ميشال فوكو لا يزال في الثلاثين

أحمد بيضون

يستذكر أهل الفلسفة والتاريخ وسائر علوم الإنسان والمجتمع، في هذه الأيام، ميشال فوكو إذ انقضى على رحيله ثلاثون سنة. يستذكرونه ويخصّونه بالمقالات وهم لم يكونوا قد نسوه. ففي سنة 2007، كانت منشورةٌ مختصّة تشير إلى أنه الأوّل في العالم بين من تُسْتقى الشواهد من أعمالهم في مجال العلوم الإنسانية.
هذا ولم تكن هذه الأعوام الثلاثون خاويةً من أعمال له أصبحت في متناول العموم أو جُمعت وأعيدت إلى متناولهم بعد رحيله. وهي لم تكن خاويةً أيضاً من كتب ومقالات تناولت الشخصَ وأعماله وكتب بعضها كبارٌ من أقرانه أمثال الفيلسوف جيل دولوز والمؤرّخ بول فين. وفضلاً عن الطبعات المتواصلة لمؤلّفاته والترجمات التي حملتها في أربعة رياح الأرض، صدرت مع انقضاء السنة العاشرة على غيابه مجلّداتٌ أربعة يربو مجموع صفحاتها عن ثلاثة آلاف ضمّت تحت عنوانٍ عامّ هو «المقولات والمكتوبات» أعمال الرجل «الصغرى» أي مقالاته وأحاديثه، خصوصاً، مرتّبةً بحسب تواريخ نشرها الأصلي.
وكان فوكو قد أوصى بألا تُنشر له، بعد وفاته، أعمالٌ لم تكن نشرت في حياته أي ـ مثلاً ـ نصوصٌ له بقيت مخطوطة. وكانت المجلّدات الأربعة قد استبعدت نشر الدروس التي ألقاها فوكو في أربعة عشر عاماً (تسقط منها سنةٌ سابعة) كان فيها أستاذاً في «الكولّيج دو فرانس»، وهو «الجامعة المفتوحة» التي بلغ عمرها قروناً ولبثت تعدّ أرفع مؤسسات التعليم العالي والبحث مقاماً في البلاد من غير أن تُجري امتحاناتٍ أو تمنحَ شهادات. فكان أن استوى نشر هذه الدروس مشروعاً على حدة راحت تترى مجلّداته في السنوات اللاحقة ليكتمل عقدها في السنة الجارية بظهور الثالث عشر منها تحت عنوان «الذاتية والحقيقة»، وهو يحوي دروس السنة 1980 ـ 1981. فإن تتابع الصدور لم يراعِ تتابع سنيّ التدريس (التي كانت آخرها سنة 1983-1984) مراعاةً تامّة…
لعلّ نشر هذه الدروس انطوى على مخالفة لوصية فوكو الآنفة الذكر. وقد أخذت نصوصها عن أشرطة المسجّلات التي كان بعض الحضور يضعها على منبر المحاضر. مع ذلك، لا يسعنا إلا أن نعتبر وجودها بين أيدينا محلّ ترحيب. كان مضمون البعض من هذه الدروس قد استعيد في كتبٍ لفوكو صدرت في المدّة نفسها: في «المراقبة والعقاب» وفي «تاريخ الجنس» بالأجزاء الثلاثة التي صدرت منه. ولا يخلو بعضها الآخر من استعادة لمؤلّفات أخرى له سبق صدورها أو تأليفها التحاقه بـ»الكوليج دو فرانس» وخصوصاً لـ»تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» ولـ»الكلمات والأشياء» ولـ»علم آثار المعرفة».
وقد يصحّ الافتراض، بسبب من هذا التكرار، على التحديد، أن فوكو ما كان ليوافق على نشر الدروس… وأما ترحيبنا نحن بنشرها فإن التكرار المشار إليه واحدٌ من الدوافع إليه. ويبقى التكرار بعيداً، في كلّ حال، عن استنفاد ما في هذه الدروس من قوّة الفكر وألمعية العرض والمنطق وغزارة المعارف ومن الخصوصية الشديدة للمصادر أيضاً: (محفوظات السجون والمصحّات، المؤلّفات القديمة في الطبّ، إلخ، إلخ.) . فإذا قرنّاها بالمجلّدات الأربعة التي سبق ذكرها وقفنا على شريط زمني تنتظم على مداه موضوعاتٌ وأنواع من النصوص بالغة الوفرة ولكن يتّصل في مداه أيضاً مخاض فكري متلاطم أو مخاضات. فههنا نقع على النظريات والكشوف التي بسطتها كتب المؤلّف وهي لا تزال تتكوّن ولا يخلو تكوّنها من بعض تعثّر أو تردّد. ثم نقع أيضاً على حالاتِ نزوعٍ إلى الخروج على ما كان الرجل نفسه قد اعتمده أو خلص إليه… أو ان هذا ما يبدو لنا، في الأقل.
وبين أهمّ ما يدخل في باب إعادة النظر مسألة «الذات» التي كان استيعابها في «أنظمة» للفكر تتجاوزها قد طغى على القراءات السائرة لـ»الكلمات والأشياء» وأملى في ما أملى الاسم الذي اختاره فوكو لكرسيّه في «الكوليج دو فرانس»: «تاريخ أنظمة الفكر». هذا كلّه في إبّان ازدهار البنيوية التي أبى فوكو التسليم بنسبته إليها. وأيّاً يكن الأمر، نشهد عودة مسهبة في دروس السنوات الأخيرة وفي «تاريخ الجنس» أيضاً إلى «الذات»: لا لإعادتها إلى عرشها الديكارتي بل لترسّم «شجرة نسبها» في الفكر الغربي وفي نسيج السلطة والمعرفة الذي أثمر الأنظمة المتعاقبة لهذا الفكر. وهذا تعاقب يراه فوكو تقطّعاً فتبدو كلّ نقلة فيه وكأنما هي انقلاب.
هذا النوع من التقلّب، بما فيه من عزيمة فكرية ومن ترجّحٍ وشكٍّ أيضاً، هو ما تكشفه الدروس ومعها المقالات والأحاديث إذا ما هي وضعت بإزاء الكتب الناجزة. وهو ما يمنح فوكو حياةً ونضارة إذ يتيح له (ونحن معه) التنفّس في خارج صورةٍ له بقيت مألوفةً على زيفها: صورة المفكّر القطعي الذي قال بـ»موت الأنسان» وأدرج الفكر الحيّ في شيء سمّاه «الأنظمة» يبدو بتكوينه المرهف وجليديته أشبه بالمركبات الفضائية، مثلاً، منه بالجسم الحيّ.
وهذا مع أن فوكو، وهو ابنٌ لطبيب، لم يستقم له يوماً أن ينسى جسمه هو ولا هو كان جاهلاً ما تطوي المجتمعات البشرية أجنحتها عليه من عنفٍ وشقاء. يشهد لذلك، فضلاً عن مواقفه في السياسة، استئثار أهل الهوامش من مرضى عقليين وغير عقليين ومن سجناء ومن أصحاب رغبة خارجة عن حدّ الشرعية الاجتماعية بجلّ تآليفه. وحيث بدا أن فوكو غادر هذه الهوامش راح يبحث في «الحُكْمانيّة» أي في تتويج الدولة الحديثة سائر بنى السلطة المرتسمة في الفكر والفاعلة في دخائل المجتمع…
وذاك أن الرجل كان يلازمه جرحٌ يصعب الفصل بين همّه والهموم الفكرية لحامله. كان فوكو قد عاش بصيغة الأزْمة المدمّرة والشعور بالعار، في فتوّته على الأقلّ، مِثْليّته الجنسية. وقد أورث هذا الشقاءُ محاولتين للانتحار ومزاجاً عَكِراً وجنوحاً إلى العزلة. وقد شابَهَ آخِرُ هذا المطاف أوّلَه. فرحل، في عداد الموجات الأولى من المرضى بالإيدز، رجلٌ صمدت مكانته بعده باعتباره أوسع أهل التأمّل في نُظُم الفكر والمجتمع نفوذاً في عصرنا هذا.
رحل عن 57 سنة…

أحمد بيضون

منطق المكتبة

أحمد بيضون

باشرْتُ اقتناءَ الكتب قبل نيّفٍ ونصف قرن وأصبح عندي اليوم مكتبة ضخمة. ويصبح للكتب مقام استثنائي التصدّر بين مقتنيات واحدنا إذا اتّفق أنه من فئة الكتّاب أو المؤلفين وممن يزاولون من بين هؤلاء حرفة البحث، على الخصوص… قد تُنسب الكتب، في هذه الحال، إلى لوازم المهنة. ولكن حاجة الباحث في القانون، مثلاً، إلى الكتب ومقامها عنده شيء مختلف عن حاجة محامٍ يَقْصُر همّه على إجادة الدفاع عن مصالح موكّليه. وفي كلّ حال، يفترض أن تبقى «المطالعة» التي كانت فاتحة الطريق إلى تكوين المكتبة مواكبةً لسائر الهموم التي تتدخّل في إنماء المقتنى من الكتب.
تواكب المطالعة تكوين الشخصية العَقَدية، خصوصاً، أي ارتسام الخطّ الفكري الذي يُدْرج المرء في جماعة معنوية أو وجهة انتمائية ويجعل له في الناس نظراء وأضداداً. وتواكب، على الأخصّ، كل انعطاف في هذا الخطّ يفترض البحث عن أسانيد وشواهد كثيراً ما تجبّ ما كان قبلها. وقد يتوزّع هذا بين حقول وهموم متباينة. وعلى غرار الخطّ الفكري، تتكوّن الذائقة بما هي طلبٌ للمتعة وللمعرفة اللانفعية وتروح تتحوّل ويُسْفِر نموّها عن فروعٍ ومراحل. وعليه تستوي المطالعة، بما هي شرطُ نضارةٍ ونَماءٍ، مَلوَنةً لمراحل العمر جميعاً وتتشكّل المكتبة مرآةً أو جسداً لهذه المَلْوَنة.
تستوقفني مكتبتي اليوم لأن شيئاً مقابلاً للكتب، هو الشبكة العنكبوتية بقضّها والقضيض، أخذ يلحّ علينا لاعتبار المكتبة ذات الرفوف ماضياً مضى. لا أظن، وقد أصبحت متقدّماً في العمر، أنني سأبلغ يوماً أعتبر فيه كتبي مقتنياتٍ مُتْحفية. وهذا مع العلم أنني ضالع أشدّ الضلوع في الممارسة الحاسوبية من عقد ونصف عقد. متردّداً أرتضي الوقوف اليوم والنظر إلى مكتبتي، بسببٍ من توزّعي بينها وبين الشبكة، وكأنها باتت على مبعدة…
ما الذي أعدّه وصفاً مناسباً لرفيقة عمري هذه؟ أضيق أحياناً (ويضيق بيتي) بمهمّات إيواء الكتب وتصنيفها والعناية بها ولا يفوق هذا الضيق بالكتب سوى الضجر مما يقتضيه تنظيم الأوراق المحفوظة. ولكن يبقى أقْرَبُ ما يسعني قوله في المكتبة أنني أراها تجسيماً جيولوجياً لما يمكن أن أعتبره «طبقات» العمر. فحين رحت أغادر الماركسية، مثلاً، لم تلبث أعمال ماركس وإنجلز ولينين وسواهم من أضرابهم أن تدرّجت نحو الرفوف العليا، وهي جنّة الكتب التي يرجّح ألا نفتحها بعد اليوم: بالمعنى الذي يقال فيه أن الأسرّة جنّة الأطفال فلا ينبغي اصطحابهم إلى الأعراس!
في الموضع الذي أخلته تلك الكتب، أي في الصدارة، تجاورت أعمالٌ متعلقة بتاريخ لبنان وأخرى موزّعة بين الوجوه الجديدة في الفلسفة الفرنسية وأقاربهم في العلوم الاجتماعية… وأمّا كتب العربية التي جمعتها حين حاولت أن أَضْرِب بسَهْم في بعض مسائل اللغة والمعاجم، فهيّأت لها مصيراً آخر: بقيَت في المتناول ولكن لا أتناولها… أنساها آماداً طويلة ولكن أجدّد التعهّد لنفسي أن هذا الطلاق لن يصبح بائناً أبداً. أقلّ حظوةً من كتب اللغة، كتبٌ كنت أحتاج إليها (أو أتوقّع الاحتياج إليها) في سنوات التدريس المتمادية. هذه غادرت غرفة مكتبي إلى الرفوف التي في الممشى. والشيء نفسه حصل لكتب كثيرة كانت «مكتبات بحث» لهذا أو ذاك من تآليفي. السيرة التي وضعتها لرياض الصلح، مثلاً، تخلّفت منها رفوف عديدة مكتظّة يسعني، إذا شئت، أن أوزّع محمولاتها بين زوايا عدّة متباعدة من خزائن كتبي.
هذا ومن عيوبي أنني لا أستغني عمّا يصل إلى يدي من كتب سفيهة. أقول إن بعضاً من تآليفي وجد معظم مادّته في أعمالٍ لا تعدّ ذاتَ شأنٍ في أبوابها ولكن لا يستغنى عنها بما هي «أدلّة» و»عيّناتّ» ترشد إلى واقع الأحوال في قطاع اجتماعي أو معرفي. وهي، في أدائها هذه الوظيفة، أوفر دلالة، على التعميم، من مؤلّفات العباقرة. هكذا أجدني أداري ضيق شقتي البيروتية بالكتب الجديدة بترحيل السخيفة القديمة إلى منزلي الجبلي الذي استوى، قبل بضع سنوات، متنفّساً لمكتبتي. ولكن غلب على ما أنقله إليه مجاميع الدوريات وما أعدّه قليل القيمة من الكتب ومعها كتب تهدى إليّ ولا أقرأها وثالثة لا يًحْتمل أن أحتاج إليها في بحر السنة التي أمضيها في بيروت باستثناء الفصل القائظ.
الواجهات الزجاجية للكتب الجميلة الإخراج أو لتلك الرفيعة المقام، والخزائن ذات الأبواب الخشبية لتلك التي تجمع إلى قبح المظهر ضعف احتمال العودة إليها: الأطروحات خصوصاً! والرفوف المكشوفة للكتب التي يتعين بقاؤها في متناول اليد، والخزائن المسمّرة بالسقف لعوالم كتبية أمست خلفي، والجبل لمجموعات المجلات وللكتب السقيمة التي يجب الإبقاء عليها احتياطاً ولمُهْدَيات لم تُصبح مثار شهية ولأعمال أدبية تُستبعد العودة إليها بعد القراءة أو يؤمل التفرّغ لها في أماسي الصيف، إلخ، إلخ.
… وما الذي قرأْتَه من هذه التآليف المؤلّفة كلّها يا بنيّ؟ اقتنيتُ كتباً قرأتها لغرضٍ كان يدعو إلى ذلك أو لوجه القراءة. واقتنيت أخرى لم أقرأ منها إلا صفحات أو سطوراً أمْلت قراءتها حاجةٌ ما. واقتنيت كتباً بدافع الشعور الغلاب أن عليّ أن أقراها ولكن حالت دون ذلك حوائل فزاد كلّ منها حسرة على حسرات. واقتنيت كتباً ألزمتني دواعي العمل بالسهر عليها ليالي طويلة ألخّصها وأدوّن ملاحظات وأفكاراً متصلة بها وما كنت لأَقْرُبها لولا دواعي العمل. ولا أعود إلى الهدايا وكان بعضها رائعاَ ولكن وقع في غير أوانه وكان بعضها الآخر رديئاً فتعذّر أن يقع في أوانه.
عليه تتخلل الرفوفَ حسراتٌ لا تُحْصى، متنوعةً البواعث، خَلّف بعضَها الإحجامُ وبعضُها خَلّفه الإقدام. ومن المُتَع، وهي كثيرة أيضاً، ومن الحسرات تكوّنَت كلّ طبقةٍ من طبقات العمر وتمثّلت في رفٍّ أو رفوف. ولكن المكتبة لا تستنفدها طبقاتُ العمر الجيولوجية بل فيها أيضاً مسالكُه وشِعابه وفيها مقاصيره وساحاته وفيها منابره ومخابئه. لذا يبدو الأقرب إلى وفائها حقَّها أن نَرى فيها شيئاً من قبيل شجرةِ الحياة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

مُسَوّداتٌ لأَعْمار

أحمد بيضون

بين الأعمال الكثيرة التي تقدّمها منيرة الصلح في معرض كبير لها لا تزال تستضيفه صفير زملر غاليري في بيروت، استوقفتني مليّاً رسوم كثيرة للاجئين سوريين إلى لبنان معروضة جنباً إلى جنب في صفّ واحد على جدار واحد…
يبلغ عدد الرسوم المذكورة نحو خمسين ولكن الفنّانة قالت إنها ستواصل عملها هذا حتى يجتمع عندها آلاف من هذه الرسوم.
اختارت الصلح حاملاً لرسومها هذه أوراقاً صفراء اللون منتزعة من كرّاسةٍ من تلك التي تستخدم للمسوّدات، وقد ننزع أوراقها واحدةً تلو الأخرى بحركةٍ واحدة تجعل الورقة تنفك عن مثيلاتها من الجهة العليا من الكرّاسة. وقد نلقي هذه الأوراق المنتزعة في القمامة إذ هي ليست ممّا وجد ليُحتفظ به ولا ما يدوّن أو يُخطّ عليها يعتبر قيّماً أو نهائيّاً، في العادة، بحيث يسوغ الحرص عليه. من بين الرسوم الخمسين، ثلاثة أو أربعة استخدمت لها الفنّانة ورقاً أبيض لا يفترق في شيء عن الأصفر سوى باللون أو بغيابه. فيبدو هذا الاستثناء مقصوداً لخرق الرتابة أو يبدو غير مقصودٍ أملاه وجود الكرّاسة الصفراء في خارج المتناول، لا أكثر ولا أقلّ. هذا والداعي إلى كسر الرتابة وجيه: فإن هذه الرسوم، وإن تكن معروضة لينظر إليها وفيها واحداً واحداً، معدّة أيضاً لتشاهد عن بعد خطوات على أنها «حالةٌ» مركّبة وعملٌ واحد.
وأمّا المادّة المستخدمة في الرسم فهي الحبر الأسود وحده غالباً أو هي الفحم أو الحبر الأزرق أحياناً. ويداخل السوادَ شيء من الحبر الأحمر في حالات قليلة، فنقع عليه حيث ينتظر: أي لون للشفتين، مثلاً، أو نقع عليه حيث لا ينتظر أي عنصر في التشكيل قد يشي بجرحٍ ما، داخليّ أو خارجيّ. ولا يذهب الفكر إلى الحبر الصيني الذي لا يحول بل إلى نوع من الحبر أو الفحم يجاري الورق المستعمل في تدنّي القيمة فيبدو وكأنه فقد رونق الجدّة على عجل وأدخل نكهة تعبٍ باهتة لا إلى ملامح الوجوه وحسب بل إلى مادّتها نفسها. وذاك أننا هنا حيال وجوه تتفاوت درجة الاكتمال في بيان ملامحها فيبدو بعضها ملتحياً كثيف القسمات ويكتفي من بعضها بتخطيط ناقص لمحيط الوجه يفترض أن يشي بما تبقّى وأن يعرض بداية لتعبير ما. على أن الوجه لا يظهر وحده غالباً بل يبدو الرأس محمولاً على كتفين وجذع على منوال الصورة النصفية التي تؤخذ لبطاقة الهوية أو لجواز السفر. وتنفع الثياب في الإيحاء بأوضاعٍ لابسيها، وعلى الأخصّ منها ثياب النساء وهنّ قلّةٌ في المجموع المعروض.
هذا وقلّما نقع على خلفية ذات أهمية في التشكيل أو على شيء آخر يسعف في تعيين ملمحٍ ما من ملامح الشخصية. نقع على دفتر هنا ونقع هناك على قناني تشي بأن صاحب الوجه مضيف في خمّارةٍ أو مطعم ونقع في حالاتٍ ثالثة على ازدواج للوجه نفسه: على وجهين يسعف أحدهما الآخر في جهده لقول نفسه. ولكن نقع في كثير من هذه الرسوم على كلام كثير أو قليل يعلن شيئاً متعلّقاً بصاحب الوجه: شيئاً مهمّاً جدّاً. هذا الكلام مكتوب، على الإجمال، بالقلم الرصاص: بالمادّة الرخيصة نفسها التي خطّت بها ملامح الوجه. وهو مكتوب إلى ذلك بخطّ رديء وملقى على الصفحة بلا عناية ظاهرةٍ بالإخراج بحيث يضاعف الشعور بالاستعجال ويزيد ظاهر الصفحة كلّها إهمالاً على إهمال…
ولكنّ الكلام المقروء ههنا مهمّ جدّاً، قلّ أم كثر. بل إن الرسوم التي لا يصحبها كلامٌ البتّة تبدو عرضةً لنوع من العدوى بفحوى الكلام المرافق لوجوهٍ أخرى ماثلة على الجدار نفسه. فهذا الكلام ينشئ بيئةً تُستغرق فيها الشخصيّات. هو لا يبطل ما لكلّ من هذه الشخصيات من فرادة. هو يقول هذه الفرادة، على وجه التحديد، فيحيلها إلى حالةٍ عامّة. نقرأ على إحدى الصفحات: «أبو غابي» ونقرأ: «من ماليزيا على تركيا». ونقرأ على أخرى عبارات متفرّقة كتبت بخطوط وأقلام عدّة وكأن الشخص مشكلٌ أو ملتبس على نحوٍ يجعله موضوعاً جذّاباً لتعليقات سائبة. وعلى ثالثة، نقرأ عبارةً واحدةً مستعارةً من المتنبّي: «كأن الريحَ تحتي»! وتقول المرأة التي على صفحة رابعة أنها «من قلب حلب». وتضيف أنها «خشم عالي» وأن عمرها أربعون وتذكر أسماء أولادها الأربعة: إحسان ومحمد نجم ويوسف وفاطمة الزهراء! إلى أن تذكر شيئاً غير واضح يتعلّق ببلدة الناعمة إلى الجنوب من بيروت وتختم بالقول أن عليها أن تبدأ مجدّداً من الصفر…
نلتقي أيضاً «طبيب أعشاب» يعمل حالياً في الشويفات (إلى الجنوب من بيروت أيضاً) في محلّ للألبسة المستعملة. ثم نصل إلى ولد في نحو العاشرة يقول أنه بلا مدرسة من سنتين قبل أن يتطوع لإطلاعنا على قول يبدو ماثوراً: «بدّك تعرف الحوراني من زرّو الفوقاني»! وأما درّة التاج في المجموعة فهو مضيف الخمّارة الذي يقول: «أنا أردني، أمي من تايلند، ولدت في بيروت وكبرت في حلب. مرتي أجت مبارح من طرطوس بعدما انتقلت من حلب على طرطوس وحالياً في جلّ الديب»… في تلاحق الأمكنة ازدحامٌ للأخطار. ولكن تلوح عبره أيضاً قدرةٌ على ارتجال المخارج لا ينضب معينها.
يُظْهر الكلام إذن وتُظْهر الملامح، شيئاً لا يمكن كسره… ما هو ظاهرٌ أو موضوعيّ، في هذه الحيوات، كلّه هشّ ورخيص قيمته قيمة الحبر والورق اللذين استعملا في رسمه وهو قابلٌ، على غرارهما، للإلقاء في سلّة القمامة. وأما الروح فهي في أغلظ الملامح وفي أدقّها. وهي أيضاً في الكلام، لا يحتاج ظهورها إلى كلمات كثيرة. هي، مثلاً، في «الخشم العالي» لأمّ الأولاد الأربعة وفي الريح التي تحت صاحبنا الآخر.
المزيد يا منيرة!
كاتب لبناني

أحمد بيضون

تشريحُ نظام ملكي

أحمد بيضون

في «المرحلة» الثانية من كتابه، وهي المرحلة التي تغلب فيها تغطية عقدٍ ونصف عقد انقضت من عهد ملك المغرب الحالي محمد السادس، يميل الأمير هشام العلوي، صاحب «المذكّرات» الفريدة التي عرضنا «المرحلة» الأولى منها في مقالتنا السابقة، إلى تغليب الرصد العامّ لمشكلات النظام والمجتمع المغربيين وإلى الوصف المُحْكم، وإن يكن إجمالياً، لمعالم المعالجة الممكنة. عليه نجدنا في هذا القسم حيال مطالعة متينة الإسناد، جيّدة السبك، لحالالمغرب في هذه السنوات الأخيرة ولحدود الإصلاح الذي كان قد باشره الحسن الثاني في نهاية عهده واستأنفه خليفته حتى وصل به إلى مآل دستوري في الاستفتاء الذي انتهت إلى فرضه حركة الاحتجاج المسمّاة حركة 20 فيفري (شباط) 2011. وكانت هذه الحركة نصيب المغرب من المدّ الكبير الذي أطلق عليه اسم «الربيع العربي». ويرى الأمير حدود هذا الإصلاح ضيقة على الحاجات الماثلة التي يبرز اضطرار النظام إلى الاستجابة لها إذا هو شاء المحافظة على نفسه…
وإذ يميل المؤلّف في هذه الفصول الأخيرة من كتابه إلى البحث العامّ في شؤون المغرب ونظامه، لا ينسى ما آل إليه أمره، هو هشام العلوي، مع الملك الجديد، ابن عمّه الذي يكبره بسنة واحدة وكان عشيره في البيت والمدرسة وأحد أقرب الناس إليه في طفولته وفتوّته. وما نقف عليه بهذا الصدد هو أن عهد محمد السادس شهد الانتقال من المحاولات الحثيثة لاسترداد «مولاي هشام» إلى الأسرة المالكة ومنطقها وسلطة رأسها، وهي ما طبع عهد الحسن الثاني، إلى المحاولات المتكررة لتحطيم حياة الأمير وتدمير سمعته وتثبيط مشاريعه في المغرب وخارجه وإخراجه من نطاق الأسرة إخراجاً لم تُستثنَ منه علاقته بأمّه وأخيه، وهي ما طبع المرحلة المنقضية من عهد الملك الحالي… يروي الأمير وقائع المساعي المنحطّة هذه مستنكفاً عن الجزم باتّهام الملك شخصيّاً بها (وعن الجزم ببراءته منها أيضاً) مؤثراً تسليط الضوء على «المخزن» ورجاله أي على النظام…
لا يجنح هذا الكتاب إلى التبجّح بصمود مؤلّفه في وجه ما عاناه. فهو يبقى سيرةً خفرةً لصاحبه تشدّد على ما جرى له ولا تبالغ في التشديد على ما فعل من جهته. بل إن المؤلف يحرص، في مطلع الكتاب، على الإشارة إلى كون ما لقيه يبقى، ولا ريب، دون ما عاناه مغاربة لا يحصون، في نفوسهم وأجسادهم، من بطش عمه الحسن الثاني. عمّه الذي كان، في الآن عينه، شديد التعلّق بالأطفال في أسرته وسريعاً إلى الضحك من فلتات «مجنونه» المفضّل. على أن الأمير لا يلتفت بما فيه الكفاية إلى أدواتٍ تَزَوّدها من منبته نفسه وخاض بها معركة استقلاله عن هذا المنبت…
فلا يماري القارئ المنصف في شجاعة هذا الأمير، وهو يواجه، من نعومة أظفاره، خصوماً لهم كل هذا البأس. ويلمس القارئ صدق سخريةٍ هادئة يخصّ بها المؤلف صورة «الأمير الأحمر» التي رسم له الإعلام ملامحها بحبر الإثارة. فما شأن «الحمرة» برجلٍ أراد لنفسه النجاح في الأعمال بهذا العناد كلّه ويريد لبلاده إصلاحاً يبرز، إذ يعيّن معالمه، عقلنة رأسمالية للنظام يعرف كلفتها الاجتماعية على الريفيين خصوصاً؟ وهو، إلى قوله بتحرير الإرادة الشعبية وتفعيلها، لا يخفي الميل (المنوطَ عنده بالقبول الشعبي) إلى الإبقاء على ترسيمة أساسية للنظام المغربي عمرها قرون ويحتاج الإصلاح نفسه في رأيه إلى ما توفّره من استقرار.
غير أن المؤلّف حين يشير إلى صحبته لذاك الشيخ النهياني من أبو ظبي ولما أنجده به المذكور ومعه نفرٌ آخرون من أصدقاء والده في وقت الشدّة… أو حين يشير إلى منحة عقارية ولَفَتات أخرى خصّه بها رأس الأسرة السعوديةالتي تحصي في عدادها أبناءً بارزين لإحدى خالاته الصلحيات… أو حين يذكر ما حظي به من عناية بجوار الأمير الحسن، ولي عهد الأردن في حينه، وإلى الصلة الوطيدة التي انعقدت بينه وبين الملك حسين… أو حين يشير إلى «جيرة» خالته الكبرى في باريس لقصر الأليزيه وهي «جيرة» أتاحت لها أن تستوقف فرنسوا ميتران لتحصل منه على موعد لابن شقيقتها الذي كان الاضطهاد الملكي يلاحقه في العاصمة الفرنسية… أو حين يشير إلى الحجم الضخم لتركة والده العقارية، ولو أن الاضطهاد نفسه أخّر كثيراً نيل الوَرَثة حقّ التصرّف بهذه التركة…
…أو حين يستعيد هذا الأمير من مخاطبيه أو ذاكريه اسمه: «مولاي هشام» (دون إمكانٍ لفصل اللقب عن الاسم) وهو اسمٌ تجعل «ياءُ النسبة» فيه كلّ متلفّظ به مُقِرّاً شاءَ أم أبى! بالولاء لصاحبه… فلا يبقى هذا «المولى» مولىً بلا تحديد لموضوع ولايته بل يصبح حُكْماً مولى المتكلّم أيّاً يكن! في كلّ من هذه الحالات وفي غيرها، يتراءى، عبْرَ ما يرويه الأمير من وقائع سيرته، فضلُ منبته عليه في ما انتهى إليه أمره من جولات كسبها ضدّ هذا المنبت نفسه. هي جولاتٌ كسبها هشام العلوي في وجه إصرار الملك والمخزن على وضع يدهما عليه والتحكّم بمصيره. غير أن أيّاً من «الأوراق» التي وجدها تحت يده، وهو يناوئ بيئته، ما كانت لتقع إلا تحت يده هو أو يد أمير من طينته. ذلك أمر كان يستحقّ لا ريبَ أن يستوي موضوع تأمّل في هذه «المذكّرات». لكن ذلك لا ينتقص بحال من ملحمة الشجاعة والعناد الشخصيين التي يسجّلها هذا الكتاب بخفرٍ وأناقة، ولا ينتقص بحال، على الأخص، من القيمة الأدبية الرفيعة لهذا الكتاب بما هو شهادة تفوق الوصف والأمل في الأحوال المعاصرة لبلاطٍ ونظامٍ دهريّين…

أحمد بيضون