أَضْرِحةٌ رقميّة…

أحمد بيضون

july 30, 2016

قبلَ أربعة أشهر تقريباً، أنشأتُ مدوّنة جديدة احتفظتُ لها باسم القديمة المتوفّاة التي ذكرتها في عجالتي الماضية. وفي أربعة أشهر أصبح في المدوّنة الوليدة نحوٌ من 140 عنواناً كثرتهُا الكاثرة عناوين لمقالات وبينها نيّفٌ وعشرة كتب، وهذا كلّه موعودٌ بالزيادة… ما الذي حملني على هذه الردّة التي لم يلبث أن واكبها تقليص صارم جدّاً لنشاطي الفيسبوكي؟ أعتقد أن الأمر الأهمّ هو عودة صمدَت إلى انتظامٍ أسبوعي في الكتابة. مضى على هذه العودة ثلاث سنوات وبضعة أشهر ولكن تخلّلتها عطلتان شاسعتان مجموعهما أقلّ من نصف هذه المدّة بقليل.
ومن اعتمر قبّعة المعلّق الصحافي لا يلبث أن يلاحظ أمرين. الأوّل أن المقالات يتكاثر عددها بسرعة وتروح تبدو شتاتاً يستحسن جمعه وتنظيمه. وثانيها أن المدوّنات تبدو (بسبب الأمر الأوّل) وكأنّما أنشئت لكتّاب المقالة الصحافية. وذاك أن خمسة كتبٍ أو عشرين كتاباً لا تستلزم مدوّنة ولا تستحقّها. وأمّا مئة مقالة صحافية أو مائتان (ناهيك بألفٍ أو بضعة آلافٍ في حالة الصحافيّ المخضرم) فتستدعي المدوّنةَ بل توشك أن تفرضها فرضاً. وذاك أن المدوّنة، بخلاف الفيسبوك وتويتر وغيرهما، تتيح، فضلاً عن مزيّة البحث وعن التتابع وفقاً لتاريخ النشر، مداخل متعدّدة للتبويب يعيّنها المدوّن نفسه ويسعها الوصول بالنصوص إلى ما يشبه الفهرسة. وفي هذا علاج سائغ لآفة الكثرة في العناوين والتشتّت في الموضوعات.
وأمّا آفة المدوّنة، لمن جرّب الفيسبوك مثلاً، فهي العزلة، لذا استبقيتُ، متّبعاً سُنّةَ آخرين، جداري الفيسبوكي متاحاً للإعلان عمّا أنشره في الصحيفة وأنقله إلى المدوّنة. وأمّا الفيسبوك بسائر ما زاولتُه لسنواتٍ من وظائفه، وعلى الأخصّ كتابة الخاطرة، فقد ضجرتُ منه وتنحّيت عنه للمرّة الخامسة أو العاشرة: لا أعرف. ومن يبحث عن أسباب للضجر من الفيسبوك لا يعدمها، فهي كثيرة… كثيرةٌ كثرة المغريات بالإقبال عليه. وأمّا أنا فأملّ المكثَ في أيّ موضع أو نوع إذا طال بي المكث. عليه أمنح نفسي حرّية التنزّه بين ما أظنّ أنني أُحْسنه من أعمال جانحاً نحو ما أشعر بجاذب إليه، في وقتٍ بعينه من الأوقات. وهذا بمقدار ما تعطى هذه الحرّية لواحدنا… فهي نعمة تحدّ منها أو تُبْطِلها ضروراتٌ عملية شتّى ولا يضمن دوامها ولا مجرّد وجودها شيء.
أيّاً يكن الأمر، قد لا يرى المدوّن في عزلة مدوّنته أمراً ينتقص من الحاجة إليها أو، على الأعمّ، من شرعية الإبقاء على هذه الصيغة من صيغ الظهور الشخصي في الشبكة. وهذا حقّ محفوظ لصاحبه. على نحو ما ينبغي أن يبقى محفوظاً الحق في الندوة المغلقة التي يُقْتصر حضورها على عشرة أشخاصٍ، مثلاً، ومعه الحقّ في المناظرة المتلفزة التي يشاهدها ملايين يُمْنحون مبدئيّاً الحقّ في طرح الأسئلة على المتناظرين! الحقّ في إنشاء مدوّنة لعشرين متصفّحاً، على غرار ما صنع صديقي الذي نوّهتُ بأريحيّته في عجالتي الماضية، ينبغي أن يبقى محفوظاً ومعه الحقّ في عرض النفس على جماهير الفيسبوك ليلَ نهارَ إلى حدّ إلغاء الحياة الحميمة (أو الإيحاء بإلغائها بالأحرى) وإغراق المتصفّحين بتوافه الحركات والسكنات. هذا حقّ وذاك حقّ ويبقى في سماء المُثُل الحقوقية متّسع للحقّ في نقد هذا وذاك أيضاً!
أدرجت مقالاتي الأسبوعية في المدوّنة إذن ومعها الكتب. وأُزْمع استعادةَ نصوصي القديمة (أو ما أتمكّن من تحصيله منها)، بما فيها تلك السابقة للعهد الرقمي ما دام «المسح» قد أصبح يتيح إخراج صيغ رقمية لها. ولكن جمعها وترتيبها يقتضيان وقتاً… سأنشر المقابلات أيضاً، بأنواعها، وقد أعلنت الصيام عن الجديد منها من سنوات. وقد أنشر ما في حوزتي من مراجعات لأعمالي كتبها آخرون. وقد أجد غير هذه كلّها ما أستنسب نشره أيضاً.
وما دامت مقالتي الأسبوعية تنشر في وقتها، أي ما دام الصحافيّ حاضراً في سيرتي العملية، ستبقى المدوّنة حيّةً أيضاً تنتعش بهذا المدد الذي لا يخطئ ميعاده. ولكن لا يوجد ما هو أضعف احتمالاً من استمرار الحضور المذكور. فأنا لا أفلح في اعتياده ولا أنفكّ أحلم بوقفه. فإذا انقطع هذا الحضور ستخبو حركة المدوّنة وتوشك أن تنغلق، شأن القوقعة، على عناوينها الكثيرة المتزاحمة وقد تموت أو تكاد: شأنَ مدوّنة صديقي الظريف الذي كفّ من زمن غير قصير عن النشر في مدوّنته وعن إرسال الرابط إلى حواريّيه العشرين.
وحين يكون المرء قارئاً لعبّاس بيضون (ودعكَ من صلة القربى) لا يُستغرب، مع الوصول إلى حديث المدوّنة الميّتة، أن يحضر لناظرَيْه عنوانٌ بعينه لمجموعة من مجموعات عبّاس الشعرية: «مدافن زجاجية». وذاك أن المدوّنات، إذا هي ماتت بعد اكتمال، تستوي لأصحابها ما هو خلاف «المدافن الزجاجية». تستوي «أضرحةً رقميّةً» لهم. فإذا كان العنوان «العبّاسيّ» يستدعي صورةً صاعقةَ المادّية هي صورة الجثّة الآخذة في التحلّل، يشفّ عنها الزجاج، فإن الجَدَث الرقميّ، بما هو مركّبٌ لا مادّي، يحيل ساكنه إلى فقيد أثيري مادّته كلمات قد أصبحَت ـ بخلاف ما كان مألوفاً في الكلمات ـ في غنىً عن الحبر وعن الصوت معاً. على الرغم من هذا، قد يبدو الضريح الرقمي، لمن يشفع النظر فيه بالقهقهة المناسبة، شبيهاً بمزار شيعيّ كثير البهارج وقد يبدو أشبه بجدثٍ وهّابيّ مستجيب للسُنّة القائلة «إن خير القبور الدوارس». ولا تحول تلك الحال ولا هذه دون أن يغرق الضريح في رمال وحشته قبل أن يلحق به منشئه. ولا تحول أيّ من الحالين أيضاً دون أن يبقى للضريح ـ بخلاف ذلك ـ زوّار يحضرون لقراءة نصّ ما، مستودَعٍ فيه، أو يحضرون مستغفرين لساكن الكلمات ذاك ذنوباً لا تحصى بقيت مقيمةً معه في أثير ضريحه.

٭ كاتب وأكاديمي لبناني

المدوّنة

أحمد بيضون

Jul 23, 2016

قبلَ عشر سنواتٍ أو نحوها، أنشأَ لي صديقٌ خبيرٌ في حقل الاتّصالات «مدوّنةً» جعلْنا عنوانَ آخِر كتابٍ كان قد صدر لي اسماً لها. كان الصديق، مهندسُ الاتّصالات، صحافيّاً أيضاً أمضى ردحاً من حياته العملية محرّراً في وكالة من وكالات الصحافة العالَمية. وكان قد أنشأ لنفسه مدوّنة ظلّت، من بين المدوّنات، الوحيدة التي نشأت بيني وبينها أُلْفة. وكان قد تخيّر من قائمة العناوين في بريده الإلكتروني لا أكثرَ من عشرين اسماً راح يرسل إليهم الرابط كلّما نشر مقالةً في مدوّنته. عمليّاً كان قد عاد، وهو المتقاعد، يزاول مهنة المعلّق الصحافيّ لحسابنا وحدنا، نحن أصدقاءه العشرين. فلم يظهر من عَدّاد المتصفّحين في المدوّنة أنها تشهد حركة تصفّح يعتدّ بها تتجاوز نطاقنا نحن إخوان الصفا المنتخبين.
كان صاحبنا يمدّنا، بانتظام مدهش، بمقالة قصيرة، هي تعليق سياسي في الغالب، يبدو بجرْسِه العالي وسخريته القارصة، وكأنّه يثأر من حياد اللهجة الباردة التي كانت نصوص الرجل ملزمةً بها، ولا ريب، في سنوات عمله في الوكالة. وكان في هذا ما يشعِرُ كلّاً منّاً بمودّة واعتبارٍ خاصّين جدّاً يبذلهما له صاحب المدوّنة. فليس قليلاً أن تكون عضواً في جماعة ضئيلة العدد إلى هذا الحدّ يحصُر بها معلّقٌ محترف خلاصة رأيه كلّما استوقفه جديد في السياسة. وفي ما عدا السياسة، كان صديقنا، وهو ذوّاقة موسيقى وسينما أيضاً، يتحفنا، بين الحين والآخر، برابطٍ لعملٍ أوبرالي سامي المقام أو لفيلم من الروائع المخبّأة في الدهاليز من تاريخ السينما العالمية.
علّمني صديقي كيف أنشر نصوصي على مدوّنتي الجديدة ونشرت عليها فعلاً من المقالات ما قد لا يفوق أصابع اليد الواحدة عدداً. على أنني لم ألبث، لسببٍ ما قد يكون الاستغراق في عملٍ طويل النفَس، أن جَنَحتُ إلى نسيان المدوّنة. وقد راحَ نسياني إيّاها يطولُ إلى حدٍّ جعَلَ تفقّدها، حين كنتُ أتذكّر وجودها، بين سنة وأخرى، يقتضي منّي بعض التجوال، على غير هدىً تقريباً، في أدغال الشبكة وفَيافيها إذ كنت أكتشف أنني نسيتُ الرابط! كنت قد نسيتُ أيضاً كيف يُنقل مقالٌ بنصّه إلى المدوّنة!
والراجح أن هذا النسيان كانت علّته ضعف إقبالي، في تلك المرحلة وقبلها، على المقالة القصيرة: المقالة المشابهة، بانتسابها إلى حرفة التعليق الصحافي، لما كان مرشدي المذكور إلى عالم التدوين ينشره في مدوّنته. كنتُ أكتبُ مقالاتٍ يغلب من بينها النوع الطويل ذو الطابع الجامعي أو النَسَب البحثي ولا أزور الصحافة اليومية ولا الأسبوعية بمقالةٍ إلا لماماً. وهذا مع أنني كتبت، قبل دهرٍ، لأسبوعية تنظيم سياسي كنت في عداد أعضائه وطال ذلك سنتين وبعض سنة، ابتداءً من بزوغ سبعينيات القرن الماضي أو من عشيّتها، ولكن بلا انتظام. ثمّ كتبتُ لأسبوعية أخرى (مقالتين كلّ أسبوع!) بانتظامٍ كلّي مدّة سبعة أشهرٍ أو ثمانية بدأت مع شبوب الحرب اللبنانية وصاحبت استتباب الأمر لتلك الحرب في بيروت… إلى أن وضع حدّاً لتيّار حماستي هذا سكوتُ المجلّة إلى أبدٍ لا يزال مستمرّاً. ذاك زمن كان قد مضى وانقضى وفقدت بعدَه استعداد الصحافيّ المزاجيّ، المزكّي للانتظام الدوري في توليد المقالة. وهو استعداد لا أزالُ غير واثقٍ من تأصّلي فيه أو تأصّله فيّ حتى هذا اليوم.
فما أنا متأصّلٌ فيه، في الواقع، إنما هو المُهل الطويلة التي أقتطف منها أوقاتاً للكتابة ليست هي الأوقات المتاحة موضوعيّاً، على التعميم، بل هي الأوقات الموافقة لإقبالي النفسي، أي، على الأخصّ، لنضوج علاقتي بالموضوع… لذا أهملتُ مدوّنتي الأولى تلك. كان معظم مقالاتي، طويلها وقصيرها، قد أصبح مجموعاً في كتب. ولم يكن شاع نشر الكتب على الشبكة ولا بدت الكتب وحدها ملائمة لنوع «المدوّنة» هذا ولو صحبتها «أوراق» أو «مقالات» من الأنواع التي كنت أُعدّ معظمها إسهاماً في ندوةٍ أو في كتابٍ جماعيّ أو في عدد خاصّ من مجلّة شهرية… كان من شأن هذا كلّه أن يثمر عدداً محدوداً نسبيّاً من العناوين يتوزّع عدداً ضخماً من الصفحات. وهو ما كان من شأنه أن يكسب ظهور المدوّنة صورة الهجمة الكاسحة ثم لا تلبث أن يبدو عليها العياء إذ تصبح مضطرّة إلى انتظار يطول أسابيع أو أشهراً قبل أن يظهر فيها عنوانٌ جديد.
بديل آخر من المقالة القصيرة لم يخطر لي، في حينه، أن أعتمده مادّةً لمدوّنتي، وهو الخاطرة. وهذا مع أن المدوّنات قد تكون وُجدَت، في الأصل، لاستقبال الخواطر… أو قد يكون هذا النوع من النصوص أكثر الأنواع ملاءمةً لها، في الأقلّ. ولا أحاول تفسيراً لهذا الإهمال الذي عوّضته لاحقاً في الفيسبوك أيّما تعويض. فالواقع أن الفيسبوك أغراني، لمزيّةٍ خاصّةٍ به، بمزاولة ما سمّيته «سيرة للخاطر» أو باستيقاف «نُتَفٍ» من هذه «السيرة» بالأحرى. ومزيّة الفيسبوك، لهذه الجهة، هي أن ما قد نبذله فيه من جهد «الكتابة»، بمعنى الكتابة الاحترافي، لاستيقاف الخاطرة وإخراجها يلتقي جمهور قرّاءٍ فوريّاً. وهذا مختلف عمّا يحصل في المدوّنة التي يبدو نشر الخواطر فيها قريب الشبه بتدوينها في دفتر يوميّاتٍ سرّي أو شبه سرّي. بل إن النشر في الفيسبوك يبقى مختلفاً جدّاً حتى عن النشر في صحيفة وهذا أيضاً لجهة التأثير الذي تحدثه في النصّ فوريّة تلقّيه المنتظر من جانب جمهورٍ لا ينام!
أنشأتُ مدوّنةً إذن. فما الذي يرجوه صحافيّ متردّد (هو أنا) من اعتماد هذا الوسيط بينه وبين جمهور مفترض يبقى محتاجاُ إلى تعريف؟ وما مصير هذا الوسيط إذا انتكسَت صحافية الصحافي؟ أعود إلى هذا القبيل من الأسئلة في عجالتي المقبلة.

٭ كاتب لبناني

سوريّا: أرقامٌ لوصف ما لا يوصف

أحمد بيضون

Jul 13, 2016

أبقى مع الموقع الفرنسيّ الذي اقترَحْتُ ترجمةً لاسمه «شَرْح النزاع السوريّ للغشيم» وقد أوجزتُ، في عُجالتين سابقتين، عَرْضَه صورةَ المواجهة الجارية في سوريا أو شريطها وتعريفه أطرافَها في الميدان العسكري وفي المضمار السياسي. على أن ما هو أوقعُ من هذه التعريفات للعناوين من عسكرية وسياسية جملةُ أرقامٍ يقدّمها العرض يمنحها ما سبق سياقاً ولكنها تخلع حياد الأرقام البارد لتقول بأفصح لسان حقيقة ما حصل ويحصل لسوريّا وللسوريين.

250 ألفاً إلى 400 ألف سقطوا قتلى. بينهم 185 ألف مدني قتل النظام الأسدي 95٪ منهم ورُبْعهم من النساء والأطفال. 11000 معتقل وثّق تقرير سيزار المشهور موتهم تحت التعذيب، وقال المدّعي العامّ السابق للمحكمة الدولية الخاصّة بسيراليون إن صورهم «لم يشاهَد ما يناظرها منذ أوشفيتس». وكان مصدر هذه الصور ثلاثة مراكز اعتقالٍ لا غير من أصل خمسين منتشرة في أرجاء البلاد. 60000 مفقود ومليونٌ ونصف مليون من الجرحى. تركيزٌ في الفتك على الجسم الطبّي الذي فقد 654 من عناصره قتل النظام الأسدي 93٪ منهم فيما غادر البلاد 15000 آخرون.

26٪ من المشافي أصبحت عاجزة عن العمل و33٪ أصبح عملها متعثّراً جدّاً. هذا في بلاد يحتاج فيها 11 مليون نسمة إلى العناية الطبيّة و13 مليوناً إلى المعونة الإنسانية وقد عاودت الظهور فيها أمراض خطيرة كانت قد اختفت منها شلل الأطفال وحتى الكوليرا. أعمّ من هذا أن معدّل الولادات قد هبط بمقدار 50٪… وهو ما يفاقم ما بات مشهوراً من أن 4,8 مليون من السوريين قد غادروا البلاد وأن 7 إلى 8 ملايين منهم قد نزحوا في داخل البلاد فأصبح واحدٌ من كلّ اثنين من السوريين يقيم في غير مسكنه. هذا ويقدّر عدد المساكن المدمّرة بـمليونين ومائة ألف ويزيد عدد المدارس المدمّرة عن 7000. وقد باتت الكلفة المقدّرة لإعادة الإعمار تبلغ 300 مليار دولار.

وفي الاقتصاد، هبط الناتج الداخلي بمقدار النصف وتراجع إنتاج التيّار بمقدار 70٪ والإنتاج الزراعي بأزيد من 40٪ وبلغ معدّل البطالة 50٪ ومعدّل التضخّم السنوي 50٪. وارتفع سعر الدولار في السوق السوداء من 47 ليرة سورية تقريباً في مطلع سنة 2011 إلى 220 ليرة في ربيع 2015 ونحوٍ من 300 ليرة في السوق السوداء. وقد دان الاقتصاد السوري بنجاته من الانهيار الكلّي للدعم الإيراني الضخم بالدرجة الأولى… من جهة أخرى، تناوب النظام وداعش على ثروة سوريّا التراثية تدميراً وسرقةً لتمويل الحرب.

وأمّا تدبير السوريين معاشهم فلا يزال قريباً، في بعض وجوهه، من حاله المألوفة في المناطق التي يسيطر عليها النظام: إذ هم فيها بمنجاةٍ من القصف إجمالاُ ويفيدون من الخدمات العامّة من إدارية وتعليمية وصحّية ولكن يشكون تقطّع التيّار وقلّة المياه وندرة محروقات التدفئة وغلاء السلع الضرورية الفاحش. وأمّا في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة فتتبدّى ضراوة الحرب بصورها كلّها. فبعض هذه المناطق محاصر حصاراً مطبقاً وهي عرضة للقصف الذي بات الطيران الروسي طرفاً فيه.

وقد بقي فيها من لا سبيل له إلى الرحيل. وتُوزَّع مقوّمات الحياة اليومية وتنظَّم الخدمات الأساسية محلّياً وتمارَس نشاطات تجارية مشروعةٌ وغير مشروعة. وأشدّ ما تبلغه قسوة العيش حاصلٌ في المناطق التي تهيمن عليها داعش حيث تعاني النساء من العزل وتطبّق عقوبات التعذيب والإعدام بلا رويّة ويهيمن الجهاديون غير السوريين على مرافق الخدمة والسلطة.

ولا يوصف بغير القسوة ما يلقاه اللاجئون السوريون في المخيمات التي أنشئت لهم في الأقطار المحيطة. فها هنا ترزح على الوافدين شروط سكن وعيش مريرة وإن يكونوا يحظون بعناية منظّماتٍ مختلفة في ميادين الصحّة وتعليم الأطفال وعمل النساء. وهو ما لا يمنع النشاط المافيوي والاتّجار بالممنوعات والدعارة. هذا ويعدّ اللاجئون السوريّون ـ على ما سبق بيانه ـ بالملايين ويصل بعضهم إلى مقاصدهم الأوروبية (أو لا يصلون) بعد رحلات مروّعة. وتفيد الاستطلاعات أن أكثرهم يحلم بالعودة إلى سوريّا بلا نظامٍ أسدي ولا دواعش.

يتوجّه العرض في صفحاته الأخيرة إلى الفرنسيين مجدّداً موضحاً تعذّر الفصل ما بين الخلاص من نظام الأسد والخلاص من داعش إذ كلّ منهما يعوّل في «صموده» على الآخر. وأمّا المخرج من هذه النكبة الكبرى فيرى منشئو هذا الموقع بصيص أملٍ فيه متمثّلاً في اجتماع فيينا الذي انعقد في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 وقد خلا من السوريين وانتهى إلى خريطة طريق اعتمدتها أطرافه السبعة عشر ومعهم الاتّحاد الأوروبي والأمم المتّحدة… وهي قد نصّت على مساق يقوده السوريون بعد وقف النار ينتهي، في غضون ستّة أشهر، إلى جدول أعمال يؤول بدوره إلى وضع دستورٍ جديد. تبع هذا الاجتماعَ قرار من مجلس الأمن تقدّم بنصّه الأمريكيون والروس معاً وقضى بفتح محادثات في مطلع السنة الجارية بين الحكومة السورية والمعارضة ترسم مساقاً للانتقال السياسي حدّد القرار محطّاته: من الحكومة الانتقالية إلى الدستور فإلى الانتخابات الحرّة في غضون 18 شهراً.

على أن هذا القرار لم يفتتح مرحلة هدوء بل أجّج القتال في ما بدا تسابقاً إلى تحسين المواقع الميدانية تمهيداً للتفاوض. ذاك ما عمدت إليه، على الخصوص، قوّات النظام يدعمها سلاح الجوّ الروسي. وهو ما يعزّز الخشية من أن يكون أفق السلام قد أخذ ينأى عن المتناول مرّةً أخرى. هذا الأفق يتعذر إدراكه، في كلّ حال، إن لم يحمل، في ما يتعدّى مساومات لا بدّ منها، إنصافاً لشعب أراد الحريّة والكرامة والعدل.

ذاك ما تراه منشئات هذا الموقع وقد جهدنا في تقديم اللُباب من مضمونه وما زلنا نرى، مع ذلك، فائدة في وضع نسخة عربية تامّة منه في تصرّف المتصفّحين تجاور النسختين الفرنسية والإنكليزية. وذاك أن «الغَشامة» ليست حكراً على الناطقين بلغتي موليير وشكسبير بل هي واسعة الانتشار بين الناطقين بلغة أدونيس…

لم يبق علينا، من بعدُ، غير أن نشكر على هذا الإنجاز، موقّعاته وهنّ إيزابيل هوسر وهالة قضماني وآنييس لوفالوا وماري كلود سليك ومانون نور طنّوس. جميعهنّ نساء وقد يكنّ أَوْلى، بصفتهنّ هذه، بالتحسّس المستتمّ الأبعاد لنكبة السوريين.

٭ كاتب لبناني

2

سوريا الحرب والثورة: أطرافٌ وذيول

أحمد بيضون

Jul 05, 2016

أعود إلى الموقع الفرنسيّ http://www.leconflitsyrienpourlesnuls.org أي «شرح النزاع السوري للغَشيم» وأتوقّف عند عرضه الأطراف السياسية الضالعة في الحرب السورية. يبدأ العرض من النظام فيقابل ما بين الصور الغربية المتعارضة لبشّار الأسد وما في «حداثته» و«علمانيته» و«حمايته للأقلّيات» من غشّ جسيم. ثم يستطلع غاية النظام من الحرب وعوامل صموده وإمكان استعادته نوعاً من الشرعية… ولا يفوته، في هذا المساق، أن يختم التعريف بالنظام برسمٍ بياني يوضح أن 9025 مدنيّاً قتلوا في سوريّا في النصف الأوّل من سنة 2015 وأن نصيب النظام من هذه المقتلة كان 87,5% فيما تولّت داعش بقيّتها أي 12,5% لا غير. هذا تنبيه يفترض أن يكون له وقع خاصّ على أوروبيين باتوا نزّاعين، بعد الضربات التي تلقّوها من داعش، إلى المفاضلة بين هذه الأخيرة والنظام الأسدي والسؤال عمّا إذا لم يكن سائغاً لهم التعويل على النظام في مواجهتهم إرهاب «الدولة»…
وأمّا المعارضة السياسية في سوريّا فيسجّل العرض عجزها عن الاستواء بديلاً للنظام والوقع الثقيل لهذا العجز على أفق الصراع كلّه. يذكر الاستعراض أسباباً لهذا العجز: من طول إقامة السوريين خارج كلّ مراسٍ سياسي إلى ما يقابل ذلك من تعقيد في الصراع يوجب تمرّس الخائضين… فإلى ما هو معلومٌ من تشرذمٍ ومن خضوع للتجاذب الخارجي… أهمّ من ذلك أن العرض لا يفوته، ههنا أيضاً، ما يفوت كثيرين: وهو أن كثرةً من السوريين قد طلبت الخلاص من نظام الأسد وأن حَمَلة هذا الطلب بقي منهم، على الرغم من الثقل الساحق للقمع ولسائر المعوّقات، قوىً معتبرة تشهد بتضحياتها وبمواقفها لاستمراره. من هذه القوى يذكر العرض منظّمات المجتمع المدني الكثيرة الصامدة، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وعناصر الدفاع المدني الشجعان والمجالس المحليّة التي تدير حياة الجماعات اليومية والمثقفين على اختلاف فروع الحرفة… هذه الحلقة يختمها الاستعراض بعودةٍ إلى داعش توضح ضعف ما لقيه انتشارها من مقاومة من جانب النظام وحلفائه بالقياس إلى ما لقيته من قمع قوىً سلمية وأخرى مسلّحة أبدت ولاءً للخيار الديمقراطي.
هذا الضعف لم يباشر تعويضه سوى انتقال الصراع الإقليمي الدولي على سوريّا إلى داخل البلاد واتّخاذه وجهاً عسكريّاً مباشراً على أرضها. وهو ما جعل التصدّي لداعش والتنافس فيه مدخلاً من مداخل اعتمدها كلّ من الأطراف الخارجية لتسويغ وجوده في الميدان السوري ورسم موقعه في الصراع. وهذا مع العلم أن زيادة الخشية الدولية المباشرة من داعش، بعد ما نفّذته هذه الأخيرة من ضرباتٍ في بلادٍ بعيدةٍ عن سوريّا والعراق، هي وحدها ما رفع حدّة التصدّي لها إلى درجة أصبحت مرجّحة التأثير في صمودها.
وإذ يستكمل العرض بهذا عناصر الصورة الداخلية يعكف تباعاً على النطاقين المتبقّيين من الصراع: الإقليمي والدُولي، وهما ظاهرا التشابك. يذكر وقع اللجوء السوري على أقطار المحيط: على تركيا التي تستقبل مليونين ومائتي ألف، على لبنان الذي يستقبل مليوناً ونصف مليون، على الأردن الذي يستقبل 800 ألف، على العراق الذي يستقبل 245 ألفاً، على مصر التي تستقبل 137 ألفاً… هذا الوقع يشخّص العرض بإيجاز كليّ تغايره بين كلّ من هذه الدول والأخريات، وذلك تبعاً لتغايرها من وجوه عدّة.
بعد ذلك، يأتي السؤال: مَن يدعم مَن في سوريّا؟ ولا مفاجأة في الأجوبة: إيران تدعم النظام الأسدي دعماً متعدّد الوجوه وحزب الله اللبناني الموالي لها (فضلاً عن ميليشياتٍ أخرى مشابهة) ضالع في القتال بجانب قوّات النظام. تريد إيران حفظ التواصل الاستراتيجي في الخطّ الممتدّ من طهران إلى بغداد فإلى دمشق وبيروت. وتريد منع نظام سنّي ينضمّ إلى المحور المناوئ لها في المحيط من الاستقرار في دمشق. وأما دول النفط الخليجية فأخذت علماً بكون واشنطن لا ترى أولوية، في ما يتعدّى التصريحات، لدعم قوى الثورة السورية وهو ما عرفته تركيا أيضاً. وكانت السعودية وقطر قد بادرتا سريعاً إلى دعم مقاومي النظام، وبغيتهما الحدّ من توسّع النفوذ الإيراني. ولكن هذا الدعم رزحت عليه قيود وأفضى استقلال كلّ من طرفيه بأهدافه إلى زيادة الانقسام في صفوف المدعومين. وهذا تنافس تراجع وقعه بالتدريج لصالح الدور السعودي وهو ما جعل اجتماع المعارضة السورية في الرياض، في كانون الأوّل 2015، تمهيداً لاستئناف محادثات التسوية في نيويورك، أمراً ممكناً.
يبقى، في النطاق الإقليمي، موقف إسرائيل. يسترجع العرض ما وجّهته الأخيرة من ضربات إلى مراكز أبحاث عسكرية سورية وإلى قوافل لحزب الله مستدلا بذلك على المتابعة الدقيقة لمجريات النزاع ولكن من غير تأثيرٍ ذي أهمّيةٍ في مجراه. ذاك مظهر من مظاهر الخلاف القائم في إسرائيل بين مفضّل لبقاء النظام الأسدي الذي كان قد اثبت مدّة عشرات من السنين حرصه على هدوء الحدود مع إسرائيل ومحبّذ لنشوء نظام للجهاديين السنّة في دمشق يعزل حزب الله ومن ورائه إيران.
في المضمار الدولي، ينوّه العرض برغبة بوتين في استعادة ماضي النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط وبحرصه على بشّار الأسد حليفاً وحيداً باقياً له في هذا المقلب وزبوناً أوّل. وهو ما تعزّزه الخشية الروسية الداخلية من تنامي قوّة الإسلاميين. ذاك ما ظهر، على الخصوص، في دعم النظام الأسدي بالفيتو الروسي تكراراً في مجلس الأمن ثم نقل الدعم الروسي، ابتداءً من أيلول 2015، إلى مرحلة الدخول المباشر في حربٍ جوّية تذرّعت بمقاتلة الإرهاب ولكنّها شملت سائر الفصائل المعارضة للنظام وانتشلت هذا الأخير من ضائقة عسكرية وسياسية كانت تزداد شدةً.
يلي هذا استذكارٌ لأطوار الموقف الأمريكي: من التراجع، في آب 2013، عن اعتبار واقعة القتل الجماعي لـ 1700 مدني بالسلاح الكيماوي خطّاً أحمر إلى إعلان أوباما، في أواخر العام التالي، افتقار الولايات المتحّدة إلى إستراتيجية سورية. وهو ما استوى إجازة بالقتل للنظام الأسدي لم يستثن من بين أدواتها البراميل المتفجّرة المشحونة بغاز الكلور. هذا الاستنكاف الأمريكي لم يكن له أن يشمل الظاهرة الجهادية. فكان أن أطلق إقدام داعش على الإعدام الوحشي لمواطنٍ أمريكي حملة قصف جوّي لهذا التنظيم صحبها تراخٍ متدرّج في واشنطن لمعارضة التصوّر الروسي للحلّ السياسي المقبول في سوريّا…
يعرّج العرض بعد ذلك على الانقسام الأوروبي بصدد الأزمة السورية وينوّه بما تولّته فرنسا من متابعةٍ إيجابية لمحطّات النزاع انتهت إلى الرفض المزدوج للأسدية والداعشية باعتبارهما لا يضمنان سلاماً في سوريّا. على أن تصريحاً من الأمين العامّ للأمم المتحدة، في خريف 2015، استثنى فرنسا من لائحة دولٍ (عددها خمسٌ) اعتبرها ممسكة بمقاليد النزاع السوري…
يبقى، في نهاية المطاف، أن مثابرة النظام الأسدي على موقفه الاستئثاري لا تزكّي حلا قريباً للأزمة. فما تزال المبادرات المتتابعة تخبو وتتبدّد. وما يزال المندوب الثالث للأمم المتّحدة يعدّ جولة محادثات جديدة (لا تستثنى منها إيران هذه المرّة) من غير ظهور تغييرٍ يزكّي الأمل في تثبيت سكّةٍ لحلّ سياسي.
ولكن ما الذي حصل للسوريّين ولسوريّا فيما لا يني أفق الحلّ يبتعد أو يأبى أن يقترب؟ ذاك هو السؤال الأَوْلى بالعناية… ونستطلع، في عجالتنا المقبلة، ما يقترحه الموقع الفرنسيّ جواباً عن هذا السؤال إذا طرحه «غَشيم»…

٭ كاتب لبناني