«شَرْحُ النزاع السوري للغَشِيم»

أحمد بيضون

Jun 29, 2016

«شيءٌ معقّدٌ، سوريّا!»… لفرط ما تُسمع هذه العبارة في فرنسا ـ على ما يظهر ـ صَمّم نفرٌ من ذوات المعرفة بسوريا من فرنسيّات وسوريّات مقيمات في فرنسا أن يسهّلن فهم النزاع الجاري في سوريا على من يرغب في هذا الفهم مهما تكن مَلَكةُ فهمه ضعيفة. عليه اعتمدت صاحبات هذا العمل عنواناً لعملهن «شرحُ النزاع السوري للغشيم»….
وهذه حالةٌ من حالات يتبيّن فيها أن إفهام الغشيم يقتضي من جانب من يحاوله فهماً ومَلَكة فهمٍ رفيعين.
تتوزّع المؤلّفات ما بين صحافيّات وجامعيّات يشتركن في همّ المتابعة الدائبة لتطوّر الأحداث في سوريّا ومحيطها. وهنّ قد أنشأن لعملهن هذا موقعاً خاصّاً على الشبكة مبتغيات التمكّن من تحديثه كلّما لزم الأمر. وقد رتّبنه كأحسن ما يكون الترتيب في مقدّمة قصيرة وخمسة فصول وخاتمة وأوجزنَ فيه ما أمكن الإيجاز. ولم يخفين أن وصول ذيول العنف الجاري في سوريّا إلى فرنسا هو ما وَسَم بميسم الإلحاح حاجةَ الفرنسيين إلى صورة واضحة لما هو حاصلٌ في تلك البلاد. وهنّ صرّحن بأنهن غير محايدات بل هنّ منحازاتٌ إلى حقّ السوريين في الديمقراطية ولكنهن، مع ذلك، يُرِدْن تقديم الوقائع بموضوعية ويجهدن للنأي بما شئنَه عرضاً بسيطاً بمعنى السهولة عن التبسيط بمعنى الابتسار. ويقع القارئ مراراً في العرض كلّه على ما يدعم هذه الدعوى ويطمئنه إلى شمول الإلمام بالمواقف والوقائع وإلى صدقيّة المصادر المختارة.
بعد تعريف موجز جدّاً بالبلاد وبالمرحلة المعاصرة من تاريخها، يخلص الفصل الأوّل إلى تسجيل وجاهة الدواعي التي دعت السوريين إلى التظاهر في الشوارع، في «حمّى الربيع العربي»، وينوّه بالسلمية التي أقام عليها المتظاهرون أشهراً ويذكر مثابرة النظام، في هذه الأثناء، على مواجهة التظاهرات بالرصاص وبالاعتقال الواسع النطاق والتعذيب، وهذان لم يستثنيا الأطفال بل بدآ بهم. هذا كلّه يشهد به إحصاءُ الأمم المتحدة 5000 قتيل في سوريا مع انتهاء العام 2011.
ثم كان أن تسلّحت الانتفاضة. وهذا خيار لا يزال الخلاف قائماً في صواب الإقدام عليه، ولا يستثنى من الخلاف المعارضون، وإن يكن داعي الدفاع عن المتظاهرين وعن الأحياء والقرى الثائرة واضحاً في منطلقه. في 31 تمّوز/يوليو 2011، أعلنت أوّل دفعة من الضبّاط انشقاقها ولم يكن في حوزة هذا «الجيش السوري الحرّ» سوى السلاح الخفيف ولكن النظام ردّ على ظهوره باتّخاذ المدفع سلاحاً للقمع خَلَفاً للبندقية.
يفضي الجدال في صواب الخيار المسلّح إلى آخَرَ في طبيعة الحوادث الجارية بعده: هل هي «ثورة» (باعتبار توجّهها إلى إنهاء دكتاتورية طال العهد بها أزْيَدَ من 40 سنة؟) أم هي قد انقلبت إلى «انتفاضةٌ مسلّحة»؟ أم ان المواجهة بين قوى من أهل البلاد جعلت منها «حرباً أهلية»؟ أم ان عدم التناظر بين قوى النظام المسلّحة، بطيّاراته ودبّاباته ومدافعه، والقوى الثائرة عليه، بتسليحها المحدود، قد انتهى إلى جعل هذا النزاع «حرباً على المدنيين»؟
وعلى نحوِ ما يخيِّر العرضُ الذي نحن بصدده مستشيرَه بين سائر التسميات المتباينة للنزاع الجاري، وهي تحدّد له طبائع مختلفة، لا ينكِر البعدَ الطائفي لهذا النزاع. لا ينكره ولكن ينوّه بالحضور المفرط لطائفة الرئيس العلوية، والعلويون قرابة 10 ٪ من سكّان البلاد، في الجيش وفي شبكة الأجهزة الأمنية: أي في الآلة المستحوذة على لُباب السلطة.
بعد ذلك يؤرّخ العرض لفقدان النظام سيطرته على مناطق متزايدة الاتساع من البلاد وعلى مدن وأقسام من مدن. ويذكر إنشاءَ «المجالس» المكلّفة إدارة الشؤون اليومية للجهات المحرّرة. ويذكر وصولَ التمرّد إلى الحدود التركية وما أتاحه ذلك من تسهيل لإمداد الثوّار ولكن أيضاً لبدء وصول المقاتلين غير السوريين إلى البلاد. ويذكر كذلك قصف الطيران يوميّاً للمناطق الخارجة عليه وما تسبّب به ذلك من قتل ودمار ومن نزوح للسكّان بعشرات الألوف.
تغيّرت الحال كثيراً عمّا كانت عليه في سنة 2011. تراجعت اللغة الديمقراطية في معظم صفوف الفصائل المقاتلة أو انقلبت إلى نقيضها. وبقيت هيئات المجتمع المدني فاعلةً ولكنّ كثيرين من عناصرها استهدفهم القمع الضاري وأبعدهم أو قضى عليهم.
وفي ميدان القتال، يحصي العرض قوىً أربعاً تتواجه في الميدان: أولاها القوى النظامية وأحلافها من المليشيات غير السورية وفي يدها ما لا يتعدّى ثلث مساحة البلاد ولكن هذا الثلث يشتمل على معظم ما يسمّى «سوريا المفيدة». وهي تعوّل على الطيران وعلى الحوّامات وبراميلها المتفجّرة وتستهدف، بخلاف مزاعمها الدعاوية، مناطقَ المعارضة السورية المسلّحة أكثر بكثير ممّا تستهدف مواقع داعش. ثانيتها فصائل المعارضة المسلّحة وقد تراجع في صفوفها حضور الجيش الحرّ وقوي نفوذُ المجموعات ذات الصبغة الإسلامية بإملاءٍ من مصادر الدعم الخليجي المنشأ. تتركّز سيطرة هذه الفصائل في شمال البلاد القريب من الحدود التركية بما في ذلك ما يزيد عن نصف مدينة حلب. إلى ذلك، تهيمن الفصائل نفسها على الأحزمة الريفية لمدن رئيسية أخرى بما في ذلك غوطة دمشق. هذا كلّه يتعرّض لقصف أخذ يشترك فيه الطيران الروسي ابتداء من خريف 2015 وقد نزح من هذه الجهات جانبٌ ضخم من السكّان توزّع بين داخل البلاد وخارجها. ثالثة القوى «الدولة الإسلامية» المعروفة بـ»داعش» و80٪ من عناصرها ليسوا سوريين بل تقاطروا إلى سوريّا من أنحاء مختلفة من العالم. وهي ذات برنامج محوره إحياء الخلافة فيفيض كثيراً عن معارضة النظام الأسدي ويتّسم بوحشية وسائله. وهي قد غدت اليوم في موقع الدفاع بعدما تضافرت لضربها أسلحة طيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وقد انضمّ إليها سلاح الجوّ الروسي في خريف السنة الماضية. القوة الرابعة هي القوة المسلّحة الكردية وهي توالي حزب العمّال الكردستاني بزعامة أوجلان. ولا تعدّ هذه القوّة معارضة للنظام الأسدي ولا تعترف المعارضة السياسية بانتسابها إليها بل تعوّل على «المجلس الوطني الكردي» لتمثيل الأكراد. وأما القوة المسلّحة فتقصر همّها على السيطرة على المناطق الكردية وتحقيق الاستقلال الذاتي. غير أنها اضطلعت بدور بارز في مواجهة التوسع الداعشي وقاتلت مع فصائل من الجيش الحرّ لإخراج داعش من بلدة تلّ ابيض ومحيطها وأفادت من دعم التحالف الدولي لها بالقصف الجوّي وبالتسليح خلافاً للإرادة التركية.
من هذا التعداد لقوى الجبهات ينتقل العرض إلى تعريف للأطراف السياسية ولمواقعها في الصراع ومقاصدها منه. ويقتضي منّا الإلمام بهذا التعريف وقفةً أخرى مقبلة…

٭ كاتب لبناني

حرّية المخيّلة وتكوّنُ اللغة

أحمد بيضون

Jun 25, 2016

لنُشر بادئَ بدءٍ إلى أن كلام القدماء من لغويي العربية في «التوقيف» و«الاصطلاح» إنما ينتمي إلى البحث في «أصل الكلام». ويجوز ـ ولو بدرجة من الجزم أدنى ـ أن نُدرج في هذا الباب نفسه افتراضَهم معنىً مشتركاً للألفاظ المشتقّة من المادّة اللغوية الواحدة. وكانت «الجمعية اللغوية» في باريس قد حرّمت على أعضائها، سنة 1866، في المادّة الثانية من نظامها، نشْرَ الأبحاث في مسألة «الأصل» هذه موحيةً بإدراج الدفق السابق لهذا العهد من الأبحاث المشار إليها في باب اللغو العقيم. وكان هذا التحريم منسجماً تمام الانسجام والمناخ «العِلْمَوي» لتلك المرحلة…
حتى إذا عُدنا إلى قول فرديناند دو سوسور بـ«تحكّمية العلامة» اللغوية، وهو القول الذي اعتُبر مؤسّساً للألسنية الحديثة وللبنيوية، على الأعمّ، في آنٍ معاً، لم يسعنا أن لا نراه جارّاً ذيولَ هذا التحريم. وكان علينا، في كلّ حالٍ، أن نلاحظ فارقَين، على الأقلّ، بين طرحِ سوسور هذا، وهو يصرّح بتعذّر البحث في أصل الكلام، وطرح علماء العربية القدماء، وعلى الأخصّ منهم أصحابُ القول بالاصطلاح أساساً لتكوين اللغة.
الفارق الأوّل أن الهمّ اللاهوتي غائب عن الألسنية المعاصرة وأن الاصطلاح تحكمه الفوارق التي تنتظم بها الحقول الدلالية. والفارق الثاني أن المبدأ السوسوري يضع في الصدارة واقعةَ كثرة اللغات، وهذه واقعة تبقى هامشية، إلى هذا الحدّ أو ذاك، في طرح علماء العربيّة من القدماء الذين يجيز لهم نَفَسُهم الديني أن يفترضوا وجودَ أصلٍ واحد للّغات المختلفة أو لغةٍ لآدم..
وقد كان علينا حين عرضنا (في عملٍ قديمٍ أشرنا إليه سابقاً) لمُشْكل العلاقة بين مباني الألفاظ الصوتية ومعانيها، في حالة العربية، أن نواجه ما عرضه لغويّو العربية من وقائع لا يجوز الإعراض عنها، بلا إمعان نظر، كُرْمى للمبدأ السوسوري. وقد وجدنا مخرجاً لواقعة تعدّد اللغات لا يفرض إطـــــلاق القول بتحكّمية العلاقة، أي بغياب الشبه، بين الدالّ والمدلول. يتيح هذا المخرجَ إدخالُ المخيلة أو «القوّة الواهمة» طرفاً رئيساً في عقد الصلة بين بُعْدَي العلامة هذين. وذاك أننا لم نجد سبباً لاستثناء العلامة اللغوية من حكم الصلة التي تغلب على أنظمة علاماتٍ غير لغوية يجترحها البشر ويدرسها ما أطلق عليه المحْدَثون اسم «العلاميّات العامّة»، ويعتبر سوسور مؤسّساً له أيضاً.
فهل يصحّ مثلاً افتراضُ التحكّمية في العلاقة بين الضوء الأحمر، بما هو دالّ، وفرض الوقوف بما هو مدلول؟ أم أن نوعاً من الشبه قائمٌ بين تصوّرنا لونَ النار والدم، من جهة، وتصوّرنا الخطَرَ الذي ينطوي عليه خرقُ نظام السير، من الجهة الأخرى؟ وإذا قيل إن الصين الثورية جعلت الأحمر لوناً يجيز مواصلة السير فإن ذلك يؤكّد القاعدة مع التشديد على ما تبديه المخيلة من خصوبة في التزامها. وذاك أن الأحمر، في الصين، لون الثورة، وأنه، بهذه المثابة، قرين لا للخطر، بل للإقدام وللسلامة والحصانة.
عليه لا يكون علينا أن نعتبر العلامة اللغوية تحكّميّة، بمعنى الكلمة المطلق، لتفسير تعدّد اللغات، بل يكون علينا أن نفترض لا الشَبهَ بل ما سمّيناه «توهُّم شَبه» بين الدالّ والمدلول. والحال أن التوهّم، ومعه ما يترتّب عليه من تكثيرٍ للخيارات، لا بدّ له أن يعرو الشَبه حين يُطلب الشَبهُ ببن سلسلةٍ صوتية محدودة هي اللفظ وتصوّرٍ تسمّيه هذه السلسلة ولا يكون منتمياً إلى المسموع أو لا يكون منتسباً إلى عالم الحسّيات كلّها أصلاً. في هذه الحالات ـ بل في جميع الحالات، في الواقع ـ ينتمي الشَبه إلى دائرة المَجاز لا إلى دائرة الحقيقة. وهو ما حملنا على تسمية الدرس الذي يُفترض أن يتناول العلاقة بين الدالاّت والمدلولات، في هذا الإطار النظري الذي نقترح، «عِلْم المَجاز الصوتي».
ولنكرّر القول إنه حيث يدخل التوهّم تصبح الممكنات غير محدودة ويتيسّر لكلّ لغة أن تُدرج في نظامها ما تكتنزه من حالات التوهّم تلك ويغدو ممكناً تكاثرُ اللغات على قدْرِ ما تسع المحيّلة. يبقى صحيحاً أن «توهّم الشبه» الذي يبدو واضحاً في الألفاظ التي تسمّيها العربية «حكاية صوت»، مثلاً، لا تدركه الأذن، في غير هذه الفئة من الألفاظ، بدون عناءٍ في البحث، على الأغلب، ولا يتتبّعه السامع بلا حفرٍ وتنقيب. وذاك أن نموّ اللغة وتحوّلاتها تتحكّم فيها عواملُ متنوّعة ليس «توهّم الشَبه» سوى واحدِ منها وأن هذه العوامل تتغالب ويطغى بعضٌ منها على بعض. أيسر مثالٍ لذلك ما يسمّى «الاستثقال» وهو يفضي إلى إبدال صوت بصوت في الكلمة المنطوقة (وحرفٍ بحرف في المكتوبة، تبعاً لذلك) تيسيراً لنطقها. فمثل هذا لا يدخل تحت عنوان «الاصطلاح»، ناهيك بأن يدخل تحت عنوان «التحكّم». وإنما ينتمي إلى فئةٍ أخرى من فئات العلل التي تتحكّم في تطوّر اللغة. وهذه فئات عدّة يتشكّل من البحث فيها وتتبّع آثارها المتشابكة تاريخ اللغات.
بقي أن نشير أخيراً، ولو متعجّلين، إلى ما في هذا كلّه من سياسة. فإن فرضية «التوقيف»، مثلاً، مبطلة للحرية في العلاقة ما بين الناطقين باللغة ولغتهم. وكذلك شأن التقييد الذي يفترض لزومَ شبهٍ وحيد الوجه ما بين الدالّ والمدلول. وأما ما يردّ الحرية ويفتح أبواب الإبداع على مصاريعها، من غير معاندة لوقائع كثيرة تزكّي مبدأ «الشبه» سجّلها علماء العربية، فهو إيكال أمر العلاقة بين الدالّ والمدلول إلى المخيّلة. لا تنهض كثرة اللغات حجّةً في وجه هذا الخيار. فهو لا يبطل التحكّمية من أصلها وإنما يبدّل من معناها ومن طبيعتها إذ يبيح تقبّلها ما توحي السوسورية باعتباره نقيضاً لها: أي ضرباً غيرَ محدود المحتمَلات من الشبه بين الدالّ والمدلول آلتُه المحيّلة وعمادُه حرّيةُ التخيّل… أو أن هذا ما استقرّ عليه بحثنا المتواضع، في الأقلّ.

٭ كاتب لبناني

اللغة أيضاً: ما وراءَ «التوقيف» و«الاصطلاح»

أحمد بيضون

Jun 20, 2016

■ حين نفتح «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس على مادّة من الموادّ التي تتعاقب فيه معالجتها (أي على ما أصبحنا نسمّيه «جذراً» من جذور اللغة)، نقع فيه على شيء مختلفٍ عمّا اعتدنا الوقوع عليه في المعاجم القديمة الأخرى. فهو لا يبدأ معالجته المادّة بتعريف المصدر أو الفعل الوحيد أو الأشهر من بين الأفعال المأخوذة منها، أو الاسم أو غير ذلك من المشتقّات. وإنما يعمِد أوّلاً إلى تعريف المادّة نفسها مبتدئاً بتعداد حروفها الثلاثة (إن كانت ثلاثية) بدون إدراج هذه الحروف في لفظ بعينه ومتخلّصاً من هناك إلى تعيين معنىً عامّ واحد (أو معنيين اثنين في بعض الحالات) تعريفاً للمادّة يفترض أن يظهر له أثرٌ محقّق في مشتقّاتها كافّة.
ويشير عبد السلام هارون، محقّق «المقاييس»، في تقديمه لهذا المعجم إلى اعتماد ابن دريد (وهو معدود بين شيوخ ابن فارس) خطّة مشابهة لخطّة هذا الأخير وذلك في كتابه المشهور «الاشتقاق». ولكن كتاب «الاشتقاق» هذا مؤلّف في أعلام الرجال والقبائل وما متّ إليها بصلة، على التخصيص، يبتغي تأصيلها في العربية وليس مؤلّفاً في متن اللغة عموماً.
وفي زمن ابن فارس، ارتأى ابن جنّي (وهو من مجايليه) أن يوسّع نطاق البحث عن المعنى المشترك أو الأعمّ من المادّة الواحدة إلى جملة «التقاليب» التي تحتملها الحروف الثلاثة لهذه المادّة (إن كانت ثلاثية)… فخلص في كتابه «الخصائص» إلى وجود معنى مشترك للتقاليب الستّة التي تحتملها حروف الكاف واللام والميم مثلاً، يظهر أثره في معاني سائر الألفاظ التي تشتقّ من تلك التقاليب أي من «ك ل م» و»ك م ل» و»م ل ك» و»ل ك م»، إلخ. وقد أطلق اسم «الاشتقاق الأكبر» على هذا التوليد لألفاظ اللغة، لا من توالٍ بعينه لحروف المادّة أو الجذر، بل من كلّ توالٍ تحتمله هذه الحروف نفسها فتتشكّل منها، قبل الألفاظ المتحقّقة في الاستعمال، جملة محدودة من الموادّ المولّدة لتلك الألفاظ. على أن ابن جنّي الذي كان يتابع آخرين سبقوه فيبسط ما جاؤوا به موجزاً متناثراً وينظّمه، لم يفترض الاطّراد في وجود معنىً مشترك مجرّد ينتظم فيه كلّ مجموع من مجاميع الموادّ تلك، وإنما كان حَسْبه ان يكون ذلك كثيراً في اللغة.
ترامت هذه الأطوار في نظرية تكوّن اللغة على مدى القرن الرابع للهجرة: من كتاب «الاشتقاق» في أوائل القرن (أو في أواخر الثالث) إلى «معجم مقاييس اللغة» وكتاب «الخصائص» في أواخره… وفي عصرنا الحاضر، أقدم لغويّ مجدّد هو عبد الله العلايلي على تجاوز القول بوجود معنى مشترك بين مشتقّات المادّة الواحدة أو أيضاً بين الموادّ المتولّدة من تقليب الحروف المشكّلة لأيّ منها… تجاوز العلايلي هذين القولين إلى القول بوجود معنى يمكن تعرّفه لكلّ من حروف الجدول الهجائي بمفرده واستخرج بالفعل جدولاً لمعاني حروف العربية. ومع أن قـــــدماء اللغويين ألّفوا في «معاني الحروف» فإنهم كانوا يريدون «حروف المعاني» (العطف، الجرّ، إلخ…) فيرشدون إلى معانيها للتفادي من الخطأِ في استعمالها. ولم يكن مرادهم القول بمعنى مطّرد في اللغة لكلّ حرف من حروف الجدول الهجائي ولا القول بصلة ما بين هذا المعنى المفترض ومخرج الحرف في آلة النطق.
وما ينبغي التنبيه إليه ههنا هو أن عدم اطّراد الظاهرة، سواء أكانت معنىً قارّاً لحرفٍ منفرد أم معنى مشتركاً لمشتقّات مادّة أو لجملة موادّ، لا يُطعن في دلالتها إذا كثر التكرار بحيث يزكّيها. كذلك لا يعني إفراد الحرف الواحد بمعنىً مستقلّ أن إدراجه المنتظم في بنى الألفاظ المختلفة لا يعدّل من نصيبه في التشكيل الصوتيّ لكلّ منها، بل إن المعنى المفرد للحرف، في هذه الحالة الأخيرة، يُفترض أن يكون قد استُنبط بالتدريج من أمثلة كثيرة متنوّعة اختلف فيها موقعه وحركته وعناصر محيطه.
ليس هذا، في كلّ حالٍ، مقام الجدال في صواب المنحى الذي رسمته هذه المحاولات أو بطلانه. فهذا جدالٌ عويصٌ لا تسعه هذه العجالة. وإنما نبتغي التخلّص إلى ذكر مصبّات متعدّدة لهذا الجدال تتنافس في الخطورة.
وكان قد ظهر منها عند اللغويين القدماء، الذين لم يكن أيّ منهم، يخلو من عناية بالكلام وبالفقه، مصبّ كلامي. فإن هذا التأمّل في نظام العلاقة بين ألفاظ اللغة ومعانيها (أو بين الدالاّت والمدلولات، على ما أصبح يقال في أيّامنا) لا ينفكّ عند القدماء من علماء العربية عن جدالٍ آخر عاصره بين «أهل التوقيف» و«أهل الاصطلاح»، أي بين الذين قالوا بأن اللغة مخلوق أنشأه الذي «علّم آدم الأسماء كلّها» والذين قالوا بأنها تواضع واصطلاحٌ بين البشر.
وكان ابن فارس، مثلاً، من القائلين بالتوقيف فيما بقي ابن جنّي يصرّح بتردّده بين الموقفين. ولا غرو أن تكون مسألة «خلق القرآن» الذي قال به المعتزلة وقال خصومهم من الأشاعرة بخلافه في موقع القلب من هذه المناظرة. وقد كان ابن جنّي مثلاً ذا ميلٍ معتزلي. ويوحي ترجّحه بين موقفي «الاصطلاح» و»التوقيف» بأن المذهب الكلامي لا يحسم السؤال المتعلّق بأصل اللغة وإن يكن كلّ منهما مؤثّراً في الآخر.
لا يتخلّص البحث اللغوي هنا من البحث الكلامي إذن وإن لم يكن الأخير كليّ التحكّم في مآلات الأوّل. وقد كان علينا أن ننتظر قروناً لنرى الألسنية الحديثة تتأسّس على اعتبار اللغة معطىً يُدرس بحدّ نفسه فلا يحتاج درسه إلى البدء من أصلٍ يتأسّس فيه: «خَلْقاً» و»توقيفاً» كان هذا الأصل أم اصطلاحاً وتواضعاً بشريّاً. يسهّل حبسُ اللغة في نفسها، على هذه الشاكلة، تناولَ بناها وقواعدها.
ولكنه لا يبطل القلق الفلسفيّ المتعلّق بنشوئها ولا الأسئلة الاجتماعية المتعلّقة بأدوارها في «سياسة» العلاقات بين الناطقين بها وبين هؤلاء وعوالمهم. ذاك أفق نحاول استطلاع معالمه في وقفةٍ على حِدة…

٭ كاتب لبناني

الكلام بما هو تلحينٌ للوجود…

أحمد بيضون

Jun 11, 2016

مَغْناكِ مُلـتَهِبٌ وَكَأسُـكِ مُترَعَـهْ / فَاسْقي أَباكِ الخَمرَ وَاِضطَجِعي مَعَهْ
لَم تُبـقِ في شَفَتَيـكِ لــذّاتُ الدِمـا / ما تَذكُـرينَ بِـهِ حَـليـبَ المُـرْضِعه
قومي اِدخُلي يا بنتَ لوطَ عَلى الخَنى / وَاِزْني فَإِنَّ أَباكِ مهّـدَ مَضجَعَـه
إِن تُرجِعي دَمَـك الشَهِــيَّ لِنَبْعَــه / كَـمْ جَدوَلٍ في الأَرضِ راجَع مَنبَعَه
(إلخ، إلخ).
لا أَعرِفُ قوافيَ عربية تفوق شِدّتُها ما لقوافي قصيدة «سَدُوم» هذه لإلياس أبو شبكة. العَيْنُ والهاءُ مَخْرجاهما من الحَلْق. فيكاد يصحّ القول أنهما تخرجان من الأحشاء. العَيْنُ هنا مفتوحةٌ على أقصاها والهاءُ ساكنةٌ ينقطع بها النفس اللاهث بغتةً. هذا كلّه يناسب مناخَ هذه القصيدة المُلَعْلِعة أحسنَ مناسَبة.
في هذه القافية، لهفةٌ أو نباحٌ للرغبة تعبّر عنه العين المفتوحة والهاء الساكنة وتكرارهما بأشدّ ممّا تعبّر الواو الجوفاء والهاءُ الساكنة في «وَهْ وَهْ» المقطع المعتمد لمحاكاة النباح.
نأخذ بيتاً من قصيدة إلياس أبي شبكة هذه، بقافيتها: العين المفتوحة والهاء الساكنة (عَهْ، عَهْ، عَهْ…):
سَكِرَتْ بكِ الدنيا سَدومُ فكُلُّها / زُمَرٌ على طُرُقِ الحياة متعتَعَهْ
ونأخذ بيتاً من قصيدة مشهورة لابن زريق البغدادي قافيتها عَيْنٌ وهاءٌ مضمومتان (عُهُ، عُهُ، عُهُ…):
أَسْتَوْدِعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً / بالكَرْخِ من فَلَكِ الأزرارِ مَطْلَعُهُ
لا يفوت الأذنَ المدرّبة أننا انتقلنا ممّا يوحي باللهاث الشديد المتقطّع إلى ما يوحي بصوت العويل. حَصَل ذلك بفعل اختلاف الصوائت (أي ما يسمّى «الحركات») مع بقاء الصامِتَين (أي الحرفين «الصحيحين» العين والهاء) دون تغيير.
في هذا إظهارٌ لأهمّية الصوائت التي لا نعتبرها حروفاً، في العادة، ونستسهل الاستغناءَ عنها في الكتابة، وهي، في حقيقة الأمر، أهمّ الحروف في نظام العربية الصرفي، سواءٌ أكُنّا نرسم الكلام أم نلفظه. يبقى، مع ذلك، أن اقتران العين والهاء، بما لهما من عمق المخرج، هو العُمْدة في الإشعار بالحالتين: اللهاث والعويل. فلا يتيسّر ذلك لأيّ حرفين صامتين يعتمدهما شاعرٌ من الشعراء قافيةً لقصيدة…
ولأَذْكُر هنا، ما دمتُ قد عرّجتُ على قصيدة ابن زريق، أنني «عارضْتُها»، في ما مضى، بقصيدةٍ أصبَحَت قديمةً ومَطْلَعُها:
ساقي الحُمَيّا وهل تُحْصى مَصارِعُهُ / ثاوٍ على الرمْلِ تَرْثيهِ أَصابِعُهُ
ما كـان يُــمْسِــكُ أنـفـاساً مـروَّعــةً / لولا بقـيّةُ صَحْـبٍ لا تُشَيِّعُهُ
صَـحْـبِ الكؤوسِ إذا دارَت يقولُ لهمْ / نَفْسي فِـداءُ وَلِيٍّ لا أُشَفِّعُهُ
(إلخ.، إلخ).
تلك قصيدة كانت تباري في العويل قصيدة ابن زريق. ولا أشكّ أنه كان لقافيته نصيبٌ من سَوْقها إلى هذا المناخ. أي أن ثمّة ههنا تفاعلاً لا فعلاً من جهةٍ واحدة: لا يملي المناخُ النفسيّ، من جهته، قافيةَ القصيدة وسماتٍ أخرى لبنيتها الصوتية العامّة وحسب وإنما تستدرج القافية والسمات المشار إليها صوراً وتعابير نفسية تمليها على الشاعر. فيشترك «الشكل» (إذا أجزنا هذا التقابل) في تعيين «المضمون» بعد أن يكون قد استجاب لهذا الأخير.

٭ ٭ ٭

هذه الملاحظة الأخيرة تردّني إلى جدالٍ كبير يتعدّى نطاق الشعر إلى نطاق اللغة أو إلى ما قد تجوز تسميته الشاعرية اللغوية. نعرف بدايةً لهذا الجدال عند أفلاطون الذي تتواجه في حواره المسمّى «كراتيلوس» نظريتان في أصل اللغة، ترى الأولى منهما في الكلمات أشباحاً أو صوراً صوتية للموجودات وترى الثانية في الكلمات ثمرات اصطلاح وتواطؤ أو تواضع في الجماعة اللغوية بحيث يتحدّد لكلّ دالٍّ مدلوله من غير افتراض محاكاة للأخير من جهة الأوّل. وقد كان أفلاطون من أصحاب الرأي الأوّل إذ هو الرأي الموافق لنظرية «المُثُل» بافتراضه أن الكلمات إنما تلتمس الشبه، لا بالأشياء، بل بالماهيّات التي تجسّدها المُثُل في عالمها العلوي… وأما لغويّو العربية فقد ذهبوا بهذا الجدال نفسه مذهباً دينيّاً فقال فريق منهم بالاصطلاح والتواضع ورأى فريق آخر في اللغة «وحياً» و«توقيفاً» يهتدي بهما الناطقون بها إلى المواءمة المرغوب فيها ما بين الدالّات ومدلولاتها…
لم تكن بنت يومها، إذن، نظريّة السويسري فردينان دو سوسور الذي اعتُبر منطلقاً للمدرسة البنيوية كلّها، في ميدان اللغة وفي ميادين أخرى كثيرة، لإرسائه نظرية العلامة اللغوية على ما سمّاه «التحكّميّة» أي على استبعاد الشبه، إجمالاً، ما بين اللفظة، بما هي سلسلة صوتيّة، ومدلولها، بما هو تصوّر. ذاك مبدأ من اثنين ثانيهما ما سمّاه سوسّور «خطّية الدالّ» وهو لا ينطوى على نظيرٍ للشحنة الجدلية التي في الأوّل. وأمّا «التحكّمية» تلك فهي ما يبيح اعتبار متن اللغة ـ أي معجمها ـ «نظاماً» للفوارق يتحدّد كلّ من عناصره، لا بذاته، بل بموقعه فيه، أي بالحيّز الذي تفسح له فيه شبكة العلاقات ما بينه وبين عناصر أخرى تتوسّع دوائرها باطّراد حتّى تشتمل على اللغة كلّها. ذاك تصوّر لمتنِ اللغة نسجه سوسور على منوال النظام الذي رآه متمثّلاً في بنية أصوات اللغة. فهو قد وجد أن هذه الأصوات إنما يتحدّد كلّ منها بالفارق الذي يرسم له موقعه في فئته من بينها، أوّلاً، وفي جملتها، بما هي منظومةٌ، على الأعمّ.
كانت السوسورية حين فرضت نفسها نموذجاً احتذي، على أنحاءٍ مختلفة، في علوم الإنسان والمجتمع كلّها وفي الفلسفة، تجد الحجّة الأوثق التي تسند إليها مبدأ «تحكّمية العلامة» في واقعة تعدّد اللغات بما هو بديهة حسّية نطاقها عالم البشر كلّه… فيتعذّر نكرانها أو التجاوز عن البحث في دلالتها. فإذا كان الدالّ، بما هو سلسلة صوتيّة، «يحاكي» مدلوله (على ما افترض أفلاطون مثلاً) فكيف جاز أن تتكاثر الدالاّت للمدلول الواحد هذا التكاثر كلّه وأن تختلف هذا الاختلاف البيّن كلّه من لغةٍ إلى أخرى. فلا يظهر شبه، لجهة التشكيل الصوتي، ما بين أسماء البقرة، مثلاً، في كلّ من اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية؟
هذا السؤال بذلتُ محاولة منشورة للمجادلة فيه قبل نحوٍ من أربعين سنة. وقد أعود إلى فحوى هذه المحاولة في عجالةٍ أخرى. واليوم يعتبر المنحى البنيوي ذاوياً أو متروكاً بعد عزّ. فهو قد راح يفقد نفوذه بسرعة قبل أربعة عقود أو خمسة، وإن يكن لا يزال يجرّ هنا وهناك أذيالاً لما بناه من أمجادٍ متوسّلاً في ذلك صمودَ أعمالٍ كبرى للذين اعتمدوه أو استوحوه، لا في علوم اللغة على التخصيص، بل في الأنثروبولوجيا والتاريخ، على الأخصّ، وفي غيرهما من علوم الإنسان والمجتمع.
ذاك مجالٌ رحبٌ لا نجاوز هنا الرغبة في إثارة شهيّة القارئ للإلمام به إن كان من غير الملمّين. ولعلّنا نعود إلى بعض مسائل اضطربت بها جنباته في فُرصٍ أخرى تُواتي. وما ابتداء كلامنا هذا من الشعر وقوافيه وتخلّصنا من هناك إلى مسألة العلامة اللغوية إلا إشارة إلى توزّع المواقف في تلك المسائل، على تنوّعها، وفي النظمات المعرفية التي تتداولها، ما بين طرفَيْ إشكالٍ أصليّ واحد.

كاتب لبناني

“المسألة الشرقية”

أحمد بيضون

Jun 06, 2016

في دفْق الكتب التي لا تزال تواكب الذكرى المئوية لنشوب الحرب العالمية الأولى، وقعتُ، قبل مدّة، على واحدٍ أرى في قراءته «تغريبةً» نتعلّم منها، نحن الشرقيين، أشياء كثيرة عظيمة الأهمّية ممّا يتعلّق بتشكّل الموقع الذي نحتلّه اليوم من العالم، وقد ارتسمت معالمه الكبرى في مدى القرون الثلاثة الماضية.
ذاك كتاب المؤرّخ الفرنسي المعروف جاك فريمو «المسألة الشرقية» وقد صدر عن دار «فايار» الباريسية سنة 2014. وهو ـ على ما هو ظاهرٌ من عنوانه ـ لا يتّخذ الحرب العالمية الأولى موضوعاً رئيساً له ولكن هذه الحرب تقع موقع المفصل الرئيس من المرحلة المديدة التي يتناولها إذ تغيّر في غدواتها تشكيل المنطقة الشاسعة التي تمثّل مدار ما يسمّى «المسألة الشرقية» تغيّراً يعدّ فاصلاً وإن يكن غير مبتوت الصلة بموازين ما قبل الحرب.
يباشر فريمو رحلته الطويلة من مدخلٍ بعيد جدّاً، هو تحوّل معنى قسمة العالم القديم إلى شرق وغرب، بين عهدي هوميروس والإسكندر الأكبر. على أنه يعيّن منطلق ما يسمّيه «المسألة الشرقية» في أواسط القرن الثامن عشر أي، على التخصيص، في الحرب التي أعلنها السلطان العثماني مصطفى الثالث في سنة 1768 على صاحبة العرش الروسي كاترين الثانية. وهذه مرحلةٌ أولى تنتهي مع انهيار العهد النابليوني في أوروبا في سنة 1815. وإذا كانت أوائل هذه المرحلة قد شهدت هزيمةً عثمانية قاصمة، أمام الزحف الروسي، على الرغم من الدعم الفرنسي للعثمانيين، فإن آخرها أخرج فرنسا إلى حين من الصراع، وافتتح عهداً من التنازع الروسي البريطاني على الشرق الذي كان يبدأ في البلقان في تلك الأيام وترسم أهمّ معالمه الجغراسية طريق الهند وضرورات حمايتها في البرّ وفي البحر…
هذا الشرق الكبير الذي يجول في آفاقه كتاب فريمو لا تختصر «مسألته» الدولة العثمانية على ما قد يزيَّن للعربي الذي كانت بلاده ملحقةً بهذه الدولة أن يعتقد. وإنما هو مشكّل، عند تبلّر «المسألة الشرقية»، من ثلاث إمبراطوريات تاريخية متمايزة الملامح هي العثمانية والفارسية والمغولية (وقد زالت هذه الأخيرة في وسط القرن التاسع عشر). ولكن لا يبدو مجرى العلاقات بين هذه القوى موضوعاً متصدّراً للمسألة الشرقية. فهذه الأخيرة مسألة أوروبية تستدرج إلى الصراع هذه أو تلك من الدول الخمس التي كانت قد أصبحت غالبة على أوروبا في القرن التاسع عشر، خصوصاً منها روسيا ذات المطامح المتّصلة بالبلقان وبآسيا الصغرى والقوقاز ووسط آسيا وبالبحار الدافئة.
وبريطانيا ذات المصالح المواجهة لهذه الأطماع الروسية بحكم هيمنتها على الهند، بالدرجة الأولى، وعنايتها بأمن الطريق (أو الطرق) إليها.
هذا الصراع، بأفقه الجغراسي الشاسع، هو ما رسم، على الخصوص، معالم «اللعبة الكبرى»: وهذا هو الاسم الذي أطلق منذ سنة 1820 على تنازع روسيا وبريطانيا مناطق السيطرة في آسيا الوسطى وعلى تخوم الهند. وهو الصراع الذي بقيت الدولة العثمانية تتوسّطه مضطرّة وتستقبل على أراضيها بعضاً من أهمّ فصوله بحكم هيمنتها على شرق أوروبا وعلى الشرق العربي. ولعلّ أبرز هذه الفصول، في القرن التاسع عشر، حرب القرم وهي، بأطرافها وبأحجام ما ضلع فيها من قوىً، نوعٌ من الحرب العالمية، في الواقع، ولكنّها دارت في رقعة من الأرض محدودةٍ نسبياً لتنتهي إلى تأكيدٍ للتصدّر البريطاني بين قوى المرحلة وفي التنازع الذي راح يزداد احتداماً على ممتلكات الدولة العثمانية خصوصاً. وكانت الخشية بالغةً من أن يفضي زوال الدولة العثمانية إلى حربٍ بين الورثة الأوروبيين المحتملين لا تبقي ولا تذَر. وكان السلوك البريطاني، في هذه «المسألة» يضع الخشية المذكورة في حسبانه.
تلك هي المحطّات التي شهدت ترسّخ هذا المفهوم: مفهوم «المسألة الشرقية» وقرينه مفهوم «اللعبة الكبرى». وليس لنا، في هذه العجالة، أن نمضي قدماً في عرض الشريط الحدثي الذي ينسجه كتاب فريمو. فهذا الكتاب الضخم الذي يبدأ حيث أشرنا يصل بنا إلى سنوات «الربيع العربي» الذي لا نزال نعاين (أو نعاني) مخاضه. هو يصل إلى هنا ـ بعد ما ذكرنا ـ عبر أطوار الصراع الروسي البريطاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعبر أدوار أوروبية أخرى في «المسألة الشرقية» (فرنسية، ألمانية…) أخذت تتنامى أو عادت إلى التنامي، وعبر الحرب العالمية الأولى (التي يراها «حرب إمبراطوريات») وما جاء في ركابها من تغيير شرقي وغربي، ثم عبر الحرب العالمية الثانية وما تبعها من حرب باردة ومن تحوّل في أوضاع البلدان التابعة أو المستعمرة، فإلى انهيار القوّة السوفييتية مع حرب أفغانستان وإلى حروب الخليج التي أعقبت الثورة الإيرانية، إلخ.، إلخ.
في تناوله هذا كلّه، يوسّع فريمو كثيراً ما صدقَ «المسألة الشرقية»… ولكن ميزة هذا الكتاب ليست مَدَّه تاريخ هذه المسألة من وسط القرن الثامن عشر إلى أيّامنا. وإنما هي موسوعيّته وتمكّنه. فهو لا يخلّف وجهاً من وجوه هذه المسألة لا يرسم ملامحه بدقّة وجزالة معرفة. لا ريب أن الوجه الجغراسي يبقى الأهمّ. وهو وجه تعلن ملامحه تغليب الطرق والتضاريس والموارد الطبيعية، أي أوصاف البلدان والمناطق على أوصاف الشعوب. أي أن هذا «العلم»، في ظرف نشأته، «علم» مكرّس لحاجات الغزاة المتغلّبين. ولعلّ مردّ هذا المنحى، فيما يتصل بـ»المسألة الشرقية» إلى كون القوى الأوروبية التي وضعت تصوّر المسألة المذكورة كانت ترى، قبل كلّ شيءٍ، في هذه الأصقاع، طرقاً بحريّة وبريّة للتجارة وللعسكر ومؤنه وتضاريس وموارد متّصلة بالتجارة والحرب وموازين قوى متنوّعة النطاق، إلخ. لذا نحتاج إلى كثير من المعرفة الجغرافية: الطبيعية والبشرية والاقتصادية، لقراءة كتاب فريمو ونتعلّم منه كثيراً من هذا كلّه أيضاً.
ولكن السياسة والحرب والتجارة وما جرى هذا المجرى لا تستنفد عمل فريمو. فالرجل واسع الإلمام بالاستشراق، الذي هو وجه من وجوه المسألة: من أدب الرحلات إلى الأعمال الفنية والأدبية إلى الحصائل العلمية إلى عمل إدوارد سعيد ونقده. يبقى أمرٌ يصحّ أن يؤخذ على فريمو وهو ما يبدو من ضعف معرفته بما يقابل الاستشراق: أي بتعبير شعوب الشرق أو جماعاته عن معاناتها «المسألة الشرقية» ومواجهتها لأطرافها الأوروبيين. هذا الضعف يبرزه خلوّ لائحة المراجع في الكتاب من مصادر شرقية باستثناء القليل المترجم أو الموضوع بلغة أوروبية. معنى هذا، في نهاية المطاف، أن هذه «المسألة الشرقية»، حين يطرح سؤال «الذات» التي تعيّن لها هويّتها، إنما هي ـ مرةً أخرى ـ مسألةٌ أوروبية أصلاً وفصلاً.
يمتّ إلى هذه الهوية بصلةٍ ظهورُ الهويّات الضعيف في الكتاب. وهو ضعف قد يكون سببه (أو يعزّزه) المنظور الجغراسي الغالب. فمع أن موازين السكّان تبدو موضوع عناية ولا يخلو العرض من ذكر القبائل والطوائف والأعراق (وهي الوحدات التي يبدو الشرق البشري متشكّلاً منها) فإننا نتعلّم أن القوميّات الكبرى التي اعتدنا البحث عن أصولٍ تاريخية راسخة لها هي، في الواقع، تكاوين ملتبسة، تأخّر ظهورها على مسارح الصراع إلى زمن قريب إلينا ويبقى أثرها في المواجهات التاريخية، قبل ذلك، موضوعاً مشْكلاً. ذاك شيء لا يمكن قوله عن الهويّة الدينية التي يتناول فريمو أطرافاً من حديثها وهو حديثٌ طويل…
مهما يكن من شيءٍ، يستحقّ هذا الكتاب الصعب القراءة أن يقرأه من يعرف الفرنسية من «الشرقيين» ويستحقّ ـ لا ريبَ ـ أن يُنقل إلى العربية.

٭ كاتب لبناني