خلافةٌ تختفي وكتبٌ تظهر…

أحمد بيضون

[السنهوري: المقالة الأولى]

حين اتّخذ مصطفى كمال قراره بإلغاء الخلافة العثمانية في آذار/مارس عام 1924، كان متوقّعاً أن يثير القرار غباراً كثيراً في العالم الإسلامي، وفي أوساط غير إسلامية مهتمّة بأوضاع هذا العالم. جاء القرار التركي نفسه مصحوباً بتعليل إسلامي المشرب أراد أن يبعد عنه شبهة العداء للإسلام. وكان مصطفى كمال قد منح نفسه نوعاً من الحقّ في الإفتاء فراح يبدي آراء يعدّها غير مخالفة لمبادئ الإسلام في أمورٍ شتّى.
وقد تداولت الصحافة، في مختلف الأقطار، مغازي القرار بإلغاء الخلافة ومفاعيله. واهتمّت للقرار أيضاً جهاتٌ سياسية حاكمة أو معارضة في الدول الإسلامية. وانعقد في سنة 1926، أي بعد حين من صدور القرار، مؤتمران إسلاميان أوحى بعقد أحدهما، في القاهرة، فؤاد الأوّل ملك مصر ودعا إلى الآخر، في مكّة، عبد العزيز آل سعود الذي كان قد استتمّ، قبل مدّة وجيزة، سيطرته على الحجاز بعد نجد. والواقع أن مؤتمر القاهرة كان هو المركّز على مصير الخلافة فيما تصدّرت مصيرُ الحجاز أبحاثَ مؤتمر مكّة وقد تمثّلت بعض الدول في المؤتمرين تباعاً. هذا وبدا بعض الحكّام، وعلى الأخصّ منهم فؤاد الأوّل، طامحين إلى ارتقاء سدّة الخلافة الشاغرة، لا لإتاحتها سلطاناً حسّياً على المسلمين في ديارهم المختلفة، بل لتكريسها نوعاً من التصدّر لشاغلها بين أقرانه من الحكّام ونوعاً من التقدّم المعنوي لبلاده.
على أن أهمّ ما بقي من تلك المرحلة التي لم يلبث التجاذب السياسي بصدد الخلافة فيها أن خمدت حركته كان الكتب. فقد وجد مؤلّفون كان بينهم من يعدّ وجهاً بارزاً في فقه الحكم في الإسلام، وكان بينهم من اكتسب هذه الصفة لاحقاً، مناسبةً في الإلغاء التركي للخلافة لطرح موضوع الخلافة برمّته من جديد وتقليبه على وجوهه كافّة. وبعد انقضاء الظرف الذي أملى تأليفها لبثت هذه الكتب موضوعَ أخذٍ وردٍّ بما لها من دلالة عامة متّصلةٍ بنظرية الدولة في الإسلام. فكاد الجدال ألّا ينقطع في مُنْدَرَجاتها في هذه المدّة الطويلة التي انقضت على صدروها، خصوصاً أنها احتلّت مواقعَ متقابلة من المسألة فأقبل بعضُها على مساجلة بعض. وها هو الجدال نفسه ينتعش في هذه الأيّام، مع ظهور «الدولة الإسلامية» في العراق والشام وإعلان أميرها البغدادي نفسه خليفةً، وقد عاد بذلك موضوع الخلافة إلى بساط البحث مع ظهوره في ميدان المذبحة الجارية.
يحصي الحقوقي المصري الذائع الصيت عبد الرزّاق السنهوري في حواشي الأطروحة التي أعدّها في جامعة ليون الفرنسية في موضوع «الخلافة»، وفي لائحة المراجع الملحقة بها ما كان قد صدر إلى عام 1926 من كتب استثار حميّةَ مؤلّفيها القرارُ التركي. كان الأسرعَ إلى تناول القلم السيّد رشيد رضا الذي أنشأ كتاباً نشره في القاهرة في سنة 1923 أي حين كان إلغاء الخلافة لا يزال في طور المخاض غداة مؤتمر لوزان. ويضمّ هذا الكتاب الصغير الذي يذكره السنهوري مراراً ولكن من غير أن يقرّ بفضله عليه، أهمّ ما حملته أطروحة السنهوري الضخمة من وجهات نظر بصدد مقام الخلافة ومنطق شَغْلها وعملها وحدود سلطتها، ويتوصّل في خاتمته إلى صيغة وجيزة للاقتراح نفسه الذي فصّله السنهوري، وهو اقتراح مؤتمر إسلامي يُتْرك له موضوعُ الخلافة، وقد أراده السنهوري منطلقاً لـ»عصبة أمم شرقية». فكان أن عدّه مترجِما كتاب السنهوري تصوّراً مسبقاً لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي أنشئت غداةَ حريق المسجد الأقصى سنة 1969 (أي بعد نيّف وأربعين سنةً كانت قد انقضت بعد جدال العشرينيات) وقد أصبحت تدعى اليوم «منظّمة التعاون الإسلامي».
على أن أشهر كتابٍ بقي الرجوع إليه يتكرّر دحضاً أو تأييداً منذ تلك الأيّام، إنما كان كتاب الأزهري علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي صدر في سنة 1925وكان السنهوري واحداً من نقّاده. وقد تبع السنهوري في الردّ عليه أزهريّ آخر هو محمد الخضر حسين الذي أصبح أيضاً واحداً من مؤلّفين كُثُرٍ تناولوا كتابَ طه حسين في «الشعر الجاهلي» الذي صدر في السنة التالية. وفي لائحة مراجع السنهوري أيضاً نحصي كتاباً في الخلافة للاستقلالي الهندي بركة الله محمد، نشره بالفرنسية سنة 1924وكتابين في الموضوع نفسه لاثنين من المستشرقين، هما البريطانيان وليام موير وتوماس ووكر أرنولد وقد ظهر كتاب الثاني منهما في سنة 1924 أيضاً، فيما يرقى كتابُ الأوّل إلى ما قبل أزمة العشرينيات بنحو من عقدين. نحن، على الإجمال، حيال مكتبة صغيرة حفز تكوّنها في أواسط العشرينيات من القرن الماضي سقوطُ الخلافة، ويمثّل كتاب السنهوري، بما انطوى عليه من جهد في وصف بنية الخلافة وتتبّع أطوارها، واسطةَ عقدٍ فيها. أما المراجع التي يُكْثر السنهوري العودةَ إليها من أمّهات كتب التراث فأظهرُها «الأحكام السلطانية» للماوردي و»المقدّمة» لابن خلدون… لم ينقل إلى العربية من كتاب السنهوري الذي يعود الفضل في نقله المتأخر (سنة 1989) إلى صِهْرِه توفيق الشاوي وابنتِه نادية السنهوري سوى نصفِه الوصفي. ولقي نصفُه التاريخي إهمالاً علّله المترجمان تعليلاً غير مقنع بوجود مؤلّفاتٍ تغني عنه في المكتبة العربية! أما الأصل الفرنسي فيستفاد من ترجمة عربية لمقدّمة وضعها الأمين العامّ لمنظّمة المؤتمر الإسلامي للطبعة الثانية منه أن هذه الطبعة صدرت سنة 1992.. على أننا لم نتمكّن من الوقوف على أثر راهنٍ منها، حيث يفترض وجوده. لحسن الحظ، لا يزال يوجد من طبعة الكتاب الأولى نُسَخٌ في كبريات المكتبات الجامعية. والراهن أن الدالّة العائلية التي ادّعاها الصهر على الكتاب (ودالّة الصهر، والحميّ أيضاً، مألوفةٌ على ما هو معلوم، في موضوع الخلافة!) لم يُقْتَصر ضررُها على استبعاد نصف الكتاب من نسخته العربية، وإنما وصل منها رشاش إلى ما نُقِل منه أيضاً. فالصهر (الذي هو تلميذٌ للسنهوري أيضاً) يأذن لنفسه بأنواع شتى من التدخّل في النصّ من قبيل الردّ على فكرةٍ فيه أو تأويل أخرى أو نقل فقرة من الهامش إلى المتن، وهي أنواعٌ لا يعدّ بعضها مستحسناً.. كان للمترجم أن يعلّق على النصّ من دون تغييرٍ فيه. وهو لم يَحْرم نفسه هذا الحقّ فذيّل الكتاب بتعليقٍ من عنديّاته أبرز، على الخصوص، ما لقيه «المشروع» الذي ينتهي إليه الكتاب من تجسيدٍ لاحق. أما أن يستحسن للنصّ ما لم يستحسنه له صاحبُه…
في كلّ حال، نعوّل، من جهتنا، على الأصل الفرنسي لنعود، في عُجالتنا المقبلة، إلى فحوى الإسهام السنهوري في الجدال حول موقع الخلافة من الإسلام وما يراه هذا الفقيه طَوْرَين تبايَنا قيمةً ومدّةً في تاريخ هذه المؤسّسة.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

فينوس وحالُ الدنيا

  • March 18th, 2016

أحمد بيضون

شاهدتُ هذه المسرحية متأخّراً جدّاً. وما سأقوله عنها قد يبدو متأخّراً أيضاً. غير أنني تصفّحت ما على الشبكة من مراجعات صدر أكثرها بُعَيد انطلاق العروض، ووجدتُ أن عندي ما أضيفه.
في الأسبوعين الأخيرين اللذين يبدو (ما لم يطرأ جديد) أنهما التمديد الأخير للعروض، لا تزال القاعة تغصّ بالحضور ولا يزال الحجز ضرورياً، قبل أيـّام، للحصول على مقعد يمكن، إذا كانت المدّة الفاصلة قصيرةً، ألاّ يكون في الموقع المرغوب فيه من الصالة… هذا مع العلم أن المسرحية باشرت عروضها في آذار/مارس 2015، وأنها تنقّلت بين مسرحي «مونو» في شرق بيروت و»بابل» في غربها، وأن عدد العروض البيروتية سيكون قد بلغ نيّفاً وثمانين عند انتهاء التمديد الحالي. هذا ولا يبعد أن تقع، في المسرح، على من يسألك إن كنت تشاهد المسرحية للمرّة الأولى. ولقد قيل كلامٌ يردّ هذا الإقبال، أو بعضه، إلى عوامل «إثارةٍ» ذات طابعٍ جنسيّ ظهرت في «التسويق» قبل التمثيل. وهذا تعليلٌ تحملك مشاهدة العمل على التمنّي أن يكون مجانباً للصواب، كثيراً أو قليلاً، ضنّاً منك بكرامة الجمهور…
أشير إلى «فينوس»، مسرحية الأمريكي دافيد إيف، وندينُ بصيغتها المعرّبة (أو الملبننة، بالأحرى) إلى مسرحيَّين ذوي خبرةٍ متعدّدة الوجوه، في الميدان، عملية وتعليمية، وهما غبريال يمّين ولينا خوري. أمّا عبء الإخراج فوقع على المخرج الشاب جاك مارون، وقد أظهر في سنوات خبرته القليلة نسبيّاً، فضلاً عن المقدرة الإخراجية، مبادرةً في تشكيل خليّة حوله، من الممثّلين المكرّسين والناشئين، سواءً بسواء، أطلق عليها اسم «محترف الممثّلين». وهي ترمي إلى فتح الأبواب أمام هؤلاء لتحسين كفاءتهم وللعمل في المشاريع المسرحية. وهي تجد امتداداً لها في خليّةٍ أخرى لتيسير الإنتاج المسرحي…
العنوان الأصلي لمسرحية إيف هو «فينوس ذات الفراء»، وفيها بدورها «تضمينٌ» لقصّةٍ من تأليف النمساوي زاخر مازوخ تحمل العنوان نفسه وترقى إلى سنة 1870. فما تعرضه مسرحية إيف إنّما هو تحوّلات المحاولة التي يقوم بها الكاتب – المخرج المفترض للعثور على ممثّلة تتولّى الدور الأنثوي في مسرحية له هي، في الواقع، استعادةٌ معدّلة لقصّة زاخر مازوخ. وهذه قصّةٌ تنطوي بدورها على ازدواجٍ في السرد. فهي تبدأ من رجل يعرض على امرأة أن تسترقّه لأنه يجد لذّته الجنسية في المهانة والألم. ولكنها ـ أي القصّة ـ سرعان ما تفضي إلى تلاوة تعرضها المرأة لمخطوطٍ يروي حكاية رجلٍ آخر يُسْلِم نفسه لعلاقةٍ من هذا القبيل نفسه، وتفترض القارئة أن ما جرى له يصلح عبرةً من شأنها إخراج السامع من محنته. عليه يكون الاقتباس الملبنن لمسرحية إيف نوعاً من الطبقة الثالثة أو الرابعة (الجزئية، في الأقل) تجيء لتُمازِج الطبقتين المازوخية والإيفية (وكلاهما مزدوج) أو لتمازج الثانية من هاتين، إن أردنا الدقّة.
ها هنا نستحبّ الإشارة إلى أمرين: الأولى تخميننا أن «الفراء» في العنوان إنما هو إشارةً غير خفيّة إلى ما في شخصية الأنثى، في قصة زاخر مازوخ وفي ما تفرّع عنها، من نعومةٍ ومن حيوانيةٍ وافتراسٍ في آن. والثانية أن ما نسمّيه «المازوشية» (بعربية اعتمدَت اللفظ الفرنسي لا الألماني) إنّما اشتُقّ من اسم زاخر مازوخ، في حياته، بسبب هذه القصّة، على وجه التحديد، من بين أعماله كلّها… وذلك على النحو الذي اشتقّ منه لفظ «الساديّة» (وهي النزعة المضادّة للمازوشية والمكملة لها في آن) من اسم المركيز الفرنسي دو ساد.
في أيّ حال، تُقْتصر مسرحية إيف، وبعدها تلك التي تشاهَد في بيروت، على شخصيّتين: رجل وامرأة. وقد سبقَت الإشارة إلى أن الرجل (وهو في مرحلةٍ متقدّمة من شبابه) كاتب- مخرج يبحث عن ممثلةٍ تَصلُح للدور الأنثوي في مسرحيّةٍ كتبها بالاستناد إلى قصّة زاخر مازوخ. وعلينا الإشارة الآن إلى أن المسرحية تبدأ بإعلان هذا المخرج ما يشبه اليأس من العثور على الممثّلة التي في خاطره… وهذا بعد تجارب كثيرة مع المرشّحات نقع عليه في ختامها منهكاً مضطرباً. هذان الانهاك والاضطراب تدخل عليهما الشابّة فاندا، في آخر النهار، ومعها حقيبتها الكبيرة وعلى جسدها من الثياب ما تظهر مساحة السَتْر المرجوّة منه ضئيلة على كثرة ما يُحْصى له من قِطَع…
لا تخفي الشابّة شيئاً من الابتذال الذي يبدو وكأنّه سجيّتها. لهجتُها موغلةٌ في التصنّع وبذاءةُ ما يرِدُ على لسانها، بين حينٍ وآخر، من ألفاظٍ وعباراتٍ سوقيّة، لا تستوقفها أو تحملها على التردّد البتّة، بل تجري هذه الألفاظ والعبارات في كلامها مجرى سواها ولو ان المتحدّثة تبدو مدركةً ما تُدخله البذاءة على الكلام، حيثُ لا تُنتَظر، من عُلوّ في الجَرْس وشدّةٍ في الأثر. باستثناء الاقتحام والإصرار، لا يظهر لمخرجنا ما قد يؤهّل هذه المرشّحة لأداء الدور الملحوظ في مسرحيّته. ولكنها تنتهي بعنادها وشدّة انفعالها إلى حمله على الدخول معها في ما يبدو، أوّل وهلة، مجرّد اختبارٍ مهني ثمّ ينقلب شيئاً فشيئاً إلى نوعٍ من الانقلاب الوجودي في شخص المخرج كان مكتوماً في المسرحية وأخرجته أطوار هذه العلاقة الجديدة، بالمرشّحة.
لا بغيةَ لنا هنا أن نجاوز الإشارة إلى «استلام السلطة» الذي يحصُل من جهة الأنثى، وهي تؤدّي الدور المفترض لها من جهة المخرج، ولا إلى سقوط المخرج من جهته في مازوخيته المكظومة بحيث يبدو وقد استسلم، لا في الأداء المسرحي وحده، بل في ما يتعيّن علينا أن نسمّيه «الواقع» لسلطان أنثى اقتحمت شخصه من خلال الدور الذي راحت تؤدّيه في مسرحيته. لا نجاوز الإشارة إلى ما أراد زاخر مازوخ أن يصرّح به قبل إيف: وهو أن ما يشارُ إليه بلفظ الحبّ إنما هو، في الأصل، علاقة سيطرةٍ وعبوديّة وأن الأنثى فيه هي، على ضعفها من وجوهٍ أخرى، الطرف الأقوى… وهذا لكونها المشتهاة فيما الذكر هو المشتهي. لا نجد فائدة في تفصيل هذا الأمر فهو ظاهر «الحبكة» من زاخر مازوخ إلى جاك مارون مروراً بدافيد إيف الذي يقول المخرج اللبناني أنه توخّى البقاء أميناً لعمله وهو يخرجه ملبنناً.
نقصر همّنا على الوقوف لحظةً عند أداء بديع أبو شقرا وريتا حايك… بل عند أداء الأخيرة على الخصوص. توجب بنية المسرحية المزدوجة (المزدوجة في أدنى تقدير) على الممثّلَيْن أن يكونا تارةً ما هما أصلاً (أي المخرج وزائرته المرشّحة) وطوراً ما يملي على كلّ منهما دوره الآخر: دوره المفترض مسرحياً لا واقعيّاً. يَعْبُر الكاتب – المخرج، بما هو ممثّل، من حال الإمساك بزمام اللعبة كلّها إلى حال العبودية لمن يُفْترض أنها الطرف الأضعف وأن عليها أن تبقى ـ إذا هو تقَبّلها ـ رهناً لإشارته. ولكن هذا العبور يحصُل بالتدريج، من مرحلةٍ في المسرحية إلى مرحلة، فيبدو أطواراً في شخص الرجل ويوشك هذا التطوّرُ (الذي لا تلبثُ المرأةُ أن تبادلَه إيّاه طائعةً) أن يحجب تزامُنَ الوجهين في هذا الشخص نفسه.
ما يبدو أنه هذا التزامن (ويَفْترض بالتالي مقدرةً تمثيلية استثنائية الألَق) هو تنقّل ريتا حايك المستمرّ، السريعُ الوتيرة، بين ما يُفترض أنها هي في «الحياة»، أي الفتاة المغوية بلا شهوة والبذيئة بلا اكتراث، إلى الشخصية المرهفة، الشديدة الأسر، التي يفترض أن تكونها وهي تؤدّي الدور الذي حضرت لتؤدّيه. في هذه الحالة الأخيرة، تبدو هذه الشابّة وقد استردّت قرباً غريباً إلى «واقع» ما: إلى وجهٍ مألوف فيما يتعدّى الصفة الدرامية لما تؤول إليه العلاقة بينه وبين الوجه الذكر، الشريكِ في اللعبة. فيبدو أن «واقع» هذه الشابّة، أي الابتذال والبذاءة، هو الأَوْلى، بما هو «قناعٌ» أو «واجهةٌ» اجتماعية، دفاعيّةٌ على الأرجح، بأن يعدّ بضاعةً مسرحيّة. هذا بينما يبدو دورها المفترض مسرحيّاً، مقرّباً لها إلى سويّةٍ ذاتِ عموميّة تنأى بها عن المسرح شيئاً ما وتنحو بها نحو «الحياة» أو نحو «الواقع». عليه يبدو «وجود» هذه الشابّة مقلوباً… تبدو وكأنها تلبس «شخصها» مقلوباً: إذ هي ممثّلة في «الواقع» و»واقعية» في التمثيل. ذاك ما استطاعت ريتا حايك أن تكونه أو أن تظهره في هذه المسرحية التي مدارها «المسرح وظلّه»، على قول الآخر.
… وأمّا معنى ذلك فهو أن المسرح لا يوجد بالضرورة حيث نظنّ. وإنّما المسرح أيضاً حالُ الدنيا.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

القيصر وجَوْقَتُه

أحمد بيضون

انتهينا، في مقالتنا الأخيرة، إلى السؤال عمّا تتمخّض عنه خطّة النظام الأسدي لما سمّيناه «هندسة العدوّ المناسب» حين يؤول الدور الأوّل في تنفــــيذ الخطـــّة إلى إيران، بما يلحق بها من تشكيلات تواليها في مختلف البيئات الشيعية، ثمّ إلى روسيا البوتينية…
لم تعتّم أن لاحت، وراءَ الحميّة الإيرانية في نجدة النظام الأسدي المتهالك، أخيلة يتعذّر اعتبارها أوهاماً لذاك الهلال الشيعي الذي بات مذّاك ذائع الصيت… ذاك هلال يسع إيران أن تتصرّف به محوّلة جماعات المشرق العربي الشيعية إلى محميّاتٍ لها تؤدي، طوعاً أو قسراً، أثمان حمايتها الاضطرارية في الخضمّ السنّي الشاسع، الذي أُكْسِبَت عداوتَه لألف سنةٍ مقبلة.
تنمو العداوة تحت أبصارنا من جرّاء استنفار وليّ النعمة الإيراني لتشكيلاتٍ تدين له بالولاء موزّعة ما بين لبنان والعراق وأفغانستان… وفي «هندسة العدوّ المناسب»، كانت «عسكرةُ الثورة» تحت ضغط العنف النظامي عاملاً أوّل أمدّته المؤازرة الشيعية للنظام بزيادة في شدّة الشحن المذهبي، الذي كان المسلك الطائفي للنظام يزكّيه أصلاً. فمن هذا ومن ذاك تغذّت تربةٌ للتشدّد، وللإرهاب في مساقه، بعد أن أُبعدت عن الساحات قوى الثورة ذاتُ المشرب المدني.
وراء ذلك كلّه أيضاً تتبدّى الحاجة إلى قُبّةٍ روسيّة فولاذية يحتمي تحتها الحُماة والمَحْميّون معاً بما يمليه ذلك من ثمنٍ أكبر يؤدّى للحامي الأكبر بدوره. وتُبيّنُ معاهدةُ الصيف الماضي «السريّة» التي نشرتها موسكو مؤخّراً ما يسع «القيصر» الروسيّ أن يفرضه على تابعه الأسدي من خضوعٍ يشي بانتعاشٍ ما لاستعمار القرن التاسع عشر بما هو تفاوتٌ بين موقعين، في الأقلّ. ولا يستغني النظام الإيراني عن هذه القبّة أيضاً بعد أن ثبَتَت لإيران فداحةُ ما يرتّبه الخيار النووي من كُلْفَة ألجَأَتْها إلى استبعاده. ولا تستغني إيران أيضاً عن حليف سياسي رئيس تستقوي به في الساحة الدولية التي تتّجه إلى استعادة موقعٍ فيها.
يصحّ هذا من غير استبعادٍ لسلوك «الشريك المُضارِب» في سورية أو في غيرها من جانب أحد الحليفين أو كليهما. فهذا السلوك من مألوف العلاقات بين الدول. ويبقى أهمّ ما في الأمر أن الغطاء الروسي إنما يراد به استعادةُ المجد القيصري وما يشبه كسبَ حروبٍ فائتة على «السلطنة» الإسلامية وعلى أوروبا… حروبٍ بلغَت أَوْجَاً قصير المدّة لعطائها في العهد السوفييتي، وهي لم تكن حقّقت سوى بعض أغراضها في قرونٍ مَضَت: في ماضٍ لا يريده القيصر الجديد أن يمضي.
هذه الهجمة البوتينية لا يعوزها مؤيدون أو مريدون في ديارنا يستخفّهم الطرب لمرأى «القبضاي» الروسي، يتولّى عنهم ما يخيّل إليهم أنه مواجهةٌ مع الإمبريالية الأمريكية (ومع إسرائيل أيضاً؟… بعد عمرٍ طويل)… لا يلتفت هؤلاء إلى حقائق العلاقات الروسية ـ الأمريكية في طورها الأخير، ولا يهمّهم أن يكون أوباما يجهد مع بوتين للتراضي على وضع يناسب خيارات الطرفين في سورية وغيرها… وضعٍ لا عيبَ فيه سوى أنه لا يناسب أي خيارٍ لشعبٍ من شعوب المنطقة يطمح إلى ما هو حقّه: أي إلى التصرّف المستقلّ ـ بما لا يعــــدو منطــــق العالم الحاضر ـ بمصيره وإلى استتباب الحرّيات والمساواة في الحقوق لمواطنيه وإلى النموّ لمقدّراته. لا يقيم لهذا كلّه وزناً أنصار البوتينية عندنا وهم، عادةً، من أدعياء الوقوف إلى اليسار.
هم لا يقيمون اعتباراً أيضاً لأفق يَعِدُ بالانتقال (الجزئي، بالضرورة) من هيمنةٍ إلى أخرى تدلّ السوابق على أنها لن تكون إلا أدهى وأمرّ. لا يستوقفهم أيضاً كون النظام السوفييتي الذي كانوا يستشعرون فيه مجانسةً ما لقيمهم المزعومة قد بادَ إلى غير رجعة واستقرّ في موضعه اتّحادٌ للمافيات يحالف اليمين الفاشي في أوروبا وينشر في روسيا الفقر ويجرّد الروس من حقوق اجتماعية كانت لهم ويموّه هذا كلّه ـ على جاري العادة ـ (وعلى الغرار الإيراني أيضاً) بسراب الأمجاد الإمبراطورية. من تحصيل الحاصل أن مواطنينا هؤلاء ـ وهم يضمّون إلى دعوى اليسارية دعوى الوطنية أو القومية ـ لا يريدون الانتباه إلى عمق المودّة التي تجمع ما بين الطاقمين الحاكمين في روسيا وإسرائيل.
أخيراً لا آخراً، لا يغادر هؤلاء «الإستراتيجيون» لحظةً منطقهم «الجغراسي» الذي تعتوره هذه المطاعن كلّها. لا يغادرونه ليسألوا عن الثمن الذي ارتضوه حتى الآن لمنازلة هي من بنات خيالهم، إلى حدّ بعيدٍ جدّاً. لا يسألون ـ وهذا هو الأدهى ـ عن بلادٍ انهارت وعن شعبٍ يقول «القيصر» أن طيرانه يوفّر بقصفه أكلافَ التدريب: عن مئات من الألوف قتلوا أو أصيبوا أو اعتقلوا وعن ملايين شرّدوا وعن عمرانٍ وطني دمّر بآلة الحرب «الوطنية» أوّلاً ومعها من اجتاحوا أرض سورية وسماءها من كلّ حدبٍ وصوب.
وذاك أن «البَشَر» كلمة لم يكد يبقى لها من معنىً عند البوتينيين المنتشرين بين ظهرانينا ولا من أثرٍ فيهم. هم يحصرون امتياز المعنى في الخرائط التي يسيئون قراءتها، في الأعمّ الأغلب، وفي أوصافٍ قليلة يطلقونها على القوى المتصارعة قلّما تصدق في موصوفاتها.

٭ كاتب لبناني

أحمد بيضون