قراءة “في صحبة العربية” لأحمد بيضون
الحاجة العظمى إلى ضوئه كاتبًا وشخصًا
عقل العويط
ينبغي للقارئ ألاّ يقف على الحياد، عاكفًا على قراءة أحمد بيضون، إنسانًا، مفكّرًا، باحثًا، أكاديميًا، أستاذًا جامعيًا، عالِم اجتماع، مؤرّخًا، كاتبًا، ناقدًا، شاعرًا، أديبًا، ولغويًا. فكيف لا يقرأه في كتابه النيّر، “في صحبة العربية/ منافذ إلى لغةٍ وأساليب”، الصادر لدى “دار الجديد”، حيث مجموعةٌ من أبحاثٍ وكلماتٍ ومقالاتٍ، كُتِبت في ظروفٍ ومناسباتٍ شتّى، سقفُها وبيتُها وملعبُها وأفقُها الفسيح، الكتابُ والقراءةُ، وهذه اللغة العربية، التي يستهويها أن تكون تحت قلمه وفي حبره، طيّعةً، لينًةً، مسبوكةً، معقلنةً، متأدّبة، هنيئةً، وعارفةً، بلا غرورٍ، ولا اصطناعٍ، وبالكثير من العرفان والتواضع والألفة.
لا بدّ من أن أكتب عن “صحبة العربية” ككتاب، بمعزلٍ عن الكاتب نفسه، في وقتٍ أستشعر كقارئٍ وكاتبٍ ومواطنٍ، عِظَم الحاجة إلى شخصيةٍ ثقافيةٍ – عقليةٍ – وطنيةٍ، كمثل أحمد بيضون، ليس في عوالم لغتنا وأدبنا وشعرنا وجامعتنا وفنوننا فحسب، بل ذلك كلّه مضموماً إلى أبعاد الرجل، وخصوصياته، وكفاءاته الجمّة، في ميادين متنوّعة، كثيفة، لو أتيح لنا أن نُستفاد منها، لما كانت أوضاعنا في الحياة، والثقافة، والسياسة، والشأن العام، والإدارة، والدولة، والاجتماع، وسلّم المعايير والقيم، آلت إلى ما آلت إليه من دركٍ سافلٍ وعميم.
هكذا أجدني عازلًا – بالافتراض – ذاتيّتي التفكرية والوطنية عن ذاتية المؤلف، ميّالاً إلى أن كتب عن “صحبة العربية” بتهيّبٍ، وغبطة. إذ لا مفرّ في قراءة الكتاب والكتابة عنه وفيه، من اجتماع الحالتين هاتين، على ما فيهما من تباعدٍ شكلانيّ، لا يصمد أمام أسباب التضامّ والوحدة. ذلك أن النصوص تُملي عليَّ أن أمتلئ بالاثنتين الحالتين معًا، لصفاتٍ موجودةٍ فيها. فكلَما أخذني التهيّب، بسببٍ من تضلّع الكاتب من العربية، صرفها ونحوها، وإرثها الأدبي، شعرًا ونثرًا ونقدًا وتفلسفًا، وبسببٍ من تضلّعه من حاضرها، – وهو تضلّعٌ معرفيٌّ بيّنٌ وجازمٌ وحاسمٌ – هتفت بي الغبطةُ هتافًا عاليًا، داعيةً إيّايَ إلى الانغماس في لذائذ المكتوب وجمالاته وفوائده المتنوّعة، غَرْفًا واستزادة.
هل من حجّة؟! ولا بدّ. إذ لم نعد نعرف من العربية شيئًا كثيرًا، أساتذةً وطلّاب أدبٍ ولغةٍ وتلامذةً، وهلمّ. لم نعد نتعامل مع العربية بما تقتضيه اللغة، كلّ لغة، من أصول التعامل، ومعاييره، وفنونه، وأنواعه، ومراتبه. لكن أحمد بيضون يعيدنا في كتابه هذا، إلى الأصول والمعايير والفنون والأنواع والمراتب، من دون وعظٍ أو تعليم، ملقيًا الضوء، نابشًا، كاشفًا، معبِّدًا السبل، مسهِّلًا، على غير تبسيط، داعيًا إلى التواضع المعرفيّ، والأخذ بالعقل والعلم، ضنينًا بالكتاب في زمن اللاكتاب، وبالقراءة في زمن اللاقراءة، فاتحًا الأبواب كلّها على الصناعات التكنولوجية والوسائط المعرفية الجديدة التي تتيح سبل الإبحار من دون التنكّر للحبر والتحبير.
لسببٍ من الأسباب، أخذتُ الكتاب من بابه الأخير، “من قبيل الختام”، تقريظًا للمطالعة، حيث “الكتابة”، على قول أحمد بيضون، “كَرَمٌ فادحٌ، في أصل ما هي، يصعب أن نقع له على نظير”. فالكَرَم الذي يُعطى بالكتابة لا يناظره كَرَمٌ، البتّة وقطعًا. لا بالوقت، ولا بالمال، ولا بالطاقة العضلية. “لا نفطن إلى أن عقولًا ومخيِّلاتٍ وحواسّ وذاكراتٍ ومشاعرَ لا تحصى… إلى أن بشرًا لا يُحصون مبذولون بأجلّ ما فيهم في ما هو منشورٌ. هم في المتناوَل، متناولنا، بالبَدَل البخس دائمًا أو، إن نحن بذلنا الجهدَ اللازم أو سلكنا السبيل المناسب (سبيل المكتبة العامة مثلًا)، بلا بدلٍ بالمرّة”. والحال هذه، “فليواجه القرّاءُ الكتابَ بإنصافٍ للكرَم الذي في الكتابة”، و”ليواجه الكتّابُ القرّاء بمعرفةٍ لما يسع الكتابةَ أن تكون عليه من جودٍ”؛ في الحالة الأولى (القرّاء) “بلا رهبةٍ من الكتّاب كائنين مَن كانوا”، وفي الحالة الثانية (الكتّاب) “دون ذاك الغرور الذي يسنده شعورٌ بكمال ما يبذلون”.
يطيب لي أن أخرج بوصيةٍ من قراءتي “في صحبة العربية” لأحمد بيضون، قوامها الجملة الأخيرة في الكتاب: “ولنعلم، أننا، على التعميم، محتاجون إلى القراءة كتّابًا وقرّاءً… فلا نكون مصداقًا لقولة واحدٍ من أصحابنا: “الناس كتّابٌ أو قرّاءٌ: القرّاء لا يكتبون والكتّاب لا يقرأون”.
يضمّ الكتاب، “على سبيل التقديم” (في صحبة العربية)، “في اللغة” (في أن استواء تعلُّم اللغات قيمةً مدركةً شرطٌ لمعالجة مشكلاته، العربيةُ مفسبكةً (عاميّاتٌ يُكتَب بها وفصحى حوارية، منافذ إلى “قضية” العربية، مصطلحا “طائفة” و”طتئفية”” ترسيمٌ لنسبهما الدلالي على نية المترجمين)، “استراحة” (النجوم الشهب: صورة شخصية من لبنان لثقافة مصر المعاصرة)، “أساليب” (أسلوب غسان تويني، غناء فيروز لكلمات زياد: قمر الصباح الباكر يحكي بلايا آخر السهرة، مرّ زمنٌ طويل)، “من قبيل الختام” (المطالعة).
عودٌ على بدءٍ: ولأني لا أقف على حيادٍ في قراءتي لأحمد بيضون الكاتب والشخص، ولأن الزمن زمنُ احتياجٍ إلى ضوءٍ، في هذه الظلامية اللبنانية الشرسة، يبثّه شخصٌ أو أشخاصٌ من أهل العقل والتفكّر والقيم والمعايير، أقترح على كلّ مَن يعنيهم الأمر، أمرُ الثقافة أو أمر الدولة مطلقاً، اللجوء إلى مثل الضوء الذي يبثّه حضور أحمد بيضون فينا. فلِمَ لا يكون وزيرًا للثقافة مثلًا؟ أو، على سبيل التوسع في الاقتراح: لِمَ لا يكون رئيسًا لدولتنا المدنية المقترحة؟!
Akl.awit@annahar.com.lb