«نهاية المجتمعات»

أحمد بيضون

على الرغم ممّا نحن فيه أو بسببه، على الأرجح، ينزل علينا عنوان الكتاب الأخير لآلان تورين «نهاية المجتمعات» نزول الصاعقة. قد يكون كتاب فوكوياما الشهير قد أشعرنا، قبل ربع قرن تقريباً، بصدمة مشابهة… ولكن فوكوياما كان يزفّ إلينا بشرى (لم يتأخر كذبها في الظهور) فيما يضعنا تورين وجهاً لوجه أمام ما يشبه أن يكون كارثة.
أصدر تورين هذا الكتاب الضخم (666 صفحة) في السنة الماضية وهو على مشارف التسعين. لذا نفهم أن يُعتبر الكتاب، في كلمة التعريف بالمؤلّف على الصفحة الرابعة من الغلاف، «تتويجاً» لنصف قرنٍ من السعي العلمي أثمر نحواً من أربعين كتاباً ووضع صاحبه في الصدارة بين اجتماعيي هذا العصر.
وفي الصدارة من سعي تورين يقع… «السعي»: إذا قَبِلنا هذا المصطلح مقابلاً عربياً لمصطلحين معاً هما «العمل» الذي يبتغي الإنتاج و»العمل» أيضاً بمعنى الفعل أو تسلسل الأفعال الذي يبتغي تغيير وضعٍ من الأوضاع. هذا المنطلق يضع تورين في وجه مدرسةٍ أخرى مثّلها، في أيّامه، البنيويون على التخصيص، وهي تلك التي ترى للبنى وللتغيّر فيها منطقاً يسوغ أو لا يسوغ اعتباره مستقلّاً عن إرادة المعنيين بالتغيير ولكنّه يستوعب هذه الإرادة معيّناً لها اتّجاهها ويجعلها عنصراً من عناصر فعله أو وسيلةً من وسائل إفضائه إلى تشكيلٍ جديدٍ يتّخذه.
لا ينكر تورين فاعلية البنى بل هو بعيد كلّ البعد عن هذا الإنكار. ولكنّه، في تعريفه للـ»اجتماعي»، يحكّم في تلك البنى ما يسمّيه «مؤسّسات» المجتمع. وفي المؤسّسات تتجسّد «الذات» التي تحتلّ موقع المركز من تصوّر تورين للمجتمع وبها تعود الإرادة إلى الظهور في عمل المجتمع وفي تاريخه. على أن هذا المجتمع الذي يعرّف بالمؤسّسات، ليس أيّ مجتمع كان. وإنّما هو مجتمع «متأرّخ» ضالعٌ في الحداثة يتميّز عمّا سبقه وعمّا يغايره من المجتمعات بإقباله على إنتاج نفسه وهو ما يسند نظريّة «الذات». والحداثة يراها تورين قائمةً ويرى أن «ما بعدها» هو الذي مضى وانقضى. هذا وما يسمّى مؤسّسات في هذا المجتمع مختلفٌ عن وحدات الاجتماع التقليدي من قبيل الطائفة أو القبيلة… إذ هذه تقصُر سعيها على تأمين بقائها أي على مقاومة الدواعي إلى التغيير ومداورتها. هذا بينما تتولّى مؤسّسات المجتمع الحديث من العائلة النووية إلى المدرسة إلى الاقتصاد الرأسمالي إلى السياسة والدولة مهامّ استقبال التغيير وسياسته واستيعابه.
وفي منطق الحداثة أن تكون «الذات» المجتمعية ماثلة في هذه المؤسّسات وفاعلة فيها وبتوسّطها. ولكن الماضي والتقليد يستبقيان ثقلاً يرزح على حركة المؤسّسات ولا يمكن أن يكون التحلل منهما باتّاً. بل إن ثقلهما ينحو إلى تفاقمٍ وإلى مقاومةٍ لما هو مفترض الاستجابة من دواعي التغيير. ذاك ما يستثير ما يسمّيه تورين «الحركات الاجتماعية». وهذه مختلفة عن حركات المطالبة العارضة أو الموضعية، مهما تكن شدّة هذه الأخيرة واتّساعها. وذاك أن «الحركات» التي يوليها المؤلّف عنايته تتميّز بمنازعة القوى المسيطرة في المجتمع شرعية سيطرتها باسم حقوقٍ عليا هي الحصن الأخير للاجتماع الحديث. وأمّا «الذات» المريدة التي تجسّدها هذه «الحركات» في سعيها إلى إعادة تعريف المؤسّسات وإعادة توزيع الشرعية فهي ماثلة في الأفراد أيضاً. وهي تظهر في كلّ موطن من المجتمع تظهر فيه إرادة مسندة، في منتهى أمرها، إلى الحقوق العليا للأفراد بما هم بشر.
يرى تورين أن الواقعة الأولى التي تبيح القول بـ»نهاية المجتمعات» أو بنهاية «الاجتماعي» إنّما هي انفصال دوران الاقتصاد المعولم، وبخاصّةٍ منه رأس المال المالي، عن الدائرة التي يصل إليها فعل مؤسّسات المجتمع بما فيها الدولة. وهو ما أسفر عن تضعضع هذه المؤسّسات بعد أن أصبحت مناسبتها للغاية المفترضة لوجودها موضع شكّ وطعنٍ مشروعين. فحركات المطالبة الاقتصادية-الاجتماعية لا يصل فعلها إلى مواقع السلطة المتحكّمة بأهمّ مقاليد القرار في مضمار مطالبتها. والسياسة الداخلية، بمؤسّساتها المعلومة، أصبحت ضامرة المضمون معرّضةً لتيّاراتٍ عابرة لحدود الدول. وأصبحت المدرسة بفعل ذواء الحدود بين أسواق العمل مضطربة الصلة بحاجات المجتمع الوطني إلى التأطير. وتخلخل التعريف المألوف للعائلة وتكاثرت مسمّيات هذا الاسم بفعل استشراء الطلاق وكثرة المواليد في خارج الزواج وتشريع الزواج المثلي والتبني للمثليين، إلخ.
وفي كلّ حالٍ، تبقى الواقعة الصاعقة وقوع المحاسبة على القرارت التي تحدث أبلغ الأثر في بنى المجتمعات ووقوع إمكان الإبطال أو التعديل في خارج متناول المجتمعات ذات الصلة. هذا وتفعل واقعة الانفصال هذه فعلها، وفي ركابها آثارها المزلزلة في المؤسسات الاجتماعية، في المجتمعات التي كانت موائل الحداثة الأولى أي في الغرب. ولكن المجتمعات الأخرى، ومن بينها مجتمعاتنا التي يلمّ تورين ببعض ما شهدته من حركات التغيير في هذه الأعوام الأخيرة وببعض المشكلات التي يطرحها الإسلام أو تطرح عليه في البلاد الإسلامية وفي المهاجر.
ولعلّ أهمّ ما يستوقفنا في الكتاب هذا الاختلاف، على التحديد، بين ما تثمره وتبدو مفضية إليه أزمات الاجتماع الغربي وما يقابله في مجتمعاتنا. فمن ذلك ما هو مشترك وهو الارتداد المتباين النطاق، ممّا يطلق عليه سَلفٌ مشهورٌ لتورين هو الألماني فرديناند تونيز اسم «الاجتماعي» إلى ما يخصّه بصفة «الجماعيّ» أو «الطائفي» بمعنىً واسع للكلمة يشتمل على الديني وعلى غيره. يبدو الطائفي، في الغرب، تحدّياً قائماً للاجتماعي ولكنه يلفي في مواجهته أنظمةً حقوقية راسخة تكفلها الدول التي يرفض تورين القول بزوالها. وتجهد لتفعيل هذه الأنظمة ومدّها إلى آفاقٍ جديدة حركاتٌ اجتماعية (يرى تورين في مقدّمها الحركة النسائية) متعلّقة بقيمتي الحرّية والمساواة وبالحقوق الكلّية التي هي مناط «الذات». هذه الحقوق تقتضي، بحسب المؤلّف، أن تنشأ لها مرجعيّات تستجيب للتحدّي الذي تواجه به العولمة جملةَ الحركات المتعلّقة بها.
عليه لا يمثّل الارتداد إلى جماعات التقليد، في الغرب، من دينية وغيرها، سوى تحدٍّ موضعي قد يصبح عويصاً ولكنه ليس بقاتل. هذا فيما لا تجد الطائفية، عندنا، في مواجهتها، تقليداً حقوقياً راسخاً يتصدّى لها من خارج الدين أو من داخله. ولا هي تجد قوىً اجتماعية ذات بأس ترفع في وجهها راية الحقوق الكلّية. فهذا كلّه بقي هشّاً ضحلَ الجذور في ديارنا. وما يستثير الطائفية ويشدّ من أزرها، قبل كلّ شيء، إنّما هو التنازع بين طائفياتٍ يسعفها انتحالها قِيَمَ الدين في النطاقين الإقليمي والوطني. ومدوّنة الدين جدالية فيها ما يعترض على كلّ تأويل لأحكامها وليس فيها ما يبيح القطع بنقضه. هذا وحين تنتحل أنظمة الدول ههنا مناوأة الطائفية باسم المواطنة تجد نفسها متّهمةً بالطائفية، هي نفسها، ومنقوصة الشرعيّة، في كلّ حال، وفقيرةً، من جرّاء الفساد الهيكلي والاستبداد، إلى الجاذبية أو المقبولية. وأمّا مساعي التجاوز في مواجهة الأنظمة فتبقى هامشيّةً أو هي تقمع بلا حدّ إذا اشتدّ أزرها وغامرت بالخروج من حال السَتر.
لا تَناظُر بين الحالين إذن. والكتاب الذي يعرّج على أوضاع متفرّقة في العالم ذكرنا من بينها مجريات «الربيع العربي» وأحوال العالم الإسلامي يبقى كتاباً غربي الإلهام ولا يقفل، فيما يتعدّى وصفه الصارم لأزمة المجتمعات الغربية، آفاق الحلول هناك. ولكنّه يكشف بالتضادّ الفارق بين عالمين: عالمٍ (هو الغربي) تتضعضع فيه مؤسّسات المجتمع ولكنّه يستبقي احتمالات للتجدّد تستلهم تراثاً حقوقياً راسخ القواعد وعظيم القدرة على استقطاب الولاء… وعالمٍ آخر هو عالمنا يكشف التضعضعُ نفسه فيه افتقارَه إلى منظومةِ قِيَمٍ وحقوقٍ وإلى قوىً متشبّثة بهذه وبتلك يدخل بهما غير معصوب العينين مرحلةً جديدة من تاريخ العالم افتُتِحَت قبل عقود ويثبت جدارته للاشتراك في توجيه دفّتها.
لا حاجة إلى القول، من بَعْدُ، أن كتاب تورين مستوجبُ القراءة ويوجب ذلك المسارعةَ إلى نقله إلى العربية ولكن بما يقتضيه أسلوباً ومضموناً من عناية وكفاءة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

كتب «النهايات»

أحمد بيضون

لا أعرف إن كنت واهماً… فما أنا بصدده يصعب التحقق منه إذ هذا يقتضي بحثاً مترامي الأطراف. مع ذلك، أركُن إلى تخمينٍ لي مفاده أن «كتب النهايات» كثُرت في ربع القرن الأخير. هل كانت كثيرة قبل هذه المدّة أيضاً؟ أم أن شيئاً خاصّاً بهذه المرحلة جعل هذا النوع يتنامى؟ هذا ما لا يسعني الجزم فيه. مع ذلك، يبقى ممكناً أن يغامر واحدنا بتعليل لتتابع العناوين القائلة بنهاية شيء ما في هذه المرحلة الأخيرة وإن لم يكن في يده ما يأذن بالمقارنة بينها وبين مراحل سابقة. البعد المقارن ما كان إلا ليلقي ضوءاً مضافاً على أيّة خلاصة نخلص إليها في هذا الشأن ولكنه ليس ضربةَ لازمٍ ولا يلغي تعذّرُ الاستئناس به المهمّةَ أو يحكم بتعذّر القيام بها أصلاً.
وما أسمّيه «كتب النهايات» هو مؤلّفات طبّقت شهرة بعضها الآفاق وبقي بعضها الآخر أدنى حظوةً يعلن كلّ منها نهايةَ شيء: شيءٍ ليس أيّ شيء… وإنما هو ركنٌ أو سمةٌ رئيسة من أركان عالمٍ ألفناه وسماته… أو هو حركة شكّلت أيضاً معلماً بارزاً من معالم ترسم مصير البشر كلهم في راهنه… أو مصيرَ كتلٍ معتبرة منهم… أو هو نظامٌ فكريّ تَشاطره بشرٌ كثيرون لأمدٍ متطاول، إلخ.
ولا يصعب، وقد جعلنا المرحلةَ المستعرَضة تتمثّل في ربع القرن الأخير، أن نستكثر من الأمثلة بجهد استرجاعٍ طفيف. وأمّا ما يحمل على اعتماد هذا التحديد للمرحلة فهو تواضعٌ يسنده الشعور العامّ على اعتبار انهيار الاتّحاد السوفييتي وانفراطِ كتلته وانتشارِ الخيار الديمقراطي الذي استوى رمزاً له إسقاطُ جدار برلين على مدى «القارّة» السوفييتية السابقة وفي أصقاع أخرى بعيدة عنها وتسلّمِ الولايات المتّحدة الأمريكية، بما هي القوّة العظمى الوحيدة مذ ذاك، زعامة العالم الجديد وتوسّعِ الاتّحاد الأوروبي إلى تخوم روسياالاتحادية، إلخ. لا يمارى في الجدّة التي طبعت عالماً شكّلته هذه الوقائع ولو أن بعضها بدأ يتخلخل منذ ظهوره وتعرّض شيئاً فشيئاً لتحدّيات متآزرة أو متعاقبة مثّلها صعودُ الصين وجيرانِها من أقطاب الاقتصاد العالمي الجديد والتعثّرُ المحبط في مسيرة الاتحاد الأوروبي واستئنافُ السعي الروسي إلى التصدّر العالمي وتوطّدُ الإسلام السياسي ممثّلاً بالدولة الإيرانية وبمقابلها السنّي الذي كان 11 أيلول/سبتمبر 2001 إعلانه المدوّي عن نفسه بما هو خصمٌ للسيطرة الأمريكية على شطورٍ عريضة من العالم الإسلامي وردٌّ على السعي الإيراني إلى الزعامة الإسلامية في آن… على صعيد آخر، بدا أن حركة العولمة أخذت تغطّي، بوجوهها المختلفة من اقتصاديّ- مالي وسياسي- عسكري ومعلوماتي- تواصلي، ما لم تكن قد اكتسحته من أصقاع العالم وبدا أنها تمثّل امتحاناً عسيراً لحدود الدول، بما فيها الكبيرة، وسيادتِها ولسيطرةِ أنظمتها ومواطنيها على مصائرها. كان هذا عالماً جديداً لا ريب في جِدّته في ما يتعدّى ما يلقاه استتبابه من مقاومة وما يعرو مسيرتَه من تعثّر… فكيف أعلنت «كتب النهايات» ولادة هذا العالم؟ ولمَ كانت كتبَ نهاياتٍ أصلاً ولم تكن كتبَ ولادات؟
مرّة أخرى، لا تستغني الإجابة عن ضرب الأمثلة. هذه بعض العناوين مرتّبةً بحسب تواريخ الصدور: «نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما (1992)؛ «فشل الإسلام السياسي» لأوليفييه روا (1992)؛ «نهاية أقاليم الدول» لبرتران بادي (1995)؛ «وداع العروبة» لحازم صاغيّة (1999)؛ «بَعْدَ الدولة- الأمة» ليورغن هابرماس (2000)؛ «بَعْدَ الإمبراطورية» لأمانويل تود (2002)؛ «نهاية الإيمان» لسام هاريس (2005)؛ «نهاية المجتمعات» لآلان تورين (2013)؛ «نهاية النمو» لريتشارد هاينبرغ (2011)؛ «نهاية الرجال ونهضة النساء» لهنّه روزن (2012)؛ «نهاية العولمة» لفرانسوا لنغلي (2013).
والملاحظة الأولى هي أن هذه العناوين لا تتساوى في درجة الحسم. فما يبدأ منها بـ»نهاية» أشدّ ممّا يبدأ بـ»بَعْد» إذ تفتح الفئة الثانية باباً أو أفقاً يخلف الذي انتهى وقد يَفْضُله. والملاحظة الثانية أن بعض هذه العناوين سقط، على وجه السرعة، وغار في الصمت بعد ما أحدثه من دويّ. أهمّ ما بلغ نهاية شوطه من العناوين عنوان فوكوياما الذي خانه «التاريخ» بُعيد ظهوره إذ استأنف حركته بأعنف صوره وأقبحها. ولا يصحّ القول نفسه، على الأرجح، في «فشل الإسلام السياسي» لأن ما شهده هذا الأخير من استشراء وتمدّد بعد صدور الكتاب، يجوز ألاّ يعتبر «نجاحاً» بمعنى تحقيق المهمّة المفترضة. والملاحظة الثالثة أن هذه «النهايات» كلّها نهاياتٌ غير قطعيّة أو هي إشكالية يحتاج إثباتها إلى براهين. فما يدلي به كلّ منها ليس من قبيل «نهاية الكتلة السوفييتية»، مثلاً، أي من قبيل النهايات التي يعدّ القول بها تحصيل حاصل فتستدعي وصفاً وتعليلاً ولكن لا يحتاج إثباتها إلى برهان. والملاحظة الأخيرة – ولعلّها الأهمّ – هي أن هذه العناوين يناطح بعضُ آخِرِها بعضَ أوّلها. فما يقرّره لنغلي (وهو اقتصادي) بصدد العولمة يخالف ما يقرّره هابرماس (وهو اجتماعي وفيلسوف) بصدد الدولة- الأمّة ويعيد النظر جزئيّاً في ما يقوله بادي (وهو سياسي) بصدد أقاليم الدول. وما يراه تود في شأن الإمبراطورية الأمريكية ينقض جانباً من الصورة التي كان فوكوياما قد بنى عليها اجتهاده المعلوم. إلخ، إلخ…
هذه الحركة التي يخلخل فيها الحديث العهد ما كان قد سبقه تدلّ على نوعٍ من الهشاشة أو من التناهي تتّسم به هذه «النهايات» المهولة التي يكفي كلّ منها لإبدال عالَمٍ بعالم. ثمّة نوع من النقصان في كلّ منها إذن أو هو شيء من القابلية لردّةٍ ما وإن كان لا يرجى، في أيّ حال، عودةُ القديم إلى قدمه. لا نهايةُ الدولة- الأمّة قطعية ولا نهايةُ الإمبراطورية ولا نهايةُ «الإيمان» التي لا تستبعد، في كتاب هاريسن توسُّعَ التديّن المنظّم… ولا نهاية «الرجل» بما هو دور، ولا وداع «العروبة» بما هي قوّةٌ سياسية، نهائيّان. وهذا ناهيك بأن تكون «العولمة» التي لا يزال الاحتفال جارياً ببلوغها أشُدّها قد لقيت حتفها… هذه الهشاشة أو النسبية أو الترجّح في «النهايات» المستعرضة… هذا التعذّر لإلزام التاريخي بوجهةٍ مطلقة… هي أَوْجَهُ ما يخلص إليه المتأمّل في هذا الصفّ من كتبٍ عريضة الآفاق وشديدة الوقع.
وبعد فنحن، في هذا الشطر من العالم، نشعر شعوراً مزلزلاً، بأن شيئاً في عالمنا هو الآن في قيد الانتهاء. ولكننا لا نعلم علم اليقين، بعدُ، ماهية هذا الذي نشهدُ نهايته في عالمنا أو، بالأحرى، فينا… ولا نُحْسن أن نسمّيه.
فلعلّ العودة، في عجالةٍ مقبلة، إلى واحد من هذه الكتب (نراهُ أهمَّها) وهو كتاب آلان تورين «نهاية المجتمعات» تسعفنا في التقدّم قليلاً نحو منفذٍ من شبكة الأنفاق التي نحن فيها.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

الثقافتان

أحمد بيضون

يميل المثقفون، حيث كانوا، إلى التعظيم من شأن الثقافة التي ينتجونها. وسرعان ما تبدو المواجهات الكبرى، من سياسية واجتماعية، حين يتناولونها، وكأنها أصداء قريبة لأنواع الخلاف الناشب بين نِحَلِهم أو جماعاتهم. وهي نِحَلٌ أو جماعات كثيراً ما يتصدّر كلّا منها شخص واحد تطلق عليه صفة «المفكّر». ويكون هذا الشخص في قيد الحياة عادةً أو يكون معاصراً، في الأقلّ، تابع تفاصيلَ مساره مستلهموه والمجادلون فيه. ولكن يسعه أيضاً أن يجرّ في ركابه مواريث متشعّبةً قد يرقى بعضها، في الحالة العربية (وهي شاغلنا هنا)، إلى ما يدعى عصر «النهضة» وقد يوغل بعضها الآخر في مدارس التراث الإسلامي بفروعه ومذاهبه المختلفة. فيفضي البحث في «فكر» ه إلى البحث في القرآن والحديث، في المعتزلة والأشاعرة، في التصوّف والسلفية، في أهل الكتاب وأحكامهم، إلخ. وقد يدرج ذلك كله في مناظير حديثة أو معاصرة فينقسم النقّاد بين ليبراليين وماركسيين أو بين ديمقراطيين وتحريريين أو بين أنصارٍ للديمقراطية السياسية ودعاةٍ للديمقراطية الاجتماعية، إلخ.
وفي كلّ حال، تأخذ وقائع كبرى، من قبيل حركات التغيير ومساقات التنازع التي شهدتها مجتمعات عربية عديدة في السنوات الأربع الأخيرة تبدو، في كلام المحللين من ذوي الألفة لدوائر «الفكر» العليا هذه، وكأنما كان يسعها أن تكون غير ما كانت لو ان الموازين اختلفت في دائرة الأفكار بين حفنة يختارها المحلّل من بين المتأملين في الدين والدولة والمجتمع والتاريخ وفي الثقافة أيضاً. ويتفق كثيراً أن تكون هذه الحفنة قد انتشرت في مدى شاسع من الأرض يتجاوز المجال الموصوف بالعربي أحياناً وتَوَزّع نتاجها على قرن أو قرنين وعلى أبواب من الإنتاج الثقافي مختلفة… ولكن يتصدّرها ما يسمّى الفكر. وهذا نوع لا يمكن مطابقته، على الأغلب، والنوع الفلسفي بتعريفه المضبوط لأغراضه ومناهجه ولا هو يطابق أيضاً أيّاً من علوم الإنسان والمجتمع، بما فيها علم السياسة وعلم الاجتماع بنماذجهما المكرّسة.
وعلى التعميم، يقف المتأمّلون في المسار الفعلي للحوادث حيارى إزاء الحركات الكبرى التي يفلح في إطلاقها «مفكّرون» من قبيل روح الله الخميني أو سيد قطب ممّن ينتمون إلى نهجٍ يسعنا أن ننعته بالتأصيل أو المطابقة أي بردّ الخيار المعتمد في مسألة من المسائل إلى غير القائل المعاصر به وبقصر مهمّة هذا الأخير على إثبات الأمانة لكلامٍ أو لشَرْعٍ وُجد قبله. وهو ما يصحّ أن يوصف به أصحاب المنحى القوميّ أيضاً إذ هم نسخٌ باهتة لنماذج أوروبية معروفة وهم يزعمون، إلى ذلك، أنهم ساعون في استرداد حالة أصلية ضاربة في القدم هي حالة الأمة الواحدة ذات الماضي الأثيل. هذا فيما يبقى المجدّدون المعاصرون الذين يقف نقّادنا عند مناظراتهم محبوسين في دائرة ضيقة من المهتمين فلا يُرى لفكرهم، في ما يتعدّى أوهام بعض المعلـّقين أو أمانيهم، أثرٌ يعتدّ به في حركات الجماهير أو في دوائر القرار.
والواقع أن القول بالمطابقة أو بالاستعادة، على كونه لا يصمد لأدنى تفحّص، إنما هو سرّ قوّة أولئك وأن القول بالتجديد هو سرّ الضعف الظاهر على هؤلاء. أي أن الغلبة أيسر، على الإجمال، للموقف «الرجعي» (بمعنى الكلمة الحرفي) منها للتوجّه «التقدّمي» (بالمعنى الحرفي أيضاً). ويحتاج التماس السبب في هذه الحال المؤسفة إلى التمييز بين معنيين للثقافة. الأوّل، وهو أضيق الاثنين، يجعل من الثقافة «ما ينتجه المثقّفون». والثاني، وهو الأوسع، يرى فيها «جملة الأنظمة الرمزية التي تنشئها أو ترثها وتنميها أو تتداولها وتعرّف بها جماعة من الجماعات البشرية». وتكاد المعارف والآداب والفنون أن تستنفد ماصدقَ التعريفِ الأوّل. وأما الثاني فيشتمل، مثالاً لا حصراً، على الأعراف والتقاليد وعلى قيم السلوك وعلى التراث الشفوي بسائر فروعه…
وما يفوت المعوّلين في التغيير الاجتماعي على المناظرات بين المفكّرين أن أثر الثقافة «الضيقة» في الثقافة «الواسعة» تكون مسالكه ضيقة في الغالب ويبقى ضعيفاً، عادةً، ما لم تواته محرّضات لا يمكن ردّها إلى قوّة الفكر ونفاذه، في ذاته، بل هي تكون خارجةً عن دائرته، قادرةً على جعله يصدع بأوامرها ونواهيها لا العكس. وفي العادة، تتّخذ هذه المحرّضات لنفسها مراكب من الثقافة الواسعة بحيث تبدو هذه الأخيرة، في الغالب من الحالات، أقرب إلى التأثير في الضيقة منها إلى التأثّر بها. فعلى الإجمال، لا ينشئ المثقفون ثقافة مجتمعهم بل يجدونها حاصلة وينشأون فيها أوّلاً ولو انهم قد يجدون لأنفسهم منافذ إلى خارج حدودها. وإنما يتراوح سعي المثقفين ما بين تمكين الثقافة الواسعة وتغييرها. ويفترض أن يلقى السعي إلى التغيير مقاومة متنوعة المصادر، يمدّها الخوف الغريزي من الانهيار الكلّي للمجتمع بالطاقة، وإن يكن التغيير حاجةً تستشعرها فئاتٌ أو أجنحة من المجتمع. أهمّ من ذلك أن هذا السعي تنتصب في وجهه جدرانٌ قريبة إن لم يفلح الفكر «الجديد» في الاندراج في مسارب مؤسسية ذات مصبّات معتبرة السعة. إذ لا غلبة، في هذا العصر، لفكرٍ لا يتّخذ صيغاً متلفزة أو مذاعة ولا تطير به الجرائد ولا تنشره مواقع ذاتُ حظوةٍ على الشبكة ليكتسب من هذا كلّه انتظاماً ورحابة في حضوره الاجتماعي… وهذا ناهيك بأن يجد مستقرّاً في عقول المربّين بحيث يتمكن من التغلغل في المدارس وفي البيوت ويداخل المبادلات اليومية وبأن يتمكن من الانتقال أيضاً من القالب «الفكري» الضيّق النفوذ إلى قوالب الآداب والفنون على اختلافها…
فإن لم يتيسّر للفكر «الجديد» شيء معتبرٌ من ذلك كلّه لم يُستبعد أن يفاجأ أهل الثقافة الضيقة بانبثاقٍ غير محسوب يجتاح مجالهم لتيّار يتّخذ لنفسه مجرىً من المجاري المتاحة في الثقافة الواسعة بحيث يبدو أقرب بكثير إلى تكاوينها منه إلى هياكل الثقافة الضيقة. هذا النوع من الغلبة يبدو مبدّداً لجهود مثقفين محترفين بذلوا وسعهم في صوغ ضروب من التشخيص المحكم أو الطامح إلى الإحكام وفي وضع التوصيات والمطالب والتوقّعات بناءً على ذلك. يضرب التيّار الطالع من الثقافة الواسعة عرض الحائط بهذا كلّه مغلّباً ما كان المتصدّرون من «مفكّري» الثقافة الضيقة ومعهم جمهورهم قد حسبوا أنهم أطاحوه أو أنهم شقّوا، في الأقلّ، أوسع الجادّات لتجاوزه.
لا غنى عن التنظير وما يليه أو يواكبه من صنوف المجادلة بين المثقفين وما يصحب ذلك من منتجات الثقافة الضيقة على اختلافها. ولكن حلقة الجدال بين المفكّرين أو بين مريديهم كثيراً ما تكون مفرغة، بمعنى الكلمة الحرفي. وكثيراً ما يكون جارياً إنتاج فكر الساعة في زاوية قصية من ميدان الصراع الفكري الظاهر بل أيضاً في دائرة لا يشتمل عليها هذا الميدان ويزدري أقطابه وآهلوه لغتها ومقولاتها بحيث قد لا يلقون إليها بالاً إلى أن يبغتهم طوفانها.
عليه يحتاج التقدير الرشيد لأدوار المذاهب أو التوجّهات الفكرية وشروط تأثيرها الاجتماعي إلى درس على حدّة. ولهذا الدرس أن يفيد من مناهج علم اجتماع الثقافة، على الأخص، وله أن يستلهم مناهج أخرى. ويبقى، في كلّ حال، أن اجتنابُ الخيبة يقتضي ألا يستعجل مفكّرو «الثقافة الضيقة» نسبةَ الكلمة المسموعة لأنفسهم في ساحات التظاهر وميادين القتال أو تَعَلُّق المآلِ المنتظر لمواجهةٍ تاريخية كبرى بـ»إفحام» واحدٍ منهم خصمه على صفحات كتابٍ أو جريدة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

…زَلابِية

  • October 4th, 2014

أحمد بيضون

الضربات الجوية لداعش، بلا تتمّةٍ برّية ولا أفق سياسيّ معلوم، لا «تَقْلي زلابيةً»، على قول ابن الرومي.
ودخول أمريكا حرباً لا يعني بالضرورة أن تكسبها فهي قد خسرت حربين من الصنف نفسه في السنوات الأخيرة، على الرغم من نشرها عسكراً على الأرض. قد يعني دخولها الحرب قدرتها المميّزة على تحمّل هزيمة أخرى بعد هضم التحدّي الذي حملَها على تحريك عسكرها.
تشبه الضربات الجوية «صفحةَ الماء يُرمى فيه بالحجرِ» إذا تابعنا اقتراض الصور من الشاعر نفسه.
فكتلة الحجر تطرد الماء من حيث تقع لتنشره إلى مسافات متباينة حولها. وهي تجعل الدوائر «تنداحُ» (والعبارة لابن الرومي أيضاً) من حولها. أي أنها تدفع داعش، في الحالة التي نواجه، على التوسّع إلى بلاد أخرى: إلى لبنان،مثلاً، وإلى الأردن، ناهيكم بدول الجزيرة… ولا ضرورة لتحريك المقاتلين أنفسهم من سوريا أو من العراق بل بات يمكن الاعتماد على مقاتلين تستنبتهم داعش من المجتمعات المحيطة.
أقدمَت أمريكا على دخول هذه الحرب بعد تردّد مديد. وهي تباشرها من الجوّ بعقيدة «زيرو كاجولتي» (صفر إصابات) التي جنحَت إليها (وإن لم تنجح في التمسك بها) منذ حرب تحرير الكويت سنة 1991. وهذه عقيدةُ دولةٍ تحترم أرواح جنودها وتخشى الرأي العام في ديارها… ولكنها، من الجهة الأخرى، عقيدةٌ ترفع كلفة تحريك العسكر وحمايته إلى مستويات خيالية وتحدّ من فاعليته القتالية فوق ذلك. وهذان أمران يطيلان أمد الحرب ويعودان فيزيدان ضغط الرأي العام على مؤسسة الحكم بسبب تراكم الأكلاف على اختلافها ورزوحها على الحياة الاقتصادية خصوصاً. هذا إلى ما يجرّه هذا الأسلوب في القتال من زيادة هائلة في ضحايا المدنيين ومن أضرار مختلفة أخرى حيث تدور المواجهة وما يلي ذلك من ضغط سياسي أو معنوي على الدولة المحاربة…
يتّحد هذا كلّه ليضعف الدولة الفائقة القوّة في مواجهة تشكيلٍات مقاتلة يمثّل الانتحار أسلوبها الأبرز في القتال وتحصي «شهداء»ها بـ»الملايين» سلفاً ولا تترددّ في إرهاب خصومها بالقول «بالذبح جيناكم» دونما تحسّبٍ من لطخة يتركها على صورتها هذا الشعار أو ما شاكله من قولٍ أو فعل. وهي، إلى ذلك، لا تسترخص شيئاً استرخاصها أرواح المدنيين الذين توزّعهم بين الجنّة والنار بحسب مقتضى الحال ولكنها ترسلهم إلى العالم الآخر في كلّ حال.
و»ما أَنْسَ لا أَنْسَ» – يقول ابن الرومي أيضاً – ما يتعهّده الأمريكيون ومن معهم من الأطلسيين من شدٍّ لأزْرِ التشكيلات «المعتدلة» في المعارضة السورية ومن اجتراح لـ»حرسٍ وطنيّ» في العراق يسدّ مسدّ الجيش الذي ظهر فشله الصاعق في الموصل… هاتان هما القوّتان اللتان ستقع عليهما أعباء القتال البرّي أو معظمها، على ما يظهر. ولكنّ السائد، في ما يتّصل بالتشكيلات السورية المشار إليها، هو الشكّ في «اعتدال» بعضها والشكّ في وجود البعض الآخر. والسائد في ما يتّصل بالعراق، هو التشكيك في أن تُفلح الطبعة الجديدة من «الصحوات» حيث أخفق جيشٌ أُنفِقَتْ عليه بلايين. نحن حيالَ شكٍّ وتشكيك، إذن، وهذا لا يعادل الجزم الذي لا يبدو أحدٌ قابضاً على مفاتيحه، في الظرف الحاضر. ذاك ما يعوّل عليه المعسكر المواجه لداعش وهو يزهو بضمّه نحواً من خمسين دولة ولكنه استجلب من الجهة الأخرى موقفاً تركياً ذا خطرٍ موسوماً بتقلّبات جزئية، مدروسة بلا ريب. وهو، إلى هذا، يُقْبِل على المواجهة بأنظمةٍ عربيةٍ، نفطية وغير نفطية، لم تلفحها الثورات مباشرة ولكنها أظهرت، مع ذلك، ما هي عليه من وهن حين يُستطلع المستقبل ومن ضعف في الجاذبية حين تُذكر البدائل. وكانت النفطية منها، على الخصوص، متّهمة أصلاً بالاستواء موئلاً للقاعدة ثم لِما تخلّفت به هذه الأخيرة من أشباهٍ ونظائر…
أَوْلى من ذلك بالنظر القريب أن المعسكر نفسه إذ استبعد «التعاون» مع النظام الأسدي واستبقى، مع ذلك، برنامجه القتالي في سوريا، قد أثار مواجد النظام المشار إليه، بطبيعة الحال، وأثار معها حرَد الحليفين المعهودين لهذا النظام: روسيا وإيران. أما مفعول المعارضة الروسية فقد يُقْتصر على خلخلة الشرعية الدولية للحرب الجديدة، وهذه شرعية فقدت بكارتها مراراً. وأما الثنائي السوري – الإيراني فستجهد المشاورات المكتومة والمعلنة في تلطيف غيظه. ثم إنه يملك في مواجهة المعسكر الذي استُبعد من عضويته وسائل متنوّعة عزّزتها الخبرة الطويلة. يتعين الانتباه، فوق ذلك، إلى أن الطرف الإيراني، وهو أقوى الاثنين، يباشر هذه المرحلة الجديدة من المواجهة وعينه على مفاوضاته النووية وعلى ما في يده من أوراق منشورة بين صنعاء وبيروت. والمفاوضات النووية والأوراق الإقليمية قوّة للنظام الإيراني يتصرّف بها في التجاذب المتواصل ولكنهما عبءٌ عليه أيضاً تمتحن العقوباتُ الدولية قدرتَه على حمله. ما الذي يُحتمل أن تفعله إيران وتابعها السوري؟ لم يخطئ من ذكّر بسوابق البراغماتية الفاقعة التي سبق أن أبداها الطرفان في تاريخ أمسى طويلاً. أبدتها إيران حيال أمريكا نفسها وإسرائيل في ما سمّي إيران غيت وأبدتها من الجهة الأخرى حيال الولايات المتحدة وحيال تنظيم «القاعدة» معاً في حربي أفغانستان والعراق، إلخ. وأبداها النظام الأسدي حيال الولايات المتحدة أيضاً في هاتين الحربين وفي أزمة لبنان، بعد اغتيال رفيق الحريري، وقبل ذلك في حرب تحرير الكويت وحيال تنظيم «القاعدة» أيضاً في محطّات وصيغ مختلفة بينها تهريب «المجاهدين»، بعد تدريبهم، إلى العراق المحتلّ وبينها فصْل فتْح الإسلام في لبنان وبينها، مؤخّراً، إطلاق سراح سجناء القاعدة من سجن صيدنايا لصَبْغ الثورة السورية، وهي لا تزال حركة متظاهرين سلميين، بصبغة الإرهاب الإسلامي… وبينها، أخيراً لا آخراً، سكوت النظام طويلاً طويلاً على توسّع داعش نفسها في شرق سورية وشمالها. إلخ.
هذا كلّه لا ينذر بحلف صريح يضمّ داعش إلى الثنائي الإيراني السوري. ولكنه ينذر، على الأرجح، بلعبٍ ثلاثيّ معقّد يتعاقب فيه تشجيعُ داعش ولَجْمُها ومحاولةُ الاستثمار في ما تحقّقه على الأرض بغيةَ تحصيل مكاسب من الأمريكيين وحلفائهم على جبهاتٍ أخرى لقاءَ التخفيف من الغلواء الداعشية. وهذا لعبٌ يجب أن يُنْظر فيه إلى أثره في المشادّة المكتومة أو شبه المكتومة بين «متشدّدي» النظام الإيراني و»معتدليه». وفي هذا كلّه، لن يوجد في الميدان من يحتسب الضحايا والدمار في العراق وفي سوريا. تلك مهمّة قد يتولاها مركزٌ صغيرٌ ما واقعٌ في خارج الميدان. وأما الذين هم في الميدان، على اختلاف المواقع، فمهمّتهم مقتصَرة على الاستكثار من الضحايا والخراب.
يرجّح إذن أن تخطئ الزلابيةُ أفواهَ المتلمّظين… يرجّح أن تكون هذه الحرب المستأنفة محطّة على طريق بلادنا الطويل نحو مصير يبدو الآن أغمض ملامح ممّا كان قبل سنتين أو ثلاث… ولكن لا تَغْلب على صُوَره القريبة، في كلّ حال، بشائرُ خلاصٍ…
كاتب لبناني

أحمد بيضون

Share on Facebook