تاريخ العالَم العربي في مَعْهَده الباريسي: مُلْتَقَياتٌ وجائزة

على غرار «ملتقيات التاريخ» التي استضافتها مدينة بلوا الفرنسية كلّ سنة، ابتداءً من سنة 1998، أطلق معهد العالم العربي في باريس في ربيع السنة الماضية «ملتقيات تاريخ العالم العربي» ثم أحياها للمرّة الثانية من 20 إلى 22 أيّار/مايو الجاري.
ولمّا كان القوم في المعهد لا يعيدون اختراع العجلة كلّما احتاجوا إلى ركوب الدرّاجة فقد استعانوا بما اجتمع من خبرة لبلوا ودعوا المشرف على ملتقياتها فرنسيس شفرييه إلى مدّ يد العون.وقد زكّى هذا التعاون أن وزير الثقافة السابق جاك لانغ، وهو اليوم رئيس معهد العالم العربي، كان هو الذي أطلق ملتقيات بلوا أصلاً أيّام كان رئيساً لبلدية المدينة.
وفي كلّ دورة، تُفتتح ملتقيات المعهد بمنح «الجائزة الكبرى لتاريخ العالم العربي»، وتعطى لكتابٍ جديد موضوع بالفرنسية أو مترجمٍ إليها يعالج موضوعاً منتمياً، على نحوٍ ما، إلى تاريخ العالم العربي. نقول «على نحوٍ ما» لأن لائحة «الأنواع» التي يُحتمل انتماء الكتاب إليها مرنة إلى حدّ أن الرواية التاريخية، مثلاً، غير مستبعَدة من السباق، فضلاً عن كون الكتاب يسعه أن يختصّ بأي فرعٍ من فروع التاريخ أو أيّ مرحلة من مراحله. والجائزة متواضعةٌ نسبيّاً ولم يمكن مع ذلك دفعها للمؤلف الفائز في السنة الماضية ويضاف إليها تعهّدٌ (تدل الدلائل على أنه مبدئي أيضاً!) برعاية نقْل الكتاب الفائز إلى العربية.
وقد حظيتُ، في العامين الفائت والجاري، بشرف الانتساب إلى الهيئة المحكّمة في منح الجائزة المشار إليها. يرأس هذه الهيئة هنري لورنس صاحب كرسيّ التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكولّيج دو فرانس. وتضمّ الهيئة قُرابةَ عشرةِ أعضاء (هم أهلُ اختصاص عربٌ وأوروبيون وعربٌ- أوروبّيون)، وقد حصل تغيير طفيف في العدد وفي الأسماء بين الدورتين الماضية والجارية. يرشّح كلٌّ من الأعضاء كتاباً واحداً من بين إصدارات السنوات الثلاث السابقة للجارية يراه ذا أهلية لنيل الجائزة. وهذه طريقة تحدّ سلفاً من عدد الأعمال المرشّحة، بخلاف تلك التي تترك للمؤلّفين الحقّ في ترشيح كتبهم ولو بتزكيةٍ من جهاتٍ أخرى. ويتيح قِصَر اللائحة هذا لأعضاء الهيئة تفحّص الكتب المرشّحة بالعناية المفروضة بعد أن يُرسَل إلى كلّ منهم، في غضون شهور تسبق موعد «الملتقيات»، ما ليس في حوزته منها.
يلتئم عقد الهيئة عشيّة افتتاح «الملتقيات» إلى عشاء مداولة يجب أن ينتهي، بالتوافق أو بالتصويت، إلى اختيار الكتاب الفائز. وهو ما يعني أن كلّاً من الأعضاء ـ باستثناء واحدٍ ـ سيكون قد تخلّى في ختام السهرة عن مرشّحه أو سلّم بخسارته، في الأقلّ. والحالُ أن خضوع العضو لغواية كتابٍ غير الذي رشّحه ليس بالأمر المستبعَد أو النادر. وهذا خضوعٌ قد يكون للمداولة ضلعٌ فيه ولكنّه يحصل غالباً عند الاطّلاع على جملة الكتب المرشّحة، أي قبل المداولة بزمن.
تعتمد الهيئة معايير عامّة في اختيار الكتب وفي تعيين الفائز بالجائزة. غير أن تنوّع الأعمال المرشّحة، فضلاً عن جودتها، يتبدّى مبعثَ حيرةٍ للمحكّمين. فإن بعض هذه الكتب لا يقارن ببعضٍ إلا افتعالاً. فكيف تستقيم المفاضلة، مثلاً، بين قاموس تاريخي للدولة العثمانية وضعه نحو من مئتي مؤلّف وأصبح أداة عمل جزيلة النفع للدارسين ودراسة فردية ضخمة في تاريخ «النخب البغدادية أيّام السلاجقة» يبدو لك مؤكّداً أنها أكلت ردحاً جسيماً من عمر المؤلّفة وأنها، بجودة التوثيق والتأليف والتحقيق، ليست من الصنف الذي يؤمل الحصول على نظير له كلّ سنة او كلّ عقد؟ وهل تدخل، فضلاً عن الجودة، جدّة العمل المنجز والمتعة المتحقّقة بقراءته عاملين مقرّرين في الاختيار؟ أم تُغَلّب الندرة وجسامة الجهد المبذول، وإن يكن العمل صعباً جافياً مرشّحاً للانحصار في أيدي قلّة من الباحثين؟ ذاك نوع الأسئلة التي تترك الفرد متردّداً ولكن تسعف في التقريب من إجاباتٍ مقبولة عنها مداولة الجماعة…
يعلن رئيس الهيئة العنوان الفائز في مساء اليوم التالي للمداولة في أثناء الجلسة الافتتاحية للملتقيات. في السنة الماضية، فاز كتاب جوليان لوازو الرائع «المماليك» وفاز هذه السنة عمل فانيسا فان رنترغيم الذي سبقت الإشارة إليه «النخب البغدادية…» ولا نجاوز هنا الإشارة إلى العنوانين لأن حديث كلّ من الكتابين يطول…
ثم إن «الملتقيات» لا تختصرها الجائزة بطبيعة الحال. «الملتقيات» شيء شاسع! ثلاثة أيّامٍ من المحاضرات والندوات تتزامن في قاعاتٍ عدّة من المعهد أو تتوالى في ساعات النهار. وهي تأتي مصحوبة، إلى ذلك، بمعرض من تلك التي صنَعت للمعهد شهرةً عريضة أو بأكثر من معرض. وهي أيضاً فرص لقاءٍ لا تُحصر أنواعه إذ يكون المعهد في خلالها يغلي برواح زوّاره وغدوّهم في القاعات وفي الممرّات، في المكتبة أو المتحف وفي المقهى أو المطعم سواءً بسواء.
في السنة الماضية، كانت «المدينة» مداراً عامّاً للّقاءات. وبدا أن المسوّغ الأبرز لذلك رغبةٌ في دحض الصورة الشائعة التي تغلّب الصحراء والبداوة وسطاً وصيغة تاريخيين للوجود العربي. في هذه السنة، اختيرت «الأديان والسلطات» مداراً… ولا تحتاج الدواعي إلى هذا الاختيار إلى فضل بيان. وبين محاضرة يلقيها باحث وحوار بين مؤلّف وناقد وطاولة مستديرة… وبين ثورة لا تزال مفاعيلها جارية وجديد يتعلّق بالحرف العربي قبل الإسلام… وبين همومٍ متّصلة بتعليم تاريخ العالم العربي في المدارس الفرنسية وبإعداد معلميه وأخرى تتعلّق بشروط البحث في هذا التاريخ في مختلف أقطاره وأطره، إلخ.، إلخ.، تبدو مقاربة المدار العامّ المختار حرّةً ورحبة وتظهر على منابر القاعات وجوه كثيرة جدّاً (جاوز عددها المئتين هذه السنة) يعلن ظهورها تَجدّد الدراسات العربية في فرنسا وتهيئة جيلٍ لخلافة جيل مع بقاء الأسماء المعروفة قادرة على الإتيان إلى هذا الموسم وغيره بجديدها المعتبر.
هذان التنوّع والإحاطة، لجهة الموضوعات والفروع والأزمنة والأجيال، إلخ.، وقد ازدادا هذه السنة عمّا كانا في الدورة الأولى، هما ما أجاز لرئيس المعهد أن يصف هذه «الملتقيات» بـ»الجامعة الشعبية». هي جامعةٌ تدوم ثلاثة أيّامٍ كلّ سنة. وهي مفتوحة للعموم وأنشطتها مجانية.
وما دمنا قد ذكرنا «مجّانية» الأنشطة، فلنُشر إلى التقشّف الواضح الذي يطبع الموسم برمّته. يجنَّد جهاز المعهد لخدمة «الملتقيات» وتوضع مرافقه المختلفة بتصرّفها. أما المشاركون في الموسم من محاضرين ومحكّمين، فلا يتقاضون مالاً وينزل المستقدَمون من خارج المدينة منهم في فنادق غاية في التواضع ويعطون قسائم لطعام الغداء في يوم مشاركتهم فقط، إلخ. ولما كان معظم هؤلاء قد سبق لهم أن خبروا السفر في الدرجة الأولى إلى مناسبة خليجية ما، والفندقَ ذا النجوم الخمسة (وأزْيَد!) والمكافأةَ السخيّة للورقة المقدّمة (ودَعْكَ من قيمة الجائزة حين تُمْنَح!) فهم يحسنون ملاحظة الفوارق. الذين يحضرون للكلام في معهد العالم العربي يبدون مكتفين بفرصة للمشاركة في الموسم يعدّونها قيّمة… فلا يتطلّعون، على الأرجح، إلى جزاءٍ آخر.
في كلّ حالٍ، كان هذا المعهد الجليل ولا يزال، منذ نشأته، مؤسّسةً مُعْسِرة أو أن هذا ما لازم صيته. وهذه السنة زَفّت إلينا إدارةُ «الملتقيات» خبر تبرّع المجمع الملكي المغربي بقيمة الجائزة. وبدا أن عبئاً ثقيلاً قد انزاح عن كاهل الإدارة بعثورها على جهةٍ عربية نَفَحت «الملتقيات» بـآلاف معدودة من اليورو جنّبت معهد العالم العربي وملتقياته الرائعة حَرَج السنة الماضية حيال الفائز!

٭ كاتب لبناني

 

 

“لبنان في أَسْر “نمط الإنتاج السياسي

أحمد بيضون

May 19, 2016

■ أسمّيه إذن «نمط الإنتاج السياسي» على غرار قولنا «نمط الإنتاج الرأسمالي»، وهو ضَرْبٌ من هذا الأخير. هو نمط إنتاجٍ اقتصادي توظّف فيه رساميل وتستخدم قوّة عملٍ متنوّعة وتنتج سلَعٌ وسيطة تنتمي إلى ما يسمّى «الخدمات».
ولكن السلعة الأخيرة المنتجة فيه هي «الولاء السياسي»: «الولاء» بما يقتضيه حكماً من «عداء» سياسيّ أيضاً.
ثمّ إن القول إنه «نمط إنتاج اقتصادي» قولٌ تعسّفي بمقدار افتراضه تبلّوراً متقدّماً لدائرة اقتصادية قائمة برأسها في المجتمع الكلّي، على غرار ما هي الحال في مجتمعات «العالم الأوّل» الرأسمالية. وهذا افتراضٌ غير موافق لواقع الحال في المجتمع اللبناني، وفي صفّ من المجتمعات مشابهٍ له. فههنا تتّخذ عبارة «الاقتصاد السياسي» معنى متناهي الشدّة في إتباعه الموصوف لصفته، لا العكس.
مع ذلك فإن الوصف الأصحّ لهذا الاقتصاد قد لا يكون «السياسي» بل «الاجتماعي»، بالمعني الكليّ للاجتماع، لا للمجتمع، ما دام أننا لسنا حيال «مجتمع»، بالمعنى الذي يفترضه فرديناند تونيز للكلمة، حين يضع «المجتمع» في مواجهة «الجماعة»، وإنما نحن حيال اجتماعٍ «جماعوي»، بالدرجة الأولى، طوّرت فيه الجماعات لنفسها نمط إنتاج رأسمالي يستبقي بنىً وتماسكاً غير رأسماليين ويؤالفهما…
في لبنان، يتمثّل نمط الإنتاج السياسي هذا (مع استذكار ما سبق من تحفّظ عن الصفة) في كتلة متنوّعة جدّاً من المنشآت المتداخلة: من أحزابٍ وجمعيّات ومدارس وجامعات وصحف ومؤسسات إعلام أخرى ومستشفيات، إلخ. وصيغ التداخل بين هذا كلّه معروفة: الحزب أو الزعيم يرعى الجمعية، الجمعية تسيّر المستشفى، المنشأة الإعلامية تتبع الحزب، إلخ. وقد تتباين عضوية العلاقة أو شمولها: فتؤجّر الصحيفة خدماتها للحزب، مثلاً، ولا تكون ملكاً له وقد تنقل ولاءها إلى جهةٍ أخرى أو توالي جهتين معاً، إلخ.
يستخدم هذا القطاع جانباً معتبراً جدّاً من قوّة العمل اللبنانية مؤمّناً نصيباً مباشراً ضخماً من تجديد قوّة العمل هذه، أي من كتلة الأجور اللبنانية، فضلاً عن نصيب غير مباشر يتمثّل في ما يشتريه من السوق الداخلية لحاجاته المختلفة من سلعٍ ماديّة أو خدمات. ولكن إسهامه هذا لا يقتصر على الأجور وشراء التجهيزات المختلفة والموادّ الاستهلاكية أو الخدمات، بل هو يغطّي جانباً من تجديد قوّة العمل الاجتماعية في ما يتعدّى بكثير نطاق القوّة العاملة فيه أي مستخدميه.
وذاك أنه يعيل جزئيّاً أو يدعم اقتصاديّاً من طريق الخدمة التي تنتجها منشأة من منشآته أفراداً وأُسَراً من خارج نطاق مستخدميه. وإذ نقول «أفرادٌ وأُسَر» هنا نستعمل عبارة قاصرة لأن «الأُسَر والأفراد» المشار إليهم يكادون يكونون المجتمع اللبناني كلّه أو هم الكثرة الكاثرة من عناصره في الأقلّ. وذاك أنه يصعب أن تجد لبنانياً لم يستفد قطّ من منحةٍ مدرسية أو تخفيض في الأقساط لولد أو من علاج مخفّض الكلفة لمريض… أو من مساعدة سياسية لتخليص معاملة يمثّل إنجازها نوعاً من الدخل أو لحماية مخالفة يوفّر منها مالاً أو يجني مالاً.
وهذا الذي نسمّيه «مساعدة سياسية» يستوقف، فمؤدّاه أن جانباً معتبراً من «الحقوق» يكون مصادَراً من جانب ذوي السلطة، أي من جانب مَن لا تُقْتصر المزيّة النسبية لموقعهم على حيازة أجر أو الإفادة من خدمة، وإنّما يتوفّرون على رأسمال سياسي يستثمرونه في السوق. و»الحقوق» المشار إليها يسعها أن تكون مصالح مشروعة لطالبيها ولكن لا تتحقق إلا بدعم سياسي ويسعها أيضاً أن تكون حقوقاً للغير أو للدولة يراد العدوان عليها. أما الدعم السياسي المطلوب في هذه الحالات كلّها فيمكن أن يكون مباشراً من جانب السياسي أو معاونيه، من جانب الحزب أو ممثّليه، ويمكن أن يكون غير مباشر إذ يتحصّل برشوة الموظّف الفاسد الذي زرعه السياسي أو الحزب حيث هو وراح يؤمّن له الحماية.
معنى هذا أن نمط الإنتاج السياسي لا يشتمل، لجهة وسائل الإنتاج، على المنشآت التي يتولى شؤونها مباشرة أصحاب الرساميل السياسية وحسب: أي مثلاً على المدرسة أو المستشفى اللذين يديرهما الحزب أو جمعيةٌ تأتمر بأمره، بل يشتمل نمط الإنتاج المشار إليه على منشآت ووسائل إنتاج يصادرها جزئياً، بقوّة السلطة الاجتماعية السياسية، أصحابُ الرساميل أولئك. فيكون تحت أيدي أصحاب الرساميل السياسية أولئك جانب معتبر جدّاً من إمكانات الدولة، سواءٌ أكانت هذه «الإمكانات» إمكانات تشغيل أو تلزيم أم إمكانات خدمة. ويكون تحت أيدي أصحاب الرساميل السياسية أيضاً جانب من الإمكانات التي تضعها بتصرّفهم جهات خاصّة من قبيل كوتا الاستخدام الذي يفرضه السياسي على مصرف أو على مصنع يعمل في دائرة نفوذه، مثلاً.
وعلى غرار الاستخدام في دوائر الدولة وأجهزتها والإفادة من خدماتها (أو التملّص من المتوجّب لها)، تخضع المنشآت الرأسمالية في القطاع الخاص خضوعاً متبايناً لأصحاب الرساميل السياسية. وتتفاوت صيغ هذا الخضوع ما بين اشتراك الجهة السياسية في الملكية لقاء الحماية وتسهيل الأعمال، وفقاً لمشيئة القانون أو خلافاً لمشيئته، أو لقاء حجب الضرر… وبين حجز جانب من طاقة الاستخدام وطاقة الخدمة في المنشأة للجهة السياسية لقاء البدل نفسه. ويفرض ذلك أن تجهد المنشأة على الدوام في التوفيق ما بين منطق الربح والإنتاجية المفضية إليه (وهو منطق الرأسمالية «السويّة» أو «العاديّة») وبين المنطق الطفيلي الذي تمليه عليها حاجتها إلى رعاية أو حماية سياسية… هذا مع العلم أن الحماية هنا هي بالدرجة الأولى حماية من الجهة السياسية الحامية أو من جهاتٍ غيرها، سياسية أيضاً، وأن الرعاية هي بالدرجة الأولى حماية من القانون ورعايةٌ في وجهه.
وبين منطويات هذا التشكيل أن القول بتبعية الطبقة السياسية لأصحاب الرساميل في لبنان قولٌ فيه نظرٌ كثير. ففضلاً عن كون أركان من هذه الطبقة ضالعين في مواقع ذات فاعلية من شبكة الملكية والاستثمار فإن للزعامة السياسية وللتشكيــــلات الحزبيـــة الرئيســـة من القـــوّة الاجتماعية ما يكفي لتستتبع من في دائرتها من أصحاب الرساميل. وهو ما يعني أن التمييز بين التابع والمتبوع ههنا مسألة أعقد من أن تعالَج باستدعاء الترسيمة المعتادة…
ختاماً يتّسم نمط الإنتاج السياسي هذا بِسِمَتَين أخريين: أولاهما أنه يُدخل التنافس السياسي بين الجماعات أو بين فروع الجماعة الواحدة في منطق توزيعه لوسائل الإنتاج العائدة إليه. وهو ما يجعله معيداً لإنتاج المواجهة بين هذه الجماعات، مزكّياً لتماسكها النسبي، ومانعاً لإنتاج مصالح مفارقة لها أو حادّاً من نطاق هذا الإنتاج. السمة الثانية أنه، إذ يتّخذ هذا التنافس أساساً، يستدرج تبعية الجماعات لدولٍ أو أشباه دول غير لبنانية يعرض عليها شراء الولاء والخدمة السياسيين لقاء الدعم. ويفترض الحصول على الدعم وجود مشترٍ للولاء يجانس، بمعنىً من معانٍ عدّة محتملة، صورة الجماعة عن نفسها أو يحتمل توصّله إلى هذه المجانسة. يجانسها في الهويّة المفترضة، في الأهداف المرحلية إلخ، بحيث لا ينتهي الولاء له إلى فَرْط عقدها…
على أن أهمّ ما تضمنه التبعية إنّما هو زيادة الوزن النسبي للجماعة فضلاً عن إشعارها بالانخراط في تيّار قضية شاسعة الأبعاد. وهذه زيادة قد تبقى محدودة وقد تبلغ حدوداً قصيّة، غير متناسبة والإمكانات الذاتية للجماعة. والحال أنه كلّما ازداد النصيب الخارجي من وزن الجماعة رجحاناً ازدادت التبعية عمقاً وأصبح الخروج من أسرها (أو مجرّد الرغبة فيه) أمراً مستبعداً.
على أن حديث التبعية هذا، وإن يكن متّحداً كلّ الاتّحاد بحديث «نمط الإنتاج السياسي»، يقتضي وقفةً مطوّلة على حدة. ثم إن كلامنا هنا على «نمط الإنتاج السياسي» في لبنان لا يجاوز اقتراح مفتاحٍ جديد لفهم الاجتماع اللبناني، بما ينطوي عليه من سياسة ومن اقتصاد. ولكنّه (أي الكلام) يبقى بعيداً عن استيفاء البحث في فاعلية هذا المفتاح وصلاحيّته.

٭ كاتب لبناني

سايكس بيكو بين خرافةٍ وتاريخ

أحمد بيضون

May 14, 2016

في أيّامنا هذه، تزعم «داعش»، مثلاً، ويصدّقها معلّقون معادون لها، أنها أطاحت رسْمَ اتّفاق سايكس بيكو للحدود العراقية السورية. والأدنى إلى الواقع أنها قرّبت هذه الحدود ممّا كانت عليه في الاتّفاق! فإن ولاية الموصل العثمانية وصحراء الأنبار اللذين جمعت «داعش» ما بينهما وبين بعض الفرات السوري كان سايكس بيكو قد جعلهما في سوريا، إن صحّ أن نحصر هذا الاسم بمنطقة النفوذ الفرنسي من «الدولة العربية». وقد ضُمّت الولاية إلى العراق، أي إلى منطقة النفوذ البريطاني، خلافاً لمنطوق الاتفاق، بعد مخاضٍ طال إلى سنة 1926!.
وعلى الإجمال، لا تشبه الحدود الدولية الحالية بين العراق وسوريا ما يظهر في خريطة سايكس بيكو من خطّ فاصل في «الدولة العربية» بين منطقتيّ النفوذ المشار إليهما. ولا يظهر أثر في هذه الخريطة للدولة الأردنية ولا للدولة اللبنانية. وما يجوز اعتباره فيها «فلسطين» هو النصف الشمالي من فلسطين اللاحقة وهو موعود في الاتّفاق بـ»إدارة دولية»! ويجعل الاتّفاق معظم العراق الحالي أي ولايتي بغداد والبصرة العثمانيّتين منطقة حكم بريطاني مباشر ويُخرج من هذا العراق سامرّاء وكركوك (فضلاً عن الموصل والأنبار) ليدخلهما ومعهما شرق الأردن وجنوب فلسطين في المنطقة الجنوبية من الدولة العربية، وهي الخاضعة للنفوذ البريطاني لا للحكم البريطاني المباشر.
وأما سوريا الاتّفاق (وهي مختلفة اختلافاً جسيماً عن سوريا اليوم)، فمثّلت المنطقة الشمالية من الدولة العربية وجُعلت خاضعة للنفوذ الفرنسي وضمّت إليها، على ما سبق قوله، ولاية الموصل وصحراء الأنبار. وعلى غرار ما فَعَل بولايتي بغداد والبصرة، في الشرق، اقتطع الاتّفاق من الدولة العربية، في الغرب، منطقة الساحل الشامي، وهي أقضية ولاية بيروت العثمانية الموازية لـ»المدن السورية الأربع» (أي حلب وحماه وحمص ودمشق)، ومعها سنجق جبل لبنان، مستثنياً هذا كلّه ممّا سمّاه «الدولة العربية». هذا أيضاً لم يؤخذ به، في آخر الأمر. بل اختلفت صيغة «لبنان الكبير» والانتداب الفرنسي عليه عن صيغة الحكم الفرنسي لـ»بلاد العلويين»… وذلك قبل أن تتوحّد أوصالُ سوريا الحاليّة، المتقلّبة الأوضاع على تنافرٍ، في سنة 1936. هذا ولم تكن صيغة «الانتداب» واردةً من أصلها في سايكس بيكو، بل هي اخترعت عند إنشاء عصبة الأمم في سنة 1919 ثم جرى توزيع أنصبة الانتداب لاحقاً في مؤتمر سان ريمو.
ولا ننسَ هنا أن منطقة الحكم الفرنسي المباشر تلك كانت توغل شمالاً في آسيا الصغرى مشتملة على منطقة شاسعة من جنوب الأناضول تمثّل أركانَها مدن أضنة ومرسين في الغرب وسيواس في الشمال وديار بكر في الشرق. ولا يظهر في خريطة الاتّفاق من خطّ فاصلٍ بين هذه المنطقة وألوية الساحل السوري. ولنُشِر إلى أن غياب الحدّ هذا يلبّي مطالبة الحزب السوري القومي بكيليكيا ولكنه لا يحول، مع ذلك، دون بقاء هذا الحزب طليعة المندّدين بسايكس بيكو! في كلّ حال، لم يثبت شيءٌ من هذا على الأرض إذ بقيت تلك المنطقة، في نهاية المطاف، ضمن حدود الجمهورية التركية مع حرب الاستقلال التي قادها مصطفى كمال ومع تصحيح معاهدة سيفر (1920) بمعاهدة لوزان (1923).
ولا تَحَقّقَ أيضاً دخول أرمينيا في منطقة النفوذ الروسية، وفقاً للتفاهم المثلّث الذي توصّلت إليه مفاوضات موازية لمخاض الاتّفاق، ومنح روسيا إستانبول نفسها (أو «القسطنطينية»، بالأحرى، إذ كان يفترض أن تستردّ اسمها الأرثوذكسي!). وقد كانت روسيا تريد الاستيلاء على العاصمة العثمانية وعلى محيطها الأوروبي، فضلاً عن مكاسب أخرى. إلى ذلك، كانت قد لُحِظت لإيطاليا منطقة حكمٍ مباشر ومنطقة نفوذ في الجانب الجنوبي الغربي من آسيا الصغرى. أصبح هذا كلّه غير واردٍ: من جهةٍ أولى لأن روسيا البلشفية كانت قد خرجت من الحرب أصلاً ونقضت الاتّفاق في جانبه المتعلّق بها وكشفته للعالم… ومن جهةٍ أخرى، لأن المطامع المتعدّدة الأطراف في الأناضول سرعان ما واجهتها مقاومة تركية ضارية.
ولا نَنْسَ أيضاً ما أعقب نهاية الحرب من ضمٍّ لأقضية من ولاية سوريا العثمانية إلى لبنان وهو ما كان مخالفاً لرسم الحدود في سايكس بيكو ما بين «الدولة العربية» ومنطقة «الحكم الفرنسي المباشر». ولا ننس تعديل الحدود بين لبنان وفلسطين في أواسط العشرينات من القرن الماضي. ولا ننْسَ ما هو أجسم من ذلك بكثير ممّا شهده العقدان اللاحقان: أي منح لواء الإسكندرون لتركيا في سنة 1939 ثم نشوء دولة إسرائيل في فلسطين سنة 1948… هذا كلّه لا يوحي بحصوله نصّ سايكس بيكو ولا خريطته.
بل إنه يجوز القول أن «وعد بلفور» كان فيه نوعٌ من المخالفة لروحية سايكس بيكو. وذاك أن الاتّفاق كان يحدوه، بصدد فلسطين، منطق يستوحي مفهوم «الأرض المقدّسة» المسيحي فيلحظ إشرافاً دوليّاً على هذه الأخيرة ترجمةً لعناية الكنائس المختلفة والدول المتباينة المذاهب. ولكن الاتّفاق يبقى غير غافلٍ عن المواصلات التجارية والعسكرية وحاجة بريطانيا وفرنسا إلى ميناءي حيفا وعكّا وتوزيع الحقوق في السكك الحديدية بين الدولتين… وهذا منطق مختلف برعايته تعدّد الأطراف ذات المصالح في فلسطين عن منطق «الوطن القومي» الذي قال به «الوعد» المعلوم.
أين هي إذن دول سايكس بيكو التي توشك اليوم أن تقسّم أو تزول؟ وأين هي حدود خريطته التي يقال أنها تخرق أو تطمس هنا أو هناك؟ لا وجود لهذه ولا لتلك إلا في إنشاء صحافة الاستعجال وخطابة قومية الغبن المحتاجة، على الدوام، إلى عدوّ لا ينفكّ يتناسل معيداً، في كلّ جيلٍ وحالةٍ، سيرته الأولى. سايكس بيكو هو الخرافة التي تسدّ حاجة المستعجل وتجدّد غضبة المغبون.
قد يقال أن هذا الاتّفاق رمز لتفاهمٍ استعماريّ على اقتسام منطقة المشرق هذه وتوزّع مناطق النفوذ فيها. هذا سبب مقبول لاستذكاره طبعاً، مع الانتباه إلى كونه، في الأصل، وجهاً من تفاهمٍ مثلّث كانت روسيا طرفاً رئيساً فيه قبل الثورة، أي قبل «التصويت بالأرجل» (والعبارة للينين) لصالح الخروج من الحرب. ولكن هذه الأطراف الثلاثة، على وجه التحديد، أي بريطانيا وفرنسا وروسيا، كانت هي الساهرة، من قَبْل سايكس بيكو بعشرات السنين حول سرير «الرجل المريض» العثماني تنتظر أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وقد انضمّ إليها الطرفان الألماني والإيطالي، على الأخصّ، بعد استتباب وحدتيهما القوميتين، ومعهما إمبراطورية النمسا-المجر، بعد نشوئها، في هذا السهر الطويل. وكان البريطانيون قد حموا المريض وعارضوا الإجهاز عليه ردحاً غير قصير من القرن التاسع عشر لتوقّعهم حرباً أوروبية لا تبقي ولا تذر يتنازع أطرافُها أسلابه إذا هو أسلم الروح. وفي العقدين الأخيرين اللذين سبقا الحرب العالمية، دخل الألمان بقوّة في المنافسة على الودّ العثماني وأصبح لهم في الدولة العليّة نفوذ متعدّد الوجوه مهّد لانضمام نظام «جمعية الاتّحاد والترقّي» إلى صفّ إمبراطوريات الوسط الأوروبي في الحرب…
ليس سايكس بيكو إذن سوى محطّة في مسيرة الاقتسام الاستعماري للأسلاب العثمانية، وللعربي منها، على الخصوص. وإذا كانت صراحة إلهامه الاستعماري، من جهة، وإبقاؤه سرّياً، من الجهة الأخرى، يجعلانه وثيق النســــب بما نسمّيه «المؤامرة الاستعمارية»، فإن عصف الأحداث بنصّه وبخريطته وحلولَ صيغٍ أخرى محــلّ الصيغ التي وقع اختياره عليها كافيان للطعن في أهمّيته التاريخية بما هو اتفاق موعودٌ بالتنفيذ. ومهما يكن من أمرٍ، فإن استذكاره بما هو رمزٌ لمطامع مرفوضة شيء والهذيان بــ»دول سايكس بيكو» و»حدود سايكس بيكو» على أنها وقائع قائمة في أيّامنا شيءٌ آخر…
٭ كاتب لبناني

مئوية سايكس بيكو

أحمد بيضون

May 07, 2016

■ اختلّت الثقة في السنوات الأخيرة بصمود وحدة الدولة السورية القائمة، التي زعزعتها تحوّلات الثورة على النظام الأسدي وأودت بها إلى تقاسمٍ متحرّك ما بين هذا النظام وأطراف أخرى، لا يبدو التفاهم بينها محتملاً، لا على اقتسامٍ للبلاد ولا على صيغة مشتركة لحكمها. وكان صمود الوحدة العراقية قد اختلّ كثيراً في العقدين السابقين وتحوّل نظام العراق نحو صيغة فدرالية غير مستقرّة لا يستبعد تطوّرها، بدورها، نحو نوع من التقسيم.
وكانت الحرب اللبنانية قد اجتازت قبل ذلك حقبةً راج فيها شعار التقسيم في جهة من جهتيها ثم عادت الدولة اللبنانية، بعد عقدين انصرما على صيغة الطائف، لتعاني ذواءً وتفتّتاً يتزايدان من سنة إلى سنة… ولا ننسى الإشارة إلى الوحدة المصرية السورية في سنة 1958 ولا إلى القرار الدولي القاضي بتقسيم فلسطين في سنة 1947، وقد استعيد مبدأه في «حلّ الدولتين» الذي يبدو متهالكاً في يومنا هذا. ولا ننْسى، أخيراً لا آخراً، إنشاء دولة إسرائيل في سنة 1948 وما كان من أمرها مع حدود الدول المحيطة بها.
على هذه الخلفية المتشابكة المسارح، يكاد لا يمرّ يومٌ لا يذكر فيه اتّفاق سايكس بيكو في المقالات والخطب، وينسب إليه ما فيه وما ليس فيه، ويزعم له تارة دورُ تأسيسِ الدول القائمة في المشرق ورسمِ حدود لها تعدّ أصلاً للبلاء تارةً ويعلن طوراً أنها تضعضعت من جرّاء الأحداث الجارية أو هي توشك أن تتضعضع.
وفي هذا الشهر الجاري يكون قد مضى قرنٌ بتمامه على توقيع هذا الاتّفاق، وهو قد أصبح أوفر حظوةً عند المعلّقين من «وعد بلفور» الذي حصل بعده بسنة وأشهر، ناهيك بمفاوضات ومعاهداتٍ أخرى هي التي أسّست دول المشرق فعلاً ورسمت حدودها ووزّعت مهامّ الانتداب عليها، وبوقائع من قبيل معركة ميسلون، وما تبعها في سوريا ولبنان، وتنصيب فيصل الأوّل ملكاً على العراق في السنة التالية، ومعه تأسيس إمارة شرق الأردن وتسليمها لأخيه عبد الله، وإبقاء فلسطين منطقة انتدابٍ بلا دولة… ولا تَفُتنا المحطّة التاريخية الكبرى التي هي زوال الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب الكبرى وإلغاء مؤسسة «الخلافة» الإسلامية في سنة 1924… من بين أحداث ونصوص هذا شأنها وخطرها، يصطفي خطباؤنا ومعلّقونا اتّفاقاً كنَسَت نتائج الحرب معظم بنوده، فلم يطبّق قطّ ولا تشبه الحدود التي رسمها حدود الدول القائمة في شيء، ولا هو لحظ هذه الدول القائمة أصلاً… فما قصّته؟
في الشهر نفسه الذي أرسل فيه المفوّض السامي البريطاني في مصر آرثر هنري مكماهون رسالته الأخيرة إلى شريف مكّة حسين بن علي (مارس/آذار 1916) كان يقرّ تفاهم بريطانيّ – فرنسيّ حول مصير سوريا الطبيعيّة وما بين النهرين (العراق).
وكان هذا التفاهم قد تمّ بين مارك سايكس عن بريطانيا وفرنسوا جورج- بيكو عن فرنسا، ثم صدّقه في 15 و16 أيّار/مايو من تلك السنة تبادلُ رسائل بين وزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي وسفير فرنسا في لندن بول كامبون. وكانت روسيا معنيّة بمصير المناطق العثمانية المتاخمة لحدودها فمثـّلها وزير الخارجية سيرغي سازُنوف خلال العام السابق في مفاوضات مثلّثة.
قضى التفاهم بشأن سوريا والعراق بإنشاء دولة عربيّة (أو اتّحاد دول) في سوريا «الداخليّة» التي جعلها مشتملة على شطرٍ من عراق اليوم وأملى تقسيم هذه الدولة إلى منطقتين: «أ» و «ب». وقضى بمنح فرنسا أفضلية في ما ينشأ من مشاريع وما تحتاج إليه الدولة من خبراء وموظّفين في المنطقة «أ» وهي الشماليّة وتشتمل على الموصل وحلب وحماه وحمص ودمشق. وقضى بمنح الأفضليّة نفسها لبريطانيا في المنطقة «ب» وهي الجنوبيّة وتشتمل على كركوك وشرق الأردنّ حتى العقبة.
من جهةٍ أخرى، قضى التفاهم بخضوع الساحل من الإسكندرون إلى صور، وهو المنطقة الزرقاء، لحكم فرنسيّ مباشر. وقضى، على الغرار نفسه، بحكم بريطانيّ مباشر للمنطقة الحمراء وهي ولايتا بغداد والبصرة. وجُعلت فلسطين أخيرا منطقة رصاصية تخضع لإدارة دوليّة يتفق عليها الحلفاء والشريف حسين.
كان هذا الاتّفاق مخالفاً لموقف الشريف حسين المتحفّظ عن إدخال فرنسا في المسألة السوريّة أصلا. وكان الاتّفاق يؤوّل الترتيبات الخاصّة بمصالح بريطانيا في ولايتي البصرة وبغداد (وهي ما وافق عليه الشريف) على أنها حكم بريطانيّ مباشر للولايتين. وكان يفرض لفلسطين مصيراً لم يكن قد ذكر أصلاً في مراسلات الحسين – مكماهون…
لم يطبّق اتّفاق سايكس- بيكو الذي بقي سريّاً إلى أن كشفه ليون تروتسكي مفوّض الخارجيّة في حكومة البلاشفة، بُعَيد الثورة البلشفية، في خريف 1917، وانسحاب روسيا من الحرب. ولكن ما طبّق قد يصحّ اعتباره أبعد من الاتّفاق الذي بقي مدّةً من الزمن يعتبر، على نحوٍ ما، قاعدة انطلاق لما تلاه من صيغ تفاهم جديدة بين بريطانيا وفرنسا. ما حصل فعلاً كان إخضاع سوريا ولبنان بتمامهما للانتداب الفرنسيّ وإلغاء التمييز بين منطقتين شرقيّة وغربيّة مع سحق الدولة «الشريفية» في ميسلون ثمّ إنشاء دولة لبنان الكبير. وضمّت ولاية الموصل لاحقاً إلى ولايتي بغداد والبصرة فنشأ من ثلاثتها العراق المعاصر ووضع كلّه تحت الانتداب البريطانيّ. وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطانيّ أيضاً من غير منحها وضع الدولة.
وكان وعْدُ وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور للّورد ليونيل والتر روتشيلد (في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917) قد أباح لليهود أن ينشئوا فيها وطناً قوميّاً، وكانوا إذ ذاك نحو 11٪ من سكّانها. وتأسّست في شرق الأردنّ وحده من بين مناطق سوريا الطبيعيّة، إمارة تولاها الأمير عبد الله بن الشريف حسين، بعد أن أخرجها ونستون تشرشل، وزير المستعمرات البريطاني، من دائرة وعد بلفور، في مارس 1921.
وفي حزيران/يونيو من السنة نفسها أصبح فيصل، ملك سوريا في العام السابق، ملكاً على العراق، بعد موافقته على الانتداب البريطانيّ.
ما هي دلالات هذه الفوارق الجسيمة بين نصّ الاتّفاق وما صار إليه الواقع التاريخي؟ وما الصورة الإجمالية التي تفضي إليها المقارنة بين هذا وذاك؟ وما الذي يحفز الميل المفرط إلى استدعاء هذا الاتّفاق كلّما اختلّ ميزانٌ في دولةٍ من دول هذه المنطقة؟ نحاول تلمّساً لأجوبةٍ عن هذه الأسئلة في عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني