أحمد بيضون
الشهر: ديسمبر 2014
الدين في المجتمع أم العكس؟
أحمد بيضون
فرَض إلحاحُ المحنة الكبرى التي تعصف بمجتمعات المجال العربي من شرقها إلى غربها، نوعاً من البحث المحموم، المستعجلِ الإفضاءَ إلى نتائج، في بواعث هذه الكوارث وفي كيفيات تشكّلها واستشرائها وفي ما ينبغي أن يكون عليه سعيُ العاملين على بلوغ المخارج ورسمُ السبل التي يكون بسلوكها صلاح المستقبل. وقد كان لزاماً أن تحضُر مطالعاتٌ ومقترحات تتناول القريبَ من الأسباب والمستعجَلَ من الإجراءات. ولكنّ تصدُّر الدين ساحةَ الصراع الجاري في الأعوام الثلاثة الأخيرة فرَض على الناظرين في الحاضر والمستقبل أن يَمدّوا البصرَ إلى قرون ماضية، بعيدة وقريبة. فإن من طبائع الدين أن يحفظ ماضيه ماثلاً في حاضره على نحوٍ قد لا تدانيه، في شدّته ومباشرته اللازمنية، منظوماتٌ أخرى من قبيل الفلسفة مثلاً أو الشرع الوضعي.
فكان أن راحَ كثيرون بعضُهم من أهل الصناعة وبعضهم اختاروا انتحالَها أو اضطرّوا إليه، إلى البحث في المصادر الدينية للجماعات الضالعة في الصراع وإلى محاولاتٍ متنوّعة المداخل لمجادلة هذه الجماعات في قيمة مصادرها واستقامة ما تُرتّبه على الدين من إجراءات وتصرّفات. غَلَبَت هذه المقاربةُ الجدالية، المعتدّة بالمفردات الدينية إذن، على التناول النقدي للجماعات المتشدّدة ولما تقول وتفعل، وبدا أن «إفحامَ» الناطقين بألسنةِ هذه الجماعات هو المهمّة التي يترتّب على حسمها مصير المواجهة. لا ريب أن في هذا التوجّه استعادةً لثقة الدين نفسه بفاعلية الدعوة والموعظة. ولكنّ هذا التوجّهَ يهمل مسألةً نعتبرها المتصدّرة هي مسألة ظهور هذه الجماعات، في الساحة، في زمنٍ بعينه وفي مجتمعاتٍ بعينها، ثم تمتّعِها بحظوةٍ بعينها في تلك المجتمعات. وعلى صعيدٍ أعمّ أو أبعد مدىً وأوسع نطاقاً، يهمل هذا التوجّهُ مسألةَ العلاقة بين الإسلام، مذاهبَ ونِحَلاً، وبين أحوالِ المجتمعات التي تعصف بها أو تهدّد باقتحامها المحنةُ الجارية.
والحال أنه، مع شدّة الحاجة إلى الاحتياط والتأنّي في هذا الميدان، يَرْجَح عند المتأمّل في تاريخ المذاهب الإسلامية وعلاقتها بأزمان نشأتها وبيئاتها وبأحوال الجماعات التي نشأت فيها، على اختلاف وجوهها، أن الدينَ كان يتبع تنوّعَ الظروف وتحوّلاتِها ويخضع لإلزاماتها أكثرَ بكثيرٍ ممّا يُمْليها… وأن الجماعاتِ كانت تُطَوِّعه أكثرَ بكثير ممّا كانت تطيعه.
وقد أورثَ ذلك الإسلامَ توزُّعاً وتناقضاتٍ لا حصرَ لها ولا حدّ وحمَلَه على الأخذ بالأشياء وبأضدادها تبعاً للبيئة وللظرف ولموروث الجماعة المعنية. فيَعْتمدُ ما يناسبُ هذا كلَّه من أحكامٍ، مقدّساً الشيء وخلافه، ويدخُل في ما يمليه التشتّتُ والتناقضُ في هذا كلّه من صراعاتٍ وحروب.
وإذا كانت حالة الإسلام هذه تجد لها سنداً في حالاتٍ أخرى يتناولها علمُ اجتماع الدين، من راهنٍ وتاريخي، جازَ القول، فيما نرى، بغلبة الخطإ على تعيين المهمّة الرئيسة في مواجهة التشدّد الديني على أنها «إفحام» المتشدّدين بإظهارِ سَماحةِ الدين واتّساعه لمسالكَ متغايرة، ناهيك باتّساعه، في دياره، لمن هم على مذاهبَ في الاعتقاد تخالفه.
تلك مهمّةٌ لها أهلها ولا ريبَ في ضرورة اضطلاعهم بها. ولكن موضعَ الحسم بعيدٌ عن هذه الساحة. إنه في استطلاع الأوضاع الاجتماعية التاريخية التي تحمل كلّ جماعةٍ من أهل الدين على الأخذ بصيغةٍ بعينها لهذا الأخير. وهو في النظر في كيفيّات المعالجة المناسبة لهذه الأوضاع وفي إمكانات البناء على الراسخ منها أيضاً.
ذلك أَوْلى بالنظر والعمل من السعي إلى «إفحام» الجماعات، إذن، ومن الركون إلى جدلٍ قد يحيي قديماً أو يأتي بجديدٍ ينزل به إلى حَلَبة الصراع العَقَدي… فإن التبشير بالجديد أو بالقديم لا يُحتمل أن يلقى غير الرفض عند من لا يساير حاجاتِهم، فضلاً عن أن حسْمَ الصراع، على هذا الصعيد، يبقى، مع توجُّب خَوْضِه، متعذّراً كلّ التعذّر. نقول هذا غيرَ قاصدين، إذن، إلى استبعاد مجادلة المجتهدين في اجتهادهم أيّاً يكن.
… وصفوة القول أن تاريخ المجتمعات الإسلامية أرحب بكثير من تاريخ الدين الإسلامي أو المذاهب الإسلامية. ولا يجاوز الثاني أن يكون وجهاً متباين الحضور من وجوه الأوّل ولا يردّ الأوّل إلى الثاني بحالٍ.
فإن الدين لا يستوي، في التاريخ الفعلي، معياراً عامّاً معتمداً دون غيره في سلوك الأفراد والجماعات إلا جزئيّاً لجهة الأغراض واستثناءً لجهة الأوقات. ويختلف هذا الأمر كثيراً، في درجته ومضامير تَحَقّقِه، باختلاف الأمكنة والأزمنة… وتُمازِجُ المعيارَ الديني، على الدوام، معاييرُ أخرى مختلفة المصادر وتؤثّر فيه تفعيلاً أو تعطيلاً لأحكامه أو تبديلاً فيها وتتأثر به بدورها، بطبيعة الحال.
ذاك ما ينبغي بقاؤه ماثلاً لعين الدارس عند البحث في مستقبل المجتمعات التي تتّخذ الإسلام عنواناً وفي إمكانات الفعل في هذا المستقبل بما في ذلك إمكانُ إصلاحٍ ديني يكون له قبولٌ ذو معنىً، في هذا أو ذاك من تلك المجتمعات، وحظٌّ من الصمود.
والواقع أن هذه الكثرة في معايير العمل، من فرديّ وجماعيّ، وهذه الجزئية أو التقطّع في حضور الدين بينها هي ما يجعل بعضَ القيّمين على أمور الدين أو المتصدّين لما يحسبونه حمايةً له، في كلّ زمان، يشعرون بضرورة إصلاحه. وهي ما يجعل بعض هؤلاء ينبذون من تاريخه قروناً وعوالم بحالها. فهم قد لا يستبقون منه إلا ردحاً قصيراً من الزمن وبقعةً محدودةً من الأرض ملازمتين لنشأته وعدداً محدوداً من المؤمنين هم الذين شهدوا ميلاده وكانوا الناشرين الأوائل لرسالته. وهذه لحظةُ أصلٍ لا يوفّر الخلافُ الجسيم بين المسلمين ماجرياتِها ولكن يتوجّب عليهم استبقاؤها معياراً، في كلّ حال، ولا يمكن أن يداخلَها الريب الجذري الذي يداخل سواها لأن هذا الريب يكون إذّاك طعناً في الدين من أصله.
ما لا يتقبّله هؤلاء الذين يؤسّسون دعوة الإصلاح على دعوى تكفير الأمّة هو هذا المزيجُ الذي تمليه الحياة وتقدّمه وقائع التاريخ في صيغٍ لا تحصى ويدخل فيه أهل الدين بدينهم طائعين أو مكرَهين. هؤلاء يحسبون اختراعَ البشر المستمرّ لحياتهم بما بين أيديهم من موادّ وما يناسبهم من معايير، بعضها ديني المصدر، فساداً متمادياً للدين. هم يرون ردّةً أن يحصل ذلك في ديار المسلمين ويرون كفراً أن يحصل في ديار غيرهم. هم يرون الحياة والتاريخ برمّتهما تقريباً فساداً للدين وهم يريدون إرجاع الحياة والتاريخ إلى الجادّة. ولكن هذه الجادّة، بشهادة الأجيال والقارّات كلّها، تتعذّر استقامتها أو يتعذّر وجودها. ولم يحصل قطّ أن تمكّن الإسلام نفسه من شقّها وإلزام حياة المسلمين وتاريخهم بها في العالم الذي يحمل اسمه. فلا يبقى من احتمال ماثل، في أفق «الإصلاح» التكفيري، سوى تدمير الحياة ووقف التاريخ.
كاتب لبناني
أحمد بيضون
مهديّان لبلاءٍ واحد
أحمد بيضون
لثلاثةِ عقودٍ أو أربعةٍ خَلَت، كان الإتيانُ على ذِكْر الإمام المهدي نادراً في ديارنا اللبنانية. أبرزَ ذلك وضّاح شرارة في كتابٍ نفيس كرّسه لنشأة حزب الله ونشره قبل نحوٍ من عشرين سنة. وأحسب أن الحال لم تكن لتخرج كثيراً عن هذا النهج المقتصد في ديار التشيّع العربي الأخرى ناهيك بديار التسنّن. كان القول بقرب ظهور المهديّ عندنا نوعاً من الفكاهة تدعو السامعين، ولو كانوا من الأتقياء، إلى الابتسام.
وهذا مع أن الأرض، في ذلك الوقت، كانت قد «ملئت ظلماً وجوراً»، مستجيبةً، شأنها قبل ذلك الوقت وبعده، لشرط الظهورِ الأوّل هذا. غير أن الناس لم يكونوا يرون يوم القيامة قريباً.
ويصحّ القول أن سنة 1979 شهدت ظهورَ مهديَّيْن اثنين. الأوّل منهما وهّابي ويدعى محمد بن عبد الله وهو صِهْر جهيمان العتيبي الذي احتَلّ الحرم المكيّ في غرّة القرن الخامس عشر الهجري ونصّب ـ على ما قيل صهره المذكور مهديّاً واحتجًّ في ذلك بكون الصهر سَميّ النبي العربي طبقاً لما ورد في الأثر.
لم تعمَّر ظاهرة المهديّ الوهّابي هذا إلا أياماً اقتحم بعدها الحرمَ رجالُ الحرس الوطني السعودي يدعمهم، بل يقودهم، على ما شاع، رجالُ أمنٍ فرنسيون استُحضروا على وجه السرعة لهذه الغاية. ولكن صورة هذا المهديّ، بما اتّسمت به من قَسَمات العنف الأقصى، بقيت ممتدّة الحضور إلى اليوم في حركات السلفية الجهادية، على اختلافها. وهي صورةٌ لا يدلّ شيءٌ على قرب اختفائها.
وأمّا المهدي الثاني (أو الأوّل)، وهو إمام الشيعة الثاني عشر محمد بن الحسن، فلم يظهر فعلاً. ولكنّ خياله ملأ مسرح الحوادث فجأةً بعد أن كان غائباً، بمَعانٍ مختلفةٍ للغياب، وراء حُجُبه. وكان منه أنه أناب عنه في الظهور الحسّي إماماً إيرانياً أصبح «الوليَّ الفقيه» أو «مرشدَ الجمهورية» الإيرانية أو «وليّ أمر المسلمين» دون اعتبارٍ لاختلاف المذاهب ولا لرأي المعنيّين… أو «نائبَ الإمام» في طهران، أخيراً لا آخراً.
طغت صورةُ المهديّ مذّاك على معظم من عداه من الأئمّة آبائه وكثُرَ استعجالُ فَرَجه على الألسنة وعلى جدران المُدُن والقرى وانتظم الاحتفالُ بذكرى ولادته وأصبح ظهورُه منتظراً بين الحين والحين. لا لأن شيئاً جديداً قد أثبت أن ظهوره قريب فعلاً ولا لأن هذا الظهور مرغوب فيه، بالضَرورة، من جانب الذين يجتهدون في إشاعةِ خَبَره. فإن أشدَّ ما يَسوءُ الوكيلَ، في حالاتٍ كثيرة، ظهورُ الأصيل. غير أن إبرازَ عَظَمة الأصيل يبقى ضرورياً، مع ذلك، لتعزيز شأن الوكيل. إذ كيف يكون «نائبُ الإمام» عمودَ الدنيا إذا لم يصبح هذا الإمامُ نفسه عمودَ الدين؟
هذا وللمهديّة والمهديين تاريخ نتركه لأهله هو وجهٌ من وجوه التاريخ الإسلامي وهو أيضاً، بتوسّط المسيح وما هو عليه من شَبَه عامٍّ بالمهدي أو من حضور بجانبه في الرواية الإسلامية، وجه من وجوه القرابة بين الإسلام وديانتي التوحيد الأخريين. ما يهمّنا تسجيله ههنا أن مستهلّ القرن الخامس عشر الهجري قد شهد اتّجاه العرب والفرس نحو التوحّد في بلاءٍ واحد راح يتفاقم: وهو الصراع السنّي الشيعي. وهو، على نحوٍ ما، صراعٌ بين مهديّين أي صراع على الثمرة المرتجاة من خراب العالم.
قبل ذلك كان الشعبان منشغلين، أحدهما عن الآخر، ببلاءين تأسّس عليهما البلاء المشترك، وكان كلّ منهما خاصّاً قبله بأحد الشعبين. فبلاء الفرس كان النفط مقترناً بالنظام الشاهنشاهاني وبلاء العرب كان النفط أيضاً مقترناً بأنظمةٍ متنوّعة. من بين هذه الأنظمة، كان قد ادّعى الزعامةَ الإسلامية (أو نوعاً من أنواعها) وسَعى في نشر دعوته المذهبية نظامُ آل سعود. وكان يسعفه في ذلك وقوع الحرمين المكيّ والمديني في نطاق سلطانه ومسؤوليتُه في تيسير الحجّ ورعاية الحجيج.
صفوةُ القول أن بلاءاتٍ كانت مختلفة أو مفترقة نراها لا تزال تترافد، على امتداد ما انقضى من هذا القرن الهجريّ الأغرّ… تترافدُ في بلاءٍ واحد عميم تدلّ الدلائل على أنه سيكون الأعظم.
كاتب لبناني
أحمد بيضون
أزْمةٌ في ترتيب الزمن
أحمد بيضون
في الكتاب الذي جعل له عنواناً «وتائر التأرُّخ»، يوضح المؤرّخ الفرنسي فرنسوا هارتوغ أن ما أطلق عليه هذا الاسم أداةٌ لتحصيل المعرفة لا بنظام الزمن التاريخي، على عمومه، بل على الأخص، بلحظات الأزمة في ترتيب الزمن أي بآونة تفقد فيها المفاصل التي يتميّز بها كلّ من الماضي والحاضر والمستقبل وضوحها فلا تبقى تحصيلاً لحاصل. ويستدعي المؤلّف أعمالاً لأمثال كلود ليفي ستروس ومارشال سالنس تقدّم لاختلاف صورة الزمن وتقاسيمه بين المجتمعات. ويستدعي أعمالاً سابقة لميلاد علوم المجتمع الحديثة تنتشر على مدى التاريخ الأوروبي من هوميروس إلى أوغسطينوس إلى شاتوبريان. وهو ما يتيح له مثلاً أن يبحث عند هذا الأخير عن التجديد الذي حمله إلى صورة الزمن عند الأوروبيين حدث الثورة الفرنسية والملحمة النابوليونية التي تبعته عن كثب.
ولكن البؤرة التي ينتشر منها تأمّل هارتوغ وإليها ينتهي إنما هي حاضر عالمنا الذي يقترح المؤلّف أن نطلق على صورة الزمن فيه اسم «الحاضرية». والمقصود بالتسمية إبراز الاستيعاب الذي أصبح الحاضر في أيّامنا هذه قادراً عليه لكلّ من الماضي والمستقبل. وهو استيعاب يؤول إلى إبطال مستقبلية المستقبل وكَبْتِ نسبة الماضي إلى نفسه أيضاً أي استحضاره على نحوٍ يلغي ماضويته. وأمارة ذلك أن عالمنا بعد أن استغنى عن صوره التي كانت تسقطها في عهود مقبلة أو مترتبة الاستقدام فلسفاتٌ للتاريخ وأيديولوجياتٌ مختلفة أصبح رازحاً في الحاضر لا يتوقّع لنفسه شيئاً يختلف نوعاً عمّا هو حاصل فيه. بل إن التغيير المتواصل الذي تفرضه التقانات المتجددة في محيط الحياة وعادات البشر وما يتاح لهم من إمكانات يبدو كله، على جسامته، وكأنه «مزيد من الشيء نفسه». هذا عن «استحضار» المستقبل أي ردّه إلى الحاضر. وأما الماضي فهو يستعاد إلى الحاضر في صورة التراث المعروض أو المصطنع ويتاح لأنظار السيّاح بما هو عنصر راهن من نسيج المدن ومتاحف تصيّر الماضي حاضراً بمجرّد فعل العرض ومواقع استحضرتها الحفريات وإعادة التأهيل.
عاد إلى ذاكرتي كتاب هارتوغ النفيس، وقد صدرت طبعته الأولى سنة 2003، بسبب شعور مُلحّ بمتانة الوشيجة ما بين مداره الرئيسي وما نشهده في أصقاع مختلفة من هذه الديار التي ردّت إليها ثورات «ربيعـ»ها الفائت نوعاً من الشعور بوحدة الحال في أملٍ عريض الخطوط وحفظت الثورات المضادّة لها هذه الوحدة ولكن بعد انقلابها إلى وحدةٍ في الخيبة وفي التوجّه إلى الخراب العظيم. لا يستوقفني صلاحٌ أستبينه للـ»حاضرية» لإسعافنا في فهم ما يبدو «أزمة في ترتيب الزمن» نتخبّط في حمّاها. فما يستولي علينا يبدو موغلاً في الماضوية. والحاضرية يراها هارتوغ طوراً أخيراً بلغته حداثة العالم… ونحن لسنا في صلب هذا الطور وإن تكن لحالنا قرابة به يتعين البحث عن ماهيّتها.
فإذا سألنا، أوّلاً، عن المستقبل في الحبكة الراهنة لأبعاد زمننا: هل هو المزيد من الشيء نفسه؟ تبادر إلينا جواب ذو وجوه. فالدِين دائب في استعادة مجتمعاتنا، لا بصفته مثالاً تنشره الكتب والمواعظ، بل بصفته حركةً تستولي شيئاً فشيئاً على مقاليد المجتمعات، متخطّية نكساتٍ تمنى بها هنا وهناك، من نحو أربعة عقود. وإذ يتقدّم الدين، في حركيته المتوسعة، على أنه نظام للمجتمع وليس مجرّد عقد فردي بين العابد والمعبود تزداد صفته الماضوية رسوخاً. فيتبدّى وعده بمستقبل جديد وعداً بماضٍ تتغاير أوصافه وأمانته المبتغاة لمثاله ولكنّه ماضٍ كان العهد به قد بعُد، في كلّ حال، وكانت مياهٌ كثيرة قد جرت تحت جسور هذه البلاد بعد انقضائه.
ليس ابن يومين أو سنتين إذن هذا التوجّه المتقحّم إلى استعادة أوصاف إسلامية للمجتمعات وللدول. ولكنّه كان في الموطن الذي شهد أكبر انتصار له، وهو إيران، قد لابَس تقاليدَ دولةٍ قديمة راسخة وسلكٍ هرميّ معمّر للمذهب وبنى على تراثهما المؤسّسي ليتيح قدْراً من استبطان العنف في التغيير يغني عن الإفراط في استعراضه وليَدْخل مع المجتمع السابق للثورة في تبادلٍ يمتزج فيه القسر والاستجابة بنسب قابلة للتدبّر. وأما في دول الجزيرة العربية التي كانت لمجتمعاتها ولها صفة إسلامية سابقة على الثورة الإيرانية وسرعان ما بدت مزاحمة لها فقد كانت المعطيات العشيرية بقِيَمها ومعاييرها التنظيمية قد داخلت الدين أو المذهب بشدّة وأصبحت غالبةً عليه في السلطة السياسية وفي إدارة الموارد وأفضت إلى نصب موازين معه، في الحياة العامّة اليومية، اختلفت من حالة إلى حالة ومالت إلى تراخٍ في رعاية الأحكام الشرعية تباينت درجاته أيضاً وأصبح صارخاً في بعض الحالات. هكذا جاءت السلفية الحركية ردّاً على السلفية الحاكمة وسعياً إلى نقضها فيما أنشأت الأصولية الشيعية نوعاً من الأممية يمثّل النظام الإيراني قيادتها الميدانية، على غير صعيد، وقطب ولائها ومصدراً أوّل لمواردها ومبادراتها.
نشأ فارق في التشدّد إذن أملاه التقابل بين الاندراج المؤسسي للحركات الشيعية في منظومة تتوجّها دولة كبيرة والاقتحام الحركي لجهادية سنّية مشتتة الرعاية وقد ازدادت تشدّداً وانفلاتاً بعد مرحلتها الأفغانية الأولى. وقد أمكن للسلفية الجهادية أن تعرض صوراً لعنفها في التجربة الطالبانية وفي سنوات الجزائر«السوداء» وفي عمليات «القاعدة» في أمريكا وأوروبا، إلخ. على أن ما يشهدهالعراق وسوريا من عنف جهادي استوى صدىً فاجراً لعنف النظامين الطائفيين القائمين هو ما يجعل صورة «الأزمة في ترتيب الزمن» تلحّ بهذه القوّة كلّها على من قرأ هارتوغ. فما العنف الذي يمثله قطع رؤوس المخالفين وإخضاع النساء جماعةً وطرد طوائف بأسرها والتنكيل بها وهدم تراثها سوى توكيد للقدرة على إلغاء حاضر ذي ماضٍ بعينه واستبداله ماضياً له مرتبة الأصل يجري تنصيبه حاضراً بالقوّة الغاشمة.
يحتاج هذا المشروع إلى هذا العنف كلّه بل هو لا يكفيه. فهو وهمٌ لا يوهِم نفسَه بوجود حقيقة له إلا بهذا العناد الفادح. يلغي الجهاديون وجوهاً من العالم «الكافر» ويستبقون أخرى ليس أقلّها سلاحهم وتجهيز قواهم بوجوهه كلّها من الهاتف الجوّال وصفحة الفيسبوك إلى الفولاذ الذي تصنع منه السيوف أو السواطير. ثمة ماضٍ يجري إدراجه في الحاضر على أنه هو الحاضر وهذا كذب ومحال حين يتقدّم في صورة الفريضة المطلقة. والحصيلة دمار في الضفّتين: في المبدأ وفي المستقرّ.
حتى إذا طال العهد بهذا السلطان الأخرق حيث يعسكر اليوم فسيبدأ إرخاء القبضة وتتكاثر الخروق شيئاً فشيئاً في العباءة السلفية. ولكن ستكون الكلفة قد فاقت بما لا يقاس خراب الموصل وهذا في حينٍ لن تبدو فيه البصرة في أوج عمرانها.
كاتب لبناني
أحمد بيضون