الخاطرة والفيسبوك

أحمد بيضون

ديسمبر 28, 2015

يفتح «الفيسبوك» صدرَه لأنواعٍ كثيرة من الموادّ. فهو يقترح عليك، أوّلَ ما يطالعك حائطك المألوف (الذي تتوجّه منه إلى متابعيك وقد يحاورونك عليه) أن تضيف مادّة من إحدى فئاتٍ ثلاث: فئة التصريح بكلامٍ وفئة الصورة التي يسعها أن تكون واحدة ثابتة أو تكون شريط فيديو بحاله وفئة «الحدث» وموضوعُه مناسبة تُسْتجدّ أو تستذكر في تاريخ بعينه وقد تكون موضوعاً لاحتفالٍ ما في عالم الواقع. ولكن شريطاً يعلو هذه المساحة الثلاثية يبرز احتواء «الحساب» الفيسبوكي على موادّ كثيرةٍ أخرى: على محفوظاتٍ من الصور والأشرطة، على روابط بصفحات «الأصدقاء»، على أغلفة كتبٍ أو ملصقات أفلام أو أعمالا موسيقية، هي من مفضّلات صاحب الحساب، على رموز لمفضّلاتٍ من دنيا الرياضة، على «نُبِذٍ» يسعك أن تحفظ فيها مقالاتٍ أو دراسات: أي نصوصاً أطول من نصوص التصريحات التي قد لا يتجاوز واحدها كلمات معدودة، إلخ. هذا فضلاً عن «صندوق» للرسائل وللتحادث يتيح محاورة «أصدقاء» بأعيانهم، وحداناً وزرافات، بمعزلٍ عن عيون سائر الجمهور.
ولا ريب في أن هذه الموادّ كلّها لا تتساوى فئاتها في الرواج على الفيسبوك: أي في جذب اهتمام المتصفّحين واستثارة ردّ منهم يتخذ صيغة «التلييك» (أي إبداء الرضا عن المادّة… مع أنها قد تكون نعياً لعزيزٍ، أحياناً!) أو صيغة «التعليق» أو صيغة «التشيير» (أي إعادة نشر المادّة على حائط المتصفّح)… ثمّة تراتبٌ في الرواج توحي الإحصاءات أنه تغيّر لمصلحة «الصورة»، الثابتة أو المتحركة، التي تقدّمت على الكلام شأنها، في زمنٍ سبق، في النزاع بين الراديو والتلفزيون.
مع ذلك بقي «التصريح» (الذي اقترحتُ مقابلاً لاسمه الإنكليزي كلمة «عَرْضحال» العثمانية الأصل، على الأرجح) أوّل ما يعرضه عليك الفيسبوك من صور «النشاط» المحتمل من جهتك. وذاك أن «الإنسان» الفيسبوكي (هومو فيسبوكوس!) بقي حيواناً ناطقاً وإن يكن أصبح أيضاً، مع اجتياح الكاميرات للجيوب، حيواناً لا يكفّ عن التعرّض للتصوير… أو عن أخذ الصور لنفسه مؤخّراً.
وأمّا ما نصرّح به من كلامٍ على الفيسبوك فيسعه أن يكون أيّ كلامٍ كان، بل يسعه أيضاً أن يقع في ما دون الكلام فيقتصر على ما يسمّيه الفيسبوك «اللّكْز»… أو على واحدٍ أو أكثر من هذه الرسوم التي تفيد انفعالاً ما: فرحاً أو أسفاً أو تأييداً، إلخ، أو يقتصر على صوتٍ مكتوب لا يرقى إلى مرتبة الكلام المثبت في المعاجم، ولكنه يعبّر عن انفعالٍ أيضاً. وأشيع الأصوات من هذا القبيل، على الفيسبوك، «هههههه» التي تفيد أن محدّثك يمزح أو يسخر أو يضحك أو يأمرك بالضحك! إي والله: تفيد «هههههه» هذا كلّه! ولكنْ… يسع الكلام المذكور أيضاً أن يكون مقطعاً من بديع الشعر!
غير أنه يبقى في وسعنا، بعد إثبات هذا التنوّع، أن ننوّه بغلبة «الشفوية» على عرضحالات الفسابكة. فالكلام المكتوب هنا نائب، في الأغلب، عن كلام منطوق. ولا مغامرة في القول أن الفيسبوكي يكتب وكأنه يحادث. وهو ما يورث حضوراً غامراً للعامّيات وقلّة اكتراثٍ بتصحيح أنواع مختلفة من الأخطاء قد تقع في ما يقال. هذا لا يمنع أن المقارنة (في حالة الناطقين بالعربية) بين ما يرِد في العرضحال وما يقال في الدردشة تثبت أن الميل إلى الفصحى أقوى في الحالة الأولى وأن التوجّه إلى جمهور له قدْرٌ من السعة وقدرٌ من الغفليّة يملي اعتماد ضوابط مختلفة الأصناف في صياغة الكلام يغلب ألّا يعتمدها الكلام الموجّه، على حدةٍ، إلى شخصٍ واحدٍ أو أشخاص بأعيانهم.
هل ثمّة محلٌّ، بعد هذا، لما يسمّى «عمل الكتابة»، أي لمَخاضٍ يبتغي الرفع من سويّة الكلام من وجهٍ أو وجوهٍ: يبتغي البلاغة بالمعنى الأعمّ: أي ما قد يكون ألمعية وقد يكون شدّة إيحاءٍ وقد يكون إحكاماً وقد يكون تمكّناً من الإقناع أو من إثارة انفعالٍ ما؟ هذا معنىً لا يقرن البلاغة بالتمحّل (مع بقاء هذا الأخير غير مستبعد) وإنما يقرّبها من معنى الجمال على اختلاف موارده. ولِمَ قد يختار واحدنا الفيسبوك لمعاطاة غواية الكتابة هذه؟ لِمَ لا يعتمد حواملَ أخرى أرفع كعباً في هذا المضمار: الكتاب، المجلّة، القراءة في مجلس، الصفحة الثقافية، في الأقلّ؟
عند هذا السؤال، يدخل تصوّر «الخاطرة». الخاطرة على أنها فنّ من فنون الكتابة سابقٌ للفيسبوك. والخاطرة على أنها، مع ذلك، فنّ يسع الفيسبوك أن يجدّده فيمدّه بألقٍ مستأنف ويعيد تعيين مكان له ومكانة في الأدب إذ يملي عليه علاقة بالزمن هي غير العلاقة التي يغري بها دفتر «الخواطر». يجعل الفيسبوك «الخواطر» أيضاً في حال توجّه فوري، أي مزامنٍ لصوغها، إلى جمهور، وهو ما يرجّح لها طلاوة المشافهة ولو انّها ناتج عملٍ وصناعة. يتيح الفيسبوك للخواطر، فوق ذلك، تنوّعاً مهولاً في الشواغل وفي سويّة الهموم: فيكون لها أن تتراوح بين استنطاق شعور بتوعّك طارئ مثلاً والإشارة إلى احتمالٍ يراه الفيسبوكي معتبراً لنشوب حربٍ عالمية، بين رأي في أغنية واستذكار حادثة قديمة… وغير ذلك كثيرٌ – طبعاً – فيتعذّر حصره. وهو ما قد يوحي، أوّل وهلة، بتشظّ مطلق لشريط الخواطر. ولكنه يجعل الخواطر مقتطفات نامّة بسيرة داخلية للشخص، أو بـ»سيرة للبال والخاطر» على ما اقترحتُ تسمية الحصيلة ذات مرّة… هذه وغيرها أبواب مفتوحة على مقارنة لما كانته الخاطرة، بما هي فنّ من فنون الكتابة، قبل الفيسبوك بما يسعها أن تكون معه. وهي مقارنة أعود إليها في عجالةٍ مقبلة.

كاتب لبناني

الخاطرة والفيسبوك

أحمد بيضون

خدعةٌ ما

أحمد بيضون

■ بغير قصدٍ أو – على الأرجح – بقصدٍ، أخذت المبادرة الآيلة إلى ترئيس سليمان فرنجية للجمهورية اللبنانية تبدو أشبه بالخدعة منها بالمبادرة. إذا صحّ هذا التقدير رجَح أن تكون الخدعة قد جاءت من موضع بعيد وسلكت إلى ضحاياها طريقاً متعرّجة.
أوقَعُ ما حصل – ما دامت المبادرة قد أصبحت مستبعدة النفاذ – هو أن «السقف» الرئاسي المفترض لجماعة 14 آذار قد ألصقه المسعى الحريري بالأرض، إذ سلّم بتسليم الرئاسة الأولى للجماعة الأخرى. وهو أمر يزلزل جماعة 14 آذار لنسفه المدار الرئيسي (أو الرئاسي) للعلاقة بين ركنيها السنّي والمسيحي. يزيد الأمرَ سوءاً أن هذا التسليم اقتُصر مقابله على تسلّم رئاسة الحكومة، أي على مطلب يخصّ الركن السنّي الذي بدا وكأنه «باع» بهذه الرئاسة حليفيه المسيحيين: القوّات اللبنانية والكتائب. نقول هذا مع العلم أن التحالف العريض قد يبقى قائماً شكلاً لأسباب شتى تملي ضرورته. ولكنه يخرج من هذه المبادرة وقد ازداد ـ مرّةً أخرى بعد مرّات ـ خلوّاً من روحه، أي من الطاقة التي انشأت له وحدة جمهوره عند قيامه.
في جهة 8 آذار، لا يبدو الأمر على هذا القدر من السوء. حصل هذا المعسكر مجّاناً على التسليم المبدئي له بالرئاسة. صحيحٌ أن الإجماع المعلن حول ميشال عون قد ضُرب. ولكن الضربة جاءت من جهة مسيحية ثانوية في الجماعة في ما بقي الطرف القائد، أي «حزب الله» غير متورّط علناً. يقابل ذلك تورّط كلّي للطرف القائد في المعسكر الآخر (أي تيّار المستقبل). صحيحٌ أيضاً أن جماعة 8 آذار لم تحصل على الرئاسة الأولى فعلاً، ولكن هل يريد الطرف الممسك بزمام الجماعة انتخاب رئيس للبلاد فعلاً؟ هذا سؤالٌ كان معلّقاً في الفضاء من وقتٍ غير قصير ولا يزال.
على أن الخسارة الكبرى من جرّاء الزعزعة الشديدة لـ14 آذار والمحدودة لـ8 آذار حصدها الجانب المسيحي في جملته. فبعد أن كان يبدو منقسماً بنوع من التعادل بين الجماعتين، ظهر بجلاء أنه مقسّمٌ إلى أربع جماعات يوشك ألا يجمع بينها جامع.
في مقابل تمثيلين طائفيين جامعين، على نحوٍ أو آخر، في الجهتين الشيعية والسنّية. هي إذن محطّة جديدة لمسار التضعضع الذي تسلكه المسيحية السياسية في البلاد. وهو تضعضع بات جليّاً أنه يتعدّى السياسة البحتة أصولاً ومفاعيل.
تبقى ملاحظتان، الأولى أن هذا النوع من المبادرات معتاد في أيّ بلاد تشهد حرباً أو تشهد أزمة متمادية. هو ينفع في مداراة اليأس أوّلاً وفي تلطيف ما يجرّ إليه اليأس المبتلين به من أفعالٍ مختلفة، غير مرغوب فيها من قبل ذوي السلطان: أفعالٍ يقدم عليها اليائسون زرافاتٍ ووحداناً. هذه المبادرات التي تنعش المسرح والنفوس، إذ تبدو مخالفة لوجهة التردّي السائدة، لا تلبث أن تتكشف كلّ منها عن خيبة جديدة وعن انتظار جديد لما يتراءى في غيب ينظر إليه المضطرّون على أنه غني باحتمالات شتّى.
الملاحظة الثانية، وهي معلومة إلى حدّ يغري بالاستغناء عنها، هي أن التفاعلات اللبنانية من الطراز الذي سبق وصفه لا حظّ لها، ما دام المجتمع السياسي اللبناني هو هو، بالتفلّت قليلاً أو كثيراً من بعض ما لا ينفكّ يعصف بالمشرق، الذي يقع فيه لبنان، من أعاصير عنيفة، كثيرة المهبّات، لا ينجو منها بشرٌ ولا حجر. وهو ما يجعل المضيّ قدماً في تسويةٍ غير عابرة لأزمة النظام اللبناني، أمراً لا يزال غير مرجّح. وذاك أن المساعي المبذولة، على الخصوص، في مساق الصراع على سورية لا يبدو حتى الساعة أنها اقتربت من منفذٍ ما، إلى الحدّ الذي يبيح التفاهم العامّ على الجانب اللبناني من الصفقة الكبيرة. ذاك لا يمنع أن اللعب الظرفي في الساحة اللبنانية، إذ تحصل فصوله المؤذية بوسائط لبنانية، يترك بعضه ندوباً وتقرّحات لبنانية تصبح المعالجة الآجلة لبعضها صعبة أو متعذّرة حين يراد لها الشفاء من الخارج أو من الداخل.
في المبادرة التي نحن بصددها، حصل أخذ وردّ دبلوماسيّان أغريا بحملها على محمل الجدّ. ولكنّهما بقيا محدودين ثم مالا إلى الخمول. من ساقَ خطى صاحب المبادرة، إذن، إلى هذا الفخّ الذي يستبعد كلّياً أن يكون سعد الحريري قد تحرّك نحوه من تلقاء نفسه؟ الأرجح أن العملية بدأت في خارج جمهورية لبنان المعذّبة. بدأت في مجرى التجاذب الإقليمي وما يفرضه مجرّد السعي إلى تحسين المواقع ـ ناهيك بالبحث عن منفذ ـ من أصناف المناورة. بدأت إذن بخدعةٍ من طرفٍ غير لبناني انطلت على طرفٍ آخر غير لبناني أيضاً.

٭ كاتب لبناني

أحمد بيضون