المدن – عن أيِّ شيءٍ نَبْحث؟

باقونَ حيثُ نحْنُ، لا نغادرُ أنفُسَنا إلى أيِّ موضوع. المدن
— Read on www.almodon.com/culture/2023/4/28/عن-أي-شيء-نبحث

أذكُرُ من أيّامِ إقامتي الدراسيّةِ في باريس (في أواسطِ الستّيناتِ من القرنِ الماضي) شعوراً بالدهشةِ استولى عليَّ حين اكتشفتُ أنّ طالباً لبنانيّاً قد اختارَ موضوعاً لأطروحةٍ يُعِدّها “نظامَ النقلِ العامِّ في مدينةِ تور”، وهذه مدينةٌ متوسّطةٌ من مدنِ الغربِ الفرنسيّ. وكان لدهشتي مداران: الأوّلُ أن يٌعْرِضَ اللبنانيّ عمّا تقترحه عليه بلاده (أو يقترحُه محيطُها الذي تنتمي إليه) من موضوعاتٍ ليختار موضوعاً فرنسيّاً. والثاني أن يكون الموضوعُ الفرنسيّ فرنسيّاً إلى هذا الحدِّ فلا يمسَّ بخيرٍ ولا بِشَرٍّ بلادَ الطالبِ ولا أهلها. وقد زادَ من بغتتي حيالَ هذا الموقفِ أنّني كنتُ أبحثُ، أنا أيضاً، عن موضوعٍ لأطروحةٍ لم أكنْ أتخيّلٌها، في تلك الأيّامِ، إلّا مغمورةً بهَمِّ تغييرٍ كاسحٍ يشتملُ بلا ريبٍ على أوضاعِ لبنان ولكن يتجاوزه إلى أصقاعٍ أخرى قريبةٍ وبعيدة…


بعد هذه الواقعةِ بأعوامٍ كثيرةٍ، استوقفني مَلِيّاً أن تختارَ شابّةٌ هولنديّةُ المنشأِ موضوعاً لبحثٍ أعدّته قريةً في لبنان تدعى شبريحا تقعُ على مقربةٍ من مدينة صور ويعمرها فلسطينيّون تمكّن كثيرٌ منهم من الحصولِ على الجنسيّةِ اللبنانيّةِ، في غمرةِ حملةِ التجنيسِ التي شهدَتْها غدواتُ الحربِ اللبنانيّةِ أو قَبْلَ ذلك في بعضِ الحالاتِ، وذلك لكونِ قريتِهِم الجليليّةِ الأصليّةِ (وتدعى صَلْحا) هي إحدى “القرى السبعِ” المقتطعةِ من جبلِ عاملٍ، أي من قضاءي صور ومرجعيون العثمانيّين، لتُضَمَّ إلى فلسطين غداةَ إنشاءِ “لبنان الكبير”، وذلك في تعديلٍ للحدودِ شاءَه الانتدابان الفرنسيُّ والبريطانيّ. هؤلاء يقتسمونَ القريةَ مع فلسطينيّينَ آخَرينَ من أصولٍ بدويّة. تركت نورا ستيل (هذا هو اسمها) بلادَها العامرةَ – بل قارّتها بأسرِها – لتنكبَّ على دراسةِ شبريحا… شبريحا التائهةِ عن أيّةِ خريطةٍ نفترضها لهمومِ الخالقِ وملائكته… وهي قد اختارت لبحثها زاويةَ العلاقةِ بين المرجعيّاتِ الفلسطينيّةِ في القريةِ وبين السلطاتِ اللبنانيّةِ المحلّيّة.

والحالُ أنّه إذا كانت دهشتي للواقعةِ الأولى (المتعلّقةِ بـ”تور”) سليمةً من كلِّ زغلٍ فإنّ دهشتي للثانيةِ (المتعلْقةِ بشَبْريحا) أو لبعضِ وجوهِها أتت غيرَ خاليةٍ من الافتعال. كان في هذا الإخراجِ لشبريحا الضئيلةِ بالذات من عتمةِ التجاهلِ ما يفاجئُ حقّاً. ولكنّ إقبالَ باحثةٍ في مطلعِ سيرتها العلميّةِ على موضوعٍ تلفّه العتمةُ ههنا بين ظهرانينا ولا تصلُه بمنشإ الباحثةِ وهمومِه أدنى صلةٍ كان أمراً أعرِفُ له أمثلةً كثيرةً فلا أجدُ في حصولِه مرّةً أخرى ما يدهش. بل إنّ التنزّهَ في موقعِ “أكاديميا” الشاسعِ لم يلبثْ أن أوقفني على ما يتجاوزُ ما حوَتْهُ ذاكرتي من هذا القبيلِ بما لا يقاس. فقد أفادني البحثُ أنّ في الموقعِ المُشارِ إليه ألوفاً كثيرةً من الأعمالِ موضوعٌها لبنان: تاريخاً ومجتمعاً وسياسة! وهو ما يقتضي تصفّحه أٓزْيـدـ من عُمْرٍ واحدٍ من القارئ المُجِدّ. وهو أيضاً ما يُفيدُ التقليبُ العشوائيُّ لصفحاتٍ من لوائحِ عناوينِه أنّ شطراً معتبراً جدّاً من أصحابِه (إن لم يكن معظمهُم) ليسوا من أهل الدار بل هم من هؤلاءِ “الغربيّين” الذين يشتَمِلُ فضولُهم، شأن فضولِ نورا ستيل، على أيّ شَيْءٍ من كلّ شيء… هذا، بطبيعةِ الحالِ، حينَ تكون الأعمالُ المستطلعةُ موضوعةً باللغاتِ الأوروبيّة…


أعلَمُ، من بَعْدُ، أنّنا ندلي، من جهتِنا، بكلامٍ  كثيرٍ مدارُه دولُ “الغربِ” تلك أو “الغربُ” بلا تمييزٍ بينَ الدٌوَلِ أو المجتمعات. نحْنُ أبْعَدٌ ما نكونُ عن الاعتِصامِ بالصَمْتِ في هذه الوجهة! ويكون الباعثُ إلى الكلامِ المُشارِ إليهِ عادةً ما نعْلَمٌه (أو نتوهّمٌه) من تأثيرٍ ماضٍ أو حاضرٍ أو متوقْعٍ لأفعالِ تلك الدول في أحوالِنا. هذا يثمرُ كلاماً سياسيّاً، في الأغلبِ، ولكنّ المثولَ اللجوجَ لمسألتَي “الحداثةِ” و”السيطرةِ”، على اختلافِ ضروبِهِما والأبوابِ، كثيراً ما يجعلُ الحديثَ يفيضُ عن الدائرةِ السياسيّةِ تلك ليُلِمَّ بأطرافٍ ووجوهٍ من تاريخِ العلاقاتِ المضطربِ ومن المواجهةِ الحضاريّة. في كلّ حالٍ، لا نغادرُ أنفُسَنا إلَيْ”هِمْ” فعلاً وإنّما نلبثُ مشدودينَ إليهِم في اشتباكٍ لا نَجِدُ منه فكاكاً إذ لا يتيحُ منطلقٌنا إلى تناولِ أحوالِ”هِمْ” وأوضاعِ”هِمْ” مثلَ هذا الفكاك.

في أصلِ هذا التعذّرِ، من جانبِنا، أنّ ادّعاءَ “العالَميّةِ”، بمعنى القولِ بوحدةٍ للعالَمِ قابلةٍ لأن يحاطَ بها، في ما يتعدّى الكسورَ ووجوهَ التناقضِ، لم يصدُر عن مخاضٍ عانيناه ومَنَحْنا استيلادَه ما يقتضيه من مدىً واختبارٍ تاريخيّين. وإنّما كان من الهزيمةِ الحضاريّة بما أورثتهُ من غلبةٍ علينا أن احتجزٓت عالَمَنا في صورةِ الانشقاقِ والتغايرِ والمغالبة. وهذا في حينٍ كان فيه الغالبُ قد تسرّبَ إلى نفوسِنا ووجوهِ عمرانِنا ومعاشِنا من شقوقٍ لا تُحْصى.

من الجهةِ الأخرى، لا نرمي من الإشارةِ إلى بقاءِ “العالَميّةِ” في الشطرِ الذي وُلدَ فيه تصوّرُ “العالَمِ”، بما هو واحدٌ في ما يتعدّى انقسامَه، و”الإنسانِ”، بما هو متعالٍ على الفوارقِ بينَ فئاته، إلى القولِ بأنّ هذه “العالَميّةَ” خلت من الشعورِ بالتفاوتِ والتفوّقِ من جانبِ مجترحيها ولا بأنّ المعرفةَ المستظلّةَ بها قد خلت من نوازعِ الإخضاعِ والاستغلال. ليس هذا مرادُنا البتّةَ. ولكنّ وجهَ القوّةِ الأبرزَ لهذه “العالَميّةِ” أنّها لا تُرَدُّ إلى ذاك الشعورِ وتلك النوازعِ بل هي تفيضُ عنهما من كلّ جانب. تفيضُ لتستوي معارفَ “مجرّدةً” بمعنى كونِها مبذولةً لمن يريدُ استثمارَها ويقوى عليه وبمعنى استواءِ تحصيلِها نفْسِه مِراناً للمحصِّلِ وبناءً لشخصِه وقوّةً له بقطعِ النظرِ عمّا تنتهي إليه المعارفُ نفسها في السوق المفتوحة.   

هذا الفائضُ الذي تنطوي عليه المعارفُ المنتَجةُ عن أغراضِ الدُوَلِ وخططِ السياسةِ هو ما ننحو كثيراً إلى إنكاره، في حمّى سجالٍ قلّما تغادرنا أو نغادرها. نٌنْكِرُه فيرتـدُّ نقدُ الاستشراقِ، مثالاً لا حصْراً، إلى ضَررٍ يكسِفُ ما له من ضرورةٍ وما لبعضِه من وجاهة. يوقعُ بنا إنكارُ هذا الفائضِ الجسيمِ أفدحَ الضررِ إذ ينتصبُ سَدّاً “نفسيّاً” بيننا وبين تمثّلِه حقَّ التمثُّلِ، بما هو تمثّلٌ للـ”عالَميّةِ” التي أثمرَتْه. وهذا في ما يتعدّى حالاتِ التقبّلِ “الضمنيِّ” أو تقبُّلِ “المغلوبِ على أمرِه” أو الإقرارِ بالضرورةِ الموضعيّةِ وإبطانِ الرفضِ للشروطِ العامّةِ، وهي حالاتٌ لا تُحْصى.

من هذا الإنكارِ الذي يلجمُ إقبالَنا على دراسةِ مجتمعاتِ “الآخَرِ” وأحوالِه بلا قيدٍ على موضوعاتِ البحثِ ولااستثناءٍ منها، ينْجُمُ ما سمّيتُه ذاتَ مرّةٍ “أَسْرَ الموقع”. ومعناهُ أنّنا باقونَ حيثُ نحْنُ، لا نغادرُ أنفُسَنا إلى أيِّ موضوع. وهذا – ولا رَيْبَ – ضعفٌ مقيمٌ ونكوصٌ عن أنواعٍ من المعرفةِ هي القوّةُ عينُها ما دامَ أنّ القوْةَ هي المبتغى المٌعْلَن.

المدن – في أنّ المَحكيّ ليس “فساد” المكتوب…

أنّ الجماعاتِ في دولِ العصورِ القديمةِ لم تكن الواحدةُ منها تُقْتَصَرُ في تدبيرِ الوجوهِ المختلفةِ لحياتِها على لغةٍ واحدة المدن
— Read on www.almodon.com/culture/2023/4/9/في-أن-المحكي-ليس-فساد-المكتوب

يَغْلِبُ على المخيّلةِ العامّةِ تصوّرٌ عفويٌّ للعلاقةِ ما بينَ اللغةِ القياسيّةِ أو لغةِ الكتابةِ والمحكيّاتِ المجانسةِ لها، مؤدّاهُ أن الأخيرةَ تولّدَت من الأولى عبْرَ مساقٍ هو أقربُ إلى الفسادِ منهُ إلى النموِّ والتفرّعِ المنْبئِ بالازدهار. تُغْري بهذا التصوّرِ معطياتٌ عديدة. بَيْنَ هذه المعطياتِ مَهابةُ المدوّنةِ التي يَشي حِفْظُها بقيمةٍ استثنائيّةٍ مُسْبَغةٍ على نصوصٍ شتّى يجري صونُها بحُروفِها ولا يُقْبَلُ لها أن تبقى نَهْباً لِعَبَثِ الذاكرةِ بالرواياتِ الشفهيّة. بَيْنَ هذه المعطياتِ أيضاً مشهدُ صَرْحِ القواعدِ التي يتمثّلُ فيها إملاءُ اللغةِ المكتوبةِ ونَحْوُها وصَرْفُها وسائرُ عُلومها. فهذه القواعدُ تُسْتخرَجُ وتُبَوّبُ ويصبحُ تعلّمُها شرطاً لمعرفةِ اللغة. وهذا شرطٌ ينبّهُ إلى كَوْنِ لغةِ الكتابةِ لا تُكْتَسَبُ، على وجهِ الإجمالِ، بمجرَّدِ النشأةِ في العائلةِ وفي شبكتِها وإنّما يحتاجُ اكتسابُها إلى جهازٍ يُنْشأُ على حدةٍ ليست له ولا للانتماء إليه الصفة “الطبيعيّة” التي للولادةِ في العائلة. يَتَداولُ هذا الجهازُ مَعارفَ ويتولّى إعداداً يَفيضانِ عن طاقةِ العائلة عادةً. ذاك هو جهازُ التعليم بأشخاصِهِ ومستلْزَماتِهِ كافّة.

هذا وانفصالُ الجهازِ المذكور يُبْعِدُ عن لغة الكتابةِ صفةَ “لغةِ الأمّ” التي تطلقُ عليها بلا رويّة عادةً. ويُسْهِمُ هذا الانفصالُ نفسُه في إدراج المعرفة بلغة الكتابة بَيْنَ “المعارفِ العُلْيا” التي يُفْرِدُ لها المجتمعُ أو الجماعةُ طاقاتٍ ومَواردَ تَدُلُّ على ما لها من شأنٍ يتجاوزُ نطاقَ الفردِ والوحداتِ الاجتماعيّةِ الصغرى. تعبّرُ هذه العنايةُ العامّةُ عن الانتماءِ إلى الجماعة اللغويّة أو عن مكانِ اللغةِ من وجودِ الجماعةِ نفْسِه. وهي تفتحُ السُبُلَ، فضلاً عن تجسيدِ الهُويّةِ الواحدةِ، إلى صُنوفِ التَعاملِ المختلفةِ التي تُتَّخَذُ اللغةُ القابلةُ للكتابةِ (أي للحِفْظِ وللتناقلِ بلا حاجةٍ إلى الصوتِ الحيِّ) مَرْكباً لها.

هي إذن صورةُ العِمارةِ الراسخةِ تَعْرِضُها لغةُ الكتابةِ، في ما يتعدّى ما يُحْتَمَلُ الشعورُ بهِ من وجوهِ الخللِ فيها وظواهرِ التقادمِ والشيخوخة. تَعْرِضُها بما يَظْهَرُ لها من تنظيمٍ ولاستعمالِها من ضوابطَ وبما يظهرُ لتاريخِها الذي يُحْصى بالقُرونِ عادةً من ثَراءٍ يُجَسِّدُه تراثٌ محفوظٌ يَجْعله حِفْظُه قابلاً للزيارةِ والاستلهامِ (إن لم يكنْ للاتّباعِ) بعيداً كانَ ما يستلهمُ منه، في الزمنِ، أم قريباً. يقابلُ هذا كلَّه لُزوجةٌ في هياكلِ المحكيّةِ تَجْعل تَبَيُّنَ صورةٍ لها قابلةٍ للحصرِ وقواعدَ لاستعمالِها منذورةٍ للانتظامِ أمراً عويصاً. يَصِحُّ هذا في قواعدِ الإملاءِ التي تبقى حَدْسيّةً إلى حدٍّ ملحوظٍ وقابلةً للتباين الكثير بين الحالةِ وأختها، ويَصِحُّ في الصَرْفِ والنَحْو اللذَينِ يَعْسُرُ تَثْبيتُ قَواعِدَ لهُما لكثرةِ ما تَحْمله التفرّعاتُ المتداخلةُ من خُروقٍ وفروقٍ تَمْتَحِنُ جُهْد التقعيدِ وتعرّضه للاعتباطِ والتحكّم. بل إنّ مَتْنَ المحكيّةِ نَفْسِهِ، أي مُعْجَمَ ألفاظِها، يَتَحدّى محاولاتِ الضبطِ فتتباينُ الألفاظُ الدالّةُ على المُسَمّى الواحدِ من بيئةٍ إلى أُخْرى ويَخْتَلِفُ إملاءُ اللفظةِ باختلافِ النطقِ بها، لولا أن تَحِدَّ من ذلك المرجِعِيّةُ الضمنيّةُ للُّغةِ القياسيّة. إلخ.

لا ريبَ أنّ جُهوداً تُبْذَلُ لاستدراكِ البعضِ من دَواعي الفوضى هذه. فالمحكيّاتُ باتَ يُكْتَبُ بها كثيراً ويُنْظَرُ كثيراً في قواعدِها. وفي هذه الجُهودِ (التي تَسْتَلْهِمُ لغةَ الكتابةِ كثيراً أيضاً) ما يفرضُ للمحكيّة، شيئاً بعدَ شيءٍ، حقّ الخروجِ من أسر اسْمِها لتستوي لغةً للكتابة، وفيها أيضاً ما يقتربُ، مرّةً بعدَ مرّةٍ، من الاستواءِ تقعيداً لما يبدو، في المُشافَهاتِ المتداولةِ، عَصِيّاً على التقعيد. هذا كلّهُ على حظوظٍ من القبولِ والرُسوخِ تتباينُ كثيراً، بطبيعةِ الحالِ، ويُبْقيها على تبايُنِها بقاءُ تَعَلُّمِ المحكيّةِ في حالِ الشيوع: فلا يَرْعاهُ جهازٌ ذو سلطةٍ يُمْلي وَحْدةَ القواعدِ أو يَعْتَمِدُها ويتولّى نَشْرَها.

هل يُبيحُ هذا التفارقُ الإجماليُّ بَيْنَ لغةِ الكتابةِ والمَحْكيّاتِ، بوُجوههِ التي أشرنا إلى أهَمِّها، ما يجنحُ إليه الشعورُ السائرُ من اعتبارِ المحكيّةِ “فساداً” أَنْزلهُ الزمنُ بلغةِ الكتابةِ أو تضَعْضُعاً في هذه الأخيرةِ حملَهُ إليها مزيجٌ مُتَمادٍ من جهلٍ واستسهالٍ وإهمالٍ، إلخ؟ يبدو هذا الشعورُ مسايراً، على نحوٍ مباشرٍ أو عفويٍّ، للمشاهدةِ الحسّيّة: لمَشْهدِ التفاوتِ بين عِمارةِ المكتوبِ واختلاطِ المحكيِّ ولَغْطِه. فهو، أي الشعورُ، لا يرقى إلى مرتبةِ الرأيِ المعلّل بحال. وهو مخالفٌ – وهذا هو الأهمُّ – لما يفيدُنا به تاريخُ اللغات. وإذا كانت العربيّةُ، بما تضفيهِ على هذه المسألةِ من إلحاحٍ حالُ العلاقةِ بين فُصْحاها ومَحْكِيّاتِها، هي ما حفزنا إلى تناولِ هذه المسألةِ أصلاً فإنّ التاريخَ الفعليَّ للعربيّةِ، بما حمَلَت إليهِ من جديدٍ ألوفُ النُقوشِ المكتشفةِ في العهودِ الأخيرةِ والمنتميةِ إلى أطوارٍ شهِدَتْها العربيّةُ قَبْلَ الإسلام، يَرْسمُ مجرىً للعلاقاتِ بَيْنَ مَحْكيِّ اللغةِ ومَكْتوبِها مُغايراً جدّاً لفرضيّةِ “الفسادِ” الآنفةِ الذِكْر.


(نقش النمارة)

في فصلٍ ضافٍ، زاخرٍ بالتفاصيلِ، من فصولِ “القرآنُ في سياقٍ” (وهو سِفرٌ جماعيّ نفيسٌ أعدّته للنشرِ أنجيليكا نويفرت ونيكولاي سيناي ومايكل ماركس وظهر في لايدن سنة 2010) ينشئُ مؤرّخُ الساميّاتِ الألمانيُّ أرنست أكسل كْنوف خريطةً بالغةَ التعقيدِ لتكوين العربيّة التاريخيّ في مَساره الطويل ولحركةِ اللغاتِ، على الأعَمِّ، وتفاعُلِها في المحيطِ نفسه: خريطةً تعصي على كلّ اختزال… على أنّ انتقاءَ بعضِ المعطياتِ من هذا المَسار، بما يناسبُ همَّنا في هذه العجالةِ، يبقى ممكناً أيّا يَكُن نَصيبُ التقحّمِ منهُ والمغامرة.

وأوَّلُ ما يَسْتوقِفُ في المَسار المشارِ إليه طولُه: إذ يقعُ كْنوف للعربيّة على اثني عشرَ قرناً من التحوّلات سبقَت الإسلامَ موَثَّقةٍ بألوفٍ من النُقوشِ جمعَتْها الحَفْريّاتُ من أرجاءِ البيئةِ التي نشأَتْ فيها هذه اللغةُ ونَمَت. وقد خَرَج أكثرُ تلك النُقوشِ من جنوبِ بلادِ الشامِ، موئلِ الأنباطِ والصَفائيّين والتَدْمُريّين، ولم تتمخّض جزيرةُ العرب من بَيْنِها، حتّى يَوْمِنا، إلّا عن الأَقَلّ، تستثنى من ذلك بلادُ اليَمَن. تُبَدِّدُ وقائعُ التاريخِ هَهُنا وَهْماً يجعلُ من شعر المُهَلْهِلِ وامرئِ القيسِ (أو، في أقصى احتمالٍ، من “نقش نَمارة”) أقدمَ ما نعرفهُ من نصوصٍ عربيّة. وتُبَدِّدُ التحوّلاتُ التي تَشْهَدُ بها النُقوشُ، بانتشارِها على الأزمنةِ والأمكنةِ، أخْيِلةً مستقاةً من التراثِ توحي أنّ لغةَ القرآنِ كانت من عهدِ آدمَ على حالِها في القرآنِ إذ أنشأها اللهُ على هذه الحالِ وأنشأَ بها القرآنَ… أو انّ القرآنَ نفْسَهُ قديمٌ لا تَعَلُّقَ له بزمنٍ بما هو كلامُ الله.

على صعيدٍ آخرَ، يوضِحُ كْنوف أنّ الجماعاتِ في دولِ العصورِ القديمةِ لم تكن الواحدةُ منها تُقْتَصَرُ في تدبيرِ الوجوهِ المختلفةِ لحياتِها على لغةٍ واحدة. وإنّما كانت تَتَّخذُ إلى اللغةِ التي تتداولُها مشافهةً لغةً أخرى، على الأقلّ، للمعاملاتِ المشتركةِ بَيْنَها وبَيْنَ سواها من الجماعات، وهذه يَسَعُها أن تَكُونَ أو لا تَكُونَ لغةَ الدولةِ المركزيّة. هكذا جاورت العربيّةُ الآراميّةَ التي سبقَتْها إلى دائرةِ الكتابةِ وجاورت اليونانيّةَ في عهودٍ أخرى، وكان بعضُ من يعرفونَ إحدى اللغتينِ يعرفونَ الأخرى، وهذه معرفةٌ يجوزُ أن نُخَمِّنَ لها أهمّيّةً وظيفيّةً تتعدّى أهمّيّة النسبةِ الحائزةِ لها من أفرادِ الجماعة. إلخ.

الأمرُ الأخيرُ الذي نستحسنُ إبرازَهُ من مطالعةِ كْنوف تأكيدُه أن لغةَ الكتابةِ تكتَنِفُها على الدوامِ محكيّاتٌ مجانسةٌ لها أو مغايرة. فلا معنى للقولِ، مع اعتبارِ المدى التاريخيِّ للعلاقةِ بَيْنَ هذه وتلك، أنّ المحكيّةَ تضعضُعٌ للمكتوبةِ، إذ لا أسبقيّةَ لهذه على تلكَ بالضرورة. بل المُتَحَصِّلُ من المراجعةِ التاريخيّةِ أنّ العلاقةَ دائريّةٌ أو لولبيّة: تَتَّخِذُ واحدةٌ من المحكيّاتِ أو أكثرُ من واحدةٍ لنفْسِها عُدّةَ الكتابة، في ظرفٍ تاريخيّ (سياسيٍّ، اقتصاديٍّ، اعتقاديٍّ، إلخ) يُهَيِّئُها لهذا الخيارِ وتَروحُ تَسْتَكْمِلُ شُروطَه. ولكنّها منذُ أن تُفْلِحَ في فَرْضِ نفْسِها على أنّها لغةُ تعاملٍ في دائرةٍ أوسعَ من الدائرةِ التي نَمَت فيها أصلاً، يَأخُذُ ظلُّها في الانحسارِ عن دوائرِ المشافهةِ وتأخذُ في توليدِ محكيّاتٍ جديدةٍ أو في مداخلةِ أخرى قائمة. يُشيرُ كْنوف، مثلاً، إلى انقطاعٍ مباغتٍ في السلسلةِ التاريخيّةِ للنقوشِ التدمريّةِ ويَعْزُوهُ إلى انقطاعٍ سياسيٍّ حَصَل… هذه، في الواقع، سُنّةٌ عامّة: فاتّخاذُ لغةٍ من اللغاتِ لغةَ تعاملٍ واسعِ النطاقِ، متعدّدِ الأقطابِ، إنّما يَفْتَرِضُ طُموحاً فاعلاً إلى إرساءِ هذا التعاملِ أو صُموداً تاريخيّاً له إذا كان حاصلاً. فإذا ضَعُفَ الطُموحُ أو تَخَلْخَلَ الصُمودُ مالَت لُغَتُهُما إلى الضُمورِ وبرزَت لها لغةٌ أخرى (أو أكثرُ من واحدةٍ) تَجْلُوها عن كثيرٍ أو قليلٍ من أدوارِها. وهذا مع العِلْمِ أنّ اللغةَ المنافِسةَ قد لا تَكُونُ سوى واحدةٍ من محكيّاتٍ كانت تواكبُ اللغةَ الآفلةَ فواتاها مَوْقِعُها وشروطٌ أخرى للانفرادِ بدائرتِها أو لتوسيعِ هذه الأخيرة…