشهد أو في قمّ، مثلاً، ملاذاً معنوياً وبنى استقبال مادية تأذن لهم بمواصلة نشاط قريب الشبه بذاك الذي ألفوا مزاولته في المدن العراقية.
هذا كله يوجب على الدارس الوقوف عند أمرين: أوّلهما العمق الذي أصبح عليه الانتماء المذهبي على الرغم من حداثة عهده، وهو عمق لا تفسير له سوى حدّة الصراع بين أهله ومخالفيهم، وثانيهما حداثة الرابطة الوطنية التي تجعل تعايش الفئتين الفارسية والعربية في الوسط العلمائي، على الخصوص، أمراً ميسوراً، على الإجمال، وإن لم يخلُ من احتكاكٍ عارضٍ وتوليد شرر.
ذاك أظهرُ ما يدعو إلى التأمل في كتاب لويزار. وهذا مع أن الكتاب يتناول مسائل أخرى كثيرة: من ثورة التبغ ثم الثورة الدستورية في إيران إلى الجهاد المواجه للاحتلال البريطاني ثم إلى ثورة العشرين في العراق… وهذا إلى مضيه قدماً في تناول ما شهده كلّ من العراق وإيران، في عشايا الثورة الإيرانية وبعدها، من حربٍ ومن سلم، وفي رصد سياسة المراجع الشيعة حيال مبدأ «ولاية الفقيه» ونكوص الثورة الإيرانية عن مثالها الديني بعد الخميني، وفي بروز مرجعيات شيعية وتكوّن قوى سياسية ممثّلة للشيعة في بلاد مختلفة تنتشر بين لبنان والدول العربية الحافّة بالخليج، إلخ. وفي هذا كلّه تبدو الحواضر الشيعية في العراق مقارّ قيادة رئيسة أو رديفة لحركات سياسية كبرى شهدتها إيران ولنظائر لها شهدها العراق وتبدو أدوارها هذه متآزرة وأدوار المدن الإيرانية.
ينمّ الكتاب بمتابعة دقيقة لهذا كلّه، وإن اعتورتها هنا وهناك هناتٌ هيّنات. وهي متابعةٌ تفضي بنا إلى الراهن من أوضاع الانتشار الشيعي، في مختلف أقطاره، وتجعل من الكتاب مدخلاً إلى هذا الراهن. ولكن العراق وتشيّع شيعته وتشكّل «إكليروسه» الشيعي وأدواره وأطوار محنه المتناسلة تبقى في موقع القلب من هذا الكتاب الذي أراده مؤلّفه جامعاً إلى الدقة في المتابعة بعداً عن التمحّل الأكاديمي أثمر بساطة في العرض وسهولة في القراءة.

كاتب لبناني

أحمد بيضون