سورية ولبنان: حدود الافتراق حدود الوحدة

أحمد بيضون

Aug 31, 2016

أبيح لنفسي القول أن العلاقات السورية اللبنانية حظيت أخيراً بالكتاب الذي يكافئ أهمّيتها في مصائر الشعبين وغناها بدروس لا يستغنى عنها لفهم التاريخ المعاصر للشرق الأدنى كلّه بل أيضاً لما هو أوسع وأبعد. أشير إلى كتاب أليزابيت بيكار «لبنان وسوريا: الغريبان الحميمان. قرنٌ من التفاعل الاجتماعي السياسي». صدر هذا الكتاب مؤخّراً (بالفرنسية) عن سلسلة «سندباد» في دار «آكت سود» ليحتل مكانه الشرعي بين أعمالٍ كبيرة موضوعة ومترجمة أصبحت تضمّها هذه السلسلة الجسر بين ثقافتين وعالمين. المؤلّفة لا هي سورية إذن ولا هي لبنانية. ولكنها تبذل لقرّائها، في هذا الكتاب، زاد خبرة كسبتها في عقود عدّة من تدريس شؤون المشرق في معاهد العلوم السياسية في فرنسا ومن التأليف في هذه الشؤون والإشراف على البحوث فيها ومن الإقامات المديدة في ديار المشرق وتعرّفها بشراً وعمراناً، اجتماعاً وسياسة، ومن المتابعة المثابرة لما ينشر فيها وعنها.
أقول إن الموضوع حاز أخيراً كتابه المرجع هذا، معوّلاً لا على جودة التأليف وحدها، بسائر نواحيها، بل على افتقادنا الفعلي حتى صدور هذا الكتاب عملاً جامعاً في موضوعه، بالعربية أو بغيرها. يتبدى ذلك من اقتصار ما نتداوله بالعربية على مجاميع وثائقية وعلى أعمال تغطّي هذا الجانب أو ذاك أو هذه المرحلة أو تلك من العلاقات بين البلدين. يثبت ذلك، لا بشهادة البحث الشخصي وحدها، بل أيضاً بشهادة ثَبْت المراجع الضافي الذي ألحقته بيكار بكتابها. فإن هذه اللائحة، وهي ثمرة استقصاءٍ دؤوب، توضح أن معظم المتاح من المراجع إنما يخصّ واحدة من البلدين ويعرّج بحكم الضرورة على الأخرى وأن القليل منه يتخذهما معاً موضوعاً له ولكنه يبقى، على ما سبقت الإشارة إليه، عاكفاً على مرحلة محدودة أو أسيراً لزاوية مختارة أو قانعاً بجمع الوثائق، إلخ.
هذا مع أننا لا نريد القول أن كتاب أليزابيت بيكار يمثّل تاريخاً شاملاً، بمعنى العرض المتصل للوقائع، لهذا القرن الذي يوشك أن يكتمل على نشوء الدولتين المنفصلتين السورية واللبنانية. فإن المؤلفة نفسها تنفي أن يكون هذا مرادها. هي تصدّر كتابها بإشكالٍ عامّ تنسجه من خيوط ثلاثة: السيادة بما لها من تآويل عديدة متعارضة والحدود التي راحت فاعليّتها تذوي بعد الخروج من الحرب الباردة بما حمله من تدفّق متنوّع تعاظمت كثافته عبرها والتقابل ما بين التسليم الاجتماعي الصريح بتحوّلات السيادة وبين تشكّل الدولة بما هو مساق تاريخي متناقض وذو بعد لاشعوري يجد عبارته في التفاعل ما بين المجتمع والطبقة الحاكمة.
يفرض هذا الإشكال المثلّث استعاضة عن التتبع الزمني لوقائع العلاقة السورية اللبنانية باصطفاء مدارات منتشرة لا على المرحلة المنقضية من سنة 1920 إلى اليوم وحسب بل أيضاً على مستويات من الواقع التاريخي تستدعي مقاربات معرفية مختلفة، ولو ان المقاربة السياسية من بينها تبقى غالبة الحضور. ولنا أن نحصي، مع المؤلّفة، هذه المدارات، وهي سبعة واضحة العناوين: التشكّل غير المكتمل لدولتين-أمّتين، جدل المنطق الثقافي والتشكيل السياسي، افتراق المسارين في مضمار الاقتصاد السياسي، البناء الوطني وسيادة الدولتين على محك الرهانات الاستراتيجية في النطاق الإقليمي، فرض الوصاية ومنطق الافتراس في إبّان سيطرة النظام السوري على لبنان، ثورة في لبنان وحركة اعتراض في سوريا في السنوات الأولى من القرن الجديد… والختام سؤالٌ عمّا إذا كانت الحرب الجارية في سوريا قد أحالت الدولتين إلى ميدان قتالٍ واحد…
هذه المدارات لا تُستكشف تباعاً بدورها بل يحضر كلّ منها بنسبةِ ما لحضوره من وجاهة في كلّ من الأقسام الثلاثة الكبرى التي تتوزّع فصول الكتاب. هكذا يتّخذ القسم الأوّل عنواناً له «الانفصال»، ولكنه يدور في الحقيقة على نسبية الانفصال الذي مثّله تأسيس الدول التي كانت كثرة في الحالة السورية واحتاج إفضاؤها إلى الوحدة معظم مدّة الانتداب وكانت واحدة، من البدء، في الحالة اللبنانية ولكن تحصيلها ما يكفي من الإجماع الداخلي اخترق مساقُه مرحلتي الانتداب والاستقلال إلى الحرب الأهلية، في الأقلّ. فالحقّ أن ما يوجّه نظر المؤلّفة إدراكها مثولَ التردّد بين الخيارات عند كلّ محطّة إذ لم يكن الممكن وحيداً حاسم الوحدة، حيث احتاج الأمر إلى قرار، ولا كانت الدوافع مؤتلفة الوجهة… وكانت تترتّب على كلّ خيار تضحيات لا يستهان بها وكانت في كلّ خيار وجوه افتعال تقبل المقارنة بما في غيره.
عليه اقتضى «التمييز» بين البلدين (وهذا عنوان القسم الأخير من الكتاب)، عملية معقّدة جاء الاستقلال، بمعناه الحقوقي، ليجدها غير مكتملة وبقي منها إلى اليوم وجوه غير ناجزة الرسم. هذه العمليّة تكرّس لها المؤلّفة القسم الثاني من كتابها وتسمّيها «المواجهة»، متخيرة لدراستها ثلاثة منعطفات أوّلها نهاية الخمسينيات بما حملته من اختلال في السلم الأهلي في لبنان وثانيها الأحداث التي أفضت إلى حرب السنتين في لبنان أيضاً وإلى دخول القوّات السورية أراضيه وثالثها خروج لبنان من حربه المديدة في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي والتسليم الدولي للنظام السوري بالوصاية عليه. وما يميّز هذه المنعطفات عن مراحل أخرى من العلاقة اللبنانية السورية، في نظر المؤلّفة، إنما هو نوع التأطير الذي فرض نفسه على النزاع الموضعي من جانب تحوّلٍ إقليمي دولي كانت له مسارح رئيسية أخرى. وقد أشرنا توّاً إلى أن القسم الأوّل من الكتاب، وعنوانه «الانفصال»، مداره تأسيس الدولتين (أو الدول، بالأحرى، لأن سوريا، على ما سبقت الإشارة إليه أيضاً، لم تصبح دولة واحدة على الفور في مرحلة الانتداب) وما افترضه هذا التأسيس من كسر للتواصل «العثماني» ومن ثمّ الديناميّات التي أوصلت الانفصال، في غدوات الاستقلال، إلى تصفية ما كان يسمّى «المصالح المشتركة» وإبطال الوحدة الاقتصادية التي كانت السلطة المنتدبة قد استَبْقَتها بين الدولتين. حصل هذا في إثر تطوّر متغاير بين البلادين لتوظيف «صيغ التضامن الأوّلية» أو العصبيات في بنى الدولة والمجتمع، على اختلافها.
وعلى عزوف المؤلّفة عن اعتماد التعاقب الزمني مرشداً لتعاقب أقسام الكتاب وفصوله، فإن هذا التصميم يبقى واضحاً تبسطه مقدّمة الكتاب وتعود إليه المؤلّفة في كلّ فصل بدوره معيّنة موقع الفصل من العمل كلّه وموجزة تصميمه الخاص. وهذا من غير أن تهمل الإشارة إلى تغيّر الإطار المرجعي أو الانتساب العلمي الأبرز من فصلٍ إلى فصلٍ ولا إلى تضافر المقاربات المختلفة الانتماء في الفصل الواحد، منوّهة، عند كلّ محطّة، بمصادر وحيها النظري.
هذا التنظيم يسهّل علينا الإلمام تباعاً بما تبذله لنا أقسام الكتاب الثلاثة من إضاءة لوجوه العلاقة السورية اللبنانية وتحوّلاتها. وهو ما سنحاوله في عجالات مقبلة نجهد فيها لأداء بعضٍ ممّا لهذا العمل الجليل من حقّ علينا… غيرَ مدّخرين، مع ذلك، ما قد يعرض لنا من ملاحظات، إيجابيةً كانت أم سلبيةً، حيث تعرض.

٭ كاتب لبناني

خالد غزال عن “الربيع الفائت”

 آخر تحديث: الخميس، ٢٥ أغسطس/ آب ٢٠١٦ (٠١:٠٠بتوقيت غرينتش)خالد غزال 

 

في كتاب جديد للباحث والأستاذ الجامعي أحمد بيضون بعنوان «الربيع الفائت – في محنة الأوطان العربية أصولاً وفصولاً»، يتناول المؤلف جملة موضوعات سياسية وفكرية كتبت في أزمان متفرقة، يجمع بينها الاستعادة التاريخية لمحطات في التاريخ العربي، وتحليل نظري لخلفيات الأحداث التي تعصف منذ سنوات بالمنطقة، وصولاً إلى قراءة بعض محطات الربيع العربي خصوصاً منها السورية ومفاعيلها في الساحة اللبنانية. صدر الكتاب عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في بيروت.

على امتداد سبعة فصول ضمتها دفتا الكتاب، ينطلق بيضون في فصل أول «في المطالع والأصول: حركات التغيير العربية»، من إرث السلطانية المحدثة الى التشييد المؤسسي للديموقراطية. في فصل ثان تحت عنوان «معالم الهوية» يتناول قضية الطائفية في تاريخها وتشكلها في وحدات سياسية، كما يتناول الهوية والمذهب الديني والمواطنة. في فصل ثالث بعنوان «الخوف على سورية»، يتوقف أمام الانتفاضة السورية متناولاً إياها من جوانب متعددة، سواء بتحولاتها وبخطر سقوطها وبتدخل روسيا في أحداثها. الفصل الرابع بعنوان «الحلول بما هي مشكلات»، يتطرق إلى كيفية مداواة الأوطان عبر تفكيكها، متناولاً اللبننة وانعكاساتها. أما الفصل الخامس بعنوان «بلايا محيطة» فيتناول الموضوع الفلسطيني والوضع اللبناني من زاوية المجتمع السياسي اللبناني في مهب الربيع العربي. الفصل السادس بعنوان «مشكل المعرفة في مشكل الحل»، حيث يشير الى ان المعرفة تشكّل مادة استبدادية في محطات كثيرة. الفصل السابع «إشارات وتنبيهات» وفيه معالجات حول الدين وهل هو في المجتمع ام العكس؟ إضافة الى بحث عن عبد الرزاق السنهوري، وعن فشل السياسة. أما الخاتمة فقد أعطاها الكاتب عنوان «خاتمة للوقت الحاضر: شرور ما بعد الربيع (لمحة في المصلحة والقيمة)».

إذا كان من الصعوبة بمكان التطرُّق الى محتويات كل الفصول، فإن التوقف أمام الأزمة السورية وانعكاساتها اللبنانية تستحق المعالجة لراهنيتها، فمن بين الانتفاضات التي عصفت بالعالم العربي، تميّزت الانتفاضة السورية بأنها الأكثر عنفاً وإرهاباً من كل ما تشهده المنطقة العربية. منذ انطلاقتها، كان الخوف من مصيرها السلبي ومن نتائجها الداخلية خوفاً مشروعاً، كما كان الأمل بنجاحها واجتثاث أعتى حكم استبدادي، لا يضاهيه في الاستبداد سوى نظام كوريا الشمالية، كان هذا الأمل مشروعاً أيضاً.

كانت الحماسة كبيرة في المراحل الأولى من الانتفاضة التي تميزت بطابعها السلمي وتظاهراتها الحاشدة في شكل لم تعرفه سورية منذ عقود. هذا الطابع السلمي لم يستمر سوى أشهر معدودة انتقلت الانتفاضة بعدها الى مرحلة من العسكرة على يد النظام السوري، الذي كان يرى في تحويلها عن مسارها السلمي وسيلة لإجهاضها بالنظر الى التفاوت في موازين القوى وعدم قدرة الثوار على مجاراة آلة الحرب العسكرية للنظام. شهدت الانتفاضة انشقاقات في الجيش وفي المؤسسات السياسية، لكنها انشقاقات لم تصل الى حد تغيير موازين القوى لمصلحتها. يشير بيضون الى هذه المسألة قائلاً: «بدا، مع تعاقب المجازر، ان المنفذ المتاح من هذا النفق الدموي يتمثل في تشقّق آلة القمع على نحو يضعف ذراع النظام الضاربة مقلصاً قدرته على البطش، من جهة، ويوفر حماية للحركة، من جهة أخرى، وحاجزاً في وجه قمع لا يلوي في تصاعده على شيء. وقد حصل هذا التشقّق وتوسّع، الا انه لم يبلغ حداً تشلّ معه آلة النظام القامعة، وذلك لأسباب تتصل بالتكوين التاريخي لهذه الآلة، وبما أورثه هذا التكوين من تماسك طائفي لمعظم قياداتها ولأهم قطعاتها المقاتلة».

هذا القمع المتزايد أربك والثوار وفرض عليهم مساراً ومسؤوليات ضخمة، لم يكونوا مؤهلين لإدارة مناطق أمكن الاستيلاء عليها، ما جعل العسكرة لا تصب في مصلحة حماية الحركة الشعبية، بل دفع بقسم واسع من الجماهير الى الهامش. نجم عن العسكرة بروز قوى سياسية واجتماعية كان أبرزها التنظيمات الجهادية والسلفية التي وجدت الفرصة مناسبة لتتسلق على الثورة وتستولي عليها. لم يكن لهذه التنظيمات ان تنجح لولا التدخُّل الخارجي الذي تجلى في الدعم الخليجي لهذه التنظيمات، إضافة إلى تسهيل النظام نفسه لولادة تنظيم «داعش»، وسيادة منطق لدى الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً قال بتسهيل دخول الإرهابيين الى سورية، بحيث يتقاتلون مع بعضهم بعضاً ويفنون أنفسهم. وهو تصوّر ساذج بدأت هذه الدول المشجعة على الإرهاب تدفع ثمنه، فالذي يطلق الوحش، ليس بالضرورة سيكون قادراً على إعادته الى القفص.

يشكل هاجس سقوط الثورة السورية والمآل الذي وصلت إليه بعد مرور خمس سنوات ونيف على اندلاعها، مصدر قلق كبير لدى الكاتب، لكون سورية تشكل مفتاحاً للمنطقة العربية، فنجاح ثورتها نجاح للربيع العربي ينعكس إيجاباً على سائر الأقطار، وفشلها مصدر اضطراب في المنطقة والعالم بالنظر الى كونها أرض إرهاب وعنف يستحيل ان يبقى محصوراً في الساحة السورية. ومصدر القلق ينبع من المحطة الراهنة لهذه الثورة، حيث يدور السؤال مشروعاً عن غاية الثورة وهل هي مجرد إسقاط بشار الأسد وسلطة عصابته وأجهزته، ام ان الهدف هو الحرية والكرامة للشعب السوري، يجيب بيضون عن السؤال قائلاً :»اذا سقط بشار الأسد ولم يفتح سقوطه أفق «الحرية والكرامة» هذا في وجه السوريين، فإن الطاغية يكون قد أسقط الثورة السورية قبل سقوطه الذي هو آت لا ريب فيه. فهل يقيّض لأصحاب الثورة ان يتداركوا ثورتهم: عاجلاً قبل سقوط الطاغية أو آجلاً في صراع مديد قد يلي ذلك السقوط؟».

منذ اليوم الأول لاندلاع الانتفاضة السورية، كانت التقديرات كلها تشير الى ان لبنان يستحيل ان يبقى خارج امتدادات نار هذه الحرب. كان كثيرون يدقون ناقوس الخطر من عواقب تدخل قوى سياسية في الحرب الدائرة، بل كان الهم كيف نبقي على النسيج الاجتماعي اللبناني ونحصّنه من التفكك، بالنظر الى ان الحرب السورية تدور أيضاً على الساحة اللبنانية بمعنى من المعاني. عجز اللبنانيون عن منع الحريق من الامتداد الى أرضهم، فانخرطت القوى المؤيدة والمعارضة في هذه الحرب، وألقت بثقلها على الوضع اللبناني، العسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل ربطت الحرب السورية حلول الأزمات الداخلية بالمآل الذي ستصل إليه، وبالتسويات الإقليمية والدولية التي ستفرض على السوريين. إنها محنة استقلالية جديدة أوقع اللبنانيون أنفسهم وبلدهم في معمعانها.

تصبغ النظرة التشاؤمية معظم فصول الكتاب، بالنظر الى حجم الوقائع والتطورات السلبية التي عصفت بما يسمى الربيع العربي، وحولت التفاؤل الذي لف عقول معظم الشعوب العربية الى حالة سوداوية. لعل ما أورده الكاتب في ختام أبحاثه يشكّل افضل توصيف لهذا الربيع، حيث يقول: «فقدت الحركات اذاً، صفتها الشعبية وفقدت وحدتها العامة، أي، على الأخص، وحدة المعنى والوجهة، وفقدت كل منها كل وضوح في صيغة الصلة التي تنطوي عليها بالمستقبل وتريد املاءها عليه. فإذا كان قد بقي شيء من هذا، فإنما هي صيغة التخبُّط او صيغة الارتداد على العصر كله والبحث عن لا مكان في العالم، بل عن مخرج منه. هذه النكسات المتراكمة هي مصدر الشعور بالخيبة. ولا ريب ان هذه الخيبة تصدي، حين يعبّر عنها من اقتصر أمره على إبداء التضامن من قريب او بعيد، لخيبة من كانوا مادة القوى الضالعة في المرحلة الأولى من حركات التغيير واضطروا، لأسباب يقترن فيها التنوع بالوضوح، الى الانكفاء عن الساحات في أوقات مختلفة».

لبنان: نقدُ الحرب واستبقاءُ خطّ التماسّ

أحمد بيضون

Aug 24, 2016

صرّح لبنانيون كثيرون، في العقود الأخيرة، أن التسليمَ بانتشار المنظَّمات الفلسطينية المسلّحة على الأراضي اللبنانية، ابتداءً من أواخر ستّينات القرن الفائت، وبمباشرتها «الكفاحَ المسلّح» عبْرَ حدود لبنان الجنوبية كان سبباً رئيسياً لنشوب الحرب المدمّرة في البلاد، ابتداءً من سنة 1975، ولما تخلّلها من احتلالٍ واجتياحٍ إسرائيليين ما يزال لبنان ينوء بتَبِعاتِهما المختلفة إلى اليوم. بعضُ قائلي هذا القول كانوا قد أيَّدوا، في الحرب وقبْلَها، ما يرَوْنه اليومَ ضلالاً مَهولَ الضرر. وهم، بالتالي، يَرَوْن في ما يقولونه اليوم نوعاً من النقد الذاتي يُفترض أن الانتماء الإسلامي يغلب عليه وإن يكن لا يستغرقه…
في الجهة المقابلة من الحرب، يقول بعضٌ آخر (ضئيل العدد والنفوذ، في تقديري) أن التفريطَ بالسلْم الأهلي وبالوحدة الوطنية، في تلك الآونة، للحفاظ على أرجحيّةٍ طائفية كان يهدّدها الإصلاحُ السياسي، إنَّما كان ضلالاً مُبِيناً أيضاً قابَلَ الضلالَ الآخر ليُفْضِيا معاً إلى الحرب الكارثةِ وإلى ما تلاها من كوارث. هؤلاء أيضاً يُنْزلون قولَهم هذا في خانة النقد الذاتي إذ هو لم يكن قولَهم قَبْلَ الحرب ولا في خلالها. ويفترض أن الانتماء المسيحي يغلب على مزاولي هذا النقد وإن يكن لا يستغرقهم.
ولكن هذا النقد الذي يخطّئُ الموقف الإجمالي لمعسكر أصحابه، في الحرب وفي عشاياها، لا يصلُ أبداً، في أيّةٍ من الجهتين، إلى تبرئة المعسكرِ الخصمِ ولا إلى التخفيف من جُرْمِه في الأقلّ. لا يجتاز النقد ما كان يسمّى «خطّ التماسّ»، فتبقى كلُّ جهةٍ مصمّمةً على أن الجهةَ المقابلة كانت جهةَ خونةٍ عملاء! المعسكر الذي أصبح، مع الوقت، إسلامي العنوان (وكان يضيف إلى نفسه الصفتين الوطنية والتقدمية في سنيّه الأولى) يُفترض أنه نقّل عمالته ما بين المنظمات الفلسطينية وأنظمةٍ عربية مختلفة في مقدّمها النظام السوري… والمعسكر الذي لازمه العنوان المسيحي (وكان يوصف بالمحافظ أحياناً) نقّل عمالته ما بين إسرائيل والنظام السوري أيضاً، في مرحلةٍ أولى، وانتهى جناح رئيسي منه، في آخر مطافه، إلى استدرار الدعم من نظام البعث العراقي في وجه نظام البعث السوري.
وعلى الرغم من التعقيد الظاهر في شبكة العلاقات التي نسجها كلّ من المعسكرين أو فُرضت عليه وعلى الرغم من التحوّلات المتناقضة التي شهدتها كلّ من الشبكتين… على الرغم أيضاً من التمزّقات الصارخة العنف التي عاناها كلّ من المعسكرين وطبعت، على الخصوص، النصف الثاني من مرحلة الحرب، لبث المعسكر المسيحي العنوان يُنسب إلى الولاء الغربي (الموسوم في الجهة الأخرى بالميسم الاستعماري) ولبث المعسكر الإسلامي العنوان ينسب إلى الولاء «الشرقي»، السوفياتي في هزيعه الأخير، (الموسوم عند الجهة الأخرى بميسم العداء للحرّية ولاستقرار المجتمعات).
لا يميل أيّ من ورثة المعسكرين اليوم (ولا هم مالوا قبل اليوم)، حين يزعمون مزاولة النقد الذاتي، إلى إعادة النظر في شبكة الأحلاف التي تقلّب بينها معسكرهم ذاك، لجهة وقع الأحلاف وتقلّبها على تماسك البلاد بعمومه. وهم، إذا لامسوا هذا الموضوع، لم يبلغوا منه المساواة لجهة القيمة ما بين مسلك معسكرهم في التحالف وفي استدراج الأدوار الخارجية إلى البلاد أو في منحها قواعد وأبعاداً لم تكن لها، ومسلك المعسكر المقابل. ومن هذا الباب، على الأخص، أن صاحبَ النقد الذاتي لا يخطُرُ له ببالٍ البتّةَ أن جهة «الخونة العملاء» قد تكون الجهةَ التي كان يقف فيها، هو نفسه، ويقولُ قولها. هذه الجهة يبقى مضمراً أو معلناً، في مساق النقد، أنها الجهة الأخرى حصراً وتبقى لكل من المعسكرين الممثلين بورثتهما في نظر نفسه حصانة أصليّة تجنّبه كأس «العمالة» هذا.
وهذا مع العلم أن التصريح المتبادل بتجنيب الآخر هذا الكأس أو التصريح المشترك بتذوق الطرفين معاً مرارة طعمه مليّاً إنما هو الشرط الواجب لإرساء مصالحة وطنية غير هوائية إذ هو الشرط الواجب لاعتراف جهتيّ الحرب معاً بتقدّم البلاد-الوطن إلى مقام القلب من سياستهما وبإزاحة البلاد-الساحة أو البلاد-الورقة من هذا المقام.
لا نزال حتى اليوم إذن حيالَ نوعٍ عجيبٍ من النقد الذاتي مؤدّاه أننا خرَبْنا بلادَنا عن حُسْنِ نيّةٍ وطِيبِ خاطِرٍ وأن الوطنيَّ المقدامَ لا يزال، بعْدَ النقد الذاتيّ، وطنيّاً مقداماً والعميلَ الخائنَ لا يزال، وحده، العميلَ الخائنَ، وهذا على الرُغْم من شَرِكَتِهما المؤكدة في زَهْقِ الأرواح وتدميرِ العمران والنفوس. هذا أيضاً على الرغم من تناسلهما، في ما يتعدّى تحوّلات كبرى شهدها ربع قرن مضى على انتهاء الحرب، على نحوٍ استبقى الشروط العامّة للنزاع الأهلي. فإن رأس هذه الشروط إنما هو استقطاب المجتمع السياسي الوطني بين معسكرين خارجيين، إقليميين ودوليين، أمكن لطلاب الاستقواء من اللبنانيين، تدبّرهما، على الدوام، واللوذ بهما من غير حاجةٍ إلى حرب باردة.
وما يفيده هذا النوعُ من «النقد الذاتي» الذي يستبقي خطّ تماسّ متمثّلاً في القول بـ»عمالة» الآخر أي في النبذ المتبادل بين شقيّ البلاد من الانتماء الوطني (ناهيك بما يفيده استبعادُ النقد الذاتي أصلاً) هو أن المعسكَرَيْن ما زالا على تَواجُهِهما وأن الحربَ الجديدة محتملةٌ حالما يقتضيها ويتيحها ظرفٌ جديدٌ مشؤوم: ظرفٌ من ذاك النوع الذي عوّدنا الزمان أن لا يطولَ بُخْلُه به علينا.
وأمّا ما يمنع العبور إلى نقد ذاتيّ أوفر نصيباً من الفاعلية الوطنية فهو استمرار العمالة قائمة واضحةً للعيان يتوزّعها ويتواجه على ضفّتيها معسكران: معسكران لا يمنع تهالكهما ولا حركة بعض القوى بينهما أن يكون كلّ منهما ملتزماً، في النطاقين الإقليمي والدولي، «بيت طاعة» لا يبدو قادراً على استنشاق الهواء في خارجه ناهيك بأن يقوى على مغادرته وإلقاء تحية الوداع عليه. مع ذلك، يواصل هؤلاء وأولئك الإصرار على أن البلاد تستردّ وحدتها إذا هي انحازت برمّتها إلى قولهم وإلى ما ومن يمثّلون. وذاك أن كلّ جهة، في نظر نفسها، ليست تشكيل مصالح يتكتّل فيه جانب من البلاد وإنما هي حقيقة البلاد الأصيلة وجوهرها الذي لا بدّ من ردّها إليه.
ومعلوم أن دعاوى وحدة الجوهر هذه وتجسّده في طرف من طرفي (أو أطراف) المواجهة إنما تزدهر أكثر ما تزدهر في زمن الحرب الأهلية. إذ ذاك يكون كلّ من الطرفين مصرّاً على القول أن وحدة البلاد قائمة لا عيب فيها ولا يطعن فيها واقع الحرب ما دام هذا الطرف هو البلاد كلّها أو جوهرها، في الأقلّ، وأن الطرف الآخر كميّة يصحّ إهمالهاّ أو هو منحرفٌ عَرَضيّاً عن الجوهر الواحد ولا بدّ من ردّه إلى سواء السبيل. هذا فيما تكون شقوق البلاد غير مقتصرة، في الواقع، على خطّ الفصل الذي ترسمه الحرب بين الطرفين بل يكون كلّ منهما متصدّعاً كثيراً أو قليلاً… أي أن البلاد تبدو منقسمة على مستوىً بعينه ومهشّمةً على مستوىً أبعد غوراً.
عِشْتُم (إلى متى؟) وعاشَ نقْدُكم الذاتيّ (المولودُ ميّتاً)، أَيُّهَا الإخوة المواطنون!

٭ كاتب لبناني

رحلة حنّا دياب الماروني الحلبي إلى بلاط لويس الرابع عشر

أحمد بيضون

Aug-18

ليس انسياقاً مع عصبيةٍ ما بل لزوماً لطبيعة الأمور أن نعتبر نشر ترجمة فرنسية رائعة الصنع لمخطوط عربي نفيس محفوظٍ في الفاتيكان قبل نشر المخطوط بلغته الأصلية أمراً مؤسفاً… وليس صرفاً للنظر عمّا يكشفه هذا الأمر من خلل في حركتي البحث والنشر العربيتين أن نشيد بروعة الترجمة الفرنسية وبجهد التحقيق الجليل الذي ترك بصماتٍ ظاهرة جدّاً في النصّ وفي الحواشي فضلاً عن التقديم.
الكتاب الذي لا يزال أصله العربي ينتظر من ينشره كتاب رحلة. هو يروي الرحلة التي قام بها شابّ يدعى حنّا دياب من موارنة حلب إلى باريس ابتداء من أوائل عام 1707 وكان معظمها بحرياً، ولكن تخلّلتها مراحل برّية. وهو يروي، بعد أخبار إقامته الطويلة نسبياً في باريس، تفاصيل رحلة العودة إلى حلب أيضاً، وهي لا تقلّ ازدحاماً بالمشقّات وبالأخطار عن رحلة الذهاب. وقد طالت الرحلتان وما بينهما ثلاث سنوات وأشهراً فلم يحطّ هذا الشاب رحاله مجدّداً في مسقط رأسه الحلبي، حيث سيتزوّج ويمتهن تجارة الأقمشة، إلا في تموز/يوليو من سنة 1710…
وهو قد باشر هذه الرحلة بعد عزوفه، وهو المؤمن التقي، عن اختبار قصير للحياة الرهبانية في دير من أديرة الشمال اللبناني. رحل مخالفاً إرادة أخيه الأكبر بصحبة «مسافر ملكي» معروف من فرنسا هو بول لوكا، وكان الأخير قد أنهى رحلته الثانية إلى سوريا. هذا «المسافر» المنتدب بموجب مرسوم ملكي («فَرَمان» من «سلطان بلاد فرنسا» بلغة حنّا دياب) كان مكلّفاً أن يجوب البلاد ويشتري مخطوطاتٍ قديمة وعملات ومجوهرات وحجارةً كريمة لخزانة الكتب الملكية ولخزانة الملك الأخرى. وهو معروفٌ جدّاً لتدوينه وقائع رحلاته الثلاث وصدور كتب ثلاثة أوصلتها إلينا. وهو بهذه المثابة حالةٌ تمهيدية لحركة الاستشراق الفرنسية. ويغطّي ثاني الكتب المشار إليها – في ما يغطّيه – وقائع رحلة الذهاب التي يقصّها علينا مخطوط حنّا دياب. ولكنّ ناشري الترجمة ينوّهون بكثرة الفوارق بين الروايتين.
يوحي ختام المخطوط الذي نحن بصدده أنه وُضع بعد نيّفٍ وخمسين سنة من عودة صاحبه إلى حلب، وكان الرجل قد بلغ الخامسة والسبعين عند وضعه. ويميل محقّق الكتاب برنار هيبيرجيه إلى التعويل على قوّة الذاكرة الشرقية ودُرْبتها، في ذلك الزمان وبعده، لتفسير الدقّة المذهلة التي يتّسم بها وصف حنّا دياب لمشاهداته وروايته لوقائع عامّة وخاصّة َخِبَرها أو وصل إليه خبرُها في أثناء رحلته. ويخيّل إلينا أن من المحال أن يكون هذا الكتاب الذي تصف مقدّمة الترجمة لغته بالعربية المتوسّطة بين العاميّة والفصحى ثمرة الذاكرة وحدها أنتجته بعد هذه المدّة المديدة من انصرام الوقائع. ولا يبدو لنا ممكناً استبعاد الاعتماد في وضعه على مادّة دوّنت أوّلاً بأوّل بانتظامٍ أو بغير انتظام في خلال الرحلة، وهو ما كان يفعله بول لوكا، «معلّم» حنّا دياب، إذ كان يدوّن كلّ ليلة – بشهادة حنّا – وقائع يومه ومشاهداته… ولكنّه لم يكن، في نهاية المطاف، «مؤلّف» الكتب المطبوعة التي أوصلت إلينا أخبار رحلاته. وليس يستبعد أن يكون حنّا دياب قد أشار إلى مادّته الأولى تلك – إن كانت قد وُجدت – في الأوراق القليلة المفقودة من مخطوطته، وهي الأوراق الأولى. وفي كلّ حالٍ، تنوّه مقدّمة الترجمة ببعد هذا الراوية الذي «لا يشقّ له غبار» عن الحذلقة البلاغية التي أضرّت كثيراً بكتبِ رحلاتٍ أخرى إذ ضربت حجاباً بين النصّ وما يروي أو يصف.
انطوت رحلة حنّا دياب الشاقّة في الذهاب والإياب على مراحل ومحطّات وفيرة العدد جدّاً. محطّات قبرصية ومصرية، ليبية وتونسية، إيطالية وفرنسية… في طريق الذهاب. ومحطّات فرنسية وأناضولية وسورية فضلاً عن التعريج غير المتوقّع على إسطنبول عند الإياب إلى حلب. وفضلاً عن الإقامة الطويلة في باريس وكانت هذه مقصد رحلة الذهاب وقد مثل خلالها حنّا في حضرة «الملك الشمس» ونجا من صقيع عام 1709 القاتل ومن الوباء وشاهد في أثنائها ما شاهد وسمع ما سمع… وفضلاً عن الإقامة في إسطنبول وقد حظي فيها الشابّ، مثلاً، بمشاهدة السلطان يدشّن سفن بحريّته الجديدة… وفضلاً عمّا تخلّل هاتين الإقامتين من حوادث متنوّعة أخرى يرويها حنّا بتفصيل مغرق أحياناً، لم تكن أيّ من المحطّات الأخرى ولا من المراحل البحرية أو البرّية تعبر بلا مشاهدات أو حوادث يعدّها حنّا مستأهلةً التسجيل. فقد كانت ضرورات السفر البرّي وكذلك انتظار الإبحار يستكثران من المحطّات ويطيلان الإقامة في كلّ منها، إن لم يكن لشيء فلانتظار الريح المواتية أو احتمال خلوّ الطريق البريّة من قطّاعها أو البحرية من القراصنة، إلخ.
ولا تتّسع هذه العجالة لتلخيص ما يعرضه حنّا دياب في 400 صفحة مطبوعة. وكيف تتّسع وهو يوشك أن يفصّل ما تناوله من وجبات مميّزة واحدةً واحدة ويصف أزياء أصنافٍ كثيرة من الناس بتفاصيلها ويتوقّف مليّاً عند معالم المدن وتصميم البيوت والقصور ورياشها ويقصّ وقائع الإقامة في هذا النزل أو ذاك ويذكر أوصافه ويستعيد حوارات لا تحصى جرت بينه وبين أناس كثيرين، إلخ. وهو يذكر نشاط معلّمه بول لوكا خبيراً في الكتب والمجوهرات والعملات وطبيباً أيضاً ويذكر ما آلت إليه علاقته به بعدما تعلّم منه ما تعلّم ومن ذلك أوّليات طبّية انتفع بها (بإلهامٍ متكرّر لا ينسى ذكره من الله والسيّدة العذراء ومن ملاكه الحارس…) عندما عمد إلى انتحال صفة «الطبيب الإفرنجي» أثناء رحلة الإياب. ويطلعنا حنّا على حياة البحر وأوصاف السفن وظروف السفر عليها في أيّامه وعلى كيفيات مواجهة القراصنة والحظوظ في التملّص منهم. ويطلعنا على تنظيم السفر البريّ ولوازمه وأخطاره، إلخ. ولا ننس وصوله إلى قصر لويس الرابع عشر وروايته ما اتّصل إلى علمه من أخبار الملك وحواشيه وإقدامه على أخذ الشمعدان من يد الملك، بدعوى حَمْلِه عنه، وهو ما لم يكن يجرؤ وزير على الإقدام عليه بلا أمرٍ من صاحب الجلالة الذي قبل بادرة حنّا ولم يأمر له بعقوبة. ولا ننس دخول حنّا قصر الملك في فرساي مرّة أخرى متمنطقاً بخنجر، وهو ما أطار لبّ «المعلّم» لوكا العارف بما يمكن أن تجرّه هذه الحماقة إلخ.
يبقى أن نذكر أنطوان غالان و»ألف ليلة وليلة». التقى حنّا دياب في باريس هذا الرجل الذي يصفه بـ»العجوز» وكان يعمل في ترجمة قيّض لها أن تدخل التاريخ لكتاب «ألف ليلة وليلة». يقول حنّا بإيجاز شديد ما مفاده أن الرجل كانت تعوزه بعض «الليالي» وكان حنّا يعرفها فحكاها له. على أن التحقيق في الأمر يظهر أن هذه «الليالي» كانت لا تقلّ عن 16 من الحكايات أثبت غالان 12 من بينها في ترجمته. ومن بين ما أخذه المترجم عن الشابّ الحلبي بعض من أشهر حكايات الكتاب ومنها حكاية علاء الدين وحكاية علي بابا. وما يجعل الأمر أشدّ إثارةً أننا لا نقع على أثر لهذه الحكايات في مخطوطات «الليالي» التي ترقى إلى عهد سابق لنشر ترجمة غالان. عليه، ذهب غير واحد من دارسي «الليالي» إلى الفرضية القائلة بأن غالان هو من أضاف هذه الحكايات كلّها على الكتاب وأنها إنما نقلت إلى العربية عن ترجمته.
غالان أي حنّا دياب! ذاك ما يتبيّن من الكتاب الذي بين أيدينا. ويذهب برنار هيبيرجيه إلى أن في حكايّة علاء الدين، مثلاً، عناصر قد تكون مستقاةً من سيرة حنّا نفسه، ذاك ما لم يعترف به غالان الذي لا يذكر حنّا إلا في كتاب مذكّرات لم يكن معدّاً للنشر. وهو قد حاول أن يتدبّر للشاب وظيفة «مسافر ملكي» مماثلة لوظيفة معلّمه لوكا، وذلك ليبعده عن القسم العربي من خزانة الكتب الملكية وهو الذي كان لوكا قد وعده بوظيفة فيه. ولكنّ هذا الأخير الذي رأى وظيفته مهدّدة من جهة خادمه أحبط مسعى غالان للحصول على فرمان لحنّا وهذا بعد أن كان الشابّ قد أصبح في مرسيليا جاهزاً للإبحار… هكذا وقع حنّا ضحيّة مؤامرتين متقاطعتين ألزمتاه بالعودة إلى بلاده.
أصبح غير مستحسن، من بعدُ، ولا جائز أن ينشر الأصل العربي لرحلة حنّا دياب من غير إفادة شاملة من جهد التحقيق الضخم الذي صحب الترجمة الفرنسية. فقد أضاف ثلاثي الترجمة والتحقيق باولا فهمي تييري وبرنار هيبيرجيه وجيروم لنتان إلى علمهم وكفاءتهم الضافيين معرفة آخرين كثيرين استفتوهم في نقاط كثيرة بعينها وشكروا لهم إمدادهم بما أصبح مادّة لهذه الحاشية أو تلك. وقد صحّحت الحواشي والمقدّمة هفواتٍ كثيرة وقع فيها حنّا نفسه وفسّرت ما غمض من عباراته ودقّقت في هويّات أشخاصٍ ذكَرَهم عرَضاً وفي وقائع أشار إليها. لا بدّ إذن من نشر الأصل العربي لرحلة حنّا دياب ولا بدّ أيضاً من الاتّفاق مع أصحاب الترجمة الفرنسية ومع ناشرهم (سندباد-آكت سود) على صيغة تأذن للأصل أن يفيد من مزايا الترجمة. وهو ما يبدو أنه حصل في ما مضى لكتاب «ألف ليلة وليلة» نفسه بفضل حنّا دياب وأنطوان غالان.

٭ كاتب لبناني

في السلام اللبناني واللاجئين السوريين

أحمد بيضون

Aug 10, 2016

… وأمّا السرّ الأكبر في الاستثناء النسبي للبنان من الحريق الجاري في المحيط فيبقى، في اعتقادنا، كامناً في مسألة اللاجئين. في الداخل اللبنانيّ، توزّعت الأفواج اللاجئة في ثنايا بلاد ترزح المرافق الأساسية والخدمات العامّة فيها تحت وطأة قصورٍ فادح يزيده الفساد ثقلاً.
هبطت هذه الأفواج أيضاً على ظرف تراجع في النموّ اللبنانيّ مظهره الأبرز ازدياد نِسَب الفقر والبطالة وهجرة الشباب. وقد كان لأزمة النظام السياسي نصيبٌ معتبر من المسؤولية عن هذا التراجع. على أن الأصابع اللبنانية استسهلت الإشارة إلى اللاجئين على أنهم منافسون ذوو خطر لطالبي العمل من اللبنانيين… وهذا فضلاً عن رزوح الكتلة اللاجئة الثقيل بالضرورة على خدمات ومرافق أشرنا إلى تهالكها. والحال أن المنافسة السورية (ومعها الفلسطينية وغير اللبنانية الأخرى، على اختلاف المصادر) قائمة من زمن بعيد، في القطاعات التي يُسمح لغير اللبنانيين بالعمل فيها. وهي منافسةٌ مفتوحة على الدوام لأن البلاد مفتوحة، فلا حدّ لها سوى حجم الطلب ولا تحتاج إلى موجات اللجوء لتبلغ مداها.
مع ذلك كلّه، كان لا بدّ من مواضعَ في سوريا وفي محيطها يتجمّع فيها ضحايا النكبة السورية ويتيسّر منها صدّ موجاتهم عن بلاد أخرى بعيدة تخشى تدفّق جحافلهم عليها. وهو ما يكفي ليحظى السلام اللبناني، أسوة بسواه ممّا يشبهه، بعناية الدول الغربية كلّها ومعها دول موالية لها في الجوار وضالعة في المقتلة السورية وقادرة على التأثير في الموازين اللبنانية. ومعها أيضاً أطرافٌ طائفية لبنانية تدين بولاء مباشر أو غير مباشر لهذه او تلك من دول الفئتين. على أن الطرف المواجه في الحرب السورية، أي الدولة الإيرانية وحليفها النظام الأسدي، على الخصوص، يرجّح، حتى إشعارٍ آخر، إحجامُه عن السعي إلى إشعال حربٍ أهلية عامّة في لبنان وسعيُه هو أيضاً إلى استبعادها. وهذا مع حرصه على إبقاء مؤسّسات الدولة السياسية تتخبّط في تهالكها الحالي. فإن القوة اللبنانية الرئيسية لهذا الطرف، أي حزب الله، مستغرقة بما بات يفوق طاقتها، على الأرجح، في الحرب السورية ولا تزال الحاجة قائمة إليها هناك… بل هي تتزايد شدّةً، على ما يظهر.
فضلاً عن ذلك، تؤدّي الحرب الأهلية، بالضرورة، إن هي وقعَت، إلى زلزلة قوى الدولة اللبنانية وأجهزتها من عسكرية وأمنية، وهي التي لا يزال يعوّل عليها هذا الطرف المساند للنظام الأسدي في ضبط الأخطار التي يزكّي دوره السوري تعرّض من يواليه من الكتل الطائفية لها في لبنان. وهي أخطارٌ ستكون الكتلة اللاجئة الضخمة مصدراً لبعضها حتماً إذا حلّ منطق النزاع الأهلي محلّ منطق الضبط الأمني وأصبحت هذه الكتلة، أو بعض أوساطها، في الأقلّ، بما يميّزها من سمات الهشاشة، غرضاً للاستقطاب المثابر ولإغراء الضلوع في النزاع.
هذا الحذر من حربٍ لبنانية لا يسري، بطبيعة الحال، على أطراف في الصراع السوري هي أكثر أطرافه شراسة وتوحّشاً وهي الأطراف الجهادية. فهذه لها حسابات تخصّها هي ما يعيّن اختيارها الأهداف لضرباتها. وهي لم تستثن الساحة اللبنانية من هذه الضربات وقد تزيد، تحت وطأة الضغط المتزايد عليها في سوريا، من وتيرة الضربات المسدّدة إلى بلاد أخرى أقربها لبنان، إذا هي وجدت سبلاً إلى الزيادة. وهو ما يبقي الأمن اللبناني هشّاَ ويعرّض اللاجئين السوريين، من جهتهم، لتصرّفاتٍ وردودٍ لبنانية تنكيلية التوجّه، منحطّة الأساليب، لا تعدو، في الواقع، أن تُوَسّع من مسارب المنطق الجهادي إلى صفوفهم. ولكن لا يتجاوز ما تثمره هذه الشبكة من العوامل، حتى تاريخه، حدَّ الضربات الموضعية التي يراد لأذاها أن يكون فادحاً… ولكن لا توحي وتيرتها وخريطة مواقعها ببلوغ المواجهة حدّ النزاع الواسع الانتشار.
لا يقرّ معظم السياسيين اللبنانيين بهذا الفضل للاجئين السوريين، لا هُم ولا أبواقهم على اختلاف الفئات. ولا يقرّون لهم بأفضالٍ أخرى منها أنهم لا يقيمون جميعاً في تجمّعات عشوائية بل يقيم الميسورون منهم، وهم غير قلائل، في شقق استأجروها أو اشتروها ممتصّين جانباً من الكساد في القطاع العقاري ومن عطالة السياحة ومنعشين تجارات خاملة. لا يقرّ السياسيون ولا الأبواق أيضاً بمصائر ما يصل من معونات دولية للاجئين ولا يُعرف ما يصل منها إلى هؤلاء فعلاً وما يقطع عليه الطريق فسادٌ لبناني متمرّس، بعضُه سياسي وبعضه غير سياسي…
على هذا الإقرار بالفضل، يؤثر هؤلاء الساسة والأبواق مجاراةَ حاجة اللبنانيين العاجزين عن ردّ الضربات إلى أكباش محرقة: أكباشٍ يستسهلون الوقوع عليها في صفوف اللاجئين. يتملّق الساسة هذه الحاجة التي تموّه مسؤوليّتهم عن الأمن اللبناني ومسؤولية بعضهم في القتال السوري وفي ذيوله اللبنانية. هذا التملّق يستثير، على الضفّة الأخرى من الهوّة الطائفية، إنكاراً مفرطاً لوجود جانب متعلّق بالأمن في عبء اللجوء الضخم. ولا يعالِج هذا الإنكارَ ـ بل يعزّزه في الواقع ـ ما تجنح إليه أجهزة الأمن اللبنانية من أساليب الإيذاء والإهانة عند مداهمتها تجمّعاً للاجئين أو تعقّبها المخالفين المفترضين من بينهم. ولا تسهم في درء مخاطر الجنوح الجهادي ظروفُ توقيفٍ واعتقالٍ لألوفٍ باتت مشهورة الرداءة، موصومةً بالتعسّف، وتأجيلٌ متمادٍ للمحاكمات يحصى بين ضحاياه لبنانيون وسوريون وفلسطينيون…
أي أن ما يُفترض أن يكون مدعاة تقاربٍ واسع النطاق، بما هو إرهاب تغلب الخشية منه ما عداها، يستوي، بفعل ضعف الزعامة والمسؤولية، وقوداً لنار طائفية قد يعود وقودها الناس والحجارة. وما يُفترض أن يكون قمعاً للجنوح إلى الإرهاب يستوي توسيعاً لحواضنه المحتملة وإغراء لبعض من لم يكونوا في وارده بالانضمام إلى بؤره.
وكان النظام الأسدي قد دأب، طوال سنين، على تعزيز الجهاديين والبطش بالمعتدلين من معارضيه، مبتغياً وصم كلّ معارضةٍ له بالإرهاب وتأليب العالم على مناوئيه لا معهم. وفي لبنان تتضافر عوامل مختلفة لإضعاف المعتدلين السنّة القابعين في السلطة لا في المعارضة. ولا تردّ هذه العوامل إلى إرادةٍ واحدة على ما هي عليه الحال في سوريّا. وذاك أن «وحدة الإرادة» صفةٌ يصعب تحقّقها في النظام اللبناني وتبقى بعيدةً عن منطق عمله.
عليه فإن بعض هذه العوامل مرجعه إلى سيرة أولئك «المعتدلين» أنفسهم في الحكم وبعضها إلى سياسة الوصيّ السعودي عليهم ومسلكه معهم. ولكن رأس العوامل ما يفرضه من شعور بالتفاوت في القوة بين الطائفتين سلاحُ حزب الله وتفلّته، بدعم مثابر من إيران وبلا إمكان داخلي لمقابلته بالمثل، من موجبات التوازن اللبناني وممّا يفرضه هذا التوازن من قيودٍ نسبية على كلّ من أطرافه. ينتهي هذا، من بابٍ آخر، إلى خلخلة التمثيل السياسي اللبناني للسنّة فينذر بطمس النطاق الوطني لهذا التمثيل وبتعزيز التداخل على الأرض، تحت الراية الجهادية، ما بين أوساط سنيّة لبنانية وسورية وفلسطينية يجمع بينها الشعور بالمهانة ورفض ما هو لاحق بها من استضعاف.
هذا والمساق الذي يفرضه الظلم والاستضعاف من جنوح المضطهدين أو المغبونين من المسالمة إلى العنف معلوم الأوصاف والتفاصيل. فهو معروفٌ من أيّام الجزائر وفيتنام بل من قبلهما، على الأرجح. ولكن لا أحد يتعلّم من أحد! أم أن ثمّة ما يبرز كلّ مرّةٍ هنا أو هناك ليجعل التعلّم غير ممكنٍ أصلاً؟…

٭ كاتب لبناني

أسبابٌ وأثمانٌ لسلامة اللبنانيّين

أحمد بيضون

Aug 03, 2016

يدرك لبنانيون كثيرون أن ما يحظون به من سلامة نسبية في خضمّ الحروب الدائرة على أبوابهم أو غيرَ بعيد عن بلادهم له أثمانٌ وشروط. بين أثمانه (على ما في الأمر من مفارقة) أن يبقى هيكل الدولة المؤسّسي متهالكاً فتبقى السلطة التشريعية شبه عاطلة عن العمل وتبقى السلطة التنفيذية ندوةَ زجل: يتبادل أطراف الحكومة الهجاء ولكنهم يعاودون اللقاء عند الحاجة الماسّة. يلتزمون حصر أبحاثهم في أمور محدودة لا يغادرونها ويتركون أموراً أخرى قد تفوقها أهمّية ولكن الدخول فيها منبوذٌ سلفاً من جدول أعمال الحكومة: منبوذٌ تحت طائلة انفراط العقد الحكومي من الجولة الأولى أو قبلها.
وقد وصلت البلاد في سنتين أو ثلاث إلى استكمال هذا «الثمن» لسلامتها النسبية: بقيت سدّة الرئاسة خالية، وأصبح مجلس النواب ملزماً، ما خلا الحال التي تطلق عليها صفة «الضرورة»، بالامتناع عن الاجتماع ما لم يكن غرضه انتخاب رئيس للجمهورية… وهذا بعد أن انتُقِصت شرعية المجلس أو أُبطلت بالتمديد… وبات على مجلس الوزراء، بصفته البديل الاضطراري من رئيس الجمهورية، أن يتوخّى الإجماع في ما يتخذه من قرار ما دام يحلّ محلّ الرئيس المفقود «مجتمعاً» وليس بأكثرية أعضائه.
ولا مراءَ أن الضرورة، بما لها من أحكام، هي ما أملى على أهل الحكم هذا الذي أطلقوا عليه اسم «تشريع الضرورة» وأوجدت منافذ بقيت ضيقة من ضرورة الإجماع الحكومي أيضاً. ولكن وجود الضرورة وعدمه ومعهما إمكان اتّخاذ القرارات بالأكثرية الحكومية وعدمها بقيت كلّها مواضيع مفتوح فيها باب الاجتهاد على مصراعيه ومفتوح، قبل الاجتهاد وبعده، باب تعطيل المؤسسة من أصلها إذا بدا الاجتهاد موضعَ معاندةٍ جادّة تجعله غير مرجّح النفاذ.
بلادٌ هذه حالها يخوض جيشها ما يشبه الحرب على الحدود اللبنانية السورية وتضع أجهزتها الأمنية يدها على الخلية الإرهابية تلو الخلية. فلا يظهر اختلاف من هذه الجهة بين حال تضعضع السلطة الذي آلت إليه البلاد وحال الفاعلية العادية التي كانت في ما مضى حال مؤسسات السلطة السياسية. بل إنه قد يجوز اعتبار يومنا العسكري-الاستخباري أحسنَ من أمسنا، فيبدو كأن هذا الجانب شبه الحربي من حياة البلاد مجمَعٌ على بقائه سليماً نسبياً ومرعيّ من قوىً بعيدة غير منظورة… أو هي منظورةٌ، في الواقع، لمن شاء أن يمعن النظر.
تُواصل قطاعاتٌ أخرى ذات أهميّة، في البلاد، سيرتها المعتادة وكأنها غير محتاجة فعلاً إلى السلطة السياسية: القطاع المصرفي جمُّ النشاط يقوده مصرف لبنان ويقود به ومعه نموّ المديونية العامّة. ولم يُفْضِ إلى نقص ظاهر في نشاطه ما أملاه عليه القانون الأمريكي من مجابهة مع حزب الله ولا التفجير الذي تعرّض له أحد المصارف الكبيرة، قبل أسابيع، وبدا عقوبة على الاستجابة لهذا الإملاء. المطار والمرافئ على عهد مستخدميها بها وعلى سنّة ما هي معروفةٌ به من صفقاتٍ وعمولات… والاستيراد والتصدير يجدان سبلاً للإبقاء على وتائرهما المعهودة أو قريباً منها، إلخ.، إلخ. وهذا، بطبيعة الحال، فضلاً عن قطاعات ووجوه نشاط مختلفة: اقتصادية أو اجتماعية، إعلامية أو ثقافية، هي أصلاً أَوْهَنُ صلةً بأجهزة الدولة وسلطتها.
ليس كلّ شيء على ما يرام بطبيعة الحال. ثمّة خدماتٌ هي في عهدة الدولة أصلاً تهاوت أو ازدادت تهاوياً. أزمة النفايات أصبحت، من سنةٍ وبعض سنة، أبرزَ أنموذجٍ لهذا التهاوي. ولكن أزمة النفايات لا تحجب أزمة الطاقة ولا أزمة المياه ولا التخريب المتواصل للبيئة ولا ما يلي هذا وغيره من تردّ لشروط العيش في المدن خصوصاً. ولا يحجب هذا كلّه (بل هو يبرز) الاستشراءَ الفادح للفساد، في ظلّ تحلّل السلطات، ولا التضخّمَ المهولَ الذي ينهش ميزانيات العوائل…
يبقى، مهما يكن من شيءٍ، أن ثمّة ثمناً مضافاً تؤدّيه الدولة من تماسك مؤسساتها السياسية ومن سلطتها وقدرتها على الحكم، أي من سيادتها المثغورة أصلاً، في نهاية المطاف… تؤدّي هذا الثمن فداءً لتلك السلامة النسبية التي ما يزال ينعم بها اللبنانيون وهم أوّل المندهشين من استمرارها. لكن ثمّة حدوداً مرعية لهذا الثمن نفسه تأذن ببقاء ما هو باقٍ من سلطة الدولة وباستمرار ما هو مستمرّ في العمل من مرافق وقطاعات.
ما الذي ظلّ يجعل هذا الثمن مقبولاً، على وجه الإجمال، بحدوده، ويبقي السلامة المشار إليها متاحة، حتّى اليوم؟ يجب الالتفات، طلباً لجواب متماسك، إلى الوظيفة التي يضطلع بها لبنان، بسياسته واقتصاده وإعلامه، بتجهيزه العسكري والأمني وبمجتمعه «المدني» في الحروب الدائرة في محيطه وخصوصاً في الحرب السورية. والخدمات المشار إليها متنوّعة. فيها ما هو قتاليّ وهو يتمثّل في مشاركة حزب الله في الحرب السورية مشاركةً تستحدث في العلاقة بين السوريّين واللبنانيّين أزْمةً مذهبيّةً لم يكن لها وجودٌ من قبل، وهي باتت موعودة بمستقبلٍ مديد.
تلك مشاركة قدّمت لها قيادة الحزب مسوّغاتٍ كان كلّ منها يُظهر خواءَ سابقه. ولم يبق منها اليوم، بعد أن وصل مقاتلو الحزب إلى حلب وأريافها، سوى خدمة الطموح الإيراني إلى الهيمنة الإقليمية وهو المسوّغ الأصلي.
وتضع هذه المشاركة لبنان كلّه بما هو دولة في وضعٍ نادر المثال. وذاك أن طرفاَ طائفيّاً من أطراف الحكم في البلاد يمضي في حربٍ أخذت مدّتها تقاس بالسنوات بمعزلٍ عن الأطراف الأخرى، بل بخلاف الموقف السياسي الذي يعتمده في النزاع السوري، بعضٌ من أهمّها. وتتحمّل إيران الكلفة الماديّة المباشرة لهذه المشاركة. ولكن لبنان يتحمّل كلفتها البشرية، وهي الأفدح، ويتحمّل كلفاتٍ غير مباشرة لها: بينها جانبٌ معتبر من ثقل الكتلة اللاجئة التي تقع على الدور الحزب اللهي في القتال مسؤوليةٌ مباشرةً في تهجيرها من المناطق القريبة إلى الحدود بين الدولتين.
وفي الخدمات التي يتيحها لبنان المتهالك المؤسّسات ما هو استخباريّ يتجاوز حاجة البلاد نفسها في هذا المضمار.
إذ لبنان اليوم ساحة تجسّس للأطراف الضالعة في الحرب السورية من قريبٍ أو من بعيدٍ، بعضها على بعض. ويبدو التعاون جليّاً، على سبيل المثال، بين أجهزة الأمن اللبنانية وأجهزة دولٍ أخرى يهمّها التفادي من أحداث بعينها. فيجوز التخمين أن الأجهزة اللبنانية تدين لهذا التعاون وللمعونة الخارجية عموماً، على اختلاف أصنافها، بجانب من فاعليّتها المستمرّة على الرغم من تداعي القيادة السياسية…
من الخدمات المشار إليها أيضاً ما هو ماليّ تبقى له، مشروعاً كان أم غير مشروع، منافذُ في النظام المصرفي اللبناني على الرغم من أي تشدّد في المراقبة… وهذا على نحوِ ما يستمرّ، أيّةً تكُنْ شدّةُ القمع، غسلُ الأموال والهربُ من الضرائب، مثلاً، في سائر أقطار العالم.
ومن الخدمات ما هو إعلاميّ… إذ لا تخفي الأزمة التي تضرب الصحافة الورقية وبعضاً من قنوات التلفزة الفضائية وجود جمهرة كثيفةٍ من ذوي الخبرة الإعلامية أو الصحافية ينفع استقطابهم، مع بقائهم في قواعدهم البيروتية، مؤسّساتٍ إعلاميّةً وصحافيّةً مختلفة يتّخذ بعضها لبنان مركزاً له ويقيم بعضها في أقطارٍ أخرى. وقد انضمّ إلى اللبنانيين من بين هؤلاء آخرون هجّرتهم الحرب من سوريّا أو من العراق…
تلك كلّها كُلفاتٌ يؤدّيها اللبنانيون، مجتمعاً ودولة، ثمناً لحفظ سلامتهم الشبحية. على أن مسألة اللجوء السوري، وقد أصبحت متقدّمة بين كبريات المسائل المطروحة على البلاد، توجب علينا وقفة خاصة بها… فنكرّس لها عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني