النَسَب والمكواة

أحمد بيضون

ونحن صغارٌ، كنّا نريد البَكَ أن يكون جميلاً. وأنيقاً أيضاً. كان بهاءُ الطلعة ما أمكَنَ ومعه المكواة، قَبْلَ الحسَب والنسَب، ضرورةً ينْشُدها الصِبيةُ للبَكَويّة…
أذكر يوماً، في عين إبل (من أعمال الجنوب اللبناني) تدبّرْتُ فيه أمري للمشي وراءَ أحمد بك مباشرةً، وكنتُ دون العاشرة. كنّا جَمْعاً من كبارٍ وصغارٍ متّجهين إلى منزلٍ ما. وكان البكُ يلْبَس بذلةً فستقيّة اللون، وهو ما لم يكن شائعاً لملبوس الرجال. كنتُ في حيرةٍ من أمر اللون: هل هو خاصّ بالبكوات أم أن هذا البك ناقصُ الذوق أو غريبُ الأطوار؟ وَأَمَّا ما حَسَم المسألةَ فكانت غُضوناً رأيتُها في ظهر سترة البك تأتّت، على الأغلب، من طول الجلوس في السيّارة. لم يكن لي، بالغةً غيرتي ما بلغت، أن ألحق البك بالمكواة. ولكن كان عِظَم الخطب كافياً لأباشر الخروج من دائرة السحر البكوي…
في ذلك اليوم أو في غيره، شاهدتُ آثار بثورٍ في وجه البك قد تكون نَجَمت من إصابةٍ قديمة بالجدري. كانت تلك طامّةً كبرى. وكنتُ أسمع بعض أقاربنا يصِفُه بـ»الأنْقَر» حين يخاصمه والدي. ولكنه كان يبقى أحمد بك في الصلح وفي الخصومة.
كان الصلح والخصومة خاويين تقريباً. تسوّغهما بالكأد مقارنةٌ بين البيوت أو بين الأشخاص، تنقلب نتيجتُها رأساً على عَقِبٍ تبعاً لتقلّبات الأحلاف الانتخابية. فإذا انعقد الحلف بين عائلتنا والبك أصبح بيت البك كعبةَ الجبل. وإذا استأثَرَ العائلة المقابلة لنا برضا البك وحالفَت عائلتنا خصماً لهذا الأخير، نفَضْنا الغُبارَ عن صورة «الإقطاع» وشُرورِه. هذا مع العلم أن المآخذَ التفصيلية كانت تغني عن لفظ «الإقطاع» الخطِرِ هذا…
هذا الخَواء هو ما جعل طلْعةَ البك محلَّ اهتمامٍ عندي يُسْعف في التعلّق بشخصه أو لا يسعف. وهو ما اتّخذتُه مقياساً أوّل للمفاضلة بين بكواتٍ عرفتُهم في تلك الأيام. وهو ما مثّل إلى حينٍ أيضاً حبلَ سُرّةٍ سياسيّاً بيني وبين والدي. كانت هذه الفئة من الألقاب قد انقطعت عن كلّ مؤدّى عملي منذ أفول السلطنة العثمانية.. بل قبل ذلك. وفي العهد الهاشمي الأوّل، أمكن لـ»قبضاي» بيروتي أن يحظى بلقب الباشوية – على ما شاعَ – لقاءَ وليمةِ سخية…
وأمّا والدي فكان ينتمي إلى فئة «الوجهاء». وهذه تقع في موقعٍ حائر بين الأفندي والبك. فكان يخاطبه الغرباء، في الرسائل، تارةً بهذا اللقب وتارةً بذاك. وأما في بيئته، أي في البلدة وفي الجوار، فكان «أبا أحمد» والسلام.
وهو كان يقترب من الخامسة والأربعين حين كنت أقترب من العاشرة. وكان لا يزال يجمع، في تلك السنّ، قوّة البنية إلى وَسامةٍ ملحوظة. كانت قوّة بنيته تجعله سنداً موثوقاً للغلام الهزيل الذي كنْتُه، فضلاً عن العائلة كلّها. فالشجار لم يكن مستبعداً بين الحلفين العائليين في البلدة (بالحجارة وبالعصِيّ، في الغالب). وكانت الوفرة في رأس المال العضليّ مستحسنةً في الزعيم، وإن تكن حاجته إليه رمزيّةً بحتة. فقد كان له مَن يشاجر عنه. وأمّا الوسامة فكانت علامةَ تفوّقٍ حاسمٍ على الأنداد ناهيك بالخصوم…
وما من ريب أن اقتران المكانة بالوسامة كان ينتقل إلينا، نحن الصبية، من طريق النساء. فمن تعليقاتهن المتناثرة، حين يذكرن هذا الزعيم أو ذاك، كان يتسرّب إلينا ما علينا أن نتمثّل به في شخص الزعيم: عسى أن يعجبهنّ فينا بعض ما يعجبهنّ فيه.
لا عجب، والحالة هذه، أنه كان سهلاً على عبد الناصر، حين وصلت صورُه، أن ينشئَ معنا، نحن الصِبْية، ومع بعضِ الكبار أيضاً، علاقةً مباشِرةً وأن يعفينا من الحاجة إلى البكوات من أصلهم. فتوقّفنا عن حفر صورة فيصل الأوّل على الحجارة. كان الملك قد ماتَ قبل ولادتنا. فلم يفصل بيننا وبين عبد الناصر سوى صورةٍ يتيمة مشوّشة للملك كنّا نقع عليها هنا أو هناك وسرعان ما أزاحها «المارد الأسمر».
أيّام!
أمرٌ آخر خليقٌ بالذكر هو أنه كان في متناولي، إلى البكوات الكثيري التداول، بيكان آخران، في أدنى تقدير، يسعني نعْتُهما بـ»النادرَيْن».. أوّلهما حسن بك، ابن عمّ أحمد بك. وكان يعرّج على بيتنا، في أوقات متباعدة، قادماً من قريته البعيدة، لا في سيّارة، بل على حصان! وكان يعتمر كوفية وعقالاً ويلبس لباس الخيّالة. كانت علاقته بأحمد بك متقلّبة شأن علاقة والدي بالمذكور. ولكن كان صعباً أن يكون له حظٌّ في الزعامة، إذ كان أخوه الأكبر محمّد يتقدّمه في الاستحقاق، وكان بيتهما قد طال مكوثه في الهامش. فكان محمد بك هو الذي يعتمر طربوشاً شأن والدي وبعض من عرفتهم من البكوات والأفندية… فإن آخرين منهم (متّهمين بالحداثة!) كانوا قد أصبحوا حاسرين بعد تطَرْبُش. ولكن حسن بك كان في نظري، مع ذلك، صورة البك المثلى: شباب! كوفية حريرية سكّرية اللون، قامةٌ شامخةٌ متّسقة وطلعةٌ سمراء مشرقة… وحصان. فمن أولى من هذا بالبكوية وأيّ ظلمٍ حبسه في الهوامش ومنح المتن لـ«الأنقر»؟
كان والدي خيّالاً قديماً وتاجر خيولٍ في بعض أيّامه. وحين بلغتُ سنّ الإدراك، كان لا يزال يقتني فرساً أو يشترك في ملكية فرس. فهذه الشركة كانت واردة. ولكن نادراً ما رأيته يمتطي الفرس. وحين توسّطتُ العقد الثاني من عمري، بدأتُ «ألطُش» ما يعجبني من خزانة الوالد: ربطة عنق من هنا وحذاءً من هناك، على الخصوص. وكان هو لا يردعني ولا يقول ما يفيد الرضا عن هذه الأفاعيل أيضاً. كان يدعني أفعل وكنت أتحاشى الإفراط. وفي وقتٍ ما، استوليت على شيئين كان الوالد قد أهملهما طويلاً: الكوفية الحريرية مع العقال وجزمة الخيّال! وقد رحتُ ألبسهما أحياناً من غير فرس!
وما من ريب في أن خطّتي كانت التشبّه بحسن بك. ولكن كان صاحب الكوفية والجزمة، أي الوالد، ماثلاً في صورتي المتوخّاة أيضاً. وحين ألتمس اليوم معنىً لما كنتُ أفعلُ أرجّح ان الرجلين كانا وجهين لصورة واحدة هي صورة الوالد. كان لحسن بك امتياز الفتوّة إذ كان أصغر سنّاً من والدي. وكان له امتياز التجسيد التامّ، وإن يكن عابراً، لمثال الزعامة المستقرّ في مخيّلتي… إذ لم أكن رأيته إلا فارساً في لباس الفرسان… هذا فيما كانت صورة الوالد أغْزرَ ملامحَ بكثيرٍ وأقلّ قابليةً لهذا التجريد، بطبيعة الحال. كان حسن بك وسيطاً ممتازاً، قليل الكلفة، يجنّبني مغبّة الاقتداء المباشر بالوالد… فهذا الاقتداء لم يكن مرغوباً فيه في وقتٍ كان فيه التحرّر من سطوة الوالد ومن سلطانه هو المناسب للفتى الذي كنته. يبقى، بعد هذا، بك نادرٌ آخر وملاحظاتٌ أخرى ندّخرها للعجالة المقبلة.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

في الحاجة إلى موارد التعبير

أحمد بيضون

لا يجوز تصحيحُ أخطاء النحو في رسائل الغرام فهي بعضُ فتنتها. وقد يستحبّ للشاعر أو للأديب المتشاعر أن يسعى في المزاوجةٍ، على نحوٍ ما، بين عبارته، أبنيةً وألفاظاً، وما في الموضوع الذي يقاربه من نقصٍ وتعثّر.
وقد يكون المسرح بلا زيادةٍ أبرز «مسرحٍ» يدرِك فيه استلطاف الانحراف عن الجادّة اللغوية أقصى شرعيّته ويستطاب فيه ثأر الخطأ من الصواب. يصحّ هذا، على الخصوص، حيث يميل المخرج وكاتب النصّ إلى ما يعرف باسم الباروديا…
وأمّا حالة الناقد أو المحلّل فمختلفةٌ جدّاً. إذ هو محتاج إلى أقصى المستطاع من الإحكام والغنى في العبارة ليسبُرَ ما يسفر عنه التشابك بين عدّته النظرية والوقائع من صور اللَبْس والتردد، ومن العِيَ والإلغاز وليجلو أبعاد ذلك ودلالاته.
ولنُضف ههنا أن معرفة اللغة (ونقصد العربية، على التخصيص) أبعدُ شَيْءٍ عن أن تختَصر في معرفة الإعراب أو معرفة إملاء الكلمات. فمع أن الخطأ في علامة الإعراب، في القراءة أو في الكتابة، خطأٌ، لا ريب في ذلك، ما دام يسوق إلى الخلط في وظائف الألفاظ في الجملة، أي، مثلاً، إلى وضع الإبريق في موضع كاسر الإبريق… فإن هذا ليس أسوأ ما في نقص المعرفة باللغة. وقد أوصى لغويّون بالاستغناء عن الإعراب لأن ما يفيده الإعراب يدركه السامع أو القارئ بالحدس في أكثر الحالات. وهذه وجهة نظرٍ جديرة بالاعتبار وإن لم يكن سائغاً، على الأرجح، أن تعتمد برمتها بلا إمعان نظرٍ في الحالات.
لا يُرَدّ صلبُ المعرفة بالعربية أيضاً إلى القدرة على اجتناب الخلط، في الكتابة أو في النطق، ما بين السين والصاد ولا إلى إتقان القواعد المعلومة لكتابة الهمزة. لهذا ولِما كان من بابه اعتباره، بطبيعة الحال، ولكنه ينتمي إلى أوّليات المعرفة بالفصحى ومبادئها وليس إلى لُباب هذه المعرفة. وأما هذا اللباب فيتمثّل في أمور أخرى من قبيل نحو الجُمَل وما يتيحه التقديم والتأخير في عناصر الجملة من لَعِبٍ بموازين الدلالة وما توفّره عشرة المعاجم وكبار المنشئين من معرفةٍ بالفروق الدلالية بين المترادفات، وما تتيحه هذه المعرفة من إحكامٍ ومرونة في التعبير هما– لا التمحّل ولا «المحسّنات»، على اختلافها– ما يستحقّ اسم البلاغة. هذا وتزداد الحاجة إلى الغزارة في موارد التعبير والدقّة فيه كلّما كان المراد قوله أقرب إلى الاحتمال وتشابه الوجوه وإبطان الشكّ منه إلى اليقين الفجّ أو المباشر.
وإذ يبتكر أهل النظر مصطلحاً لهم ولا يزالون يزيدون فيه ويجهدون لإرهافه فلأن اللغة لا تكفيهم وليس لاستغنائهم عن تعلّم اللغة. فلا يستقيم تحليلٌ لمرحلةٍ تاريخية أو لحركةٍ اجتماعية أو لأْزمةٍ نفسية بعُدّة لغوية تقصّر عن وصف حذاءٍ بالٍ. وهذا مع أن الأزمة النفسية، مثلاً، قد تتّخذ مظهراً لها العجزَ عن الكلام!
هذه الحاجة إلى ثروةٍ لغويّة وإلى تمكّن من أصول التعبير شرطاً للإحكام في أداء المعارف، تجعل من الفصل بين ما يسمّى «أدباً»، على اختلاف الأنواع، وما يسمّى «تحليلاً سياسياً» أو «معرفةً اجتماعية» أو «روايةً تاريخية» أمراً يجب النظر في إمكانه، لا إلى صعيد متانة العبارة وجمالها، بل إلى ضوابط أخرى معتمدةٍ لكلّ نوع. فإن النظر عن كثب في أعمال المؤرّخين، مثلاً، يُظهر أن كبارهم، من ابن خلدون إلى فوكو، كانوا منشئين كباراً معتنين بنضارة عبارتهم وبألقها وحسن سبكها. وهذه أيضاً حالُ «نفسيين» و»اجتماعيين» نذكر من بينهم فرويد وليفي ستروس وحال فلاسفةٍ ليس أوّلهم ديكارت ولا آخرهم سارتر، الذي قرن البحث الفلسفي بالرواية والمسرحية، إلخ.
لذا كان مستهجناً أن يرمى الباحث في الفلسفة أو في علوم الإنسان والمجتمع بـ»البلاغة» كأنها تهمة وأن ينسب إلى «الأدب» لا لسبب إلا لجمال عبارته وأسلوبه، وأن تعدّ هذه النسبة حطّاً من موقع الباحث وشأنه في الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه. وهذا النوع من «المآخذ» شائع في ديارنا وهو يؤول إلى تخلّص «الناقد» من عبء التدبّر المتروّي لما يقرأ أو يسمع. وذاك أن البلاغة هي ضبطُ الكلام بالمقصود وهي بالتالي أبعدُ الأشياء عن الكلام الفارغ. هذا من جهة… ذاك أيضاً أن الأدب يستدعي التخيّل، في الأعمّ، ولكن ليمضي بتوسّطه شوطاً أبعد في استقصاء الحقائق. وهذا شوطٌ قد لا يفلح في قطعه الكلام الغريب عن الأدب ولو كان يُنسَب إلى العِلْم. الأدب عالَمٌ كلامي مغايرٌ جدّاً، بالتالي، لعالم الكلام الفارغ.
في هذا المعرض نفسه، يحسن التذكير بأن لفظ الأدب يستعار أيضاً لسموّ الخُلُق. فيقالُ فلانٌ مؤدّبٌ أو أديب. وهو ما يشير إلى أن الأدب، بعموم معناه، مشروطٌ بالبعد عن الكذب وعن السَفالة. لذا كان الاكتفاء من النقد بالقول «هذا أدبٌ وبلاغة» هو، لا غيره، الكلام الفارغ. إذ هو يقوم على جهلين: جهلِ معتمديه بما هما الأدب والبلاغة وجهلهم بكيفية الردّ المقنع (أي البليغ!) على رأيٍ لم يوافق رأيهم.
يستحسن التنبيه، أخيراً، إلى أن الكلام، أيّا كانت سويّته، يعبّر، تلقائياً، عن شيءٍ في قائله، ظاهرٍ أو خفيّ، يُدْرِكُ مباشرةً أو يستخلص بالتحليل. وهذا لا يحتاج، بصورته العامّة، إلى براعةٍ استثنائية من أيّ نوع. وأمّا التعبير المتعمّد بالكلام عن حقيقة ذاتية أو موضوعية فهو محتاج إلى دُرْبةٍ وتمكّن. فلا يزداد الكلام تعبيراً عن حقائق الأمور كلّما ازداد تلعثماً في الصياغة أو فقراً في الموارد اللغوية أو البيانية أو سوقيةً في الألفاظ: أي كلّما ازداد بعداً عن الأدب والبلاغة، بل إن هذين أفْعَلُ ما تدْرَكُ به تأتأة العالَم وأصْدَقُ ما تُتَرْجَم به. ليس على أحدٍ ـ إن صحَّ هذا ـ أن يعتذر عن بلاغته وأدبه، بل الأَوْلى تمنّي الازدياد من هذا ومن تلك وبذلُ الجهد في سبيله.
يبقى أن علينا التسليم بأن البلاغة والأدب ليسا واجبين على من لا يريدهما. فإن كلّاً من البشر حرٌّ في اعتماد «الأسلوب» الذي يلائمه أو ذاك الذي يقدر عليه: في الكلام وفي غيره من أشكال السلوك. ولكن ليس لأيّ كان أن يعتبر البلاغة والأدب سُبّةً لغيره من الناس ومطعناً يسفّه به، ولو متظاهراً بالمدح أحياناً، أيّ رأيٍ يراه هذا الغير. هذا بينما يغطّي المنتقد، بهذا الاعتبار، عجْزَه أو تكاسله عن جلاء مآخذه.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

شقّةٌ في رأس بيروت

أحمد بيضون

قبل ثلاثين سنة، أسبوعاً بأسبوع، انتقلنا إلى شقّتنا هذه في رأس بيروت. كنّا هاربين من «خطّ التماسّ» السيّئ الصيت الذي أقمنا على مقربة منه عشر سنواتٍ من عمر الحرب. في مقامنا الجديد، كانت السماء واسعة فوق رؤوسنا، في تلك الأيام، ومن شرفتنا كان يمتدّ في الفضاء، بين المباني القريبة والبعيدة، زقاق أفقي ينتهي إلى البحر. كنّا نحبّ أن نقول للزائر الجديد: خاطِرْ بالتواءٍ في عمودك الفقري تشاهِد البحرَ من هذه الشرفة!
اليوم، أصبح علينا أن نذهب إلى موضعٍ بعينه من الشقّة لنرى إن كانت السماءُ لا تزال حيث تركناها. ومن الشرفة، إذا خرجنا إليها، يظهر لنا مستنقعان سماويان ضيّقان، متكسّرا الحدود، هما كلّ ما تركته لنا المباني الجديدة الشاهقة من سماء. تلك سماء لا تكفي، في الشتاء، لتقدير احتمال الصحو واحتمال المطر. كثيراً ما نسيء التقدير فنترك المظلّة ونعود مبلّلين… أو نأخذ المظلّةَ بلا داعٍ فننساها حيث نذهب… ليس هذا، بطبيعة الحال، كلّ ما جرى لنا في ثلاثين سنة، بصفتنا من سكّان هذا الحيّ. هذا غيضٌ من فيض. أقول هذا مع أن ما سبق يشير إلى تغيير في المدينة يصحّ وصفه بالتاريخي. المدينة، في هذه السنوات الأخيرة، تنتقل من طراز عمارة إلى آخر. وقد يصحّ القول إن نقلة بهذا الاتساع والعمق لم تحصل من ستين سنة. انتقلت المدينة بين الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من عمارة تتراوح طبقاتها بين واحدةٍ وأربع إلى العمارة ذات الطبقات السبع. وهذه الأخيرة هي التي تنتمي إليها عمارتنا، وهي التي تُغلب على أمرها اليوم وتبدو صائرةً إلى الاضمحلال. يُغْلب الإسمنتُ المألوف المكحّل بالزجاج ومعه الحديد المشغول أو الألمنيوم الذي تعرضه الشرفات المفتوحة. يَغْلبه طغيان الزجاج الذي يشتمل على الشرفات ويضمّها إلى دواخل الشقق. ولكن ما لنا ولتحوّل المدينة بأسرها… ولنمكث لحظاتٍ في شارعنا الضيّق.
لعشر سنواتٍ خلت، كانت حركة الشارع لا تزالُ تخفّ كثيراً ابتداءً من بعد الظهر، فنمضي أوقات راحتنا… مرتاحين. اليوم أصبح الشارع وجواره لا ينام إلى ساعات الصباح الأولى. كان يغلب هنا محلّ التاجر ومحلّ الحرفي: بائع الثياب أو اللوازم الكهربائية، الحلاّق ووكالة السفر، متجر الأثاث… اليوم تكاد تطغى على هذا كله، في الشارع وفي الجوار، عشرات من المطاعم والبارات وما يسمّى الـ»بَبْز» وهو شيء هجين بين البار والمطعم لا يجد دليلاً على تفوّقه خيراً من اقتحام آذان الساهرين مع عوائلهم أو النائمين في أسرّتهم بأقبح الموسيقى. هذا والموسيقى ليست وحدها مصدر الإزعاج، بل إن هذه المرابع لا تتّسع دواخلها لروّادها فيتجمّع أكثرهم على أرض الشارع ويعلو هناك لغطهم مع الموسيقى.. وقد ينفرد من بينهم واحد يقف في الثانية صباحاً تحت نافذتك بالضبط ويهاتف من هناك واحداً آخر أو واحدة ملزماً إياك بسماع قصةٍ لعلاقةٍ مشتبكة بقصّةٍ لحياةٍ برمّتها. لا موجب للنوم هنا: لا للطفل ولا للمُسنّ، لا للعامل ولا للعاطل.
والحال أن مصادرة الروّاد لأرض الشارع أمرٌ تلقائي وقد يكون حقّاً من حقوق المواطن (ما أدراني؟)… ولكن المريب أن تكون هذه المرابع، بلا أبواب تغلق على ما يجري فيها وأن يكون بعضها بلا جدران أصلاً ما خلا ألواح زجاج لا تصدّ وحدة الحال بينها وبين الجوار.. وكأن أصحابها والروّاد منزّهون عن المعصية، فليس عليهم أن يستتروا. ذاك مريبٌ لأن بعض الجوار سكنيّ يفترض أن يكون محميّاً ممّا يسمّيه القانون «إقلاق الراحة».
وفي تفسير غفلة القانون عن الإقلاق الثابت وفي إتاحته رخصاً تعامت عن مواصفاتٍ هي والإقلاقُ واحدٌ يتداول الأهالي أقوالاً مختلفة. بعضهم يزعم أن الرشوة أُمّ العجائب. وبعضهم يؤكّد أن الحماية السياسية منشورة على هذه المرابع: من صاحب الرخص العديدة إلى الفاليه باركنغ. وبعضهم يردّ الاستباحة إلى جبن الجيران عن مواجهة الحُماة الأشاوس.. إذ هم يباشرون، بين حينٍ وآخر، مبادرة احتجاجٍ ثم ينكصون… وفي انتظار أن يأفل نجم هذه البقعة، بما هي مساحة للسهر، من تلقاء نفسه (وهو ما سبق أن حصل لشوارع أخرى في المدينة) يتّخذ القادرون لأبوابهم المطلّة على الشارع زجاجاً مضاعف السماكة وقد يزجّجون الشرفات أيضاً. الإجراء عالي الكلفة ومتفاوت الفاعلية، والاضطرار إليه ظلمٌ محضٌ فوق ذلك، ولكنه قصارى ما يرى القومُ أنهم يستطيعونه.
نعم هلّلنا مؤخّراً لإنذارٍ وجّهته المحافظة إلى بعض من هذه المرابع… إنذارٍ لم يتناول شرعية موقعها، حيث هي ولا غياب التجهيز العازل ـ بما فيه الجدران ـ لما ينبعث منها من ضجيج في كلّ وقت. وإنما اقتُصر على دعوتها إلى الالتزام بالمواقيت القانونية وإلى اجتناب «إقلاق الراحة» الذائع الصيت. هلّلنا مع ذلك، ولكن بقي الحذر حليفنا، فنحن لبنانيون نعرف ميل الأنظمة والقوانين في بلادنا إلى الغفوة الطويلة بعد كلّ يقظةٍ عابرة…
مهما يكن من أمرٍ، يبقى أن نوع العمارة الجديد والوجهات الجديدة الغالبة لاستعمال بعض منشآته، في الحي، تُغيّر كلّها من الانفعال بالأشياء والروائح والأصوات. ثمّة شعورٌ ينشأ بالإقامة في موضع عاد غيرَ معَدٍّ للإقامة، إذ أصبح مدرجاً في أرخبيل السياحة. وهو ما يوسوس للمقيمين ليل نهار هنا أنهم هم الغرباء وأن الطارئين في الهزيع الثاني من الليل هم مستحقّو المكان أو أصحابُه. في حالتِي بدأ هذا الشعور من منظر الأشجار.. حين قدومنا إلى الشارع، كان فيه أشجار معدودة مختلفة الأنواع والأشكال وخضرةٌ على شطرٍ من سياجٍ هنا أو هناك وزروع تُزهر على شرفات. كان الشارع يتميّز بهذا كلّه عن شوارع أخرى مجاورة. هذا كلّه كان لنا: كان منّا وفينا من حين وصولنا. المباني التي أنشئت حديثاً فرضت، بنمطها المعماري وبالبعض من طرق استعمالها، إزالة هذه المعالم أو إخفاءها. لم تبخل هذه المباني بالأشجار. غُرست أشجار على الرصيف أمام بعضٍ من المباني المنشأة مؤخّراً، ولكنّ هذه الأشجار التي يؤتى بها متماثلة وكبيرة تُشعرني بأنها شيء مصطنع أو طارِد. تُشعرني بأنها زينةٌ سياحية غيرُ مكينة، معدّةٌ، لا للمقيمين، بل لعابري الليل الذين لن تحظى منهم بالتفاتٍ أصلاً، تُشعرني بأن في تكوينها عنصراً بلاستيكياً خفيّاً. تشعرني بأننا، نحن المقيمين، ثقلاء فرَضَنا على الساهرين حظٌّ عاثر وأنه بات علينا الانصراف من هذا الحيّ… من هذه المدينة… من هذه الدنيا. ليس لي منفذٌ، والحالة هذه، غير أن أهزأ بهذا كلّه!

كاتب لبناني

أحمد بيضون

مساحةٌ بين قُسٍّ وجِحا

أحمد بيضون

Jan-06

■ هي الخاطرة إذن ما يستوقفني من بين الموادّ التي يستدرجنا إلى «إنتاجها» الفيسبوك وإلى نشرها على «الحائط» المتاح لنا من ثَمّ. التأمّل في الخاطرة يستبعد الصورة موضوعاً، بالدرجة الأولى. ولكنّه يستبعد أيضاً ـ بين ما يستبعد ـ ركامَ «الروابط». فهذه الأخيرة مفتوحة على الشبكة كلها ـ باستثناء ما أدرجه الفيسبوك في قائمة ممنوعاته ـ : على المقالة المنشورة وعلى الشريط، على القطعة الموسيقية وعلى المعرض الفنّي، إلخ. وهو ما يجرّ إلى تأمّل عامّ في محمولات الشبكة لا يقوى على الوصول به إلى الغاية أحد. الخاطرة شيء محدود جدّاً بين محمولات الشبكة وهو يزداد محدوديةً ـ إزاء أنواعٍ أخرى من الموادّ ـ بين محمولات الفيسبوك نفسه. وأزيد مساحته ضيقاً، من جهتي، حين أحصر همّي في قابلية الخاطرة الفيسبوكية لتحمّل «عمل الكتابة» وفي الخصائص التي تكسبها الخاطرة من انتمائها إلى نشاط «الفسبكة» بعد هذا التحمّل.
لمدّةٍ من الزمن أطلق الفيسبوك على المساحة التي يتيحها للنشر اسم «الحائط». وهو ما يوحي أنها متاحة لـ«الغرافيتي»: أي لأيّ نوعٍ من الكلام (الذي لا تستبعد منه المأثورات والبدائع) وللرسوم أيضاً… على حائطي هذا، حاولتُ أن أستعيد، أحياناً، نصوصاً لكتّاب ذوي شهرة، نصوصاُ وجدتها قريبة، من حيث الفئة الأدبية أو النوع، لما قد ينشره واحدنا من خواطر على حائطه، إذا اختار أن يزاول هناك غواية الكتابة. نشرت تباعاً تحت عنوان «فلانٌ لو فَسْبكَ» أقوالاً لأمثال بليز باسكال وفريدريش نيتشه ومارك توين وألبير كامو وأوكتافيو باث وأميل شيوران… وكنت أعرف أن في وسعي أن أبدأ الاستنساب من نصوصٍ ضاربة في القِدم: من «النُتَف» التي وصلت إلينا من أغارقة سابقين لسقراط: من هرقليطس مثلاً. وكنت أعرف أن في وسعي أن أواصل هذه التخيّرات بلا نهاية تقريباً. على أن باسكال كان أوّل من استوقفني. فإن كتابه «الأفكار» له مظهرُ كتاب الخواطر. فهو مكوّن من نصوص قصيرة متنوّعة الهموم لا يظهر لها للوهلة الأولى موضوع واحد، ولكن تفحّص هذه الحالة عن كثب يظهر أن باسكال، إن كان له أن يدْرَج في فئةٍ من الفسابكة، فهو أقرب إلى فئة «المناضلين» أو «الناشطين» الذين قد تتنوع الموضوعات الجزئية لما يتتالى من خواطرهم، ولكن ينتظمها موضوع عامّ أو همّ جامع واحد. وذاك أن كتاب باسكال كتاب غير منجز وأن هذا ـ وليس الافتقار إلى موضوعٍ واحد ـ هو السبب في التشتت الظاهر لفقراته. ويعرف محقّقو الكتاب هذا الأمر ويعرفون المدار العامّ للكتاب، فيختلف ترتيب «الأفكار» بين الطبعات وفقاً لتقدير كلّ محقّق للتصميم الذي كان باسكال سيعتمده لمؤلَّفه لو أتيح له أن يبلغ من تأليفه نهاية المطاف.
عليه رأيت أن ما جاء به مارك توين من خواطر متفرّقة، هجائية المنحى، هو، على الأرجح، أقرب ما يمكن اعتماده نموذجاً مثالياً لما يُنتظر من الكتّاب السابقين لعهد الفيسبوك لو أنهم «فَسْبكوا». ولا يعني هذا الاستقراب لتوين تنحية سواه. فإن «دفاتر» كامو التي لم يكن أعدّها للنشر ونُشرت بعد رحيله هي مدوّنات خواطر بالمعنى الأدقّ. يحمل صاحب القلم قلماً ودفتراً ويدوّن ما «يخطر» له لترجيحه أن الخاطرة ستتلاشى وتغور إذا هي لم تدوّن. وقد تستعاد الخاطرة في عملٍ لاحق وقد لا تستعاد. فوجودها في «الدفتر» وجود ذخيرة واحتياط… ذاك ما هي عليه خواطر كامو في «الدفاتر». فيها شيء من «فورية» المادّة الفيسبوكية، بل إن طابع «المسوّدة» الذي يطبع بعضها قد يجعلها أكثر فورية من خواطر يدفع بها كاتب لا ينسى «جمهوره» إلى جدار الفيسبوك بعد أن يوفّيها ما يجده حقّاً لها من العمل أي بعد أن يحيلها، على وجه التحديد، إلى «مبيّضة».
وتغري حالة كامو بتلمّس صلةٍ ما بين الخواطر واليوميّات. لا يلزمك الفيسبوك بالانتظام الذي يميل إليه من يقتني دفتراً لتدوين يوميّاته. ومع أن الفيسبوكي قريب جدّاً من الانفعال بالحوادث والتعليق عليها فإن الخواطر، من حيث الأساس، أقرب إلى السيرة الداخلية: إلى سيرة الخاطر السارح بين الأوقات والشواغل، على اختلافها، منها إلى القبض على الحدث الشخصي أو العام وحفظ معالمه ومعها الانفعال به في كلام مكتوب. الخاطرة لا تعالج، بالضرورة، ما يحدث وإن يكن هذا محتملاً جدّاً، تعالج ما يخطر، هي نفسها حدثٌ.
وإذ التمست في تراث العربية أشياءً تشبه ما أفترضه نموذجاً فيسبوكياً للخاطرة، وقعتُ على قطبين لا يطابق أيّ منهما هذا النموذج ولكن يمثّل حدّاً له. أوّل القطبين «الحكمة»، نثراً كانت أم شعراً: لقُسّ بن ساعدة كانت أم لعليّ بن أبي طالب، لأبي العلاء المعرّي أم لأبي العتاهية… وثاني القطبين «النادرة» وهذه قد تكون واحداً من أخبار نصر الدين خوجة المعروف بجحا وقد تكون من المنسوب إلى شعراء أو أدباء، إلى خلفاءٍ أو وزراء، إلى غلمانٍ أو إماء… من طريف الأقوال والأفعال، تضمّ معظمه تآليف مختصّة بهذا النوع. وأما الخاطرة الفيسبوكية فلا هي حكمة، على وجه الدقّة، ولا نادرة، بل يسعنا تخيّلها شاردةً في المساحة المعتبرة الممتدّة بين هذين النوعين: في المساحة بين جحا وقُسّ.
وما تكسبه الخاطرة من انتمائها إلى الفيسبوك وإلى وجوه التفلّت فيه ووجوه الإلزام عميمٌ وعميق. ما أشرنا إليه من علاقة ينشئها الفيسبوك بين الخاطر والزمن مؤدّاه أن ما يُعرض على الفيسبوك عابرٌ بلا إبطاء، محكوم بسرعة الزوال… وهذه صفة تلحق به إلى موقف صاحبه منه أيضاً. يتوجّه المفسبِك إلى جمهورٍ ضيّق أو واسع يعرف شيئاً من ملامحه ومطالبه. وهو ـ أي المفسبِك ـ لا يعطى، في العادة، مهلة بين جهوز المادة ونشرها. غير أنه لا يجد نفسه ملزماً بمتابعة حديث كان قد بدأه قبل ساعة ولا بالبقاء على سويّةٍ للتأمّل كان قد اتّخذها لنفسه أمس. ولا هو يشعر بحرج من التنقّل بين غثّ الموضوعات وسمينها، إلخ.
في هذا كلّه لعبٌ محتمل تغري به حرّية الحركة، وفيه أيضاً تواضعٌ تلزم به سرعة الزوال. على أن اللعب ههنا لا ينفعه أن تُزعم له تلقائية ليست له. التلقائية لا تعدو لحظة بزوغ الخاطرة. عليك بعدها الانكباب على العمل، فإذا استُعيدت، في آخر المطاف، تلقائيةٌ ما فلأن للعمل، بما هو اجتراحٌ لتكتيكٍ واعتمادٌ له، أن يدّعي لنفسه القدرة على استرداد التلقائية أو على تحصيلها في ما لا يسع التلقائية أن تزعم الاستغناء عنه.
وإذ عمَدتُ إلى جمع فيسبكاتي مرّتين تباعاً في كتاب، رغبتُ في إظهار هذا كلّه. وقد كنت أتكلّف لإظهاره خيانتين: خيانةَ العابر بغية إبرازه بالتضادّ، وذلك بإدراج الخواطر في شريط (هو الكتاب) يبدو ثابتاً… وخيانةَ الفيسبوك كلّه، بما هو لغطٌ كونيّ، لإظهاره بالتضادّ أيضاً مع نصيبٍ شخصي من اللغط أحاول إلزامَه، لا بالانتماء إلى الأدب بعمومه وحسب، بل أيضاً باقتراح نوعٍ أدبي ينشأ من الحوار بين عمل الخاطر وبيئة الفيسبوك. رغبتُ أخيراً في إظهار سياقٍ يبقى مترائياً خلف الشتات الظاهر للخواطر المشغولة هو سياق الأسلوب أو سياق الشخص نفسه، ألم يقل صاحبنا ذاك أن «الأسلوب هو الإنسان عينه»؟

٭ كاتب لبناني

مساحةٌ بين قُسٍّ وجِحا

أحمد بيضون