أحمد بيضون
يفتح «الفيسبوك» صدرَه لأنواعٍ كثيرة من الموادّ. فهو يقترح عليك، أوّلَ ما يطالعك حائطك المألوف (الذي تتوجّه منه إلى متابعيك وقد يحاورونك عليه) أن تضيف مادّة من إحدى فئاتٍ ثلاث: فئة التصريح بكلامٍ وفئة الصورة التي يسعها أن تكون واحدة ثابتة أو تكون شريط فيديو بحاله وفئة «الحدث» وموضوعُه مناسبة تُسْتجدّ أو تستذكر في تاريخ بعينه وقد تكون موضوعاً لاحتفالٍ ما في عالم الواقع. ولكن شريطاً يعلو هذه المساحة الثلاثية يبرز احتواء «الحساب» الفيسبوكي على موادّ كثيرةٍ أخرى: على محفوظاتٍ من الصور والأشرطة، على روابط بصفحات «الأصدقاء»، على أغلفة كتبٍ أو ملصقات أفلام أو أعمالا موسيقية، هي من مفضّلات صاحب الحساب، على رموز لمفضّلاتٍ من دنيا الرياضة، على «نُبِذٍ» يسعك أن تحفظ فيها مقالاتٍ أو دراسات: أي نصوصاً أطول من نصوص التصريحات التي قد لا يتجاوز واحدها كلمات معدودة، إلخ. هذا فضلاً عن «صندوق» للرسائل وللتحادث يتيح محاورة «أصدقاء» بأعيانهم، وحداناً وزرافات، بمعزلٍ عن عيون سائر الجمهور.
ولا ريب في أن هذه الموادّ كلّها لا تتساوى فئاتها في الرواج على الفيسبوك: أي في جذب اهتمام المتصفّحين واستثارة ردّ منهم يتخذ صيغة «التلييك» (أي إبداء الرضا عن المادّة… مع أنها قد تكون نعياً لعزيزٍ، أحياناً!) أو صيغة «التعليق» أو صيغة «التشيير» (أي إعادة نشر المادّة على حائط المتصفّح)… ثمّة تراتبٌ في الرواج توحي الإحصاءات أنه تغيّر لمصلحة «الصورة»، الثابتة أو المتحركة، التي تقدّمت على الكلام شأنها، في زمنٍ سبق، في النزاع بين الراديو والتلفزيون.
مع ذلك بقي «التصريح» (الذي اقترحتُ مقابلاً لاسمه الإنكليزي كلمة «عَرْضحال» العثمانية الأصل، على الأرجح) أوّل ما يعرضه عليك الفيسبوك من صور «النشاط» المحتمل من جهتك. وذاك أن «الإنسان» الفيسبوكي (هومو فيسبوكوس!) بقي حيواناً ناطقاً وإن يكن أصبح أيضاً، مع اجتياح الكاميرات للجيوب، حيواناً لا يكفّ عن التعرّض للتصوير… أو عن أخذ الصور لنفسه مؤخّراً.
وأمّا ما نصرّح به من كلامٍ على الفيسبوك فيسعه أن يكون أيّ كلامٍ كان، بل يسعه أيضاً أن يقع في ما دون الكلام فيقتصر على ما يسمّيه الفيسبوك «اللّكْز»… أو على واحدٍ أو أكثر من هذه الرسوم التي تفيد انفعالاً ما: فرحاً أو أسفاً أو تأييداً، إلخ، أو يقتصر على صوتٍ مكتوب لا يرقى إلى مرتبة الكلام المثبت في المعاجم، ولكنه يعبّر عن انفعالٍ أيضاً. وأشيع الأصوات من هذا القبيل، على الفيسبوك، «هههههه» التي تفيد أن محدّثك يمزح أو يسخر أو يضحك أو يأمرك بالضحك! إي والله: تفيد «هههههه» هذا كلّه! ولكنْ… يسع الكلام المذكور أيضاً أن يكون مقطعاً من بديع الشعر!
غير أنه يبقى في وسعنا، بعد إثبات هذا التنوّع، أن ننوّه بغلبة «الشفوية» على عرضحالات الفسابكة. فالكلام المكتوب هنا نائب، في الأغلب، عن كلام منطوق. ولا مغامرة في القول أن الفيسبوكي يكتب وكأنه يحادث. وهو ما يورث حضوراً غامراً للعامّيات وقلّة اكتراثٍ بتصحيح أنواع مختلفة من الأخطاء قد تقع في ما يقال. هذا لا يمنع أن المقارنة (في حالة الناطقين بالعربية) بين ما يرِد في العرضحال وما يقال في الدردشة تثبت أن الميل إلى الفصحى أقوى في الحالة الأولى وأن التوجّه إلى جمهور له قدْرٌ من السعة وقدرٌ من الغفليّة يملي اعتماد ضوابط مختلفة الأصناف في صياغة الكلام يغلب ألّا يعتمدها الكلام الموجّه، على حدةٍ، إلى شخصٍ واحدٍ أو أشخاص بأعيانهم.
هل ثمّة محلٌّ، بعد هذا، لما يسمّى «عمل الكتابة»، أي لمَخاضٍ يبتغي الرفع من سويّة الكلام من وجهٍ أو وجوهٍ: يبتغي البلاغة بالمعنى الأعمّ: أي ما قد يكون ألمعية وقد يكون شدّة إيحاءٍ وقد يكون إحكاماً وقد يكون تمكّناً من الإقناع أو من إثارة انفعالٍ ما؟ هذا معنىً لا يقرن البلاغة بالتمحّل (مع بقاء هذا الأخير غير مستبعد) وإنما يقرّبها من معنى الجمال على اختلاف موارده. ولِمَ قد يختار واحدنا الفيسبوك لمعاطاة غواية الكتابة هذه؟ لِمَ لا يعتمد حواملَ أخرى أرفع كعباً في هذا المضمار: الكتاب، المجلّة، القراءة في مجلس، الصفحة الثقافية، في الأقلّ؟
عند هذا السؤال، يدخل تصوّر «الخاطرة». الخاطرة على أنها فنّ من فنون الكتابة سابقٌ للفيسبوك. والخاطرة على أنها، مع ذلك، فنّ يسع الفيسبوك أن يجدّده فيمدّه بألقٍ مستأنف ويعيد تعيين مكان له ومكانة في الأدب إذ يملي عليه علاقة بالزمن هي غير العلاقة التي يغري بها دفتر «الخواطر». يجعل الفيسبوك «الخواطر» أيضاً في حال توجّه فوري، أي مزامنٍ لصوغها، إلى جمهور، وهو ما يرجّح لها طلاوة المشافهة ولو انّها ناتج عملٍ وصناعة. يتيح الفيسبوك للخواطر، فوق ذلك، تنوّعاً مهولاً في الشواغل وفي سويّة الهموم: فيكون لها أن تتراوح بين استنطاق شعور بتوعّك طارئ مثلاً والإشارة إلى احتمالٍ يراه الفيسبوكي معتبراً لنشوب حربٍ عالمية، بين رأي في أغنية واستذكار حادثة قديمة… وغير ذلك كثيرٌ – طبعاً – فيتعذّر حصره. وهو ما قد يوحي، أوّل وهلة، بتشظّ مطلق لشريط الخواطر. ولكنه يجعل الخواطر مقتطفات نامّة بسيرة داخلية للشخص، أو بـ»سيرة للبال والخاطر» على ما اقترحتُ تسمية الحصيلة ذات مرّة… هذه وغيرها أبواب مفتوحة على مقارنة لما كانته الخاطرة، بما هي فنّ من فنون الكتابة، قبل الفيسبوك بما يسعها أن تكون معه. وهي مقارنة أعود إليها في عجالةٍ مقبلة.
كاتب لبناني
الخاطرة والفيسبوك
أحمد بيضون