مرحلتان في «الحركات»، عُسْرٌ في المقاربة

أحمد بيضون

يسعنا القول، معتمدين تمييزاً نراه مقبولاً وإن يكن جدّ فضفاض، أن حركات التغيير التي شهدتها بلادٌ عربية مختلفة، في الأعوام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، قد عرفت مرحلتين: في الأولى منهما كانت مادّة الحركة وقيادتها شبابية، على التغليب، وكانت الشعارات والمطالب مستقاةً من المعين الديمقراطي العالمي الذي تنزّهت راياته في العقود الثلاثة المنصرمة بين قارّات عدّة من العالم وبلغ انتشاره مبلغاً جعل الحديث يجري عن «استثناء عربي» من هذه النعمة السابغة. في المرحلة الثانية، كانت تشكيلات من أنساق معهودة سابقاً ومعلومة التوجّهات والعناوين قد استولت على الحركة وأخضعتها لشبكات متعارضة غير محدودة بحدود البلاد التي شهدت نشأة الحركة. نصف بـ»المعهود» و»المعلوم» حركات نعلم أن بعضها تجاوز بعنفه وجذرية رفضه لمؤسسات المجتمعات القائمة وبارتداده إلى صيغ في معاملة الأفراد والجماعات كانت يفترض أنها باتت دفينة الزمن حدودَ المتخيل السائر.
بدت هذه الشبكات المتنامية النفوذ متّسمة بتبعيات مختلفة وبعنفٍ فرضه عنف النظام القائم ولا ريب ولكنه أصبح سبيلَ الشبكات المشار إليها إلى الاستيلاء على حركة التغيير كلها. ولم يلبث العنف أن أصبح موجّهاً إلى من كانوا مادّة الحركة في المرحلة الأولى ثم إلى الشبكات في ما بينها. فكان أنّ مدار الصراع المتصدّر راح يتحوّل نحو تغليب هذه أو تلك من الشبكات والاستجابة بذلك إلى رعاة خارجيين متصارعين أيضاً. وقد ازدادت كلمة هؤلاء رجحاناً مع اشتداد العنف واشتداد الحاجة إلى وسائله فضلاً عن الحاجة إلى صنوف الدعم الأخرى.
كانت المرحلة الثانية إذن مرحلة استيعاب وتحويل للأولى، حوّلت وجهتها التي كانت قد عبّرت عنها حشود عارمة في الساحات وظهرت لها قيادات شابةٌ معروفة الأسماء. هكذا تغير أيضاً محتوى الحركات وأشكالها فارتدّت إلى صيغٍ عرفت البلاد نفسها أو عرف المجال الذي تنتمي إليه ما يناظرها في العقود الأخيرة. هذه الصيغ المعروفة المعالم ولو نحت إلى تضخيمها والمتوقّعة المسالك ولو بالغت في حفرها تجوز نسبتها إلى التقليد بقدر ما تتّخذ لنفسها منابت في مذهب نضالي من المذاهب الدينية القائمة أو في تشكيلات قبلية فرضت نفسها من جديد أطراً للتضامن وللمبادرة.
غير أن هذه النسبة إلى إطار من أطر التضامن الموصوفة بـ»الأوّلية» في مصطلح علم الاجتماع لا تلبث أن تتكشّف عن ضيق واضح وبعدٍ عن ملاءمة الوقائع وعن القدرة على وصفها عند إمعان النظر. فإن التنظيمات الجهادية نفسها هي بمثابة خروج مركّب على التديّن التقليدي العريض وخروج على الولاء العشيري أيضاً يفترض بزوغ نوع من الفردية متشدّد في توكيد الاستقلال عن الجماعة الأولية وإن يكن ينتهي إلى تشدّد في الامتثال والتبعية لقيادة الجماعة المتبنّاة. بهذا المعنى، تشبه هذه التنظيمات الجديدة تنظيمات كثيرة معاصرة نشأت في بلدان مختلفة وتميّزت بالتزمّت الأيدلوجي والولاء الأعمى للقائد ولكنها لم تكن دينية الهويّة بالضرورة.
عليه لا تفي بأغراض الفهم في هذه الحال أزواج تصوّرية معتادة في العلوم الاجتماعية من قبيل الحداثة والتقليد أو التضامن الأوّلي والتضامن الثانوي بحيث تنسب المرحلةالأولى من الحركات التي نحن بصددها إلى قطب الحداثة أو الطوعية وتنسب المرحلة الثانية إلى قطب التقليد أو العرفية. لا يفي بالغرض أيضاً إحالة صفّ أو وجه من القوى والظواهر إلى علم الاجتماع أو علم السياسة وإحالة الصفّ والوجه المقابلين إلى الأنثروبولوجيا. فإن عناصر الصورة تبدو ملتبسة الصفة إلى حدّ يصم هذه الإحالة وتلك بالتعسّف المحرج.
لا يسمن الحديث، أخيراً، عن مقاربة متعددة النطاقات أو المناهج، إذ لا تفيد هذه التسمية شيئاً يذكر عمّا يفترض بكلّ من العلوم المستدعاة أن يسهم به ولا تقدّم بحدّ ذاتها دليلاً على تكامل مثمر بين النطاقات أو بين المناهج. بل إننا نشعر، حيال ما ارتأينا أن نسمّيه مؤقّتاً «حداثة مستوعبة» في الحركات، بنوع من الخلل العميق في العدّة النظرية التي تُجَهّزنا بها علوم المجتمع ونسأل انفسنا أن لم يكن على هذه العلوم أن تعيد النظر في مقدّماتها وفي أعرافها التصنيفية وفي توزّعها هي نفسها إلى منظومات مستقلّة حتى تتمكّن من وضع اليد على حقيقة الأطراف وطبيعة الظواهر في هذه «الحركات» التي جرت تحت أبصارنا ولا تزال عواقبها تضطرب وتتفاعل.
ولكن: هل هي «الحركات» وحدها التي تدعو إلى اعتماد هذا البرنامج الضخم المكرّس لنقد الأسس المجتمعية لعلوم المجتمع ولاقتراح تبويب جديد وشبكات تصوّرية أساسية مطوّعة ومقاربات مستحدثة للوفاء بحاجات الفهم المحكم للديناميات الاجتماعية في بلادنا ولأصولها؟ أم إن في بنى مجتمعاتنا تلك وفي تواريخها ما يدعو إلى اعتماد برنامج من هذا القبيل بعد استكشاف ما يسم العلوم الاجتماعية من علائم الانحصار في المجتمعات والحقب التي كانت منابتها الأصلية؟
سبق أن لامسنا هذا الصفّ من المسائل في مساقات أخرى ولعلنا نعود إلى شيء من ذلك في بعضٍ آخر لاحق من هذه العجالات.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

علوم المجتمع أمام حداثتنا المستوعبة

أحمد بيضون

ثمة حاجة إلى التفكّر في بعض وجوه الصلة بين العلوم الاجتماعية، وعلى الأخصّ منها علم الاجتماع وعلم السياسة، على الصورة التي وردا فيها علينا من بلاد منشئهما، وحركات التغيير التي شهدتها بلادٌ عربية عدّة ابتداءً من أواخر العام 2010. وسيتبين أن ما نقصده بهذه الدعوة يجعلها مشتملة أيضاً على العراق ابتداءً من سنة 2003… بل هو يبيح أيضاً توسيع نطاقها المكاني إلى بلادٍ عربية أخرى وتوسيع نطاقها الزماني إلى تاريخ الدول الوطنية في هذا الإقليم منذ نشأتها مع تهاوي الدولة العثمانية ومنذ استقلالها تباعاً بعد ذلك عن سلطان هذه أو تلك من الدولتين الأوروبيتين اللتين آلت إليهما إدارة التركة العثمانية في بلاد العرب.
وللحاجة التي نشير إليها منطلقان متضافران يتعلّق كلّ منهما بطرف من الطرفين اللذين نرى العلاقة بينهما محتاجةً إلى تدبّر. أمّا المنطلق المتّصل بالعلوم الاجتماعية فهو أن هذه العلوم بنت المجتمعات التي نشأت ونمت فيها، تترسّم خطوط أنظمتها ومؤسساتها وقيمها وتتّخذها أدلّة إلى ما تطرحه من مسائل وما تتّخذه من مناهج وطرائق. وهي أيضاً، بمقدار ما تعنى بالمجتمعات غير المجانسة لمجتمعات نشأتها تلك، لجهة الأنظمة والمؤسسات والقيم، بنت النظرات المتاحة في مجتمعات نشأتها (بما فيها النظرات النقديّة) إلى تلك المجتمعات المغايرة. وقد كان الفصل المعتمد بين هاتين الفئتين من المجتمعات ماثلاً، على سبيل المثال، في أساس الفصل بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا… ولو ان البلاد التي من قبيل بلادنا بقيت حائرة بين هذين الحدّين فتكوّنت للإحاطة بأحوالها منظومة معارف هي ما يطلق عليها اسم الاستشراق، ظلّت حين تتناول المجتمعات وأنظمتها، تعتمد مرجعيات مختلطة، بل حائرة، لا تعنى كثيراً بتحديدها أو بإلزامها نطاق علم الاجتماع أ ونطاق الأنثروبولوجيا، صراحة، بما يفرضه هذا الإلزام، لو حصل، من مقدّمات معرفية وخيارات منهجية.
ولنقل إن ما نشير إليه هنا من مفارقة بين بنى علوم المجتمع هذه وبنى مجتمعاتنا والمدارات المؤهّلة للبحث في مسائلها لا ينتمي إلى النقد السياسي وإن كان لا يستبعده. فنحن لا نجعل موضوع السيطرة هنا في مركز الاهتمام، على غرار ما اعتمده إدوارد سعيد، ولا ننحو إلى حبس المعارف التي أثمرها الاستشراق، جملةً، في إشكال السيطرة ولا إلى اعتبار العلوم الاجتماعية في مقاربتها مجتمعاتنا مسخّرة، بالضرورة، لغاية السيطرة المذكورة. وذاك أننا نحمل على محمل الجدّ ما في هذه المعارف من تنوّع يجعلها تفيض من كلّ حدبٍ وصوب عن النطاق الذي يرسمه هذا الإشكال. وقد تفيد الإشارة إلى أن هذا الضرب من الاختزال، على اختلاف في موضوعه، موقفٌ غربي جدّاً في أصله. ولعلّ أبرز أمثلته ما يزعمه البيان الشيوعي بشأن التاريخ برمّته حين يعلن «إن تاريخ المجتمعات لم يكن، حتى يومنا هذا، سوى تاريخ الصراع بين الطبقات»!.
إلى ذلك، نحمل على محمل الجدّ أيضاً تعدّد الاتّجاهات التي يمثلها الباحثون في تناولهم قضايا تخصّنا أو تخصّ العلائق بين دولهم أو مجتمعاتهم ومجتمعاتنا أو دولنا. لا نقدّم السياسة أخيراً، وإن نكن لا نستبعدها، حين نباشر نقداً أو ندعو إلى نقدٍ لعلوم، هي العلوم الاجتماعية، نشأت في مجتمعات ذوات تواريخ وتكاوين مختلفة عمّا تمكن معاينته في مجتمعاتنا. وإنما نرمي، فوق كلّ شيء، إلى تتبّع كلّ ما يشي بإشكال في التواؤم بين عُدّة الدرس المستعارة والموضوع المدروس. ليس النقد الذي ندعو إليه إذن فضحاً أو احتجاجاً، بالدرجة الأولى، وإنما هو، بالدرجة الأولى أيضاً، طلبٌ للمقارنة بين مجتمعات مختلفة فعلاً ولكنها متفاعلة جدّاً أيضاً، في عالم لا يزال يصبح واحداً من أزْيَدَ من قرنين.
من هذه المقارنة يبتغي النقد تحسيناً لأدوات المعرفة المهيّأة لتناول مجتمعاتنا: تناولِها من سائر وجوه حياتها المعاصرة، على الخصوص. لا نهمل ما هو متعلّق بالسيطرة من صيغ للكلام وقوالب تُدْرَج فيها الوقائع. ولكن نرى أن السيطرة، بل والسياسة على الأعمّ، لا تستغرق معرفة مجتمع من المجتمعات بنفسه ولا معرفة غيره به، بسائر ما في ذلك من تفرّع المسالك والميادين وتعارض الاتّجاهات والمدارس، إلخ. لابدّ من السعي إلى الإحاطة، إذن، بديلاً من الاختزال: لا لتحقيق الإنصاف وحسب (إنصاف منتجي المعارف، على اختلافهم) بل لتكثير الفوائد وتقويم مسالك البحث الجديد وتوسيعها. فإن كثيراً من الفوائد تضيع بالاختزال وبالنظر إلى المعارف والقيم المعروضة من منظارٍ وحيد هو منظار العداوة. وإن كثيراً من العنف الذي يثمره هذا الانحصار يرتدّ إلى الذات وينتهي إلى تدمير متسلسل لها. وهو ما نرى شيئاً كثيراً منه معروضاً تحت أبصارنا إذا نحن أحسنّا النظر.
هذا من جهة المعارف المعروضة علينا. يبقى الجانب الآخر الذي نقترح وضع هذه المعارف على محكّه. ما الخصائص الذي تجعل المنظومات التي تتوزّع بينها علوم المجتمع غير موافقة لدرس ما عاينّاه من حركات التغيير في المجال العربي، خلال هذه السنوات الأخيرة؟ بل ما الذي يجعل هذه العلوم تتعثر في مقاربتها مجتمعاتنا المعاصرة جملةً في ما يتعدّى وقائع هذه السنوات؟
تحتاج محاولة الإجابة، مهما تكن عجولةً، إلى وقفة أخرى…
كاتب لبناني

أحمد بيضون

الصورة والحياة الآخرة

أحمد بيضون

لطالما استوقفني ما أصبح المصوّر يتمتّع به من سطوةٍ في الأعراس. والأعراس أذكرها من بين مناسباتٍ كثيرة: حزينةٍ أو فرحة أو غير معلومة المزاج أصبح المصوّر ملكها المتوّج. وهذا مع أن بعضها يحضر فيه ملك أو من هو بمثابة الملك. ولكنّ المصوّر الذي يمارس نفوذه بتحفّظٍ وكياسة في مناسبات العزاء، مثلاً، يبدو صلفاً متجبّراً في العرس ويجعل من العروسين طليعة ضحاياه أو عبيده. وكثيراً ما غدت تُعْرَض في العرس مَشاهدُ صوّرت قبله يظهر فيها العروسان على النحو الذي أراد لهما المصوّر أن يظهرا فيه بالضبط: يتعانقان حين يشار إليهما بذلك ويبتسمان بحسب الأصول المرعية في عُرْف المصوّر ويظهر لحركتهما حين يحدّقان في العدسة وهما يلصقان خدّاً بخدّ شَبَه بمصافحةٍ ما بين جون كيري وسيرغي لافروف مثالاً لا حصراً.
وقد يفيد العروسان من توغّلهما بين المدعوّين، على حلبة الرقص مثلاً، ليستعيدا شيئاً من عفويّة الحركة. ولكن المصوّر يفعل ما بوسعه للّحاق بهما إلى هناك أيضاً. تأتيهما العدسة من فوق، مثلاً، محمولةً على ذراعٍ آلية، جهنّمية الطول، تصيح بطولها: أين المفرّ؟ بل إنني شاهدتُ مؤخّراً في أحد الأعراس آلةَ تصويرٍ طوّافة، في حجم قبضة اليد، تطير وحدها فوق رؤوس المدعوّين وتصوّر…تصوّر! إلى هذا كلّه، تُفرض، في العادة، فقرة رقص بطيء للعروسين لا تنجو فيها غمضة عين ولا انتباهتها من حكم العدسة والامتثال، لا لما يفترض أن يشتهيه العروسان أحدهما من الآخر، بل لما ينتظره السيد المصوّر من كليهما.
وأما السند الذي ترتكز إليه سلطة المصوّر هذه فهو أن العرس زائل وأن صورَ العرس هي الباقية. بل إن الحبّ، إذا صحّ وجوده، والحياة كلّها زائلان ويبقى الشريط والألبوم. فهل الصور، من بعدُ، أثر يبقى من الحبّ والحياة أم هي قد أصبحت بديلاً من الحياة واستوت غايةً لبعضٍ من أهمّ لحظاتها فأصبحت هي، لا ما تُمثّله، ما هو مهمّ في تلك اللحظات؟ هل نصوّر العرس، مثلاً، لفرحنا فيه؟ أم نحن أصبحنا نقيم العرس لنصوّره فلم يبق له من معنى ولا لزوم إلا بما هو موضوع للتصوير خاضعٌ لاستبداد المصوّر؟ هل لا يزال يتاح لنا فرحٌ بلا مُخْرِجٍ ولا إخراج؟ وهل لا نزال قادرين على تذوّقٍ للحياة لا يخضع للعين الثالثة التي هي العدسة ولمديرها وآمرنا الذي هو المصوّر؟
ولعلّي لا أغالي حين أقول أن الحياة الآخرة هي خيرُ كنايةٍ عن المُراد بالصور وأن المصوّر هو، في أقلّ تقدير، شبيهٌ لرضوان أو للقدّيس بطرس: أي هو بوّاب جنّة الصور الأرضية. وهذه الآخرة – آخرة الصور – أيضاً تبدو خيرا لنا من الأولى. وما هي سوى نعيمِ الفُرْجة الأبدية على الصور وهو، بخلوده، يزري أيّما إزراء باللحظات العابرة التي اتُّخذت موضوعا للشريط أو للّقطات. الصورة ردٌّ على الموت إذن. ولكنّه ردٌّ بات يستهلك الحياة التي يجري تصويرها على غرار ما تستهلك الصلاة والاستغفار وأعمال البِرّ والتوبة، بما هي تهيّؤ لما بعد الموت، حياةَ المؤمن الراغب في الآخرة.
لازمني صدىً لهذه الخواطر التي كانت تلاحقني في الأعراس، على التخصيص، حين وجدتُني مضطرّاً، بدوري، للمثابرة على تصوير ما كنت أشاهده ومن كانوا معي في أثناء سياحةٍ منظّمة. وهذه (أي حال السائح المصحوب بمرشد) حالٌ ندر أن وجدتُ نفسي أَسِيرَها، في مدى عمرٍ طويل، على كثرة التجوال والسفر… في هذه الحال، يلفي السائح نفسه موزّعاً بين همومٍ ثلاثة، على الأقل: الإصغاء إلى شروح المرشد، تأمّل ما تتناوله الشروح وغيره من موجودات المكان، تصوير ما طاب للسائح تصويره. هذه أمورٌ متعالِقة يُفْترض أن يعزّز كلٌّ منها الآخَرَين. بل إنه ينبغي أن يكون فعلُ التصوير آخرَ عنقودها وقد أنضَجَتْه المهمّتان الأخريان. ولكن يفترض أن يكون هذا الفعل أيضاً أقلّها إثارةً لاتّصال ثمرته، لا بالإدراك الراهن، بل بما تصحّ تسميته الذاكرة المقبلة، أي لكون هذه الثمرة ثمرةً آجلة.
على أن ما يحْصُل فعلاً يأتي مُخِلّاً عادةً بهذه الترسيمة النظرية. وذاك أن ثمة أُقْنوماً رابعاً يُداخِل ثالوثَ المهمّات هذا هو أقنوم الوقت. والوقت ضيّق دائماً في الجولة السياحية. وذاك أن ما يخصّص منه لزيارة قصرٍ ملكي ضخم وعامر بالموجودات، على اختلافها، قد لا يكفي للتمعّن في جدارية من جداريات القصر أو في تفاصيل الرياش التي تضمّها جدران غرفةٍ واحدة. عليه يحصُلُ لك ما يأتي: بأُذُنٍ ساهمة تَلْتَقط كلماتٍ حاسمةً ممّا يقوله المرشد الهمام وبعينٍ ملهوفة تختار ما يستحقّ التصوير من موجودات المكان. هذا وأنت تتوسّع في الاختيار حتى لا يفوتَك ما قد تلوم نفسك على تفويته معتبراً، على الأخصّ، بكون التصوير بآلات اليوم أمست كُلْفةُ كثيرِه لا تزيد شيئاً عن كلفة قليلِه.
تأمّل في حالك، أثناء ذلك، وأنت على عتبة الخروج من غرفةٍ ما. لقد صَوَّرتَ، ولا ريب، ما أردتَ تصويره. ولكن هل شاهدتَ حقّاً ما أراد لك المرشد أو أردت لنفسك أن تشاهده؟ إن دقّقت في ما حصل ستدرك أنّك انتقيت زوايا وأشياءً للتصوير ولم تكد تشاهد ما صوّرْتَه إلا للّحظةِ التي احتجتَ إليها للإفتاء بضرورة تصويره. صوّرتَ أشياء ولم تكد تشاهد شيئاً لوجه المشاهدة. ولن تتذكّر من الجولة شيئاً، على الأرجح، سوى ما ستذكّرك به الصور. قال المرشد في الكنيسة: هذا ضريح فاسكو دا غاما. أهلاً بصاحبنا القديم، على قول فيروز! الضجيع في هذا الناووس ليس إذن مطراناً برتغالياً ما لا يهمّك من أمره شيء. إنه فاسكو التاريخ المدرسي الذي لم يضلّ الطريق البحرية إلى الحرير والتوابل، على غرار صاحبه الآخر. وبينا تُصوّرُ الناووسَ تعود إلى بعض أسئلتك القديمة: ما سرّ هذه الاستماتة في طلب الحرير؟ وهل يعدّ عاقلاً من يستشهد لأجل قبضة بهار؟
ولكن المرشد ابتعد وعليك أن تلحق به لتسمع ما سيقوله بصدد المذبح والملوك المدفونين قريباً منه. صوّرْتَ ناووس دا غاما إذن. ولكن هل شاهدته؟ هل حفظت شيئاً من التمثال المسجّى على غطائه أو من النحت الذي يكسو جوانبه؟ وحين تخرج من هذه الكنيسة هل ستكون قد زُرْتَها؟ أم انك صوّرْتَها لتَزُور الصورَ في ما بعد؟ وماذا عنك حين تخرج من هذه الرحلة؟… ستتذكّر أن المرشد، حين كان يمنح قطيعه عشرين دقيقةً حرّة، كان يحرص على القول: تلتقطون فيها ما تشاؤون من الصور!
وحين تخرج من حياةٍ صَحِبَتك فيها العدسات أو صَحِبْتَها: هل تكون قد عشتَ أم تكون قد صَوّرتَ وصُوّرْتَ؟ وأين ستقيم، بعد هذه الفانية، يا صاحِ: في جنان الخلد أم في ألبومات الحاسوب؟
كاتب لبناني

أحمد بيضون

صِيَغٌ آلية وحدودٌ للفرادة

أحمد بيضون

حيال ما نعاينه من تداعي الأوطان فوق رؤوس أهلها في هذه المنطقة من العالم، يذهب فكر المتأمّلين، على نحوٍ شبه آليّ، إلى اقتراح صيغةٍ ما تُعتمد للدولة من الصيغ المجرّبة التي تَسْتبعد، مبدئياً، شبحَ التقسيم الناجز. تلك مسألة أبرزنا بعض جوانبها في كلامٍ سابق وننظر اليوم في بعضٍ آخر. فمن ذاك أن التقسيم متعذّر أصلاً في حالة رئيسة هي الحالة المصرية وضخم الكلفة في الحالات الأخرى. عليه تتُّخذ الصيغة الفدرالية، خصوصاً، موضوعاً للتأمّل، وهي تبدو وكأنها قد فرضت نفسها على الأرض في الحالتين العراقية والليبية. على أن استقرار هذه الصيغة افترض، في الحالات المعروفة لها، في العالم الحديث، نشوء سلطة مركزية قوية (بخلاف ما يحسب بعضنا). فتبقى في يد هذه السلطة أمور رئيسة أهمّها الدفاع والسياسة الخارجية والنقد والمياه والطاقة ومرافق المواصلات والاتصالات ذات الصفة الوطنية أو الدولية. وقد يضاف إلى هذه غيرها ممّا يعدّ ذا مساس بالجماعة الوطنية جملةً.
فإذا تأمّلنا في هذه اللائحة ظهر لنا أنها تشتمل على ما يعتبر مواضيع التنازع الرئيسة بين مكوّنات البلاد التي تشهد تنازعاً في المجال العربي. فبعضها (وهي السياسات) موضوعُ توجّهاتٍ متعارضة وبعضها، وهو الموارد أو الثروات، موضوع نزوع واضح إلى الاستئثار.
عند آخرين، نرى الطبيعة العصبية للأطراف المتنازعة وتخالطها أو تجاورها في العواصم وسائر المدن، خصوصاً، يميلان بالبحث في الحلول نحو ما يسمّى «الصيغ التوافقية». ويحظى بحماسة هؤلاء، على التخصيص، نظام «الحصص» المضمونة في السلطة ويُمْنَح أرجحيةً على صيغة الفدرالية الترابية. هذا النظام هو ما تمثّل الحالة اللبنانية نموذجاً له في المشرق. وهو ما يمثّل الفشل التاريخي الواضح للصيغة اللبنانية أيضاً نموذجاً لمستقبله: أي لاعتياد العنف الأهلي والبقاء عرضةً للحروب الخارجية ومعهما توزّع الجماعات بين حالات استبداد ضئيلة الأحجام وتهالك سلطة القانون واستتباب الفساد الهيكلي وهذا فضلاً عن مقايضة الاستقلال الوطني بتوزّع التبعيات لقوى الخارج المتخالفة. ذاك هو، في الواقع، ما توعد به الأوطان المتجهة إلى اعتماد ما يسمّى «التوافقية» أو تقاسم السلطة المسبق حصصاً وأنصبةً تتوزّعها الجماعات في المجال العربي.
في صدد آخر ولكنه وثيق الصلة بالسابق، يشدّد الذين يهوون مخادعة أنفسهم، بلا كلل، على خصوصية الحالة التي يمثّلها كل واحد من المجتمعات التي نتناول هنا وعلى فرادة الحركة الجارية فيه وعلى لزوم الواقعية السياسية في النظر إليها. هذا التشديد الذي يبدو في منطلقه تحصيلَ حاصل يصبح خَطِراً وغيرَ مقبولٍ حين يستحيل إلى تقبّلٍ لأمور واقعة لا تقلّ سوءاً (بل هي قد تزيد سوءاً) عمّا قامت الحركة لتغييره: أي حين يوحي القائلون به أن حركات التغيير تبقى عظيمة بعد أن تتخلّى عن جميع الأهداف العظيمة التي قامت في سبيل تحقيقها وتجنح إلى نقائضها.
توجد معانٍ للـ»حرية» وللـ»ديمقراطية» وللـ»مواطنة» و»الكرامة» ويوجد معنى للـ»خبز» أيضاً. وليس خطأً القول أن الطرُقَ نحو الأخذ بهذه المعاني تختلف. ولكن الخطأ (أو ما هو أسوأ من الخطأ) هو نشر ضباب الفرادة الأسود حول هذه المعاني والتعلل (الساخر أحياناً) بالبعد العبقري عن النماذج الجاهزة: لا لشيءٍ إلا لدعوة أصحاب تلك الأهداف إلى المضي قدماً، باسم الفرادة وتنوّع االصيغ، في سبلٍ توصلهم إلى نقيض ما كانوا يأملون. هذا ما اعتدنا على سماعه ردحاً طويلاً من الزمن في وجه كلّ كلامٍ نقديّ يتناول الثورة السورية مثلاً. وقد بقيت من هذا المزاج بقية إلى الآن على الرغم من الظلمة الواحدة التي باتت تلفّ سورية والعراق معاً. لغة الفرادة هذه، في الواقع، قريبة الشبه مما كنا نسمع به في ماض أصبح بعيداً من «اشتراكية نابعة» من واقعنا و»أصالة قومية» كان أصحابُهما، على وجه التحديد، أسلافَ طغاتنا الحاضرين.
لا تغني عنّا المداورة شيئاً. لا مفرَّ من تحرّر الجماعات التي تتقدّم على أنها أوطانٌ بديلة أو مكوّناتٌ «طبيعية» للأوطان من افتراضها نفسَها وحداتٍ سياسيةً مُصْمَتةً تعْلِن أو تضْمِر رفضاً أصلياً للتعدّد السياسي. لا مفرّ من قبول التعدّد الذي تمليه إرادة المواطنين الحرّة في كلّ جماعة وفي ما يتعدّى الجماعات العصبية إلى المجتمع الوطني. لا مفرّ من تغليب قِيَم المواطنة في السياسة على كلّ انتماء آخر يبقى له أن يتسيّد في مجاله. لا مفرّ من الديمقراطية بأعمّ معانيها المألوفة في العالم.
هذا وقد لا يكون عند التاريخ غير السخرية يردّ بها على ما يبدو له شروطاً تملى عليه. ولكن ما نطلبه ههنا لا نستمدّه من فراغٍ من التاريخ. فقد كان هو فحوى الكلام الذي تجاوبت به لأشهرٍ ساحاتٌ وشوارع كثيرة بين المحيط والخليج. كان هذا قبل نحوٍ من ثلاث سنوات ثم غارَ الكلامُ في عواء المدافع وصرير الثورة المضادّة. مع ذلك لا يضمن شيءٌ أن يعود في مدىً منظور ما بدا صورةً مرغوبة لغد هذه الشعوب. لا تصلُحُ عبارات من قبيل «إرادة الشعوب» و»منطق العصر» و»اتّجاه التاريخ» تمائم تقصّر أمد الكارثة وتضمن عودة قريبة إلى صورة مقبولة للمستقبل. بل يجب النظر في عوامل أخرى: في طبيعة الصدع الذي بات يشقّ المجتمعات وفي السلوك المحتمل للقوى الدولية التي تتحكم في الصراع ولتلك التي تبدو عاجزة عن التحكم الفعلي فيه… فمن قال أنه لا يزال يسعنا أن نصدّق الوعد المغشوش بـ»الغدوات التي تغنّي»؟
كاتب لبناني

أحمد بيضون