source: كلمن | رياض الصلح: أنشأنا الدولة؟ أنشأنا الوطن؟
رياض الصلح: أنشأنا الدولة؟ أنشأنا الوطن؟[1]
أحمد بيضون
قُتِل رياض الصلح وهو في السابعة والخمسين من سنيه. وفي السنوات الأخيرة من حياته، كان يحصل منه أن يذكّر صغار السنّ من زملائه النوّاب بـ “سنـّ”ـه و “تجاربـ”ـه وقَصْدُه أن يَحْملهم على الرويّة. كان تبكيرُه إلى النضال السياسيّ وتَرْكه هذا النضال (المسمّى “جهاداً” في تلك الأيّام) يشغل حياته بلا حدّ يبيحان له أن يتكلّم وكأنّما هو في السبعين أو في الثمانين. هي أربعون سنةً عَبَرت من دارسِ الحقوق في مكتب استانبول السلطانيّ إلى رئيسِ حكومة لبنان المقتول في عمّان بعد أشهرٍ من مغادرته كرسيّ الحُكْم. وهو قد جرّب فيها كثيراً. جرّب الاعتقال والحُكْم بالإعدام وجرّب النفي إلى موضعٍ بعينه ثمّ إلى آفاقٍ عريضة ومُدُنٍ كثيرة يتقلّب بينها. جرّب الجلوسَ مع عظماء العالم ومجاذبتَهم وجرّب الجلوس مع قبضايات بيروت وصيدا ومباسطتهم. وكان صحافيّا وهو سياسيّ وأمضى ساعاتٍ لا تُحصى في مكاتبِ صحفٍ كثيرة يقرأ ويسمع ويتحدّث. وكانت بطانته المقرّبة، في معظمها، من الصحافيّين. ولم يتيسّر لأحدٍ غيره من ساسةِ لبنان ما تيسّر له من ولاء الصحافة في عاصمتها اللبنانيّة وفي عواصمها العربيّة وفي ما هو أبعد من ذلك أحياناً. وكان سياسيّاً وهو محامٍ، وفي السنوات القليلة التي اتّخذ لنفسه فيها مكتباً للمحاماة لم يكد يزاول في ذلك المكتب غَيْرَ السياسة. وهو كان مقصوداً لم يحتجب عن الناس في أيّام حُكْمِه ولا في غيرها. وحين كان – وهو الكتوم الحذر – يريد الخلوة والمسارّة، قبل أيّام الحكم، كان يتّخذ لنفسه مجلساً في حجرةٍ خلفيّة ملحقة بمحلٍّ تجاريّ لأحد أصحابه يوسف الصدّي، أَطْلَق عليها اسم “العلّية الصهيونيّة” تيمّناً بتلك التي التقى فيها المسيح تلامذته في القدس قبل صلبه بليلة.
هذا الزعيم في الجهاد – جهاد أيّامه الذي كان النصارى لا يتردّدون في الانتساب إليه – أو هذا المجاهد في الزعامة كان يُقْبِل على الناس بطلعةٍ متّسقةِ الملامح فيها بهاءٌ وبعينين في نظرتهما بريقٌ نفّاذ وبابتسامةِ ترحابٍ واستبشارٍ نراها لا تُفارق شفتيه في المئات من الصور وبشَعْرٍ أبقى منه الصلع على الفَوْدين وعلى القَذال خُصَلاً تظهر من تحت الطربوش عصيّة على المشط وبطربوشٍ يترجّح زرّه فوق الجهة اليمنى من الوجه الممتلئ وبقامةٍ رَبْعةٍ نَحَت نَحْوَ الامتلاء أيضاً مع تقدّم صاحبها في العمر، وبحركةٍ نَشِطة… وبسُبْحةٍ، في الجلسات أحياناً، وبسيجارةٍ دائماً. وهو كان ولوعاً بالنكتة ضحوكاً لها وحاضرَ البديهة للهزل وللجدّ وراويةً للمأثور ولأشعارِ شعراء كبار، على الأخصّ، من بينهم امرؤ القيس والمتنبّي وأحمد شوقي الذي جالسه مرّات. وقد كان هذا كلّه يُضْفي على مجالسه أُنْساً لا يَثْلم المهابة. فالرجل مشهودٌ له بالاقتدار في السياسة وبسعة الميدان والأثر. وهو مُحْكَم الردّ، بارعٌ في الجدال والمجاذبة حتّى طارَ صيته في القدرة على الإقناع وعلى الوصول في التفاوض إن لم يكن إلى المنشود فإلى أحسن الممكن. وفي المواقف العامّة كان يُسْعفه، في الخطابة، صوتٌ جهير وطلاوةٌ في العبارة وبُعدٌ عن الإطناب ومَيْلٌ إلى السهل المأخذ من الأفكار مِن غَيْر ابتذال.
ورث رياض الصلح ثروة عقاريّة عريضة، موزّعة بين بيروت وطرابلس وصيدا وجبل عامل (وقيل: اللاذقيّة أيضاً)، عن والده ثمّ عن عمّته. فكان أن بدّد معظمها في المنافي والأسفار وفي العراك السياسيّ والدعاوة السياسيّة وفي بَسْط اليد للصديق في وقت الضيق. وأمّا الباقي (وهو في جبل عامل ولم يكن قليلاً) فبقي في قيد الرهن من سنة 1921 إلى سنة 1942. وقد لبث الصلح مُدْقِعاً لسنين، في عقد الثلاثينات ومطلع الأربعينات، وقد أصبح الدَينُ أليفَه. ومن هذا القبيل أنّه كان قد أخرج، في أوائل الثلاثينات، من مسكنه البيروتيّ الأوّل في حيّ الناصرة لعجزه عن دفع الإجارة. فتلقّاه صديق له زحليّ من آل مسلّم وأسكنه، بشروط ميسّرة، في شقّة من مبنى له واقع في شارع عمر بن الخطّاب، حيّ رأس النبع، وهي الشقّة التي بقي فيها مذ ذاك إلى حين وفاته. لم يتبدّل أثاث هذه الشقّة في حياة صاحبها أيضاً وقضى الرجل وهو مثقل بديون باهظة نشرت لائحة بها، بعد مقتله، كانت في عهدة مفتي الجمهوريّة. وقد بنى الملك عبد العزيز آل سعود على اسمه بيتاً كان يريد هو أن يبني أقلّ منه في موضعه اليوم ولم يتمكّن من ذلك. كانت تلك الدائرة الممتدّة بين أطراف المطار الصائر إلى الإلغاء في بئر حسن والجادّة المفضية إلى المطار الجديد قد أخذت تصبح مقصداً لسياسيّين عدّة راحوا ينقلون إليها سكنهم من رأس النبع والمزرعة والبسطة الفوقا، وهذه كانت، في ما مضى، أطرافاً لبيروت فأَدْرَجَتْها المدينة في نسيجها الأهلي. وكان رياض الصلح أحدَ هؤلاء النازحين أو المقبلين على النزوح. هذا الرجل كان يستدين ليعطي، أحياناً، وكان حديثُ الفساد يطبّق الآفاق في أيّام حكمه ولكن ندر أن جرُؤ أحد على تناوله هو نفسه بكلمة من هذا القبيل. وحين حصل ذلك فملّكه البعض (ومنهم أنطون سعادة) شوارع في مدينة مصريّة ما، تاه عن هذه الشوارع، في نهاية المطاف، جميعُ من بحثوا عنها. ولم تُخْفِ ابنتاه علياء ولمياء، في مقالةٍ كتبتاها قبيل مقتله، أن الفضل في توازن الموازنة البيتيّة إنّما يعود إلى والدتهما لا إلى والدهما.
***
ولحسن حظّ السياسيّ فيه، لم يكن رياض الصلح قدّيساً. كان مناوراً فذّاً، ألوفاً للمقارعة في السياسة، مقبلاً عليها: يصمد لخصومه ويداورهم ويدبّر لهم المكائد السياسيّة ويتقن الردّ على مكائدهم… حتّى ذاعت شهرة بين السياسيّين لما أخذ يسمّى “حِيَل رياض الصلح” أو “ألاعيبه”. ولسنا نجد ما هو أحسن بياناً لعلاقة رياض الصلح بالعمل السياسيّ من شهادة يوسف سالم فيه: هو “ذو ومضاتِ فِكْرٍ عجيبة، يرى أنّ لكلّ مأزقٍ مخرجاً ولكلّ معضلةٍ حلاً”. وفي غمرة عمله، كان رياض الصلح يُغْضي عن أمورٍ تستحقّ الشجب كثيرة، مؤثراً – على ما يدلّ بعضُ كلامه – لزومَ جانب الحرص على ما يراه الأهمّ. وكان يذهب إلى الدفاع، أحياناً، عمّا لا يُدافَع عنه، متحمّلاً المسؤوليّة علناً، بوصفه حاكماً، عن كلّ قرارٍ تتّخذه الهيئة الحاكمة وإن لم يكن ميّالاً إليه أو موافقاً عليه. وهو لم يتورّع عن قمع الحركات العادية على القانون أو المخلّة بالأمن والنظام العموميّين أو المستظلّة، أحياناً، حقوقاً تريدها في غير أوانها أو تَسْتر بها، في أحيانٍ أخرى، طلبها لما هو مُجافٍ لحقوق البلاد. ولكنْ أُخِذ عليه – عن حقّ، من وجهة نظر القانون – أنّه ميّز في ذلك بين حالةٍ وأختها مجتنباً، على الأخصّ، أن يثير في وجه الحكم تمرّداً أو شَغَباً طائفيّاً كان يراه، هو وغيره من أهل الحُكْم، أشدّ خطراً من أيّ تمرّدٍ أو شَغَبٍ آخر. لذا لَزِم جانبَ المُداراة، في هذا النوع من الحالات، مقدّراً الضغوط المتضافرة عليه وعلى غيره من أهل الحكم أو مجتنباً توسيعَ الخِرْق.
وعلى التعميم، حَكَم رياض الصلح في مرحلةٍ كانت البلاد فيها مكتنفةً بأخطارٍ استثنائيّة تأتّت معاً أو تباعاً من المواجهة المديدة لانتدابِ فرنسا ثمّ لمطامحها المستمرّة ومن الحرب في فلسطين ومن ذيولها ومن اضطرابِ الموازين في سوريا وما استثاره من رياح حارّة هبّت على لبنان ومن الحراجة المتنامية للأزمات الدوليّة بعد الحرب العالميّة ومن العِبارات المتكوّنة في داخل البلاد عن هذا كلّه. وهو قد اعتبر هذه القافلةَ من المخاطر مُسوّغاً لاعتماد الشدّة أحياناً، مُقدّماً داعي الوفاق الأساسيّ في البلاد على كلّ داعٍ آخر، معتبراً هذا الوفاق درعاً للبلاد في مواجهة الأخطار المقبلة عليها أو المُحْدِقة بها من الخارج. وقد أَخَذ بشاره الخوري على رياض الصلح، ذاتَ مرّة، في مطلع عهدهما بالحكم، أنّه لم يكن يُوْلي درسَ الملفّات المعروضة عليه ما يستأهله من وقت. وليس في يدنا ما يطعن في هذه الشهادة. ولكنّ رياض الصلح لم يكن لِيَهْدأ أو يُخْلِد إلى النوم إذا غادر ملفّاته. ولم يُخْفِ سعدي المنلا، أحد أخلافه وأسلافه في رئاسة الحكومة، عَجَبه من سعة المروحة التي كان ينتشر عليها نشاطه: “لا أستطيع أن أتصوّر رياض بك الصلح كيف يعمل وكيف يعيش وكيف يوزّع أوقاته؟ إنّ هذا عجيب حقّاً!”
وقد غضّ رياض الصلح الطرف أيضاً عن كثير من الفساد عاينه من حوله مقدّماً على التصدّي له داعي المحافظة على تماسك الصفّ الحاكم. وقد اشتُهِرت له، في هذا المضمار، قولةٌ (ذكرناها، وفيها نظرٌ كثير) مفادها أن إلهاءَ الفاسدين “بالاستثمار” خيرٌ من لجوئهم إلى حضن “الاستعمار”! وقارَع رياض الصلح الطائفيّة بمسلكٍ في نسج العلاقات الشخصيّة وفي طريقة العيش وفي العمل السياسيّ واضحِ النفور منها، إلاّ في لحظاتِ حَرَجٍ شديد. وهو قاوَمَها، على الأعمّ، بتعزيز عوامل الوحدة بين الطوائف وتقبّل التسوية بينها وممارسةِ الحُكْم في نطاق هذه التسوية، وذلك في مجتمعٍ وَرِث تركةً ثقيلة من التنافر بين الخيارات السياسيّة الكبرى لطوائفه ووَرِث أيضاً تركة من التباين في العمران وفي النموّ وفي الدور التاريخيّ المعترف به والمكانة السياسيّة المترتبة عنه بين مناطقَ فيه موسومةٍ، بدَوْرِها، بمياسمَ طائفيّة متقابلة. ولكنّ رياض الصلح لَبِث، مع ذلك، يتحيّن فرصة سياسيّة لفتح ثغرةٍ في جدار القاعدة الطائفيّة المهيمنة على النظام السياسيّ والمترجِمة ترجمةً شبه حرفية (وركيكةً بالتالي) لتكوين المجتمع ولموازينه ولميراثه من تاريخه. فلم تكن لتَفوت الصلح واقعةُ التمييز المُجْحِف في الحظوظ بين البشر بفعل القاعدة الطائفيّة ولا واقعة الفساد المقترنة اقتراناً لا ينفصم بهذه القاعدة ولا انتشار المجاري المفتوحة للَعِب قوى الخارج بمقدّرات البلاد من خلال التنافس بين القوى السياسيّة للطوائف ولا الخطر الرازح دائماً على الانتظام العامّ للحياة الوطنيّة وعلى مصير البلاد نفسه من جرّاء ذلك كلّه. وكان رياض الصلح يعني ما قاله في الطائفيّة وإلغائها في بيان حكومته الأولى. ولكنّه كان مدركاً أنّ الغاية من ذلك لا تُدْرك إلا بالسياسة، فيحتاج ولوج السبيل نحو “إلغاء الطائفيّة” إلى ائتلافٍ رَحْب للقوى السياسيّة في البلاد يغطّيه ويحميه. ولأنّ الصلح كان يعني ما قاله، استَثْمَر ما سَنَح، في أيّام حكمه، من لحظات التماسك السياسيّ في البلاد ليُعيدَ التنويه بهذه الغاية أو ليباشرَ السعي في هذا السبيل وعينُه على ما يستثيره السعيُ من مواقف وما يلوح له من عواقب. غير أنّه اضطرّ إلى الإحجام تكراراً معتبراً بما كان يعاين ويعاني.
وكان رياض الصلح معروفاً بمحافظته على علاقاتِ مودّة بخصومٍ له، فيما يتعدّى الخصومة السياسيّة، على نحو أثار العجبَ أحياناً. ومن أمثلةِ ذلك أنّه في مدى عقدين كان فيهما يشنّ حَمَلاته على الانتداب وأعوانه ثمّ يتولّى الحكم شريكاً لبشارة الخوري والدستوريّين، بقيَت حبالُ الودّ موصولة بينه وبين أركان الكتلة الوطنيّة في السياسة وفي الصحافة، بمن فيهم إميل إدّه مؤسّس الكتلة وأسعد عقل صاحب البيرق. فحَمى الأوّلَ، في أحْرَج لحظةٍ سياسيّة جازَ فيها، من تهمة الخيانة. وكان هو – أي الصلح – خارجاً لتوّه من معركة طاحنة خاضها في وجهِ سلطةٍ منتدبة وجدت في إدّه نصيرها الأوّل. وكانت البيرق وبقيَت بين أكثر الصحف رعايةً لجانب رياض الصلح وعنايةً بأخباره وأسفاً عليه عند رحيله. هذا مثالٌ من أمثلة. وفي امتداد هذا السلوك، كان يقع إقدامُ رياض الصلح السياسيّ، وهو الخصلة التي أباحت له أوّلاً أن يتجاوز كلّ تمسّكٍ مكبّل بطهارة الذيل السياسيّ وكلّ لومٍ محتمل من أدعياء الطهارة الوطنيّة حين يُقْدم على استدراجِ خصمٍ إلى حلفٍ ظرفيّ أثناءَ خوضه مواجهةً حاسمة مع خصمٍ آخر. أباحت له هذه الخصلة نفسها ثانياً أن ينحاز انحيازاً واضحاً تماماً إلى كتلة في المجال العربيّ ويبقى، مع ذلك، وسيطاً محتملاً بينها وبين الكتلة المواجهة. ظهر النوع الأوّل من هذا الإقدام – مثلاً – في محاولتين، على الأقلّ، قام بهما رياض الصلح، في العشرينات وفي الثلاثينات، لاستدراج القيادة الصهيونيّة إلى الصفّ السوريّ في مواجهة السلطة المنتدبة. وظهر النوع الثاني من الإقدام (أو من البراعة السياسيّة) – مثلاً أيضاً – في مزاوجةِ الصلح بين موقفٍ قاطع اتّخذه وموقعٍ مَرِن بقي يحتلّه في الصراع بين الكتلتين الهاشميّة والمصريّة – السعوديّة أثناءَ حرب فلسطين وفي غدواتها. إلخ.، إلخ.
***
وقد كان عهدُ بشاره الخوري ورياض الصلح عهدَ بناءٍ لمؤسّسات دولةٍ طازجة الاستقلال وعهدَ عمران كبير قامت بعبئه الدولة وكان، بمعنى من المعاني، عمراناً للدولة نفسها. هذان البناء والعمران ذهبت بصورهما من الذاكرة العامّة ما شهده ذلك العهد من جولات الصراع السياسيّ، وأُولاها معركة الاستقلال التي طغى عليه اسمها فأخذت تبدو، مع ما اتّصل بها من أطوار، وكأنها كلّ ما فيه. طغت على صورة هذا العهد أيضاً ظواهرُ استَعْجَلت نهايته في سنة 1952: من فسادٍ ومحاباةٍ وتخريقٍ لسلطة القانون بسلطان العائلات السياسيّة. وقد سلكت “ثورة” 1952 “البيضاء” مسلك الانقلاب العسكريّ في أمرٍ واحد على الأقلّ: وهو طَمْسُها ما أنجزه العهد السابق من بناءٍ لهيكل الدولة وتجديدٍ لهيكلة المجتمع وزَعْمُها القصير العمر أنّها حبلى بالخير، في هذا المضمار، تلده بعدما كان عدماً فيعمّ منها فصاعداً. على أنّ ما أنجزه عهدُ الاستقلال الأوّل، في مضماري العمران وبناء الدولة، حفظه أو حفظ بعضه ممّا كان قد أنجز أو كان في قيد الإنجاز، فضلاً عن أخبار الصحف والأوراق المتفرّقة، كتابٌ حسن التبويب، مُحْكَم السبك، صدّره رئيس الجمهوريّة بكلمةٍ ونُشِر مع انعقاد المؤتمر الثقافيّ العربيّ الأوّل في بيت مري في أيلول 1947 وذلك تحت عنوان لبنان في عهد الاستقلال. حفظ هذه المنجزات أيضاً كتاب آخر، تحليليّ ونقديّ، هو المصنّف الضخم الذي تركه لنا – بالفرنسيّة – جبرائيل منسّى رئيس الجمعيّة اللبنانيّة للاقتصاد السياسيّ ومعه نائبه جوزف نجّار وجماعة من المختصّين. فهذا الكتاب، وعنوانه خطّة لتجديد بناء الاقتصاد اللبنانيّ وإصلاح الدولة، أرسى الخطّة المشار إليها على جردة موسوعيّة للمعطيات المتّصلة بالمجتمع والدولة اللبنانيّين من الاستقلال (بل من قبل الاستقلال بكثير، كلّما لزم الأمر) إلى تاريخ صدوره في سنة 1948، وقد كان هذا الصدور حدثاً رعاه أركان الدولة، وفي طليعتهم بشاره الخوري ورياض الصلح، على رغم المنحى النقديّ، الصارم أحياناً، الذي أراده المؤلّفون لكتابهم.
وما نستفيده من هذين الكتابين ومن مصادر أخرى تستكمل ما فيهما أو تصحّحه أو تغطّي السنوات اللاحقة لصدورهما من عهد بشاره الخوري ورياض الصلح، لجهتي العمران وإنشاء مقوّمات الدولة المستقلّة، كثير وكبير ومتعدّد الوجوه إلى حدّ يلزمنا ها هنا بالاقتصار منه على بعض من أهمّ عناوينه…
فإلى رياض الصلح وسليم تقلا، وزير الخارجيّة في حكومة الاستقلال الأولى، يعود الفضل في إنشاء وزارة الخارجيّة والسلك الخارجيّ، وكان حميد فرنجيّة قد وضع لَبِناتِهما الأولى في عشايا معركة الاستقلال. وإلى حكومات رياض الصلح وإلى قائد الجيش فؤاد شهاب القريب جدّاً إليه، يعود الفضل في تحويل “الفِرَق الخاصّة” الموروثة من الانتداب إلى جيشٍ لبنانيّ، بقي صغيراً وضعيف التجهيز ولكنّه أصبح محترفاً وحَسَن التنظيم وذا حصانةٍ مرموقة على آفة التسييس. وقد استُكمل في عهود رياض الصلح تنظيمُ السلطة القضائيّة وجهازها بعد أن أُلْغِيت المحاكم المختلطة واستقرّت للقضاء صفة السلطة الثالثة في الدولة المستقلّة ولكن بقيت عالقة مسألة حماية هذه الصفة من العبث السياسيّ. وفي عهد بشاره الخوري ورياض الصلح، استقلّ النقد الوطنيّ وجُدّد النظام الضريبيّ وجُرّد من بعضِ ما كان لا يزال يداخله من مخلّفات ووُضعت أصولٌ جديدة لتنظيم ماليّة الدولة وأنشئ ديوان المحاسبة، إلخ.، إلخ. وفي هذا العهد أقرّ قانون العمل (سنة 1946، في ظلّ حكومة سعدي المنلا)، وكان استجابة لنضال نقابي متمادٍ، وأنشئت، في وزارة الاقتصاد الوطنيّ، مصلحة للشؤون الاجتماعيّة كانت نواة الوزارة التي حملت الاسم نفسه لاحقاً.
ولا ريب أنّ ذلك كلّه اعتوَرَتْه عيوبٌ تأتّى بعضها من هشاشة التقاليد وضآلة الإمكانات وضعف الكفاءات أو ندرتها وتأتّى أهمّها من تدخّل الساسة وغيرهم من ذوي النفوذ الطائفيّ في ما ليس من شأنهم. ولم يكن رياض الصلح صارماً في مقاومة هذه العلل وكان يغلّب اعتبارات السياسة وموازينها أو كانت هي تَغْلِبه. غير أنّ قوّة حضوره في الحكم وبُعْدَه عن الانتفاع الشخصيّ كان فيهما بعض الوقاية من إلقاء الحبل على الغارب فلم تَخْلُ سيرته في الحكم من مواجهاتٍ شديدة مع مستثمري مواقع النفوذ. وفي كلّ حالٍ، أُرْسِيَت، في تلك الأيّام، قواعدُ لبناء الدولة ومؤسّساتها، وأصبح التوطيد والإصلاح والاستتمام على همّة اللاحقين.
وفي مضمار العمران، يؤْثَر لبشارة الخوري ورياض الصلح بناءُ مئاتٍ من المدارس الرسميّة في المدن والقرى وإنشاء التعليم الثانويّ الرسميّ وتعزيز دار المعلّمين وتأسيس الجامعة اللبنانيّة. فإن كتاب جبرائيل منسّى المشار إليه، وهو الأحدث عهداً بين ما تحت يدينا من مصادر بشأن تطوّر التعليم الرسميّ في تلك المرحلة، يوضح أن عدد المدارس الرسمية كان 248 مدرسة في سنة 1942 – 1943 وأصبح 623 مدرسة في سنة 1946 – 1947 وأن عدد المعلمين فيها كان 402 في التاريخ الأوّل فأصبح 1502 في التاريخ الأخير وأن النيّة منعقدة على رفعه إلى 1802 في سنة 1948. وأمّا عدد التلامذة في هذه المدارس فكان 22844 في التاريخ الأوّل وأصبح 52422 في التاريخ الثاني. ويشير الكتاب نفسه إلى إلحاق صفوف تكميليّة بـ 11 مدرسة وإلى إنشاء ثلاث مدارس مهنيّة وإلى رصد اعتماد لإنشاء أولى المدارس الثانويّة الرسمية في البلاد، ويوضح أن موازنة وزارة التربية في تصاعد مضطرد وأن الملحوظ لها في موازنة 1948 يبلغ 7.25 ملايين ليرة لبنانيّة فيما لم تتجاوز هذه الموازنة في العام السابق 4.80 ملايين. هذه المدارس المستحدثة (والراجح عندنا أن عددها تجاوز ستّمائة في سنة 1952) كان معظمها صغيراً وكان يجري إيواؤها، أوّل الأمر، باستئجار غرف لها حيثما أمكن، وذلك في أكثر الحالات. ولكنّها جاءت لتفتح جدار المستقبل أمام عشرات الألوف من الأسر المحرومة من التعليم والتائقة إليه باباً للانتقال من حالٍ إلى حال. إلى ذلك صدرت في مطلع العام 1946 (أي في ظلّ حكومة سامي الصلح) مناهج التعليم الموحّدة الجديدة وكانت تستلهم، في توجّهها، ما رسمه بيان حكومة الاستقلال الأولى من خطّة للتربية الوطنيّة تحفظ “الخيّر النافع” من ميراث العهد الانتدابيّ ولكنّها تسلك بالتعليم كلّه، لغة ومضموناً، مسلكاً كان يعدّ جديداً، في تلك الأيّام، وكان موافقاً للروحيّة التي حملت البلاد، موحّدة، إلى الاستقلال.
وكان القرار بإنشاء الجامعة اللبنانيّة قد اتّخذ في خضمّ إضرابٍ للطلّاب والمحامين شهدَتْه الأسابيع الأخيرة لرياض الصلح في الحكم. وفي مجلس النوّاب، قال رياض الصلح، وهو يودّع الحكم ويطلب الموافقة على إنشاء الجامعة: “إن الساعة التي أقف فيها (…) وأطلب من رفاقي الموافقة على إنشاء الجامعة هي من ألذّ الساعات في الحياة البرلمانية. لقد طُلب إلينا أن ننشئ الجامعة بلسان الشباب المتحمّس وقد وعدناهم بإنشائها. فعمّا قريب ستنشأ الجامعة وستجمع بين أبناء البلاد جميعاً. فهي ليست مدرسة للتعليم فقط (…) نحن نريدها جامعة وطنيّة فقط، فلبّوا رغبة الشباب.”
وقد غيّرت الصورة الجديدة للتعليم الرسميّ، في عقدين تاليين أو ثلاثة، صورة المجتمع كلّه بتغيير خريطة النُخَب فيه من حيث انتشارها على المناطق والطوائف وتوزّعها بين المدن والأرياف وتوزّع كفاءاتها بين مجالات العمل، إلخ. وما من ريبٍ في أنّ هذا التغيير اعتَوَرَتْه عيوبٌ خطيرة وفاتته المواكبة السياسيّة المناسِبة فأسهم ذلك في إفضاء البلاد إلى أزماتٍ لاحقة معلومةِ السمات والأسباب. ولكن لا يَجوزُ الطعنُ، من هذا الباب، في وجاهة الحاجات التي لبّتها تنمية التعليم الرسميّ تلك ولا في تكوينه قاعدةً أوّليّة للولاء للدولة وللشعور بها مَرْجِعاً لحياة الجماعة الوطنيّة وللشعور أيضاً بوجودٍ حسيّ ما لهذه الجماعة نفسها. تلك منجزاتٌ لم يُكْتَب لها النموّ السويّ، في العهود اللاحقة، ولا هي صَمَدت لأعاصير السياسة في البلاد وحولها. ولكنّ الإقلاعَ بها، في غَدَوات الاستقلال، كان استجابةً لحاجةٍ ولحُلُمٍ منتشر.
وفي أواخر عهد رياض الصلح بالحكم أيضاً، أقرّ أوّل اعتماد لإنشاء المدينة الرياضية في بيروت. وكان قد أنشئ، في العهد نفسه، أيضاً، قصر الأونسكو وتوابعه ليستقبل مؤتمر المنظّمة الثالث في خريف 1948. وقد سهر حميد فرنجيّة، وزير الخارجيّة في حكومة رياض الصلح، على إنجاز أعمال الإنشاء والتجهيز في هذا الصرح وعلى نجاح المؤتمر نفسه، بسرعة وفاعليّة مشهودتين. ومن الاستجابات التي شَهِدها عهدُ بشاره الخوري ورياض الصلح استحداث عديدٍ من الدُور الحكوميّة، بعد أن تأسّست وزارات وإدارات جديدة أو نمت القديمة فأنشئت لها أو استؤجرت مقارّ وقصور عدل ومحاكم وأبنيةٌ إداريّة أو فنّيّة ومستشفياتٌ حكوميّة وزّعت بين قواعد المحافظات ودورٌ للبلديات ومخافر… وسجونٌ أيضاً، على ما أشار إليه رياض الصلح نفسه.
وكان عهدُ بشاره الخوري – رياض الصلح أيضاً عهدَ إعادة النظر في التنظيم المدنيّ للعاصمة: من مشروع أيغلي إلى مشروع أيكوشار. وهي إعادةُ نظرٍ لبثت مرجعاً لجهودٍ تالية وشَهِدت، هي أيضاً، نكساتٍ لاحقة وتعثّراً أو خَبْطاً في التطبيق. وفي العهد نفسه، نَمَت شبكةُ الطرق بين المناطق اللبنانيّة نموّاً كبيراً وجدّدت مداخل المدن، وأولاها العاصمة، ووُسّعت، ووصل التيّارُ الكهربائيّ ومياه الشرب إلى مناطق كانت مفتقرةً إليهما ولكنّ الشَوْطَ إلى إزالة الحرمان بقي طويلاً… وأنشئت شبكة الهاتف الآليّ في بيروت وأقيم مبنى البريد المركزيّ الضخم على الشارع الذي حَمَل لاحقاً اسم رياض الصلح.
ومن المآثر العمرانية الكبرى لذلك العهد إنشاءُ مطار بيروت الدوليّ الجديد في خَلْدة ليحلّ، بعد حينٍ، محلّ مطار العاصمة القديم في بئر حسن، وكان قد أصبح ضيّقاً على الحاجات وملتصقاً بالمدينة. وقد استوت الطرُق التي أنشئت لخدمة المطار وربطه بالمدينة بدءاً بالشارع الذي شُقّ على اسم بشاره الخوري ثمّ بالجادّات التي بدأ شقّها في غابة الصنوبر، محاورَ جديدةً لنموّ المدينة. واستوت الجادّة المفضية إلى مدخل المطار مباشرة متنفّساً جديداً ظاهرَ الأناقة والخُضْرة للمدينة ومتنزّهاً لأهلها في رُبْع القرن التالي. وكان القانون الصادر في أوّل أيّار 1950 قد أرسى قواعد للبناء على جانبيها حفظت لها هذا الطابع إلى حين اندلاع الحرب في سنة 1975. وقد لَبِث المطار، في هذه المدّة نفسها، مرفقاً عظيم المكانة في الشرق العربيّ كلّه للمواصلات بين أقطاره وبينها وبين سائر العالم فضلاً عن استوائه شرياناً رئيساً للحياة الاقتصاديّة في البلاد. إلى ذلك، وضع في عهد بشاره الخوري ورياض الصلح نظامٌ لمرفأي صيدا وصور. وفيه أيضاً، وُسّع خطّ نقل النفط المفضي إلى طرابلس من كركوك وأنشئت، في جوار طرابلس، مصفاةٌ جديدة تفوق القديمة طاقة وسعة. ووَصَل إلى جنوب صيدا خطّ التابلاين القادم من الساحل السعوديّ الشرقيّ وأنشئ له مصبّ لنقل النفط الخام بالبواخر إلى الأقطار المستوردة وأنشئت هناك مصفاةٌ للتكرير أيضاً. وفي ما يتعدّى الجدل المشروع في مقدار التغاير بين الواقع والمرتجى من المنشآت النفطيّة هذه، يبقى أنّها وفّرت فرص استخدام لبضعة آلاف من اللبنانيّين وأصبحت الرسوم والضرائب الناتجة من نشاطها مورداً يعتدّ به بين الموارد الكبيرة لماليّة الدولة.
وقد كانت لرياض الصلح، بما هو نائبٌ لصيدا وللجنوب، لفتاتُ عنايةٍ خاصّة بتلك وبهذا، وكان الانتداب قد غادرهما بلا أَثَرٍ عمرانيّ يُذْكر. ففضلاً عن تحصيل الجنوب نصيباً معتبراً من شبكتي المواصلات والمدارس الرسميّة، أنشئ بعنايةِ رياض الصلح وأحمد الأسعد، وزير الأشغال العامّة في تلك الآونة، مشروعُ القاسميّة البارز في البلاد، آنذاك، بضخامته وجليل فائدته، لريّ السهل الساحليّ بين صيدا وصور ورَدَفه مشروعُ رأس العين إلى الجنوب من صور. وكان معوّل القيادة السياسيّة في هذين المشروعين وفي سواهما من مشروعات الريّ التي وُضِعت لمناطق مختلفة من البلاد ثمّ بَلَغت درجاتٍ متباينة من التنفيذ، على مهندسٍ مائيّ لا يُشقّ له غبارٌ هو إبراهيم عبد العال وقد أصبح في الردح الأخير من عهد بشاره الخوري مديراً عامّاً لوزارة الأشغال العامّة. وفي جملة ما أنجزه هذا العهد، في غضون سنوات قليلة، من مشروعات الريّ وسائر الأشغال المائية ومنشآت توليد الطاقة الكهربائيّة المصاحبة لها، ما يُدهش حقّاً إذا ما نظرنا بعين الاعتبار إلى حدود الإمكانات. فليس مشروعا القاسمية ورأس العين سوى حلقة من سلسلة كانت حلقاتها الأخرى مشروعات أنشئت لاستثمار مياه النهرين الكبير والبارد في عكّار ونهر الجوز في البترون وينابيع اليمّونة في ريف بعلبكّ ونهري الليطاني واللبوة في البقاع وجرّ مياه نبع العسل للشرب ونبع المغارة للريّ في كسروان وجرّ مياه نبع الباروك للشرب في قضاء عاليه وإنشاء معمل على نهر إبراهيم لتوليد الكهرباء، إلخ.
وفي صيدا أنشئ، بعناية رياض الصلح، المستشفى الحكوميّ وما كان يفترض أن يكون بناء لمدرسة زراعيّة، في خراج الميّة وميّة، وأصبح الثانوية الرسميّة الأولى في الجنوب، بعد سنوات، ووضع حجر الأساس لدار البلديّة الجديد وأنشئ الملعب البلديّ و”مدينة العمّال” وبني فندق صيدون الكبير الذي عهدت البلديّة باستثماره إلى “فنادق طانيوس” وشُقّ الشارع العريض الذي حمل اسم رياض الصلح لاحقاً وأصبح الواجهة الجديدة للتجارة والأعمال في المدينة وأَذِن بتوسّعها السريع نحو الشرق. إلخ. وكان بعض هذه المرافق أيضاً حلقاتٍ من شَبَكة تضمّنت منشآتٍ مُناظرة في عواصم المحافظات الأخرى أو في بعضها. إلخ.، إلخ.
في مضمار آخر من مضامير العمران، شهد عهد الخوري والصلح ترميم قصر الأمير بشير الشهابيّ الثاني في بيت الدين بعد أن كانت قد امتدّت إليه يد الخراب. وكان قد استعيد رفات باني القصر ليرقد فيه، وكان قد دفن عند وفاته في كنيسة للأرمن الكاثوليك في إستانبول. كانت “عودة الأمير” في صيف العام 1947 واحتفل بها احتفالاً رسميّاً خطب فيه كلّ من صبري حمادة ورياض الصلح في بيروت وبشارة الخوري في بيت الدين. وأمّا القصر فحوّل جناح من أجنحته إلى متحف للعهود الإقطاعيّة اللبنانيّة وجعل جناح آخر مقرّاً صيفيّاً لرئاسة الجمهوريّة واستردّت حديقته رونقها السالف. وكان رئيس الجمهوريّة الذي أولى هذا المشروع كلّ عناية واضح الاعتزاز بما تمّ.
***
هذا ولا بدّ لاستتمام معالم الصورة وعناصر الميراث الذي خلّفه عهد بشاره الخوري – رياض الصلح، من تعريج خاصّ على الجانب التشريعيّ من هذا الميراث. وأوّل ما يستوقف، لهذه الجهة، هو، من غير شكّ، التعديل الاستقلاليّ الشهير للدستور، في تشرين الثاني 1943، وما تبعه من نصوص رعت استكمال الأبنية المقتضاة للدولة المستقلّة في نطاقي السلطة التنفيذيّة والسلطة القضائيّة خصوصاً. وقد سبق منّا التنويه بما وجدناه مهمّاً من هذا كلّه في مواضع متفرّقة من هذا الكتاب. فإذا تركنا هذا الشطر “الاستقلاليّ” من التشريع جانباً، بقي تحت أبصارنا حصاد تشريعيّ لمجلس النوّاب في أيّام الحكومات التي رئسها رياض الصلح هو إلى التواضع أميَل. ولكنّ هذا الحصاد، على تواضعه النسبيّ، متنوّع المجالات وغير خال من عناوين بالغة الأهمّية. هذه الهياكل التشريعيّة يردفها عدد من المراسيم لا يقلّ بعضها أهمّية أثراً عن القوانين المشترعة في المجلس النيابي.
ففي فئة التشريعات التي رسمت للنظام الاقتصاديّ – الماليّ في البلاد صورته المعروفة، نقع أوّلاً على قانون التجارة البحريّة وقد صدر في 18 شباط 1947. وهو يكمل قانون التجارة البريّة الذي كان قد صدر بمرسوم اشتراعيّ في 24 كانون الأوّل 1942، أي قبيل الاستقلال. يردف هذين التشريعين مراسيم عدّة صدر معظمها بين عامي 1947 و1950 ورمت إلى تسهيل المعاملات البريديّة، وخصوصاً الحوالات البرقيّة، وانطوت على تصديق عقود وأنظمة دوليّة بينها ما كانت قد أبرمته مؤتمرات للمواصلات السلكيّة واللاسلكيّة انعقدت في أتلانتيك سيتي وبينها ما كان قد أرساه النظام البرقيّ الدوليّ المعدّل في باريس سنة 1949 وما أقرّه المؤتمر البريديّ العالميّ الثاني عشر المنعقد في باريس أيضاً سنة 1947. وفي 11 كانون الثاني 1949، صدر قانون الطيران وهو، من وجه ما، مختلف عن التشريعين السابقين بغلبة الطابع الفنّي التنظيميّ عليه، ولكنّه مكمل لهما من وجه آخر. ويصحّ أن ندرج في هذا الباب أيضاً مرسوماً اشتراعيّاً صدر في 8 نيسان 1950 لينظّم “إعادة الرسوم الجمركيّة عن البضائع المعاد تصديرها”. فإن الغاية من إصداره كانت تشجيع حركة الترانزيت وإعادة التصدير بما لها من مكانة كانت إذ ذاك مرموقة في الاقتصاد اللبنانيّ ولبثت تتنامى بعد ذلك.
في المساق نفسه، أجاز قانون صدر في 22 نيسان 1947 للحكومة الانضمام إلى اتّفاقيّتي صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ، وهما – على ما هو معلوم – ركنان في الإدارة العامّة للاقتصاد الماليّ العالمي ومركزان لجمع خيوطه في يد الدول الغنيّة. وفي 24 أيّار 1949 (أي بعد الانفصال النقديّ عن سوريا بنحو سنة) صدر قانون النقد وتبعه، بعد ثلاثة أيّام، مرسوم يتعلّق بتغطية النقد وقد رعيا استقرار قيمة النقد اللبنانيّ مدّة طويلة بعد ذلك وردفهما أو عدّلهما تباعاً في عهدي كميل شمعون وفؤاد شهاب قانون سرّية المصارف الصادر سنة 1956 وقانون النقد والتسليف الجديد الصادر سنة 1963.
إلى هذه العناية بالوجه التجاري الماليّ من الاقتصاد الوطنيّ، نقع على غير لفتة إلى الوجه السياحي الملازم للسابق. فقد صدر في 2 حزيران 1949 قانون موضوعه “الشركات والأفراد الذين يتعاطون التسفير”. وصدر في 14 كانون الأوّل من السنة نفسها قانون ينظّم “استثمار الفنادق والملاهي والمطاعم والمقاهي والحانات”. وكانت الدولة قد جعلت لنفسها موقع رعاية في هذا القطاع إذ أنشأت، بقانون صادر في 7 أيّار 1948، “مفوّضيّة عامّة للسياحة والاصطياف والإشتاء”.
في مضمار آخر (ولكنّه اقتصاديّ أيضاً)، يدخل قانون 3 آذار 1947 الذي صدّقت بموجبه “اتّفاقيّة مرور الزيوت المعدنيّة في أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة” مع شركة تابلاين ثم قانون 29 أيلول 1950 الذي صدّق بموجبه الاتّفاق المعقود بين الحكومة اللبنانيّة وشركة مديترانيان ريفاينين (مدريكو) وهي شركة تكرير الزيوت المتفرّعة من تابلاين. وقد توقّفنا مليّاً عند مخاض هذين الاتّفاقين وما رافق إقرارهما من تجاذب وما لحق بهما من تعديل في فصل سابق.
ومن التشريعات الحيويّة التي شهدها عهد بشاره الخوري – رياض الصلح نصوص رعت تنظيم المهن الحرّة الكبرى وممارستها. من بين هذه المهن، كانت مهنة المحاماة وحدها الحاظية، من عهد بعيد، بنظام حدّد شروط مزاولتها وأرسى هيكلها النقابيّ. وفي 26 كانون الأوّل 1946 (أي فور عودة رياض الصلح إلى الحكم على رأس حكومته الثالثة)، صدر قانون “ممارسة المهن الطبّية في لبنان” وصدر في اليوم الأخير من السنة القانون القاضي بإنشاء نقابتين للأطبّاء في البلاد ثم لحق بهما في 17 تمّوز 1947، مرسوم أوجب “تخصيص دورتين في السنة لامتحان الكولوكيوم”. وفي 29 تشرين الثاني 1948، صدر قانون نظّم “ممارسة مهنة طبّ الأسنان” ثمّ ألحق به آخر، في 27 حزيران 1949، أنشأ نقابة أطبّاء الأسنان. وكان قد صدر، في 10 شباط 1948، قانون نظّم “ممارسة الطبّ البيطريّ”… وفي 22 كانون الثاني 1951 (أي في الشهر الأخير لرياض الصلح على رأس الحكومة)، صدر قانون مزاولة مهنة الهندسة وتنظيم نقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس. إلخ.، إلخ.
***
إذا كانت تقلّبات الزمن بالبلاد قد طَمَست أو دمّرت معالمَ كثيرةً من جهد التأسيس هذا، على اختلاف وجوهه، فإنّ رياض الصلح بقي منه مشروعٌ بسيط الملامح هو مشروعه السياسيّ وبقي منه أيضاً أسلوبه الرهيف وصبره الجميل ودهاؤه المعهود في السعي إلى تنفيذ هذا المشروع. في الحكم، كان الرجل محيطاً بما في البلاد من تيّارات متخالفة وبما يمليه هذا التخالف من أناةٍ ومن إعمالٍ للحنكة للمواءمة ما بين عمل البناء الوطنيّ بوجوهه المختلفة وتحصيل قدر من الوحدة الداخليّة يحمي هذا العمل إذ لا يجعل منه سبباً لقصم ظهر البلاد. كان الرجل متوفّراً على إدراك فذّ لأهمّية السياسة ولأسبقيّتها بما هي إدارة حسّية للشأن العام على كلّ نشاطٍ آخر: على المثالين الوحدويّ والاستقلاليّ بحدّ ذاتهما وعلى قتالِ الأعداء بحدّ ذاته وعلى إصلاحِ الدولة بحدّ ذاته وعلى الإعمار والعمران بحدّ ذاتهما. ففي العمل السياسيّ وحده، حين يكون محيطاً بجملة العوامل الفاعلة في وضع البلاد وبخطط مختلف اللاعبين وباستجابات مختلف القوى، يتبيّن ما يمكن أن يؤول إليه كلّ عمل إن خيراً فخيراً وإن شرّأً فشرّاً ويتبين اشتباه الخير والشرّ خصوصاً وإمكان أن يستحيل شرّاً ما يعدّ بحدّ ذاته خيراً والعكس بالعكس… يتبيّن إن كان ما يفرضه المبدأ سيبقي على سموّ المبدإ أم سيحيله إلى بليّة لمن اعتمدوه وعدّوه غاية المنى ومفتاح السعادة. كان رياض الصلح وحدويّاً في شبابه وبقي على هذا المبدأ. ولكنّه لم يتردّد في تنحيته من حيث وجده باباً إلى الفرقة وإلى دمار الأوطان. وهو كان استقلاليّاً ووَجَد في هذا المبدأ محوراً يمكن أن تتكوّن حوله وحدةٌ مرموقة للصفوف. فكان أن مضى إلى أقصى المتاح في هذا السبيل ولكنّه كان يقيس خطاه ويستطلع الممكن في كلّ مرحلة. كان الرجل شجاعاً يتقبّل التضحيات بأنواعها ولكنّه لم يكن يتعبّد لشجاعته ولا لحبّه للتضحية. كان يسأل عن الفائدة من هذا ومن تلك ويفتح أبواباً للمداورة وللتقدّم والتراجع وللصبر فلا يترك إغراءَ التقحّم الأعمى يغلبه ولا ألمعيّة خُطَبه تستحوذ على بصيرته وبصائر سامعيه.
والذي أُطلق عليه اسم “الميثاق الوطنيّ” لم يكن مبدأً مجرّداً أو عقيدة مرفوعة في معزل من السياسة ومن ضغوطها المتزاحمة. وإنّما كان هذا الميثاق ردّاً سياسيّاً بالغ الإحكام على تحدّيات سياسيّة برزت في عشايا تبلّره واستمرّت سنين طويلة بعد استيلاده وبعد اتّخاذه اسمه. استوى الميثاق ردّاً، لا على “وحدويّة” هؤلاء و”انعزاليّة” أولئك في الداخل اللبنانيّ وحسب… بل أيضاً على المطالبة الفرنسيّة (الفرنسيّة – البريطانيّة لاحقاً) بالمعاهدة وبالمركز الممتاز ثمّ على البحث الذي أخذ يصبح محموماً في نهاية الأربعينات عن صيغة للـ”دفاع عن الشرق الأوسط”. وهو استوى ردّاً، في المضمار العربيّ، على مشروع سوريا الكبرى ومشروع الهلال الخصيب ثمّ على خبط الانقلابيّين السوريّين بين مشروع وحدة سوريّة – عراقيّة ومشروع أخرى عربيّة شاملة طرحته حكومة ناظم القدسيّ في أواخر عهد رياض الصلح بالحكم. في هذه المواجهات كلّها وفي غيرها ممّا جرى مجراها، كان الميثاق يستمدّ قوّته من غلبته على مواقف تنازعت المجتمع السياسيّ اللبنانيّ ومن تزكية الوقائع التاريخيّة له وتوطيدها إيّاه ومن الضمانة التي مثلّها ساسة مسؤولون ذوو حظوة شعبيّة وصلوا إليه بعد تجارب ممتدّة تخلّلتها عثرات وبدأت معارضة له ومتعارضة في ما بينها. وكان رياض الصلح، بين هؤلاء الساسة، في صدارة الصفّ الأوّل.
وَجَد رياض الصلح في استواءِ لبنان دولة سيّدة خيرَ ما يستطيعه اللبنانيّون لأنفسهم وما يستطيعه العرب للبنانيّين ولأنفسهم أيضاً. وهو إذ ضلع في تحصيل هذه الدولة ثمّ في بنائها، تقبّل ما استلزمه ذلك من مثابرةٍ ومصابرة بل مقارعةٍ لقوىً قريبة وبعيدة فلم ينتكس إلى خيارٍ له سابق ولم يقبل عَتَباً ممّن شاؤوا له هذا الانتكاس وظلّوا يؤمّلون أن يجدوا فيه لساناً ناطقاً بإرادتهم في بلادٍ هي بلاده وقد أصبح مؤتمناً على ما شاءته لنفسها وشاءه هو لها. وهو قد غلّب المثالَ الاستقلاليّ في حالات الأقطار العربيّة التي ساير خطاها أيضاً. غلّبه لأنّه وجده الغالب بين المرتجيات الفاعلة ولم تكن غَلَبَتُه لتعني أنّه سهل التحصيل. وأمّا الوحدة فارتضى لها رياض الصلح صيغة الجامعة العربيّة منطلقاً وبداية لا لتفضي، بعد ذلك، إلى زوال الدول المستقلّة بالضرورة، بل ليصبح الاستقلالُ نفسه ضماناً لصحّة التضامن واستقامة التعاون وفاعليّته. ولأصالته في السياسة، كان رياض الصلح يكره وضع العسكر أيديهم على هذه الأخيرة وأسلوبهم الجافي فيها ومصادرتهم بالقوّة تنوّع الإرادات الساعية في مجالها. على أنّ ما شهده رياض الصلح من بدءٍ للعهود العسكريّة في قطر واحد كان عميق الألفة له سوف ينتشر، بعد موت رياض الصلح، إلى عديدٍ من الأقطار العربيّة الأخرى وسيصبح أشدّ عنفاً وصلفاً من كلّ ما شاهده رياض الصلح وما عانى بعضه. لم يُفْلح رياض الصلح في كلّ ما سعى إليه. لم يكن ذلك في الإمكان أصلاً إذ لا نهاية لهذا النوع من السعي. حتّى أنّ سَيْر التاريخ في هذا المشرق بدا لاحقاً وكأنّه انقلابٌ على سعي رياض الصلح وأقرانه وعلى أسلوبهم في السياسة. ولكنّ عبارات من قبيل الحرّية والاستقلال للشعوب والتضامن مع حفظ السيادة للدول وسياسة المختلف في المجتمعات كانت قد جرت على لسان رياض الصلح أو هي ظهرت بعده لتسمّي أفعاله ثمّ بقيت قادرةً على فرض نفسها غاياتٍ لا بديل منها ولو كنّا لا نَنِي نبتعد عنها. لا بديل عن بساطة هذه القيم، وهي خلاصةُ تاريخٍ وعصر، ولا عن التعقيد والتفرّع في سُبُل السياسة إلى إدراكها أو إلى حفظها. ذاك هو القليل الكثير الذي بقي لنا من رياض الصلح.
في البيان الوزاريّ لحكومته الثالثة (في كانون الأوّل 1946)، كَتَب رياض الصلح ما معناه أنّنا أنشأنا الدولة وبقي علينا إنشاء الوطن. وفي العقود التي تلت رحيل الرجل دأَبْنا على رفع هذا الشعار مقلوباً. ولا تَحْمِلنا الصيغةُ التي اعتمدها رياض الصلح، بالضرورة، على تغيير تلك التي اعتمدناها من بعده. فنحن قد استفدنا ما نقوله من خبرةٍ متمادية، موجعةٍ في معظم الأحيان. مع ذلك يبقى هذا الشعار الذي وَقَع عليه اختيارُ رياض الصلح جديراً بأن نتأمّله مليّاً. فربّما كانت فيه حقيقةٌ أبعدُ غَوْراً ممّا نحسب وممّا نقول.
[1] الصفحات الأخيرة من كتاب رياض الصلح في زمانه لأحمد بيضون. ويصدر الكتاب قريبا عن دار النهار للنشر في بيروت.