في تحرير ميشال شيحا والتحرّر منه
أحمد بيضون
أكْرَمَتْني مؤسّسة ميشال شيحا اليوم بتكليفي مخاطبة هذا الاحتفال البهيج بالفائزين في مسابقتها لهذه السنة من أحبّتنا شبّاناً وشابّات. وكانت المؤسّسة قد أكرمَتْني بعضويّتها قبل أعوام كثيرة فتقبّلَتْ معي ومع ترجمتي لبعضٍ من أعمال شيحا ما في علاقتي بالشيحية من علّاتٍ يعرفها قرّائي…
ولأبدأْ بملاحظةٍ تلحّ عليّ كلّما قرأت كلاماً يتعلّق بهذا المفكّر. ذاك أنه من بين الأسماء التي أَلِفَ الاعتزازَ بها سجلُّ الفكر اللبناني المعاصر، قلّ أن تعرّض عَلَمٌ إلى “التصنيم” أي إلى الانقلاب وَثَناً أو صورةً ميّتة، في الأقلّ، مختصرةَ الملامح ومحبوسةً في إطار، بقَدْر ما تعرّض ميشال شيحا. فحالَما يُذْكَرُ الرجلُ تحضر ألفاظٌ أو عباراتٌ محدودة العدد للغاية وحَمّالةُ أَوْجُهٍ يُردُّ إليها فكرُه ودوره: فينيقيا والمتوسّط، الدعوة اللبنانية وصيغة التعايش الطائفية، مديح المبادرة الفردية والحذَر من دور اجتماعيّ اقتصاديّ للدولة والميل إلى تغليب التجارة والخدمات الموجّهة نحو الخارج في النظام الموسوم بالاقتصاد الحرّ… هذا كلّ شيءٍ تقريباً. وأمّا أدوار شيحا في الحياة العامّة، في ما يتعدّى مقالاته ومحاضراته، فيكاد لا يُذكر منها سوى إسهامه البارز في وَضع الدستور اللبناني سنة 1926. وقد تُستذكَر معارضتُه تجديدَ الولاية للرئيس بشارة الخوري، متجاوزاً منطق القُرْبى وطول العشرة، مؤثراً، على وجه التحديد، منطق الامتثال للدستور الذي أسهم في وضعه.
وما أريد قوله ليس أن شيحا لا مسؤولية له عن هذه التوجّهات وما يتّصل بها من مسالك في السياسة ومن وقائع بالتالي في تاريخ لبنان المعاصر، خيراً كانت تلك المسالك وهذه الوقائع أم شرّاً. ولا يفوتني ما ينسجه حول الرجل من هالةٍ اقترانُ اسمه بأمورٍ ذكَرْتُها لها ما لها من وقع متمادٍ على حياة اللبنانيين جملةً وتفصيلاً. وإنما أريد القول أن هذا التعداد يحجب ميشال شيحا نفسه أي المخاضَ التاريخي الشخصي الذي كانته حياتُه الفكرية وما مثّله هذا المخاض من تحوّلاتٍ بين مرحلةٍ ومرحلة. وهذه تحوّلاتٌ لم تكن تخلو أبداً من إعادات نظرٍ يمكن ان يُحمَل بعضٌ منها – وهو بعضٌ ليس بقليل الأهمّية – على مَحْمَل مخالفة النفس والانصراف عن سابق الموقف. هذه التحوّلات كانت تاريخية بمعنى الكلمة المليء: أي أنها مَثّلَت صدوعاً بما كان يكشفه تغيّر الأحوال العامة لهذا الصحافي الدقيق الإصغاء إلى حركة الحوادث. فكان لا يأنف من ترك رأيٍ سبق أن رآه ومن الانعطاف برؤيته نحو ما يشتمل على التحوّل الجاري ويلتمس موقعاً جديداً منه.
بعيدٌ ميشال شيحا بالتالي عن ان يكون تمثالاً قصارى دوره ترداد بضعة عناوين أو وصايا من أوّل زمانه إلى آخره ناهيك بمواصلته تردادها من أوّل زمان هذه البلاد إلى يومها الحاضر وإلى المقبل عليها من عهود.
وفي زعمي أن التحوّلات التي عمِد إليها الرجل أو عاناها إنّما هي، لمن يتقرّاها، ما هو حيٌّ في الفكر الشيحي. وهي أيضاً ما يأذن بموقفٍ من هذا الفكر يتعدّى الامتثال والاتّباع إلى المحاورة والنقد، سواءٌ أكان الشأن شأنَ الأطوار التي عاينها شيحا نفسه أم شأنَ ما استُجدّ بين رحيله وأيّامنا هذه. وهذا مع العلم ان المحاورة والنقد هما خير السبل – بل لعلّهما السبيل الوحيد – للإفادة من إرث هذا المفكّر. ونحن حين نعلم أنّه لم يكن ليقبلَ التجمّد عند رأي أو موقف انقضت مدّة صلاحه نعلم أيضاً أنه ما كان ليرتضي هذا التجمّد لأحد من الحريصين على إرثه ناهيك بسواهم.
هذا ولا تتّسع عجالتي اليومَ لاستذكار تحوّلات شيحية مختلفة سبق أن عرضتُ لبعضها في أعمالٍ لي قديمة. فأكتفي بإشارة أو اثنتين أرى لهما وجاهة محقّقة. في سنة ١٩١٩، كان لبنان لا يزال في نصّ لميشال شيحا “بروفانسا المشرق”. في عهدٍ لاحق، استحقّ لبنان، عند شيحا لقباً آخر هو “سويسرا الشرق”… وهذا لقبٌ جاء موعوداً بتداولٍ مديد لا يزال مستمرّاً حتى اليوم وإن تكن خالَطَتْه في العقود الأخيرة نبرةُ سخرية.
في اجتهادي أن هذه النقلة تمثّل تحوّلاً ذَا أهمّية في نظرة شيحا إلى البلاد. وذاك أن اعتماد بروفانسا كان فيه التفاتٌ غالبٌ إلى الموقع المتوسّطي وإلى البيئة الطبيعية، وكان فيه، على الأخصّ، إظهار للولاء الشيحي العميق للدور الذي كانت فرنسا مقبلة على الاضطلاع به في المشرق. كان المتوسّط لا يزال، عند شيحا، بحيرةً لاتينية وكان التقرّب من “الغرب اللاتيني” هو المراد، ولم يكن التعدّد اللبناني غالباً بعد على تفكير شيحا. هذا التعدّد هو ما تستحضره الكناية السويسرية. فسويسرا ما هي بالبلاد المتوسّطية، وإنما هي بلادٌ متعدّدة الأقوام وهي بلاد جبلية. عليه أرى في اعتماد الكناية بها استيعاباً واضحاً، لم يكن له حضور في فكر شيحا الأوّل، للجبل اللبناني بتعدُّد طوائفه وبغلبته على خريطة لبنان السياسية وقاعدة نظامه الاجتماعي السياسي. لم يكن هذا من جانب شيحا تخلّياً عن المتوسّطية. فهذه بقيت حاضرةً جدّاً في نظرة الاقتصادي على الخصوص. ولكن التحوّل إلى سويسرا كان استيعاباً صعباً لحقيقة التعدّد. وتعود صعوبة هذا التوسّع إلى ما التفت إليه ألبرت حوراني لاحقاً من عُسرٍ شديدٍ في العلاقة بين معنيَيْ لبنان: البحريّ والجبلي.
إشارةٌ أخرى إلى مخاضٍ آخر في الفكر الشيحي هو مخاض الطائفية السياسية. راح ميشال شيحا يُبْرز المجتمع اللبناني على أنه مجتمع “أقلّياتٍ متشاركة” وقصد بها طوائف البلاد. واقترح شيحا أن يبقى مجلس النوّاب ساحةَ حوارٍ بين الممثّلين السياسيين لهذه الجماعات. فقد كانت تلازم شيحا خشيتان: الخشية من انتقال المسرح السياسي، بما يلازمه من تنازعٍ، إلى الشارع والخشية من أن يحلّ “الهيكل” محلّ المسرح السياسي فتؤول السياسة إلى نزاعٍ ديني يستولي على مقاليده المقلنسون والمعمّمون. عليه كانت الطائفية السياسية، في عرف شيحا، درأةً من النزاع السياسي أو الديني بين الطوائف.
هذا كلُّه صحيح. ولكن لهذه الصحّة، عند شيحا، نطاقَها المرسوم. وما لا يُلْتفت إليه، على الإجمال، هو أن تطييف السلطة التنفيذية كان إجراءً مؤقّتاً في الدستور الذي أسهمَ شيحا في وضعه. وقد بقي هذا التطييف، بما فيه تطييف الإدارة، موضوعَ تبرُّمٍ صريح في غير مقالةٍ شيحية لاحقة. هذا في أيّامٍ كان فيها نظام الطائفية السياسية متّسماً بقدرٍ من التمكّن وقدْرٍ من التعثّر لا يتجاوزان مألوفَ الأنظمة السياسيّة على اختلافها. فما الذي كان سيقوله هذا الرجل في نظامٍ أثمر حرباً طائفيةً مديدة بعد عقدين على غيابه وأثمر قبل الحرب وبعدها تبعيّات طائفيةً لقوى الخارج لا يسهل التمييز بينها وبين ما يُطلق عليه اسمُ “العمالة” وأثمر تعذّراً للمحاسبة السياسية والقانونية يتيح بلوغ الفساد، ومعه التبعية، إلى ذرى مطلّة على الخراب المهول. وهو قد أثمر، إلى ذلك، تعسّراً غير مألوف لتجديد مؤسّسات الحكم، على اختلافها، بحيث أصبح يتأخّر عن مواعيده، بانتظام، أشهراً وسنوات… ثمّ يأتي بهيئاتٍ لا تعدو سيرتُها استئنافَ المآزق… ما كان شيحا إلا ليثابر على ما سمّاه الدستور “التماس العدل والوفاق”. ولكنه لم يكن ليتجمّد، في ما يتعدّى ذلك، عند موقف له أو خيارٍ كائنةً ما كانت أبوّته له.
في عملٍ سابق لي، شدّدتُ على الاستيعاب وتوسّع النظرة بما هما سِمتان لحركة الفكر الشيحي من أطوارٍ له إلى أخرى. فذكرتُ، على الخصوص، كيف أن محاضرة ألقاها شيحا في الندوة اللبنانية قبْلَ غيابه بسنةٍ واحدة، أبرزَت اعتباراً لم يكن متحصّلاً له تحصّلاً جليّاً من قَبْلُ لمعطياتٍ هائلة الحجم والوقع من قبيل الإسلام والعروبة وضفّة المتوسّط الجنوبية. كانت مياه كثيرة قد جرت تحت الجسور، على قول الفرنسيس، وجرى معها الفكر الشيحي بين سنة ١٩١٩ وسنة ١٩٥٣… ولكن هذا الاستيعاب ما كان إلا ليُبرز العسر الذي تلقاه هذه البلاد في عيشها عند تقاطع هذا كلُّه. كان شيحا يُسمَّي هذا العسر “العيش في خطر” ويرى فيه نوعاً من القدَر ويدلي بصدده بآراءٍ لم يَفُتْه أنها كانت هي نفسها في خطر. كانت الحرّية قطباً للفكر الشيحي… فلا يجوز لنا اليوم، وللشباب منّا على الخصوص، أن نقرأ شيحا ولا أن نواجهَه إلّا بعَيْن الحرّية.
شكراً لإصغائكم!
(أُلقِيَت هذه الكلمة في الاحتفال بتوزيع جوائز ميشال شيحا في بيروت، فندق البريستول، يوم 13 أيّار 2017)