السُفور والحِجاب في ما يتعدّى النَصّ

http://www.almodon.com/opinion/6ae7fe3e-a4f1-460a-b91e-9a81c0fc72cd

أحمد بيضون{ الخميس 31/5/2013

*
ثمّة صيغ للحجاب يدلّ اعتمادها على اختيار حرّ من جانب النساء اللواتي يستخدمنها. فيعود غير جائز أن تواجَه بالاعتراض لما في الاعتراض من تعدّ على حقّ امرأة في التصرّف الحرّ بجسدها. هذه الصيغ تشبه صيغاً من السفور تستبعد التبعية الذليلة لخيارات الجماعة أو لخيارات اللحظة وتشير هي أيضاً إلى شخصية حرّة. بين السفور والحجاب، في هاتين الحالتين، نوع من التماثل المعنوي ومن التكافؤ في القيمة. ويُفترض أن يفضي ذلك إلى قبولٍ تتبادله النساء من الجهتين وتصادق عليه البيئتان الحاضنتان. هذا القبول لا يُفترض أن يَستبعد النقد: النقد الذي لا يرمي، بحالٍ من الأحوال، إلى المنع، ولكنه يستقصي المعاني المحمّلة في كلّ زيّ ويحسّن ما يتوصّل إلى استحسانه  ويقبّح ما يتثبت من قباحته. فيكون كلاماً في الذوق يريد الرفع من سويّة الذوق من غير افتئات على حرّية صاحبه. وقد يفضي إلى طرح مسائل تتّصل بالوجود الشخصي أبعدَ مرمىً من المسألة الذوقية.
لا أقصد بالحجاب هنا ذاك الإسلامي حصراً ولا أفترض السفور الذي أشير إليه خارجاً على الشرع الإسلامي أو خارجاً من نطاقه. أعرف أن الإسلام احتمل ولا يزال يحتمل جدلاً معقّداً في موضوع الحجاب. في جماعةٍ يؤطّرها جهازٌ فقهي، يسع الحجاب الإسلاميّ ألاّ يكون غير الوجه الظاهر لوصول اليد الفقهية إلى العمق الأقصى للحياة الخاصّة (وهو العمق الذي يقع فيه جسد المرأة والعلاقة به وعلاقته بنفسه) ولاتّخاذ هذه السلطة القصوى “برهاناً” يتعذّر دحضه لشرعية السلطة العامّة التي يضطلع بها الفقيه نفسه أو يزكّي المولجين بها. يصحّ هذا قليلاً أو كثيراً تبعاً لشدّة أسر الجهاز الفقهي ولاكتمال حضوره وكثافته ووتائره أو لتعلّق الحجاب وأموره بمجرّد التقليد الذي لا يحتاج إلى من يرعاه وقد بقيت منه مظاهر مستمرّة ولكن قوّة الإلزام التي فيه وعمومية مجاله تقلّصتا قليلاً أو كثيراً. ثم إن الذكور من العائلة يسعهم أن ينوبوا عن الفقيه في هذا المضمار فيزكّي فرْض الحجاب نظمة سلطوية أخرى لا تجافي النظمة الفقهية بالضرورة ولكنها تباينها من حيث الأصل. وقد ينوب عن السلطة الفقهية وعن سلطة العائلة نفسها تسلط بلطجية الحيّ الذين يجدون في حفظ “الأعراض” مدخلاً من مداخل سطوة يحوزونها ويستبيحون بفضلها أموراً بعيدة جداً عن مفهوم الشرف. تلك حالة يكثر ورودها في ضواحي المدن الأوروبية ويكثر دورانها، بالتالي، على ألسنة خصوم الحجاب.
*
ما أتناوله هنا أمر يمكن تحييد مناقشته عن نطاق الجدل الديني إذ هو لا يتعلّق بأمرٍ أو نهيٍ إلهيين يمكن استقاؤهما من نصّ أو اجتهاد. بل هو يتعلّق بحرّية الشخص الذي هو امرأة بعينها وبوجود شخصية لهذا الشخص أو عدم وجودها بالتالي. ولا أفترض أن ما يحصل على الضفة الأخرى، أي ضفّة السفور، موافق بالضرورة لداعي الحرّية هذا أو معبّر بالضرورة عن الشخصية الحرّة. فقبالة الجدل الديني وذاك العلماني في الحجاب يوجد جدلٌ دينيّ وآخر علمانيّ في السفور. ومحور الجدل في الحالين واحدٌ، بمعنى ما. هو حرية الشخص التي يرى الطاعنون في الحجاب أنه يحدّ منها بإلزامه المرأة دائرة الخاصّ واستوائه رمزاً للرغبة في “كتمان” المرأة وإخراجها من الساحة العامّة وفي استحواذ الذكور على كلّ ما يجوز اعتباره إرادة عامّة. هذا فيما يرى الطاعنون في السفور أنه يحدّ من الحرّية أيضاً بتشييء الأنثى وامتهان جسدها وعَرْضها غرَضاً غير مشخصن لرغبة الذكور.
إذا خرجنا بهذا الجدال من دائرة الأمر والنهي، أمكن، فيما أرى، أن نتّخذ الحرّية معياراً عامّاً للبحث النقدي في الموضوع. ثمّة صيغٌ للحجاب ثبت بالتجربة أنّها لا تنطوي على حدّ من حضور اللواتي يخترنها في المجال العامّ. وهي تستبقي الشخصية معلنةً مؤكّدة بإبقائها الوجه مكشوفاً. يسع بعضنا أن يجد هذا الحجاب جميلاً وباعثاً على الاحترام ويسع بعضنا الآخر أن يجده قبيحاً عصيّاً على التسويغ. ولكننا نبقى في الحالين في دائرة الذوق الذي نملك أن نماحك أهله فيه ولكن لا نملك أن نشكّك في صدوره عن اختيار حرّ لصاحبته. ولا ينتقص من هذه الحرّية موافقة الاختيار للقاعدة الاجتماعية إذ ليست القواعد الاجتماعية، بعامّة، مستوجبة الرفض، بما هي كذلك، بحيث يعتبر قبولها طاعناً في الحرّية. وإنما يحتاج الرفض إلى مسوّغ في كلّ حالة.
على أن ثمة حجاباً لا يمكن ألاّ يعدّ منتقصاً من حرّية المرأة إذ هو يجتزىء بصيغته البعد العامّ لحضورها ويلزمها نوعاً جزئياً من “الوجود”، إذا جازت هذه العبارة. وأهمّ المعالم (أو المجاهل) المميّزة لهذا الحجاب إخفاء الوجه. فإن الوجه صورة الشخصية وهو الشارة الدالّة على استحقاق الفرد اسماً شخصياً. فإذا هو حُجب مالَ الأفراد إلى ضرب من الغفلية ومالت شخصية كلّ منهم إلى البطلان أو إلى الكتمان شأن حبّات الفاكهة في الكيس. معنى ذلك أن القاعدة الاجتماعية أو الدينية تمثّل ههنا، حين وجودها، انتقاصاً مؤكّداً من وجود الكائن الذي تملى عليه. فلا يبقى حاسماً أن ينتهي الفرد إلى قبولها راضياً أو أن يقبلها مرغماً. فإنما هو خاسرٌ وجودياً في الحالين. ثمة خسارة من الوجود الفرديّ يشي بها أيضاً توحيد الزيّ وتوحيد لونه. فهذه الوحدة – كما في حالة العسكر مثلاً –  إدراج مسبق للنساء في الجماعة وتغليب لرأي الجماعة وقولها على رأي كلّ منهن وقولها في أمر نفسها: مظهراً ومن ثمّ مَخْبَراً.
على الضفّة الأخرى، تقع على المرأة خسارةٌ وجودية أيضاً حين تّحْمَلُ، لسببٍ ما، على القبول بعرْض جسدها على الناظرين لغرض الترويج لسلعةٍ ما. وهذا مع أن إبراز الهويّة قد يكون مطلوباً هنا ومتحصّلاً بقوّة من كشف الوجه والجسد أو بعضهما. تبدو المرأة، في هذه الحالة، مروّجة أوّلاً لنموذج للجمال الأنثوي ويصبح رواج هذا النموذج الذي قد يتّخذ اسم هذه العارضة، بالذات، شرطاً لقدرة الإعلان على ترويج السلعة التي يقرن اقتناؤها أو استعمالها بصورة هذه المرأة وبالنموذج الذي تمثّله بالتالي. في كلّ حالٍ، ينحو استعمال صورة المرأة ههنا إلى اتّخاذها قالباً عامّاً أي شيئاً وينتهي مطافها إلى تحصيل الربح بصورتها للبائعين. وفي هذا ما يلحقها بالسلعة ويقرّبها هي نفسها من حال السلعة. فتلتقي المرأة المعروضة المرأةَ المحجوبة في وضع اضمحلال الشخصية، ولو بعد دورةٍ تامّة.
وفي الحالين، ينتهي ما قدّمناه إلى استبعاد المنع وإلى تجويز النقد. فلكلّ من وجد في نفسه الأهلية لذلك أن يظهر ما يلحق بالمرأة من خسارة لوجودها الشخصي أو خسارة منه في حالتي الحجب والعرض. ويفترض أن يكون النقد سبيلاً إلى التحرير حيث تكون خسارة الشخصية أمراً مفروضاً من جانب الجماعة. ولكن ليس لأحدٍ أن يجعل هذا النقد باباً لمنع امرأة بالإكراه من الاحتجاب أو من الاستعراض بحجّة أن المنع يحرّرها. فإن التحرير أمرٌ يُملى على الجماعة ولا يُكْره الفردُ إكراهاً على التحرّر بل تيسّر له السبل إليه.
أمرٌ أخير أردنا إبرازه هنا: وهو أن مناقشة مسألة السفور والحجاب في مجتمعٍ ذي وجهٍ إسلامي له مدخلٌ غير مدخل استعراض النصوص وتأويلها والنظر في ما تتّسم به من لَبْس وما تنطوي عليه من أمر أو نهي، من تحليل أو تحريم. ذاك هو المدخل الفلسفي المتعلّق بشروط تكوّن الشخصية الفردية ومزاولتها لحرّيتها. وهو المدخل الذي اخترنا تناول الموضوع منه هنا. ذاك مدخلٌ لا يوجب البحث الديني ولكنه لا يستبعده أيضاً. وإنما يمكن طرقه على المستوى الفلسفي من التناول الديني، أي على مستوىً أعمّ من مستوى القواعد الفقهية وأرفع.

– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/5/31/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%81%d9%88%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%ac%d8%a7%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%a7-%d9%8a%d8%aa%d8%b9%d8%af%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b5#sthash.sSTTfBiU.dpuf

من أحوالِ إمبراطورٍ “سوريٍّ” قديم

http://www.almodon.com/opinion/5ab0c5ca-6d54-458d-a7ee-847baf1fed45

أحمد بيضون|الجمعة24/05/201

  في واحد من الدروس التي كان يلقيها في الـ”كوليج دو فرانس” (وهي تُجمع تباعاً في كُتُب)، يستذكر ميشال فوكو واقعة من سيرة سبتيميوس سفيروس: الإمبراطور الذي جلس على عرش روما في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث للميلاد. وهي أن المذكور كان يجلس لإصدار الأحكام وتصريف الشؤون المعروضة عليه في قاعة من قصره جعل سقفها على صورة سماء منجّمة. وكانت نجوم تلك السماء وكواكبها مختارة وموزّعة على الصورة التي كانت عليها السماء فعلاً في الليلة التي ولد فيها الإمبراطور. وفي علم النجوم عهدذاك (وبعدذاك) أن التشكيل الذي تكون عليه النجوم والكواكب عند ولادة الإنسان يبقى متحكماً في ما يحصل لهذا الإنسان من أمور وما يصدر عنه من أفعال مدّة حياته كلها. فيستوي ذاك التشكيل صورةً لقدَر هذا الإنسان أي لما هو مرسوم له ومنتظر منه بإرادة كونية لا شأن بها للبشر.
ويرى فوكو أن جعْل الإمبراطور قاعةَ حكمه على هذه الصورة كان القصدُ منه القول إن جلوسه على العرش الذي تبوّأ لم يكن نتيجة لأعمال عنيفة مألوفة قام بها الجنود وكان يحتمل أن تفشل أو أن لا تحصل أبداً، على ما كان معلوماً من الوقائع. وإنما كان هذا الجلوس أمراً مبرماً رسمته الأقدار العلوية. وما كانت تؤكّده سماء القاعة بشأن الجلوس كانت تقول مثله بشأن العزل. فهذا الأخير لم يكن شأناً يصحّ أن ينظُر فيه أو يبادر إليه مواطنو روما أو قادتهم. وإنما كان شأناً من شؤون السماء لا دخل لهؤلاء به ولا علم. تنتهي سماء تلك القاعة إذن إلى القول إن الإمبراطور باقٍ طالما شاءت السماء بقاءه وأن ليس للمحكومين إلا التسليم بهذا القدَر المقدّر والرضوخ لحكمه إلى ما شاءت النجوم والكواكب.
إلى ذلك، كانت سماء القاعة ترفع إلى مرتبة الأقدار المقدّرة ما كان الإمبراطور يصدره من أحكام وما كان يتّخذه من تدابير أو يعلنه من إرادة. فهذا كله كان محصّناً في وجه الطعن، من أية جهة ورد هذا الأخير، باستظلال التشكيل السماوي الذي رعى ولادة الإمبراطور. كلّ شيء يقال أو يُفعل الآن كان مرسوماً سلفاً في تلك السماء الظاهرة خريطتها في سقف القاعة. والاعتراض على شيء يقال أو يُفعل ههنا إنما كان اعتراضاً على إرادة السماء لا أكثر من هذا ولا أقلّ. فلم يكن جائزاً بالتالي أن يخطر الاعتراض ببال أحد…
شيء واحد كان يمثّل خللاً في هذه الحبكة المحكمة: وهو الموت. فالإمبراطور كان إنساناً خاضعاً لناموس الحياة والموت شأن كلّ إنسان. وكان وجود حدّ لحياته تضرب له السماء أيضاً ميعاداً بعينه يسفّه رغبته في البقاء جالساً على عرش روما إلى الأبد. وكان الدليل على ذلك أن الموت سفّه هذه الرغبة في البقاء الأبدي في أحوال من سبق هذا الملك من ملوك دون استثناء أحد منهم.
عليه بذل سبتيميوس سفيروس وسعه لإخفاء موته المقبل حتماً عن عيون الداخلين إلى قاعة حكمه وحمْلهم على نسيان عدوّه المطلق هذا. كان ركنٌ صغير من تشكيل السماء التي ولد الإمبراطور تحتها ينبئ، بحسب العلم السائر في تلك الأيام، بموت الرجل جاعلاً من رحيله ختاماً لرحلة المصير يحتّمه التقدير السماوي أيضاً ويتعذّر على البشر أن يلغوه أو يؤجّلوه متى حان حينه. هذا الركن المنبئ بموت الإمبراطور استثناه هذا الأخير من السماء المعروضة في سقف قاعة الحكم العامة وجعله لا يظهر إلا في سقف غرفته الخاصة التي لم يكن يدخلها إلا هو ونفر قليل من المقرّبين الخلّص إليه.
جلس سبتيميوس سفيروس على العرش الإمبراطوري الذي رقيه بعد انقلاب عسكري تافه أودى بسلفه برتيناكس، أقلّ من عشرين سنة بقليل. ولم يكن برتيناكس قد اعتمر التاج إلا أشهراً بعد اغتيال الإمبراطور كوموديوس. واضطرّ سبتيميوس سفيروس إلى مواجهة خصوم آخرين أيضاً لم يسلّموا بشرعيته وخاض حرباً أهلية لبضعة أعوام. وحين استقرّ به المقام، جعل المنصب الإمبراطوري ملكاً وراثياً مستخلفاً على العرش ابنيه كركلّا وجيتا. على أن كركلّا لم يلبث أن قتل أخاه بيده، وهو محتمٍ بحضن أمه، بعد موت الأب، وانفرد بالسلطان.
بقي أن نشير إلى أن سبتيميوس سفيروس ليبيّ الأصل، ولد في نواحي طرابلس الغرب من أبوين ذوي أصول مختلطة بعضها بربريّ وبعضها فينيقيّ وبعضها غاليّ. غير أن هذا الإمبراطور، وهو الأوّل يرتقي عرش روما من خارجها، يُعتبر مؤسس “السلالة السورية” من الأباطرة. فهو قد تزوّج من جوليا دومنا ابنة كاهن حمص الأكبر التي أصبح لها، في ظله وبعده، نفوذ عظيم. وهذا فضلاً عن تحدّره جزئياً من فينيقيّي قرطاجة الأفارقة.. ويذكر أن هياكل بعلبك التي استغرق إنشاؤها دهراً طويلاً بلغ تشييدها في أيّام هذا الإمبراطور بعضاً من محطاته الختامية.
خاب إذن مشروع الخلود أو السلطان “إلى الأبد” الذي حاول هذا الملك تجسيده في قاعة حكمه. وكان هو نفسه عالماً أن الموت مختبئ في غرفة نومه. وخاب أيضاً مشروع السلطان المطلق الذي لا يحتمل اعتراضاً. فإن دويّ الاعتراض قلّ أن عرف فتوراً في أيامه… ثم كان أن اشتعلت نار النزاع بين الغلامين الوريثين.
هذا كل شيء تقريباً. هذه، بناء على درس لفوكو، قصة إمبراطور ليبي سوريّ أخفق في الحكم إلى الأبد ولم يستقرّ به المقام في السلطان المطلق. من تراه يشبه هذا الليبي السوري؟ أعرف واحداً ليبياً وواحداً سورياً لا يخلوان من شبه به ولن أبوح باسميهما للقرّاء.

– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/5/24/%d9%85%d9%86-%d8%a7%d8%ad%d9%88%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%85%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d8%b7%d9%88%d8%b1-%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a-%d9%82%d8%af%d9%8a%d9%85#sthash.L9UeCNY1.dpuf

كاترين لو توما والتعليم الشيعي في لبنان

http://www.almodon.com/opinion/cf9a2f1a-987d-48a7-8f39-2f70683d17ef

صدرت مؤخّراً في كتاب رسالة الدكتوراه التي كانت الباحثة الفرنسية الشابة كاترين لو توما قد كرّستها للمدارس الشيعية في لبنان. وعلى جاري العادة التي باتت تزكّيها الرغبة في تقليص كلفة النشر، يستثني الكتاب الذي نشرته دار كارتالا الباريسية بعض ما كانت تضمه الرسالة من موادّ أو يختصره. وهو يبقى، على الرغم من ذلك، كتاباً كبيراً، دسم المحتوى. وكنت قد واكبت، على الأرض، جهود هذه الباحثة من أوّل مسارها إلى آخره واشتركت في لجنة المناقشة التي انعقدت في معهد العلوم السياسية في باريس في أوائل سنة 2009   وكان تقديري وما يزال أن هذه الرسالة مدعوّة إلى تبوّء مرتبة معتبرة بين أفضل ما كرّس لشيعة لبنان من بحوث جامعية تكاثرت في العقود الثلاثة الأخيرة. فهي تقارب من المستوى الأعمق أو الإستراتيجي، وهو مستوى إعداد البشر الناشئين والتصرّف بهم، ما شهدته الطائفة الشيعية من تحوّل يعتبر أهمّ التحوّلات التي كان مجتمع لبنان المعاصر غرضاً لها في نصف القرن الأخير. ويصحّ اعتبار هذا التحوّل أيضاً أهمّ امتحان أو محنة تعانيه قابلية النظام الطائفي اللبناني للتكيف بما يشهده المجتمع من تغيير. ولا حاجة إلى القول أنه، أي التحوّل، يمتحن في ما يمتحنه مستقبل العلاقات بين الطوائف ومستقبل الدولة. تستقصي الباحثة هذه الطفرة في مضمار التنشئة على صعيدين متكاملين: صعيد المؤسسات التي أتاح تكاثرها توسيع نطاق التحوّل ونشْر مفاعيله وصعيد التصوّرات التي منحت التحوّل مضامينه وأملى تنوّعها النسبي تنوّع وجهاته. لهذه الغاية، تَسوق لو توما بحثها مُجيدةً التصرّف بمقادير هائلة من المعلومات استقتها من مصادر بيّنة التنوّع. وهي تُدْرجها في خطّة محكمة للتحليل فتبرز ما بينها من تكامل للعيان. فعلى المستوى الحسّي، يستوي التأريخ لتشكّل الشبكات والتحقيق بالاستمارات إطاراً للتحليل الدقيق الذي تخضع له معطيات أتاحتها مقابلات وافرة العدد جدّاً ومعها، على الخصوص، الملاحظة المباشرة. وكانت المثابرة في الإقامة على أرض الموضوع المستهدف تقترن بالاستكشاف المنظّم لما نشر وما لم ينشر من كتلة وثائقية هائلة الحجم متعلّقة بالمجتمع اللبناني وبنظامه السياسي، فيقوّيان ألفة الباحثة لموضوع البحث ويعزّزان فرص الفهم الصائب للوقائع وللنصوص. هذا ولم تكن السبل مفتوحة أمام البحث الميداني الذي اعترضته تحفظات كثيرة من جانب الجهات المعنية به. وهي تحفظات تركت أثرها في التحقيق بالاستمارات فجاء من جرّائها غير خالٍ من الثغرات. وعندما حيل بين الباحثة ودخول بعض المؤسسات دارت حول العقبة بالاستكثار من المقابلات وتنويعها وبتفحّص ما تنشره تلك المؤسسات من نشرات ومجلات وباللجوء إلى مصادر غير مباشرة للمعلومات. وتلفت الصفحات ذات المنحى المقارن بوفرة المعطيات المتحصّلة مما يتعلّق بالشبكات والمؤسسات المدرسية غير الشيعية (السنّية، الدرزية، الكاثوليكية…). فلم تكتفِ الباحثة ههنا بما هو متاح من معطيات متّصلة بالملامح الكبرى وإنما قصدت الأمكنة المعنية في جميع هذه الحالات واعتمدت على معلومات طازجة، مستقاة من المصدر الصالح مباشرة لترسم لنا ملامح “الجو” في كلّ مؤسسة زارتها. وتتمثّل أهمّية هذه الرسالة في أنّها تبرز تنوّع الشبكات والمؤسسات المتناولة وتنوّع الطائفة الشيعية اللبنانية، بالتالي. ولكنها، إلى ذلك، تدرج المدرسة إدراجاً تامّاً في مشروعات اجتماعية سياسية متباينة يبدو أحدها (وهو مشروع حزب الله) أكثرها صراحة وتماسكاً واطمئناناً إلى إمكاناته. وعوض أن تعمد الباحثة إلى تكرار الكلام على انخراط المدرسة في حقل تكثر فيه وجوه الاتّحاد بين السياسي والديني على أنه تحصيل حاصل، نراها تدأب في الإنشاء الحسّي لصورة هذا الانخراط وتظهره في تجلّيه العملي. وتبتعد المقاربة النظرية المعتمدة ابتعاداً بيّناً عن مقاربة مدرسةٍ بعينها من مدارس علم الاجتماع التربوي (فرنسية، بالدرجة الأولى)، على الرغم من أن هذه المقاربة الأخيرة تملي أطر التحليل المنتحلة من جانب كثير من الأعمال اللبنانية المتعلقة بالمدرسة. فنحن ههنا بمنأى من “إعادة إنتاج علاقات الإنتاج” التي يفترض أنها تتحصّل بالاصطفاء المدرسي وبإحكام الربط ما بين ترسانة من مسارات الإعداد المتراتبة وبنى السوق. وذاك أن عمل المدرسة الشيعية أقرب بكثير إلى الاندراج في منطق للتغيير يمثّله مشروع التبلّر والتعبئة الطائفي. عليه لا تشدّد الباحثة على المضامين الاجتماعية التقنية ولا الاجتماعية الاقتصادية لمسارات الإعداد وهي المضامين التي تشكّل “عادةً” مادّة التعليم الأساسية ولكنها، في الحالة المدروسة، تبدو “محيّدةً” إلى حدّ ما.  عوض التشديد على هذه المضامين، تلتقي الباحثة “المهمّة” السياسية التربوية التي تضطلع بها المدرسة الشيعية الجديدة في وجوه أخرى من “السيرة” المدرسية للتلامذة ومن “العمل” الاجتماعي السياسي الذي يخضعون له في المدرسة. هذا العمل يأتي مساوقاً، في كثرة من الحالات، لعمل العائلة ولعمل المؤسسات الدينية والتنظيمات السياسية ويرسّخ تأثيرها جميعاً. لذا تعمد هذه الرسالة إلى التشديد على تدريس موادّ تعتبر ثانوية المكانة إجمالاً في البنية “العادية” للمسار المدرسي. فيحتلّ المكان المتصدّر من عناية هذه الرسالة تدريس الدين والتاريخ والتنشئة “المدنية” أو “الوطنية”. ولكن يتصدّر هذه العناية، أيضاً وعلى التخصيص، مجموع النشاطات اللاصفيّة من كشفية واحتفالات مختلفة ومسرح، إلخ. ولا يأتي هذا التصدّر نتيجة اختيار تحكّمي من جانب الباحثة. وإنما تسوّغه مكانة عظيمة تتبوأها هذه الموادّ والنشاطات في العديد من المؤسسات التي تناولها البحث. ويسوّغ التصدّرَ نفسه أيضاً أن هذه الموادّ والنشاطات يصدي بعضها لبعض وتتشكّل منها شبكة رمزية شديدة الأسر تسند، على ما سبقت الإشارة إليه، عمل مؤسسات اجتماعية أخرى. وإذ تعوّل الباحثة على فهمها نمط الانخراط هذا، تنتهي إلى ذكر “مشروع المجتمع” الذي ترى أن المدرسة الشيعية الجديدة تمثّل جزءاً لا يتجزّأ منه. وهي لا ترى موضوع بحثها، أي المدرسة، كافياً لوصف حصري لهذا المشروع ولا تعتبره، من باب أولى، أساساً يصلح وحده لتقويم حظوظ النموّ التي يتوفّر عليها المشروع ووقعه على المجتمع والدولة اللبنانيين. على أن هذه الرسالة تستوي، من الآن فصاعداً، مرجعاً لا تجوز الإشاحة عنه لكل محاولة ترمي إلى التحليل المحسوس لهذا الوقع. أخيراً، نرى الجرأة الفكرية التي أتاحت لهذه الباحثة الشابّة أن تبتعد عن المسالك المطروقة في علم الاجتماع التربوي في فرنسا متجلّية، على الأعمّ، في ما يسعنا أن نسمّيه مقاربة اختبارية للتصوّرات. ذاك نوع يقتدى به من اليقظة يجنّب هذه الباحثة ما يتقدّم على أنه “ملبوس فكريّ جاهز” ويبعدها أيضاً عن الأشراك التي لا تتورّع النظريات السائرة عن نصبها لمن يتناول موضوعاً لا يزال جديداً. بل إن هذه الباحثة توحي هنا وهناك بشعورها التامّ بحدود الفاعلية التي لعدّتها النظرية. وهذا على الرغم من الموهبة المؤكّدة التي يدلّ عليها تصرّفها بهذه العدّة. كتاب لا يقرأ وحسب، بل يرجع إليه عند كلّ رجوع إلى أطوار التشكيل الطائفي للمجتمع اللبناني المعاصر ولشيعته على التخصيص.     – See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/5/17/%d9%83%d8%a7%d8%aa%d8%b1%d9%8a%d9%86-%d9%84%d9%88-%d8%aa%d9%88%d9%85%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%b9%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86#sthash.62A5nmlo.dpuf

السياسةُ غباءً وذكاءً وغيرَ ذلك…

http://www.almodon.com/opinion/779f4a4d-f9c5-4366-acc4-d5f16581eca7

كثيراً ما يلجأ متعاطو التحليل السياسي (فضلاً عن السياسيين أنفسهم) إلى مقياس الخطأ والصواب للحكم على موقف أو عمل سياسي. يتبع ذلك تشديد معتاد أيضاً على البراعة السياسية يُنعت بها (أو بعكسها) هذا أو ذاك من السياسيين. وقد يصل الإعجاب إلى حدّ القول بـ”عبقرية” السياسي موضوع الحديث وإن تكن صفة “العبقرية” هذه تدّخر عادة لبعض الماضين فيندر إطلاقها على من لا يزالون من السياسيين في الخدمة. بخلاف ذلك، يُستسهل قذف الحاضرين بصفة “الغباء” أو بما يعادلها إذا كانت الخيبة قد حصلت لسعيهم أو كانت منتظرة له. وقد يكفي لاستدراج هذا النعت مخالفتهم لهوى المحلل أو المقوّم في موضوع من موضوعات السياسة أو مجال من مجالاتها. الأرجح أن ثمة إفراطاً جسيماً في تقدير صلاحية الخطإ والصواب أو دور الذكاء والغباء عند النظر في أمر فعل سياسي وتقويمه: إما بناءً على نتائج الفعل الحاصلة وإما تقديراً من جانب المقوّم لنتائج يراها متوقعة للفعل… وكثيراً ما تزين له توقّعها سيرة الفاعل والموقعُ والأسلوب المألوفان له. الأرجح أن السياسي لا يكون في معظم الحالات مطلق التصرف إلى الدرجة التي تبيح له أن يصيب أو يخطئ. فإن ثمة عوامل وبواعث تخطئ عنه أو تصيب وتفتح باب البراعة قليلاً أو كثيراً أو هي تقضي بالتخبط وتوقع ضحيتها في شبهة الغباء. الأرجح أن العبقرية لم يكن لها ما ينسب إليها من نصيب في نجاح من سايره النجاح قليلاً أو كثيراً في مساره السياسي أو في خطّه في الحكم وقيادة الدولة. ولكان صواب المستشارين (أو الوزراء أو الوعّاظ، إلخ.، في ما مضى) وذكاؤهم المفترض يعوّضان غباء الحاكم ويدرآن خطأه من حين إلى حين لو كانت هذه هي الرياح التي تجري فعلاً بسفينة السياسة. لا يعني هذا أن الذكاء والغباء لا يعودان على صاحبهما من الساسة بنفع ولا بضرر. فإن دورهما متّصل، في الواقع، بصفة أساسية للفعل السياسي هي صفة “الإمكان”. و”الإمكان” هنا محمول على معناه في المصطلح الفلسفي وهو خلاف “الوجوب”. الذكاء مهمّ لأن الأسانيد التي يتكئ عليها مشروع الفعل هي في العادة ناقصة ومختلة. فإن الفاعل لا يرى من موقعه إلا جوانب دون أخرى من ساحة الفعل ومما هو جارٍ فيها. وهو يجد نفسه مأخوذاً في تيار حوادث دينامي متّصل حكماً بما سيأتي. ولكنه – أي الفاعل السياسي –  لا يحيط بما هو محتمل الحصول في هذا الآتي ولا، على الأخصّ، بما سيبدر من فاعلين آخرين محكوم عليهم هم أيضاً بالتصرف في ظروف تتّسم بالهشاشة: بضعف الرؤية ونقص المعرفة والتقلب بين الاحتمالات…  هذا كله: أي صفة “الممكن” الذي يبقى غيره أو خلافه “ممكناً” أيضاً… صفة الخلوّ من البديهة أي من حالِ ما “يجب” فعله ولا “يجوز” فعل غيره… هو ما يمنح الذكاء ومعه ما قد يتاح أو يحصّل من معرفة بوقائع الساحة وما جرياتها مكانة تبقى لها أهمّيتها وإن تكن، على ما ذكرنا توّاً، بعيدة عن الاستئثار بالتحكم في مسار العمل السياسي ومصيره. الحاصل أننا إذا نظرنا بما يكفي من إمعان في ما يجعل التصرّف السياسي لحزب أو لشخصية سياسية أو لجماعة حاكمة يبدو واضح الغباء والغربة عمّا تدّعى خدمته من مصلحة لرأينا أن مصدر الخلل ليس عسر التمييز بين الصواب والخطإ في المسألة المطروحة، إذ يكون هذا التمييز في كثير من الحالات هيناً للغاية. وإنما نقع على الخلل الذي يمنع الإعراض عن الخطإ واتّباع الصواب ماثلاً في الواقع المركّب للفعل السياسي وفي الكثرة المباشرة أو غير المباشرة التي تلازم فاعليه. فالفعل ينطوي في تكوينه على مصالح لفاعلين مختلفين. وهذه المصالح لها  صوابها وخطؤها الخاصّان بها أو بكلّ منها. وهذان الخطأ والصواب، في صيغهما المفردة أو المجتمعة هما غير الخطإ والصواب اللذين يصحّ أن ينعت بهما الفعل في جملته والفاعلون بعمومهم.  ههنا يأتي تفاعل المكوّنات بحصيلة عامّة مختلفة عن تلك المرغوبة. ولا يستبعد أبداً أن يصحّ نعت هذه الحصيلة المغايرة بالغباء. ولكنه غباء ناشئ من ذكاء أفرقاء ذوي مصالح يعرف كلّ منهم حقّ المعرفة ما يريد ولا تصح فيهم صفة الغباء متفرّقين صحتها فيهم مجتمعين. في كثير من الحالات أيضاً يتعايش الغباء والذكاء بحكم التخالف ما بين مقياسيهما الزمنيين. فيكون السلوك الذي يبدو غبياً، في المدى البعيد، سلوكاً حاذقاً، وافياً بغرضه في المدى القريب. ويكون هذا الغرض القريب هو الهمّ الفعلي لهذا الفاعل. وأما الغرض البعيد، وهو عادةً ما تتوخّاه الجماعة الأوسع، فيرى بعض أطراف هذه الجماعة أن في وسعهم القبول بفواته. ويكون بعد ذلك ما يكون. وأما مرادنا من هذا الكلام فهو أن يشعر القارئ بوخزة تستوقفه حين يقع على نعت لسياسي ما أو لعمل من أعماله بالسفاهة أو بالعبقرية. مرادنا أيضاً (وهذا أعسر منالاً) أن نستوقف المحللين السياسيين كلما راحت تغريهم هذه الفئة من الأوصاف (وهو ما يحصل كثيراً)، لعلّهم يميلون إلى شيء من الروية في استعمالها. فلا يطلقونها جزافاً، تحصيلاً لاعتداد بالنفس لم يبذلوا من الجهد ما يكفي لاستحقاقه. بل يسلّمون بأن عليهم أن يلزموا جانب الخشية من أن يقعوا هم أنفسهم في شرّ ما يطلقون.             – See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/5/10/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d8%ba%d8%a8%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%b0%d9%83%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%b0%d9%84%d9%83#sthash.4Z8BRxEX.dpuf

ذكرى دومينيك شوفالييه

http://www.almodon.com/opinion/95da2b1b-0478-478e-90f2-f8f52820b657

تتمّ في هذه الأيام دورة خمس سنوات انقضت على رحيل المؤرّخ الفرنسي البارز، صديق لبنان والعرب، وأستاذ كثر من مؤرّخي جيلنا والجيل الذي يليه دومينيك شوفالييه. لم يحصل عندنا، في مدّة الغياب هذه، ما ينمّ بعرفاننا فضل الرجل. وأقلّ ما أراني أفعله في هذه الذكرى أن أستعيد كلمة تأبين كنت قد ألقيتها أمام جثمانه المسجّى في كنيسة سان جرمان لوكسروا المجاورة لمتحف اللوفر في باريس. ما يلي ترجمة عربية لتلك الكلمة…  كان منّي أن كتبتُ، قبل أعوامٍ كثيرة، أن دومينيك شوفالييه أدخل لبنان التاريخ. ولم يكن المقصود تاريخَ العالم الذي صدرت من الشرق الأدنى بعض من تمتماته الأولى بل قصدتُ عِلْمَ المؤرّخين الكبير. فحين أزمع دومينيك شوفالييه أن يصبح المؤرّخ الذي كانه، ترتّب عليه أن يصبح رجلاً عظيم الثقافة وأن يصبح كاتباً كبيراً أيضاً فضلاً عن استوائه رجل علم. وهو قد خصّ بلادنا هذه بباكورة موهبته التي كانت قد غدت واثقة بما اكتنزته من طاقات. فلم يكفه أنه واءم بين ما تتيحه أنظمة معارف معروفة بالغيرة كلاًّ على حوزته بل هو قد حملنا على نسيان ما بينها من حدود ترعاها عيون ساهرة. وإنما أرمي إذ أقول هذا إلى إبراز ما يتّصف به من ألمعية صريحة تأليف ينسينا نسيجه برهافته وشدّة أسره معاً وتنسينا تطلّعاته الجامعة إلى بعد المطمح ملازمةً لأكثر منحنيات الموضوع عسراً على المتابعة أين يبدأ علم الإناسة وأين ينتهي الاقتصاد السياسي أو تاريخ المؤسّسات. ننسى أيضاً أن نسأل أنفسنا كيف أمكن أن يندرج تحليل البنى بهذا اليسر في مساق رواية الحوادث.  وذاك أن دومينيك شوفالييه يفلح في إتيان الأعجوبة التي هي المساوقة ما بين ضربات الفرشاة الآيلة إلى تشكيل لوحة وصفية وتكثير الملامح المظهرة للمرتكزات المتشابكة واستعراض الوقائع أخيراً. والوقائع ههنا كبيرة وصغيرة ولكن اختيارها موفّق دائماً. فيسعد بها القارئ الراغب في الاطلاع على تاريخ لبنان وعلى انغماس هذه البلاد في مبارزات راحت تتشكّل بفضلها ما بين أقوياء الغرب والشرق وتلبّى أيضاً رغبة هذا القارئ في فهم ذلك كله. يجعل دومينيك شوفالييه من هذه البلاد الصغيرة بوّابةً تتيح له، على ما في الأمر من مفارقة، وتتيح لقرّائه أيضاً فرصة الدخول، ليس إلى ماضي الشرق الأدنى العربي بالدرجة الأولى بل إلى حاضره على الخصوص. وهو يتوصّل أيضاً عبر بلادنا إلى مرتبة المؤرّخ الكبير المتبوّئ مكانة مقصورة عليه في الكوكبة الجميلة التي تمثّلها المدرسة التاريخية الفرنسية في عصرنا هذا. ***   على أن لبنان لم يكن، في يوم من الأيام، لدومينيك شوفالييه مجرّد موضوع للدراسة. بل إن هذا الرجل الكثير الأسفار قد جعل من بلادنا مقصداً منتظماً له ومحطّة مفضّلة من محطات جولاته. ولسوف يبقى أصدقاؤه الكثر يستشعرون ونبقى نحن تلامذته المقيمين في بلاد عادت ضحية للمجاذبات المستأنفة، نستشعر إلى أجل غير مسمّى فقدنا لهذا السند الذي كانت تمثّله لنا، في أسوإ المراحل التي عبرتها محنتنا الوطنية، زيارات دومينيك شوفالييه لنا وجلساتنا إليه. كان يحضر ليستمع إلينا ولكن عباراته كانت تقطع أيضاً، على غرار شفرات من نور، في أمر مزالقنا المتكرّرة والمتعارضة.   وفي أيام الحرب من صيف العام 2006، كان دومينيك شوفالييه يخابرني إلى بيروت كل يومٍ تقريباً. فهذا الرجل الذي كان ينأى به قناع غير حميم وكان يصعب على أيّ منّا أن يزعم الأُلْفة له، كان يسْتنفره جسداً وروحاً شعوره بالتضامن مع اللبنانيين المعذّبين أو المهدّدين الذين كان يمثّلهم عنده، في بعض الأحيان، وجه يعرفه. فلقد صدرت عنه عبارات هي عبارات الأب المفجوع ولكنها أيضاً عبارات الشاهد الثائر وهو يودّع تلميذين اثنين من بين ألمع تلامذته هما أنطوان عبد النور وسمير قصير وقد سقط كلاهما، بفاصل ربع قرن بينهما، برصاص طاغية المرحلة. ولقد أدركني، أنا أيضاً، صوته القويّ منتصراً لي عندما أمضيت أيّاماً من صيف العام 1982 في قبضة الأتباع اللبنانيين لجيش الاجتياح الإسرائيلي ثم في قبضة هذا الجيش نفسه. تلك بوادر ليس للبنانيين أن يأذنوا لأنفسهم بتناسيها. حظيت أيضاً بامتياز فاجع تمثّل في أنني كنت واحداً من أواخر اللبنانيين – وقد أكون آخرهم – الذين التقوا دومينيك شوفالييه. فقد استقبلني في منزله قبل رحيله بثلاثة أيام. وعلى جاري عادته، كان ، على الرغم من حاله الصحية التي بدت لي مثيرة لأبلغ القلق، قلقاً من جهته على لبنان. كانت بلادنا قد اجتازت، في السابع من هذا الشهر، ما بدا وكأنه الليل الأول من حرب أهلية جديدة. والحال ان دومينيك شوفالييه كان يجيب برتابة كلّما سألته إن كان محتاجاً إلى شيء من بيروت: “إلى السلام!” ستبقى ذكرى دومينيك شوفالييه في نفسي، على الدوام،  ذكرى المعلّم الاستثنائي والسند المعنوي الذي لا يهتزّ والصديق. وإذ أشاطر ذويه ألمَهم مشاطرة الصديق، أشعر بأن عليّ التقدّم بأحرّ التعزية أيضاً من الهيئة الجامعية الفرنسية ومن بلادي لبنان. – See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/5/3/%d8%b0%d9%83%d8%b1%d9%89-%d8%af%d9%88%d9%85%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%83-%d8%b4%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%8a%d9%87#sthash.UTAnN2tp.dpuf