|
|
|
|
| بيروت – من ريتا فرج |
أحمد بيضون، المؤرخ والأكاديمي المسكون بأحلام الثورات الغابرة وهواجس الغد، تبنى مع مجايليه من اليساريين القدامى أفكاراً ثورية، وحدوية. ومنذ وصول أصداء الثورة الجزائرية الى قريته الجنوبية بنت جبيل، أدرك باكراً أن لمعركة الأفكار والميدان حديثاً آخر، فتحرى مع بلوغه الثالثة عشرة مسالك الوحدة العربية، هو الذي «تعانق» مع الناصرية من موقعه داخل «حركة القوميين العرب»، فأصابته الغبطة مع الوحدة السورية – المصرية، لكن صدمة الانفصال آلمته، ولا تزال. قليلة اطلالات بيضون عبر الصحافة، اذا لم نقل نادرة، ويعلم أن الكلام يحتاج الى تفكير عميق وعقل هادئ. وقبل أن يجيبك عن أي سؤال يفكر في صمت، علماً أن الصمت عنده في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان والعرب، أجدى من الحديث المباح. صمته هذا، لا يشي بعدم متابعته بعين المؤرخ، القلِق، بالمعنى المعرفي، لما حدث ويحدث، هو المفكر التأويلي، وليس السردي، وان أعانه السرد على التفكيك والبناء، بغية الخروج بنتائج أقل ما يُقال فيها انها الأقرب الى فلسفة التاريخ، أي التاريخ اللا حدثي، القائم على قراءة الوقائع بغية التوصل الى خلاصات تتخطى منهج الوصف. وقبل أن يدهمك بيضون بوهج أجوبته الهادئة والهادرة، تشعر بأنه شاهد على بوحه، وعلى حضوره اللافت بين العقلانيين العرب، أو المفكرين الاستراتيجيين، كما يسميهم. كثيرة ومعقدة، الأسئلة التي يمكن طرحها على صاحب نظرية «لبنان الافتراضي». وعلى قدر جغرافيا العرب وتاريخهم، يطالعك بيضون بمعانٍ متشابكة، ورغم أن افتراضه يصدم ذوي الهويات، لكنه يحمل دلالات فرضها ويفرضها الواقع الجيوسياسي للبنان وجواره، واقع بدا له حتى اللحظة في حال من التشكل، فحضارة العرب عنده بدأت، وان قالها همساً، وتحتاج الى فترة زمنية طويلة، فالآمال وحدها لا تكفي لتحطيم هذا الحاجز من الارث الاستبدادي. سيرة مختصرة، النظام السياسي اللبناني المأزوم، الحِراك الثوري العربي المباغت، المذهبية في لبنان بعد الطائفية، الجرح التاريخي، «ثورة الأرز»، أفول الحركات الاسلامية، تداعيات الهزائم، أزمة «النجومية» بعد غياب الثلاثي العربي محمد أركون ونصر حامد ابو زيد ومحمد عابد الجابري، هذه العبارات وغيرها قد توجز أبرز النقاط التي تضمنها حوار «الراي» مع الدكتور أحمد بيضون في منزله في بيروت، وفي ما يأتي وقائعه:• أنت من أبناء جيل يساري راهن على التغيير في حقبة الستينات. وفي العام 1973 قررتَ الخروج من «منظمة العمل الشيوعي» بعدما تلقيتم صدمة معرفية – سياسية خلال تجربتكم. كيف تنظر اليوم الى تلك التجربة؟ – في المرحلة التي أشرتِ اليها، كان العمل السياسي عند البعض من أبناء جيلي، وأقصد المثقفين، احتجاجاً على تفاهة ما كان يُعرض على المثقف من عمل ودور في مجتمع كنا نرى أنه يرفض القيم التي تعلّمنا احترامها. ما كان يعرض علينا هو غالباً نوع من التعليم، وفق برامج ومناهج كنا نراها أدوات لاخضاع أجيال جديدة لمنطق نظام كنا نرفضه. وكان عملنا السياسي، في جانب أساسي منه، عملاً كتابياً وبحثياً. ومن هذه الجهة كان اخراجاً للكتابة من الدائرة الفردية. فقد رحنا نتخيّل أن ما نكتبه هو انتاج جماعي، انتاج مجموعة منا على الأقل، وذلك لمجرّد أننا كنا نناقشه في ما بيننا أو نمهدّ له بالنقاش معاً. وكنا نصل في انكار أنفسنا كأفراد الى حد عدم التوقيع، أو التوقيع بأسماء مستعارة… وكان لهذا سبب آخر اضافي، هو المنع الذي كان سارياً على الموظفين، وأنا، مثلاً، كنت معلّماً في الثانويات الرسمية أي موظفاً، لجهة الكتابة والنشر. كان علينا الحصول على اذن من الرئيس المباشر لنشر أي نص. وهذا لم يكن وارداً طبعاً في عرفنا، ولا كان ممكناً، لو حاولناه، اذ لم يكن ما نكتبه من النوع الذي يروق رؤساءنا المباشرين. ما أراه مميزاً لتجربتنا، في تلك الأيام، هو أن بلادنا التي اسمها لبنان كانت موجودة في هذه التجربة. هناك جماعات سياسية كثيرة عبرت في التاريخ المعاصر لهذه البلاد من دون أن تراها. لبنان في كثير من الحالات مستقَرّ لقضية ما تتجاوزه. ويعامَل على أن غاية وجوده هي خدمة من يتطلع اليه قسم من أهله خارج حدوده ويتخذونه مستقرّاً لهويتهم. نحن كنّا نرى بلادنا ونحسّ بها، ونعتبر شعبها جديراً بجهودنا وبتضحياتنا. ومن موقعنا هذا، كنّا نتحسّس قضايا قريبة وبعيدة تخصّ غيرنا بالأولوية. كنا عرباً جداً جداً، وكنا فلسطينيين، ولكن لم يكن ذلك يمنعنا، كما كان يمنع غيرنا، من أن نكون لبنانيين بأقوى المعاني. قيمة أخرى كانت حاضرة في تلك التجربة، هي المساواة أو الرغبة فيها. وهذه القيمة هي ما منع التنظيم الذي كنا فيه من الاستقرار بما هو تنظيم. في البدء، كان يفتقد، نوعاً ما، الى الهرمية الحزبية. بعد ذلك، وجدت أشكالاً لهيئات حزبية، ولكن فكرة الانضباط بقيت، الى حدّ بعيد، خارج نظامنا المسلكي. فرغم وجود شِلل مرتبطة بأشخاص، أو ربما بسبب ذلك، لم يكن أحد يأتمر بأحد فعلاً. كانت حسّاسيات الأشخاص والشلل تجد لها نقاط ارتكاز في مسائل تنظيمية أو سياسية… وهذا لا يعني أن تلك المسائل لم تكن حقيقية. وكان يتوالد من ذلك أزمات نخرج من احداها لندخل التالية. وقد أخرجتني واحدة منها من التنظيم وأخرجت معي ما يزيد على نصف أعضائه الذين كانوا آنذاك بضع مئات. بمعنى ما، كان هذا الانشقاق من حسن حظنا، فحصوله العام 1973 مثّل حماية مسبقة لنا من الانحدار الى الحرب ومنطقها. حين بدأت الحرب، كنت قد اجتزت شوطاً في التحوّل فرداً حراً، مسؤولا وحدي عمّا أفعل وعمّا أقول. وكانت هذه هي البداية الفعلية، أو هي كانت بداية ثانية لسيرتي كمثقف منتج. الكتب التي نشرتها ضمّنتها ما كتبته ابتداء من العام 1975 وتركت جانباً ما كنت قد أنتجته سابقاً، أي في نحو عشرة أعوام بين 1965 و1975، واستغرقت معظمها تجربتي الحزبية أو شبه الحزبية. ومع أنني أنظر اليوم بشيء من الاستغراب، بل من السخرية أيضاً، الى جوانب من تلك التجربة، فانني أرى فيها من جهة أخرى مرحلة اكتسبت الكثير من معالم شخصيتي الفكرية والسلوكية ومن خبراتي العملية منها ومن تصفيتها سواء بسواء. • كنت شاهداً لأبرز التحولات السياسية بدءاً من الثورة الجزائرية مروراً بالناصرية وصولاً الى فكّ الوحدة بين مصر وسورية. كيف أثّر فيك كل من هذه التحولات؟ – الثورة الجزائرية كانت سبباً لأول نشاط منظم قمت به. فقد ربطتني حين كنت في الثالثة عشرة بحركة القوميين العرب، وكانت موضوعاً للمناقشة، هي وحرب السويس، في الاجتماعات التي بدأتُ اشارك فيها. وكانت دافعاً أيضاً الى جمع التبرعات. جمعنا مالاً للمناضلين الجزائريين. وأذكر أننا، اذ تجندنا لهذا الأمر وكان معي فيه شقيقاتي الكبريات، قدّمت نساء من بلدتي بنت جبيل في جنوب لبنان بعض ما كان في حوزتهن من مصاغ للثورة. الناصرية واكبناها أيضاً ونحن في «حركة القوميين العرب» مع أن هذا الانتماء لم يكن له معنى منتظم. كنا معجبين بجمال عبد الناصر ونحن تلامذة، ورافقنا، من خلال هذا الاعجاب، الثورة العراقية، وما شهدته من تقلّبات بالغة العنف، ورافقنا تجربة الوحدة المصرية – السورية، مقتنعين بأنها َتحوّل جسيم في التاريخ العربي المعاصر. وحين انفصمت هذه الوحدة، مثّل انفصامها صدمة عميقة وبعيدة الأثر بدأت تهزّ اقتناعنا بالناصرية وبالفكر القومي كله، فتُركز أنظارنا على المجتمعات وتشدنا بالتالي نحو الماركسية. هذا التحول الذي عاشه كثيرون في تلك الآونة قد لا يقل شأناً، في مسيرة الجيل العربي الذي أنتمي اليه، عن ذاك الذي أحدثته هزيمة 1967 بل مهّد له في الواقع. • جيلكم من اليساريين والقوميين كان يملك مشروعاً تقدمياً. لماذا أُصبتم بالنكسة اذا جاز التعبير، وأين الأجيال العربية الراهنة من شعارات الوحدة والتقدمية؟ – النكسة حصلت على الأرض. لسنا من صنعها، بل نزلت بنا. النكسة مثلت «الثورات» التي انتهت الى افلاس: الى قمع وفساد، والى فقر وعجز عن معالجة التفاوت الاجتماعي ومشكلات التنمية، والى هزائم أمام استعمار الأمس وأمام اسرائيل، وليدته بعد نكبة 1948. هذا كله أثر فينا. على صعيد آخر، ليس هناك شك في أن الحدود الضيقة لما لقيناه من استجابة لأفكارنا، ولنقدنا للأنظمة القائمة، في لبنان وخارجه، ثبطت عزائمنا وجعلتنا نتخبط في خلافات كان يمكن معالجتها لو أن وتيرة حركتنا بدت متصاعدة وحبلى بآمال فعلية. • هل ترى أن فشل تجارب اليسار في العالم العربي يجعل من الخيارات الليبرالية بديلاً؟ – لم أحتسب نفسي في يوم من الأيام بين الليبراليين. أنا ديموقراطي، ولكن حين أنظر في مشكلات المجتمع الذي أعيش فيه وفي مشكلات المحيط القريب أيضاً، أرى دوراً للدولة في ضبط الموازين الاجتماعية. لا أُقرّ للسوق ولمن يتحكمون فيها من أصحاب المال والنفوذ بالقدرة على معالجة المشكلات الاجتماعية أو السياسية القائمة. واذا كان احد المعاني الكبرى لليبرالية هذا الطلب لانزواء الدولة وتهميش دورها، فلا أحتسب نفسي في هذه الخانة. هذا مع ادراكي للتجربة المرة التي عايشناها مع دول اعتبرت نفسها «قوية» في أقطار عربية مختلفة. أدرك مشكلات هذه الأنظمة وقد أمضينا عمراً في نقدها. ولكن لا أحبذ الانتقال من هذا النقد الى أيديولوجيا السوق والعولمة المتوحشة. • الرهان على التغيير رافقكم منذ الستينات. أين أنت اليوم كمثقف من المشهد السياسي اللبناني المأزوم؟ – أشعر اليوم بالانتماء الى أفراد وجماعات، أظن أنهم كثُر في هذه البلاد، ولكن ليس لهم تعبير سياسي جامع. حين أنظر حولي، أجد كثيراً من الناس غير معجبين قطعاً بطرفيْ الانقسام الحاصل. كثير من الناس أيضاً يشعرون بأزمة النظام الطائفي، وبخطورة المدّ الطائفي في جهتي الاستقطاب، والذي يتقوّى بصوغهما للمسائل المطروحة وما تحوزانه من امكانات للتعبئة والشحن والتنظيم. يقال ان الطائفية قوية اليوم. هذا صحيح جداً، ولكنها قوية أو ضخمة أو طاغية بما هي مشكلة، وليس بما هي حلّ أو صيغة لادارة هذا المجتمع. الطائفية بما هي صيغة لسياسة المجتمع اللبناني وصلت الى نهاية شوطها، انها تحتضر، ولكن احتضارها قد يطول كثيراً، وقد يكون عنيفاً فيتسبب بخراب ودمار جديدين. ما أسجله هو أن الطائفية أصبحت مقصرة كلياً عن صوغ حلول فعلية، مستقرّة شيئاً ما، للأزمات التي تلدها واحدة بعد اخرى. • في احدى المقابلات أشرت الى انتمائك للبنان «افتراضي»، ماذا تقصد بهذا المصطلح، وهل ثمة بُعد تاريخي للبنانك المفترض؟ – لا أذكر متى استعملت هذه العبارة ولا أين، ولكنني أعتمدها، والمعنى الذي أراه لها هو أن لبنان الذي أنتمي اليه ليس موجوداً تماماً، وأن درجة وجوده تتفاوت من مرحلة الى مرحلة. هو موجود في ارادات أكثر من وجوده في وقائع… ولما كانت هناك أيضاً ارادات مضادة لهذا الوجود، ولما كانت هذه الارادات قوية، فان خروج لبنان هذا الى الوجود المحقق يبدو معوقاً في معظم المراحل. هذا ما أقصده بلبنان الافتراضي: انه حلم وارادة أكثر منه واقعاً. • قرأت أزمات لبنان بمنهج التأريخ الحديث. اذا عدنا اليوم الى الحقبة التي تلت «اتفاق الطائف»، نلاحظ حضوراً لافتاً للمشهد الاقليمي في الملف اللبناني. تاريخياً، ما الذي جعل لبنان شديد الالتصاق بالأوضاع الاقليمية، وهل يدفع ثمن الجغرافيا السياسية؟ – لبنان بلد صغير، ومجتمعه مجزأ جماعات طائفية في الدرجة الأولى. وقد نشأ بصورته المعاصرة مخالفاً رغبات قوى رئيسة في بعض هذه الجماعات. أدّى هذا ويؤدي الى أمرين: الأول ايجابي، في جانب منه على الأقلّ، هو لجم شهوة الطغيان عند السلطة العامة وأيضاً التكوين الضعيف لهذه السلطة، بما يترك مجالاً لحريات تعبر ممارستها عن غياب القانون أكثر مما هي وليدة للقوانين ومحمية بها. الأمر الثاني هو التفاعل الدائم الحصول والمتغيّر الصور بين قوى اقليمية ودولية متناقضة من جهة والطوائف اللبنانية المختلفة من جهة أخرى. الأنظمة المحيطة وما يتصل بها من قوى أبعد منها تجد في لبنان ما يسمى «ساحة» تستثمر فيها التنازع بين طوائفه، وتستثمر الحريات المتاحة فيه أيضاً للتنازع والتجاذب في ما بينها. ويصل الأمر، في بعض المراحل، الى خوض حروب بديلة أو رديفة على الأرض اللبنانية، توفر على أطرافها ما قد يلحق بهم من دمار وخراب، اذا اندلعت هذه الحروب بينهم مباشرة. هذا هو الاستخدام الاقليمي والدولي للبنان في صيغته العامة. هناك طبعاً في علاقات لبنان الاقليمية والدولية ما يخرج عن هذا المنطق. ولكن هذا لا يمنع أن الأزمات اللبنانية كانت دائماً متصلة أوثق اتصال بأطوار التكاوين الداخلية للمجتمع اللبناني وبالمنافذ التي تتيحها هذه التكاوين ويتيحها موقع لبنان في المنطقة. • الطائفية السياسية في لبنان تطرح اشكاليات ادارة التنوع والعيش المشترك، كيف يمكن الخروج من هذا المأزق، وهل الدولة المدنية تقدم جواباً عن ذلك؟ – ما يستوجب الحماية هي الحقوق المدنية للأفراد كما للجماعات. وفي لبنان، تتقدّم الطوائف على أنها المتصدرة بين الجماعات التي يتشكل منها المجتمع اللبناني، كما هو واضح. ولكن رعاية هذه الحقوق لا تعني بالضرورة أن تكون مؤسسات الدولة مكوَّنة على القاعدة الطائفية. حق الموارنة في أن يكونوا موارنة أو حق الشيعة في أن يكونوا شيعة لا يفترض أن يكون رئيس الجمهورية من هنا ورئيس مجلس النواب من هناك، أو أن يكون أي منصب منوطاً بطائفة بعينها على الاطلاق. هذه القاعدة الطائفية هي في الواقع قيد على حق المواطنين الأفراد في التشكل الحر وفي صوغ أساس مختار لانتمائهم السياسي. وهذا التقييد يصل، اذا نظرنا اليه من كثب، الى درجة المخالفة لنصوص بعينها من شرعة حقوق الانسان. وفي ما يتعدى المسألة الحقوقية هذه، ثمة واقع أصبح واضحاً، هو أن الصيغة الطائفية، كما سبق أن قلنا، أمست معطلة، عاجزة عن ادارة البلاد والمجتمع، بل تهددهما بتجدد الخراب، عبر هذه الأزمات المتوالية التي نعيش، والتي تفرض على البشر أن يعيشوا يومهم وغدهم تحت وطأة هذا التهديد. • تركز الدراسات السياسية والاجتماعية غالباً على معضلة الطائفية السياسية في لبنان. لماذا يتم اقصاء الصراع الطبقي عن أزمات لبنان؟ – هذا التركيز ليس اختياراً ممن يمارسونه. انه وصف للانقسام السائد أو المتصدر في البلاد وتسمية له باسمه. المنطق الطبقي لا يفسر هذا الانقسام. الطبقات غير موجودة بما هي تشكيلات جامعة بل كل منها مجزأ طائفياً. أي دور يمكن أن نفترضه لطبقة عاملة مثلاً أو لطبقة وسطى نطلق على كل منهما اسماً موحداً، فيما كل منهما مجزأ الى أجنحة طائفية متخاصمة، مستعدة للتقاتل أحياناً ولا يجمع بينها وعيٌ مشترك. وحتى في كل من الطوائف، يبدو التناقض الطبقي ملجوماً بالمواجهة مع قوى لطوائف أخرى. وهذه مواجهة تتصل بها، غالباً، مصالح جامعة لصفوف الطائفة، على اختلاف المواقع الطبقية. المسألة هنا ليست مسألة وعي زائف كما قد يُقال، فالانتماء الطائفي تحميه مصالح ضخمة لمن يعتمدونه أساساً لممارستهم السياسية والاجتماعية. والطائفية ليست مجرد عنوان أيديولوجي، انها هيكل معقد من المصالح الاقتصادية والسياسية والبنى الرمزية. لذا لا يمكن القول ان ثمة طبقة عاملة لبنانية، مثلاً، مجزأة عبثاً أو بخلاف مصالحها. انها مجزأة لدواعٍ واضحة جداً وافتراض وحدتها هو ما يحتاج الى تفسير. بعد هذا، تجب الاشارة الى أن حال المنطق الطبقي عندنا لم تكن دائماً على هذه الدرجة من السوء. يكفي النظر مثلاً الى ما كانت عليه حال المنظّمات النقابية في الستينات وما آلت إليه اليوم. هذه موازين تعلو وتهبط. والميزان الطائفي نفسه ليس غير واحد منها. ولا مسوّغا لنفترض له خلوداً سياسياً. • هل الطبقة الوسطى كمعطى أساسي لأي تحول ايجابي فقدت دورها في لبنان، ولماذا تتبنى فئاتها الايديولوجية الطائفية؟ – قوة الطبقة الوسطى في المجتمعات الرأسمالية تفترض أنها في ذاتها عامل استقرار، وتعتبر هذه الطبقة محلاً لانتاج الأفكار والقيم السائدة وأساليب الحياة وقواعد ادارة المجتمع. هذا كله كانت له بوادر قوية في لبنان قبل الحرب الأهلية، وكان ضمانه أن المؤسسات السياسية لم تكن تُدخل في برامجها مضامين دينية، وأن طائفية الدولة نفسها، باستثناء مجال الأحوال الشخصية، كانت طائفية «سياسية» ولم تكن دينية. فكان هذا يفتح أمام الجماعات العصبية أفقاً مشتركاً، مبدئياً على الأقل. منذ الحرب، بدأت الأمور تختلف. اشتد الاستقطاب والتوتر ودخلت القيم الدينية في التعبئة السياسية. مع ذلك لم يصل الأمر الى حدّ مطالبة الدولة بأنظمة عامة ذات مضامين دينية. اليوم، ازداد حضور القيم الدينية في مسلك التنظيمات السياسية، وأسس تنظيمها، ونمط التعبئة المعتمد لديها، ما يُنذر بفصل نفسي وثقافي أكثر حدة من ذي قبل بين المناطق أو بين الجماعات، ما يجعل الدور الموحد للطبقة الوسطى، أي الوحدة «الثقافية» للمجتمع، أمراً آخذاً في التراجع ويكاد، من بعض الوجوه، أن يصبح نظرياً. • ما تفسيرك للتوريث السياسي في النظام الجمهوري اللبناني؟ – التوريث في النظام اللبناني هو من مداخل القيم والتقاليد الأهلية الى النظام السياسي. التوريث توريث لقيادة جماعة: لزعامة عائلة أو منطقة أو قسم من مدينة، ويصبح تالياً توريثاً لمنصب محتمل في النظام السياسي، اذ يجعل المستفيد منه مرشحاً، بحسب طائفته، لوزارة ما، لرئاسة ما، أو للنيابة. اذاً تبدو الجمهورية هيكلاً حديثاً باسماء مؤسساتها وبالأصول المبدئية لعملها. ولكن هذه المؤسسات مسكونة في الواقع بأشباح الجماعات الأهلية، وهذه أشباح فاعلة وكثيرة الجلبة. والتوريث سبيل لدخول هذه الاشباح الى تلك المؤسسات. • الحال المذهبية في لبنان تتصاعد في المرحلة الأخيرة بعدما اتخذ التنازع وجهاً طائفياً في السابق. هل المعضلة تكمن في عدم توافر ثقافة وطنية تجمع كل اللبنانيين؟ – لا يمكن تفسير هذا الأمر بالثقافة وحدها. الانتقال مثلاً من غلبة التنازع الاسلامي – المسيحي الى غلبة التنازع السُنّي – الشيعي، هو أثر واضح من آثار الدخول الايراني الى الحياة اللبنانية. وكان لبنان قد عرف أدواراً أقدم عهداً للدول السنية في المنطقة، وتمثلها اليوم السعودية على وجه الخصوص. لا شأن فعلياً للثقافة في هذا الأمر. ثمة أجهزة دعوية ضخمة، وتنازع على مواقع السلطة، ووراء ذلك أدوار اقليمية تتواجه. نحن نعاني هذا قبل أن نعاني خللاً في الثقافة. الخلل موجود في الثقافة طبعاً كما هي الحال دائماً، وقد أشرت الى ذلك قبل قليل. ولكن كان يمكن اصلاحه بلا عسر، على ما أظن، لولا أن هذه التجهيزات الضخمة ضامنة لبقائه. • المجتمع اللبناني يمر بحال من العنف نلحظه في الشارع في شكل أوضح. ما تفسيرك لظاهرة العنف المجتمعي، وهل ثمة علاقة بينها وبين الأزمات السياسية؟ – العلاقة موجودة بالتأكيد. حين يشعر الناس بأن الحكومة في أزمة يتوقف كثيرون فوراً عن وضع حزام الأمان، مثلاً، ثم عن احترام قانون السير عموماً. وحدسهم لا يكذب في هذا الأمر، لأن الشرطة أيضاً تتوقف عن ملاحقة المخالفين حالما تظهر بوادر أزمة في الوضع الحكومي. الناس يشعرون بعدم الأمان من جهة، وبضعف الضوابط العامة من جهة أخرى، وهذان السببان يتكاملان لتوليد ما تسمونه العنف المجتمعي. • تشهد بعض الدول العربية في الوقت الراهن حِراكاً سياسياً ضد الأنظمة التي نشأت تقريباً منذ حقبة الاستقلالات. هل يؤشر هذا المشهد الى تحولات جذرية مرتقبة؟ – ما يحصل في هذه الأيام ضخم وعظيم الأهمية، وهو يشير الى افلاس قد يصح أن ننعته بـ «الحضاري» للأنظمة السياسية العربية. وهذا افلاس لاتزال نتائجه تتراكم من عهد طويل في كل الأقطار العربية تقريباً. الاضطراب ينشأ هنا قبل أن ينشأ هناك، لأسباب مختلفة، ولكن الحال من بعضه وفقاً للعبارة المألوفة. ما يجري يحمل آمالاً عظيمة تمثلها التضحيات التي تقدم، والاتساع الذي تشهده حركات الاحتجاج المطالبة بالتغيير، وكذلك الصيغ الناضجة التي تصاغ بها المطالب والأهداف. ولكن الآمال في ذاتها لا تكفي ضماناً لانفتاح الآفاق أمامها، ولتمكينها من التجسد في وقائع جديدة. يحتاج ذلك الى صيغ خلاّقة في تنظيم الصفوف وفي قيادتها، فضلاً عن صوغ الأهداف العامة والمرحلية. ومع الحاجة الى الواقعية، يتعيّن الحؤول دون استيلاء القوى الحزبية الصلبة، الجانحة الى التخاذل، على مقاليد الحركة بحكم ما بيدها من وسائل ومن خبرات. هذا مع العلم بأنه لا يفترض الدخول في مسلسل استبعاد يضيّق قاعدة الحركة ويطعن في ديموقراطيتها. سيحتاج كل عهد جديد أيضاً الى امكانات مادية مهولة تزيد من أحجامها ان الديناصورات الحاكمة تخلف وراءها مشكلات خرافية الأحجام وبلداناً مُستنزفة. • هل شكلت «ثورة 14 مارس» في لبنان نموذجاً لاسقاط الأنظمة الأمنية، وما الذي حققته هذه الثورة المليونية من انجازات؟ – الحركات الاجتماعية يتأثر بعضها بالبعض الاخر، وتبدو متشابهة من بعيد، ولكن النظرة القريبة تزيد الفوارق بينها ظهوراً، وتبيّن أن الحركة تتبع، على نحو ما، خريطة المجتمع الذي تنشأ منه. حركة 14 مارس 2005 في لبنان أعطت انطباعاً استمر مدة من الزمن، بتجاوز معين لدواعي الانقسام العمودي في المجتمع اللبناني، وذلك في اتجاه التوحد حول الأهداف التي طُرحت، وكان أهمها انهاء الوصاية السورية على البلاد، وكشف الحقيقة في ما يتصل باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. هذا الانطباع بحصول نوع من التغيير في أساس التعبير السياسي وصيغة الالتقاء عليه لم يلبث أن أخذ يتبدد، وقد تبدد اليوم تماماً بل انقلب الى عكسه. الخطوط الطائفية للخريطة بارزة اليوم بقوة لا مثيل لها على الضفتين. أما أن الجماعات لم تتجاوز زعاماتها وقواعد تشكّلها السياسي فعلاً فهذا أمر ظهر أيضاً في الانتخابات وفي غيرها من المعارك السياسية. بدا في وقت ما أن ثمة شيئاً اسمه «14 مارس» أو «ثورة الأرز»، وبدا هذا الشيء وهّاجاً الى حد نسي معه من تحدث باسمه أسماء قادته وحمولة كل منهم ونسي أيضاً وجود شيء آخر، مقارب لـ «14 مارس» في الحجم ومقابل له في الغاية هو «8 مارس». اليوم لا يزال قائماً امكان التقويم غير المتساوي ظرفيا أو مرحلياً للغايات والأهداف بين الطرفين. ولكن يبدو جلياً أن أساس الاستقطاب والاعتصاب هو نفسه في الحالين. • لماذا تحتل الحركات الاسلامية اليوم جبهة المعارضة للأنظمة العربية، وهل هي قادرة على التأسيس لمشروع سياسي بصرف النظر عن أدبياتها؟ – لذلك أسبابه المعروفة. هناك أوّلاً ما لحق من هزائم بالحركة القومية وبالأنظمة التي نشأت منها، وما شهدته هذه الأنظمة فوق الهزائم من تردٍ وعجز عن قيادة النمو ومعالجة مشاكله الاجتماعية، وقد عرّجنا على ذلك. وهناك ظهور النموذج الايراني الذي استدرج على نحو ما سلوكاً مقابلاً في المجتمعات السنيّة. الحركات الاسلامية موجودة من زمن طويل. ولكنها كانت، في المجتمعات العربية الكبيرة، مكوّنات محدودة الفاعلية والمكانة، تملأ جانباً من المشهد الذي كانت تتصدره الحركات القومية التي تسلمت السلطة في بعض من أهمّ الدول العربية. اليوم، علينا أن نلاحظ أن الحركات الاسلامية، رغم كونها تتصدر المشهد المنظم في معارضة الأنظمة القائمة، تعيش حالاً من التراجع في الواقع. ولئن كنا لانزال نبحث عن أسماء لما يتجاوزها اليوم من أشكال تنظيم وتحرك جديدين، فانه يكفي النظر الى الحالين التونسية والمصرية لنرى أن جماعة «النهضة» الاسلامية في تونس، وجماعة «الاخوان المسلمين» في مصر، ليستا كل شيء ولا أهمّ شيء في هاتين الحالين. وهذه مفاجأة سارّة اذا تذكّرنا نوع الهواجس التي كانت تراود كلّ متأمل في آفاق التغيير قبل أشهر أو أسابيع. الحركتان المذكورتان لم تكونا من أطلق التحركات الشعبية أصلاً، وهو ما لا يمنع أن التنظيم بوسائله وموارده يمكن أن يعزز موقعهما في نهاية المطاف. فهما تواجهان قوى مجتمعية متنوعة، شبابية خصوصاً، ليس بيدها، حتى الآن، سوى أشكال تنظيم عرضية، غير مستقرة، ووسائل وموارد محدودة. هذا أمر يجب الانتباه اليه، ويستدعي يقظة ومثابرة وحسن تصرّف من القوى الجديدة. ولكنه لا يمنع القول ان المدّ الاسلامي آخذ في التراجع ببقية قواه بما فيها قوته الايرانية العظمى التي أظهرت حوادث العام 2009 كم هي مأزومة ومختلة الأركان. التراجع هذا لا يمكن أن يكون بلا صلة بالقطيعة الفجّة بين رؤى هذه القوى لمستقبل مجتمعاتها وخريطة المشكلات الحسية لتلك المجتمعات نفسها. • في العام الماضي رحل عدد من المثقفين «النهضويين» أو «التنويريين» من بينهم نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري. في رأيك هل ستشهد الحياة الثقافية في العالم العربي فراغاً مرحلياً؟ – من ذكرتِهم لم يكونوا من متابعي الراهن. هؤلاء مثقفون «استراتيجيون»، كانوا يطرحون مسائل اخترقت تاريخنا الحديث كله. ولكن كلاً منهم كانت له، بطبيعة الحال، صيغته الخاصة به لما يعالجه من مسائل. رحيلهم أمر تفرضه سُنّة الحياة والموت ولا أعتقد أنه يمثل أزمة ما. هناك شيء اسمه أزمة «النجومية» أو أزمة الأسماء الكبيرة في جوانب الثقافة المختلفة، في الآداب والفنون والعلوم… هؤلاء كانوا نجوماً، الى هذا الحد أو ذاك، في بعض مجالات الفكر النقدي. وقد لا يخلفهم نجوم آخرون لأن النجومية كلها الى تراجع. ولكن لا أرى في الأمر مشكلة باستثناء أن النجم يساهم في توحيد النظرة الى مسألة من المسائل، بسبب انتشار كلامه من جهة الى جهة في أجزاء من العالم يُعرف اسمه فيها. سيكون على عمل التوحيد أن يجد سبلاً غير النجومية، وهو سيجدها على الأرجح. • أسئلة التراث مازالت محور اهتمام بعض الكتّاب العرب. لماذا تحتل اشكاليات التراث هذا الحيز في الأدبيات العربية؟ – هذا من عواقب غلبة الثقافة الدينية، ولم تكن الثقافة القومية بريئة منه أيضاً، فاذا شئنا أن نجد تشخيصاً جامعاً لأسباب هذه الغلبة، فالأرجح أن طغيان مسألة الهوية واستواءها محوراً للفكر والشعور في مجتمعاتنا هما السبب. أما لماذا نبقى مهجوسين بالهوية الى هذا الحد، فهذه مسألة يطول بحثها، وخلاصتها أن هذا هو مكمن جرحنا التاريخي. • بعد «الصراع على تاريخ لبنان» و«الجمهورية المتقطعة» و«بنت جبيل ميشيغان» و«مغامرات المغايرة» ما الكتاب الذي تعدّ له؟ – آمل أن ارسل هذا الأسبوع الى المطبعة كتابي «رياض الصلح في زمانه» وهو سيرة سياسية لهذه الشخصية ويجب ان يصدر في مارس. بعد ذلك، أنوي اصدار صيغة معدّلة ومزيدة لكتاب أصدرته باللغة الفرنسية قبل عامين، يتناول أزمة النظام اللبناني المتمادية في أعوامها الأخيرة. ثمة أيضاً مقالات في الثقافة واللغة أنوي جمعها في كتاب آخر. فوق ذلك، قد أعود الى السينما هذا العام: كنت قد وضعت سيناريو، قبل ثلاثين عاماً، لفيلم سينمائي أخرجه برهان علوية اسمه «بيروت اللقاء». بين يديّ الآن عرض لمعاودة الكرّة أدرسه. |
|
تم حفظ المقال من موقع مجلة نزوى – تصدر عن مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان
أحـمـد بــيـضـون، جـورج دورلــيـان، جـو بـاحـوط، مـلـحـم شــاوول، أنـيـسـة الامـيـن وخـالـد زيـادة:
هـذه هـي أحـوال بـيـروت الآداب والـفـنـون والأفـكـار
مـرجـعـيـات غـائـبـة وثـقـافـات مـتـجـاورة
أدار الـنـدوة الـيـاس خـوري
نرحب بكم في “الملحق” لنثير معاً في هذه الندوة الاوضاع الثقافية في لبنان. واقترح ان نقسم ندوتنا هذه محاور نصف في الاولى منها الحال الثقافية اللبنانية في مستوياتها وحقولها المختلفة: هل تشهد حال انتظار، ام تردداً وحيرة، ام مواتاً، وهل نفتقر الى نقد للمرحلة السابقة، وهل لا تزال ثقافتنا اليوم تحمل في داخلها مشكلات الحرب التي لم تجد حلولاً بعد؟ وفي المحاور الآتية نقترح ان نتطرق الى علاقة اوضاعنا الثقافية الراهنة بخراب بيروت واعمارها، وعلاقة العاصمة اللبنانية بالثقافة في العالم العربي، وبالثقافة في العالم: هل لا تزال بيروت قادرة على الاستقطاب الثقافي والانتاج الثقافي، والحركة الفنية والادبية في البلد هل وصلت اليوم الى طريق مسدود أم أنها تفتح آفاقا جديدة؟ وفي هذا السياق نقترح ان نستعرض احوال بعض المؤسسات المنتجة للثقافة، كالجامعة والصحافة ومراكز الابحاث والمنتديات والحركات الفنية.
وأخيراً يجدر بنا ان نقدّم اقتراحات عملية لتطوير الحركة الثقافية، ولترميم الواقع الثقافي الراهن في لبنان.
جورج دورليان: لوصف الحال الثقافية في لبنان اليوم لا بد من القيام بجردة عامة تبين المفاهيم الاساسية التي تمحورت حولها الحياة الثقافية في القرن الماضي. فالحياة الثقافية عرفت مرحلتين: السبعينات وكانت للبحث عن الاشكال والهوية والاصول، والتعابير عن ذلك واضحة في الشعر والفنون التي غلب عليها استلهام الاشكال التعبيرية الجديدة من الثقافة الغربية. لذا شاعت ثنائية الحداثة والاصالة، التراث والتجديد. وهذه الثنائية ترافقت أيضاً على الصعيد السياسي او الايديولوجي مع ايديولوجيا العروبة. وفي نهاية السبعينات انتهى البحث عن الاشكال، كأن الامور قد استقرت فلم يعد هناك كلام عن حداثة وتراث، معاصرة واصالة، فصار هناك نوع من الآداب والفنون التي امتلكت ادوات تعبيرها. الا ان المسألة الوحيدة التي بقيت هي البحث عن الهوية. وهذا ما يبرز في الانتاج الروائي الذي سيطر فيه البحث عن هوية وعن اصول، حيث الشخصيات الروائية تبحث عن اسمائها واصولها وجذورها: عن الام والاب والاماكن الاولى… الخ.
وقد يكون هذا البحث من نتائج الحرب التي حطمت الهوية وهشمتها. وليس من الضروري ان تتحدث الرواية عن الحرب مباشرة، بل هي تحاول تمثل نتائجها ومقاربتها. في هذا السياق يمكن الحديث عن الفئات الاجتماعية المنتجة للثقافة والفنون في زمن ما قبل الحرب. وهنا نلاحظ ان تيار الحداثة والتجديد الذي كان يدفع في اتجاه الاقتراب من الغرب وتبني اشكاليته الثقافية، وتيار الاصالة والتراث، كانا واضحين في حضورهما في الحياة الثقافية العامة. لكننا في المقابل نادراً ما نتحدث عن الثقافة غير الكتابية. اي الثقافة الفنية التعبيرية. وهنا اسمح لنفسي بالحديث عن فئة لم تساهم قط في الثقافة المكتوبة، وهي فئة الارمن. فليس هناك من شاعر ولا من روائي ولا من ناقد ارمني، لكن هنالك رسامون كبار وموسيقيون ومصورون وسينمائيون من الارمن. وهذه الفئة من الفنانين وجدت طريقها الى الدخول في الثقافة اللبنانية. واذا كانت الحركة الشعرية الحديثة قد صرفت جهداً كبيراً في البحث عن الاشكال، وكان رواد هذه الحركة في لبنان من المسيحيين، فان هذا البحث قد انتهى الى اخذ الجميع بالاشكال الشعرية الحديثة، ومنهم ما عرف بظاهرة الشعر الجنوبي. وربما يعيش الشعر اليوم حالاً من الصمت، لكنه عاد اخيراً الى البروز في اشكال كتابية جديدة. والارجح ان النتاج الفني اليوم يعيش مرحلة من البحث عن الهوية والاصول: عن الام والاب والمكان الاول. وهذا ما يبرز طاغياً في الكتابة الروائية. فجميع الروايات تدور حول هذه المسائل. وفي الانتاج الثقافي في العلوم الانسانية (الاجتماعيات، التاريخ، الحياة السياسية) هنالك أيضاً ميل الى البحث عن الهوية الجماعية والفردية. وفي هذا المجال يندرج البحث عن اصول التركيبة اللبنانية وخصوصيتها.
المشهد المجزّأ أحمد بيضون: إن الالمام عبر إطلالة واحدة، جامعة ومانعة، بما يُسمّى الحال الثقافية في لبنان، في عموم العبارة، أمر غير مستساغ لديّ. أنا أميل الى التجزئة لأن المشهد الثقافي نفسه مجزّأ. وربما هناك شيء من الافتعال ضروري للكلام على حال ثقافية واحدة. فعلى صعيد الانواع الادبية بالمقارنة مع مرحلة ما قبل الحرب بصفتها مرحلة مرجعية للقياس والمقارنة، نلاحظ ان هناك نضجاً استثنائياً لبعض الانواع الادبية. فانا ارى مثلاً ان الجيل الحالي من الروائيين اللبنانيين اكثر الماماً بتقنيات الرواية، واكثر عمقاً في التجربة من الجيل الذي انتج روايات قبل الحرب. وأرى ان الشعر ينقسم اصواتاً استمرت من المرحلة السابقة، واصواتاً مستجدة. وهناك كلام كثير عن نهاية الشعر وازمة الشعر وعن صعوبة المضي على السكك التي شقها الانتاج الشعري في ما مضى. هذا الكلام يصعب تعميمه، فأنا اعتقد بوجود اصوات مستمرة من شعراء الجيل الخمسيني، والتي ما زالت تحتفظ بألقها، وليست اقل رونقاً وابداعاً من الجيل الذي سبقها، اي الشعراء الذين بلغوا السبعين او الذين رحلوا من رواد الحداثة في الشعر العربي. هناك الآن شعراء يقارنون بهؤلاء الرواد، حتى لو كان عمر تجربتهم لم يمنحهم وهج السمعة التي حظي بها الآخرون. لكن من يجيد القراءة بدون ان يضع في الميزان مدة التجربة او عدد الدواوين، سيجد ان هناك شعراء كباراً ممن هم في الاربعين او اقل او اكثر بقليل. إذا عدت الى الخط الذي رسمه جورج دورليان بين ثقافة ابداعية وانتاج آخر يمكن تسميته انتاج معارف (علم اجتماع، علوم سياسية، تاريخ… الخ)، هناك أيضاً، منذ ثلاثين سنة حتى الآن، مزيد من التمكن ونوعية رفيعة من الانتاج تقارن بالكبار من السابقين من دون صعوبة كبيرة. هذا برغم ان الاسماء الكبيرة على هذا الصعيد وطوال القرن العشرين او في النصف الثاني منه، كتبت معظم نتاجها باللغة الفرنسية. إذاً، هنالك اعمال كثيرة راهنة تصمد بالمقارنة مع انتاج ما قبل الحرب. لا بل ان الناقد او الباحث يميل الى ان يسجل لها امتيازاً على اعمال ما قبل الحرب. ولكن اذا تركنا مسألة الانواع جانباً لنلحظ ما هي الفوارق في النفس الثقافي، فسنلاحظ ان هناك حيرة كبيرة في ما يتعلق بنظام القيم الذي يحكم الانتاج الادبي او الابداع اليوم في صورة عامة، حتى في مجال الفنون التشكيلية او الموسيقى. والملاحظ في هذا المجال غياب الخطوط التي يمكن ترسمها لتعيين هوية للمبدعين، مجموعات وافراداً، ويمكن انطلاقاً منها التعرف على مدارس او اتجاهات ابداعية. فالمدارس الادبية غائبة، على صعيد الافراد كما على صعيد المجموعات. وفي المقابل هناك حيرة كبرى في ما يتعلق بالهوية الابداعية، فكرية كانت ام فنية. وهي حيرة تصيب المبدعين المتفلتين من الثقافات الجزئية، اي من ثقافات الطوائف والمناطق. أشير الى هذا الامر للقول ان قطاعات واسعة من المشهد الثقافي الراهن مستغرقة في الانتاج الطائفي وانتاج المنتمين الى اجزاء من البلد، سواء كانت قرى او مدناً او مناطق او طوائف. وهؤلاء تستغرقهم الهويات الجزئية، واطلالتهم على البلد وعلى المجتمع تبدو ملتبسة. اما من يتكلم عن المشهد الثقافي او عن الحال الثقافية في عموم العبارة، فيميل ميلاً كبيراً الى اهمال هذه الثقافات التي تزداد اتساعاً ونشاطاً وغزارة، بل تسرباً الى المنابر والمواقع التي لم تكن مطواعة لاحتضانها سابقاً. اما حين يتعدى النتاج الثقافي الراهن نطاق الطوائف والمناطق، فيمسي خالياً من الدعاوى تقريباً. واذا نظرنا الى الشعر مثلاً، وهو في تراثه العربي واللبناني كان اكثر الانواع الادبية حملاً للدعاوى، فاننا سنجده اليوم من دون دعوى. هذا حين نغادر دائرة النتاج الشعري الطائفي. والامر الذي ينبطق على الشعر، ينطبق أيضاً على الرواية وبقية الانواع الادبية الاخرى. وهذا يعني ان الدعوات التي تحملها الانواع الادبية تبقى محصورة في مناطقها وقراها وطوائفها ولا تنفذ الى الصعيد الوطني العام. انها دعوات ما دون الوطن: فمن يكتب عن قرية تراه يدافع عن القرية. ومن يكتب عن مدينة يفعل الامر نفسه، سواء كانت هذه المدينة بيروت او طرابلس، وسواء كان الكاتب الروائي الياس خوري او خالد زيادة. اما من يكتب خارج هذه الاطر المكانية، فيبدو انه يدافع عن البلد عموماً، ولو في حالات استثنائية. وفي هذه الحالات الاستثنائية تجد الكتّاب يميلون الى الفردية والدفاع عن فرديتهم، والى التعبير عن تجاربهم الخاصة وعزلاتهم وأجسامهم، وعن امور واشياء تخصهم في وسط معاد� على وجه الاجمال. وقارئ مثل هؤلاء الكتّاب يخلص الى ان كتاباتهم تعبر عن وجودهم في مجتمع معاد�، في بلد� معاد�. هناك خصوصية أخرى لهذه المرحلة، هي تيه المرجعيات الاجنبية في الثقافة. ففي مراحل سابقة كنا نستطيع ان ننسب روائياً او شاعراً او مسرحياً الى مدرسة أجنبية. لكن اليوم اختفت هذه الظاهرة، نتيجة لتطورات متعددة الاوجه، منها الترجمة وتوسع الاعلام وتداخل التأثيرات المختلفة. لذا غابت المرجعيات ذات الهويات الوطنية الواحدة والمحددة لهذا الكاتب او ذاك، ولهذا المسرحي او ذاك. ففي الامكان اليوم استلهام كتاب من اميركا اللاتينية ومن الدانمارك ومن افريقيا في آن واحد. لقد زالت الحدود السابقة بين عوالم ثقافية شبه منفصلة. ثم إن الحدود بين حوامل الثقافة ضاعت، أو هي في طريقها الى الضياع. فلم يعد مؤكداً ان الكتاب هو الحامل الرئيسي للثقافة. ومن النافل التذكير اليوم بالتلفزيون ونفوذه. وللصحافة أيضاً جاذبيتها الكبرى التي تستغرق كتّاب اليوم. فهي تستهلك قدراً كبيراً من اوقاتهم وطاقاتهم، وتسمهم بميسمها. الشعراء والروائيون امسوا اليوم أكثر استغراقاً في العمل الصحافي والكتابة الصحافية. وهكذا تصير هوية هؤلاء الاخرى، اي صفتهم كشعراء او كروائيين، ثانوية. هناك أيضاً التسرب المتبادل بين الوطن والمهجر. وهو تسرب سهلته عمليات التواصل على نحو يجعل كاتباً لبنانياً مقيماً في باريس، او رسامة لبنانية مقيمة في كاليفورنيا، غير بعيدين عنا. وهذا قرب تتيحه المتابعة التي تترك لدينا شعوراً بحضور كتّاب من امثال هدى بركات وأمين معلوف. وهذا ما لم يكن يحظى به الادباء اللبنانيون المهاجرون في السابق، اي في الثلاثينات والاربعينات من القرن المنصرم. أما الشهرة التي اصابها هؤلاء فأتت لاحقاً، اي بعدما اعتبرت اعمالهم كلاسيكية في الثقافة اللبنانية، وراجت اعمالهم في البرامج التعليمية.
الفردية المتعاظمة جو باحوط: ربما ليس لديّ الكثير لأقوله، خصوصاً ان الكثير قد قيل حول الموضوع المطروح. سأنطلق من كلمة قالها “الملحق” في وصفه للحياة الثقافية، متمنياً لو نتفادى استخدام عبارة موت الثقافة الرائجة اليوم على نطاق واسع. أعلم ان الترحم على الثقافة بات موضة منتشرة في الحياة العامة. وأجدني أنبذ استخدام هذه العبارة، انطلاقاً من ان الثقافة لا تموت، لأنها دائماً في حال بحث عن نفسها، ولو كانت في حال من التردي او الاحتضار، ملازمين للحياة في وجه عام. ومهما كان الوصف الذي نعتمده للثقافة اللبنانية ما بعد الحرب، من الصعب القول إنها وصلت الى مرحلة الموت، وهي في هذا شديدة الشبه بحال البلد العامة. فالمشهد الثقافي اليوم يحوي ثقافات متجاورة وغير متشابهة. هنالك دوائر ثقافية سمتها الخلق، وأخرى سمتها العهر او الاحتضار او السخرية، كما ان بعض الدوائر تعيش بحثاً عن الاصول والاشكال… الخ. وهذه الدوائر كلها متجاورة ومتجاذبة، على نحو يستحيل معه الكلام على حال ثقافية واحدة ومتجانسة، على ما سبق أحمد بيضون الى القول. والثقافة اللبنانية حية جداً، بما هي تعبير عن احوال البلد، ولو كانت حال لبنان غير مرضية او غير ايجابية. الوصف الثاني الذي يحضرني هو ان الثقافة في لبنان اليوم تشهد نزعة او ميلاً او جنوحاً لدى معظم المثقفين او منتجي الثقافة الى فردية متعاظمة. فثقافة التسعينات سمتها تعاظم الفردية، اي البحث عن وجود فرد في العالم الثقافي وفي المدينة. ومن هذه الناحية لا أعتقد ان المثقفين يعيشون اليوم كأفراد في بلد معاد، بقدر ما يشعرون انهم يعيشون كأفراد منتجين للثقافة في بلد بات مكاناً للعيش والاستقرار، وليس مكاناً للانتماء ولانتاج الهويات الشاملة. واعتقد ان ما يميز الثقافة الحديثة، أي ثقافة التسعينات عن ثقافة السبعينات، هو هذه الفردية التي تجعل المثقفين في حال بحث عن الخروج من انماط الثقافة الملتزمة. أي الثقافة التي تبحث عن التجذر والرسوخ في الثقافة السياسية وتكون وجهاً من وجوهها وتعبيراتها. وما يحدث في لبنان اليوم هو بحث عن ثقافة قائمة بنفسها، لا تستغرقها الهويات القومية او الطبقية وغيرهما من الايديولوجيات. وهذا ما يحدث على صعيد العالم كله، وليس في لبنان وحده. والنزوع المتعاظم الى الفردية في الثقافة اللبنانية يجعلها مواكبة لثقافة العولمة. وقد يتداخل في هذا السياق تفكك المجتمع اللبناني ما بعد الحرب مع الميل الى التيارات الثقافية الجديدة في العالم، وفي اساسها البحث عن الفردية. وهنا اوافق احمد بيضون في ان السمة الغالبة للثقافة اليوم هي التبادل في الاتجاهين: تصدير النتاجات الثقافية المحلية، وتشرب الثقافات المحلية بالثقافات الوافدة من الخارج. وهنا يصدمني ايجابياً ان التعبيرات الثقافية الجديدة، (أي التقنيات الجديدة المستعملة ثقافياً، من سينما وفيديو وانترنت، في ما تعنيه هذه الاخيرة من تبادل معلومات لانتاج الثقافات او الفن الجديد) يروج استخدامها بين اللبنانيين. وهذا ينم على فهم كبير لديناميات العولمة الثقافية. لذا اعتقد ان هناك جيلاً جديداً ينجز اليوم ثورة ثقافية جديدة طابعها العطش الى العولمة او الى استلهام التقنيات الجديدة. ثورة تتسم ايضاً بالنزوع الى الفردية .
غياب الحريات ملحم شاوول: أحاول ان اطرح سؤالاً: ما سبب الفردية في الثقافة التي تكلم عنها جو باحوط؟ إن ظاهرة النزوع الى الفردية في المجتمع وفي النتاجات الثقافية واضحة، لكني اود ان اطرح سؤالاً آخر: أي فردية هي هذه التي نشهد نزوعاً اليها؟ اعتقد ان مقاربة موضوع الثقافة تبقى ناقصة إذا لم نبحث موضوع الحريات. اي الاجواء التي تنتج فيها الثقافة. وتالياً ارى ان موضوع الثقافة مرتبط بمسألة الاجواء او الاطر القانونية والسياسية والحقوقية التي تنتج ضمنها الثقافة. فمن ينتج ثقافة وهو ممتلىء بشعور داخلي انه حرّ طليق ولا قيد على ما يعبّر عنه، يختلف تماماً عن الذي ينتج ثقافة ولديه شعور بأنه سوف يعاقب عما يعبّر عنه ويقوله. وفي هذا الاطار أرى تردي أوضاعنا الثقافية اليوم مصدره تردي الحريات العامة وهذا ما يفسّر النزوع الى الفردية. وعندما تتردى الحريات، ينزع الخلاّقون والعاملون في الحقول الثقافية الى المحافظة على النفس. وتجذّر هذه النزعة يحوّل الثقافة ثقافة للولاء والتسليم بالامر الواقع، وثقافة للواقعية، واقعية التواطؤ والاختباء. وهذا ينتج منه وجود افراد لا علاقات اجتماعية او علاقات تضامنية في ما بينهم، فيتحول كل فرد منتجاً مستغلاً للثقافة. وهذا في حال كان الفرد يمارس عملاً خلاّقاً. فالاوضاع المتردية للحريات ينجم عنها غياب للممانعة الخلاقة او للنقد الخلاّق الذي هو شرط التطور الثقافي. وغياب الخلق والثقافة النقدية تنجم عنه فردية الافراد والمتفرجين او المشاهدين. والدليل الاكيد على ذلك هو هيمنة ثقافة المشهد التي يتلقاها المشاهد في أقل ما يمكن من الالتزام. فالتلفزيون والكومبيوتر يمنحان الشخص شعوراً بانه يستعيد حرية باتت مفقودة. حرية مستعادة في غرفة من دون اي ضغوط. حرية في الانتقال عبر “الستالايت” من مكان الى آخر في العالم. ومثلها الحرية في التراسل مع العالم عبر الانترنت. وهذا ينتج افراداً متلاصقين ومتفرجين، وغير قادرين على بناء علاقة مع الثقافة، او ان يورّطوا انفسهم فيها. وهنا يحصل نوع من الفردية المتلاصقة التي تعبّر عنها هيمنة الاجهزة السمعية – البصرية. أضرب مثلاً: عندما تخاف تغنّي، او تصفّر، محاولاً نسيان خوفك عبر هذه الانشطة. وحين تشاهد التلفزيون وترى برامج الرقص والترفيه المهرجانية، تشعر ان وظيفة هذه البرامج التلفزيونية اخفاء الاوضاع العامة المخيفة، والتي لا يرغبون الكلام عنها. هذه هي رؤيتي للحياة الثقافية اليوم في لبنان. وهي ثقافة غالباً ما تؤدي الى ثقافة الانشقاق التي عرفناها في اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق. ثقافة مبنية على الغياب الكامل للحريات العامة. لم نصل في لبنان الى هذا الوضع بعد. لكن ما يخيف ان الوضع الذي نحن فيه قد ينتج بشراً مهيأين لانتاجه او القبول به.
غياب الآباء وسيطرة الخطاب العلمي أنيسة الامين: اظن ان سؤال “الملحق” يتضمن شيئاً من الحنين. ارى اننا لا نستطيع ان نسأل عن الحال الثقافية، متناسين اسئلتنا الكبيرة حول السياسة والاجتماع في بلادنا. ولكن اذا اردت ان اصف الحال الثقافية في لبنان، فانني اصفها من مدخلين اساسيين: اولاً هناك ما أتى على ذكره احمد بيضون، وهو غياب الآباء. الآباء الكبار في العالم كانوا يشكلون المدارس او سلطة للكلام، ويدفعون في اتجاه الانضواء داخل منظور او تقنيات او مدارس، ويشكلون ما يسمّى ثقافة الدعوة. وهؤلاء الآباء غائبون اليوم في العالم الاول. وهذا انعكس على العالم العربي ولبنان. وغياب الآباء اسبابه تشكل المدخل الآخر لوصف الحال الثقافية. وهذا المدخل الثاني هو سيطرة الخطاب العلمي وتجلياته التقنية في العالم الاول. فما يقدمه الخطاب العلمي يشكل المرجع البديل من الآباء. وهذه مغالطة كبيرة جداً. فالخطاب العلمي يعمل على البراهين وتقديم الوثائق والوقائع، اي على الملموسات والمرئيات، بينما تتعاطى الثقافة، مثل المسرح والشعر والادب والسينما، مع المتخيل. ويرتبط هذا الانتاج الثقافي بقوة القائل، وهيبة القول. وهذه الهيبة يشكو الغرب غيابها لصالح حضور الخطاب العلمي المسيطر، والذي يصل الينا. لهذا نلاحظ وجود جيلين من الانتاج الثقافي في لبنان: جيلنا والجيل الذي يكبرنا، وهذان جيلا الحنين الى ثقافة كانت تتعاطى مع الكلمة التي تتضمن مجتمعاً وازمنة ماضية وحاضرة ومستقبلية، كما تتضمن أيضاً المتخيل المرتبط بترميز عام لثقافة عربية وعالمية، ولاتجاهات ورؤى. اما الجيل الاخر فهو جيل الشباب الذي اعتقد انه مدار السؤال الثقافي اليوم. ومتابعة الانتاج الثقافي لجيل الشباب تبيّن ان هذا الانتاج يميل الى الابتعاد عن فضاءات الكلمة والشعر والترميز الوطني والتعبير عن القضايا العامة، ليتجه الى اتحاد مستويين: الذاتية او المتخيل الذاتي، الذي افضل استعماله كمفهوم بدل استعمال الفردية. والمستوى الثاني المادة العلمية المدعمة بالبراهين. ومن اتحاد هذين المستويين ينتج جيل الشباب اليوم افلام الفيديو وفن التجهيز والمسرح. أما نحن، الجيل القديم، فقليلاً ما نصغي الى هذا النوع من الاختبارات والتجارب الفنية التي تنتجها بؤر من الشباب متجاورة. والتجاور اليوم هو سمة الثقافة اللبنانية. ومن هذه البؤر المتجاورة: منتجو الابحاث العلمية، منتجو الفنون، ومنتجو الرواية، والانخراط الشبابي في التيارات الاصولية التي يبحث شبانها عن الآباء والمرجعيات من خلال قراءة الكتب والمصنفات القديمة. من اين تأتي؟ انها تأتي من المركز والجامعات التي تقدم مادة علمية، تقدم براهين ولغات تفتح على العولمة كما قال باحوط. هؤلاء الشباب فعلاً يجعلونني كل مرة اقرأ اعمالهم والاحظ انهم يقدمون لغة جديدة. والنتاج الثقافي للشباب اليوم يتقاطع مع تعلمهم في جامعات منفتحة على العولمة. وهم يقدمون لغة جديدة في انتاجهم الذي لم يصل الى العامة بسبب عملهم الاختباري في بؤر ثقافية صغرى، وربما هامشية. وهذا امر طبيعي، بسبب غياب الآباء الجامعيين الذين يطلقون متخيلاً وطنياً عاماً وشاملاً. هذه الجماعات من الشباب هي دعامة الخطاب العلمي الذي يتقدم ويسود مع غياب الآباء. ونتاجات هذه الجماعات الشبابية الفنية لا تدخل في السياق الثقافي العام الذي تعودناه نحن الجيل السابق. ثم ان غياب الآباء يحرر المتخيل الثقافي والفني للشباب الذين لا يصل نتاجهم أحياناً الى الحياة العامة، بسبب ذاتية هذا النتاج. وهي الذاتية التي أرى انها سبب في ازدهار الرواية التي تشمل التاريخ والاجتماع والحق في التأريخ الشخصي والاحاسيس الفردية والعامة. في الغرب سمح بانتاج خلاّق كبير على مستوى الافراد، لكن عندنا تقتصر اعمال الخلق على بؤر في بلد صغير ومحاصر بالثقافات الجمعية التي لا تسمح للافراد في التعبير، إلا في رعاية مؤسسات منتجة للثقافة. لذا لا نستطيع الكلام عن حال ثقافية عامة في ظل غياب القضايا وغياب الثقافة الجامعة. ما نستطيعه هو اقتفاء اثر بعض النتاجات الثقافية والفنية الواعدة بلغة واهتمامات جديدة.
مقارنات خالد زيادة: من المداخلات التي سمعتها من الزملاء، استطيع تقديم بعض الملاحظات. وفي البداية اسجل ان المشاركين اقل تشاؤماً مما كنت احسب. وهذا مقارنة بما نقرأ من متابعات في الصحف اليومية والمجلات، ومنها التي كتبت تعليقاً على “معرض الكتاب العربي” معتبرة ان هناك وضعاً كارثياً في ما يتعلق بالقراءة، او القراءة التي تصنف عادة خارج النشاطات الثقافية. والكلام على الحال الثقافية الراهنة يستدعي مجموعة من المقارنات، في مقدمها المقارنة بالماضي، وعلاقة الثقافة اللبنانية الراهنة بمحيطها العربي. فبيروت كانت في الستينات مركزاً ثقافياً عربياً بارزاً. وهنا أيضاً علاقة الثقافة المحلية بالغرب. وهذا ما سبقني في الكلام عليه بعض الزملاء. ومن هذه الزوايا تبدو لي الصورة العامة أكثر ضيقاً وقتامة. فبالمقارنة مع الماضي الثقافي، يبدو لنا الوضع الراهن للحياة الثقافية متراجعاً، من زاوية تراجع التأثر بالغرب وغياب الآباء والرموز – وقد يكون لهذين التراجع والغياب وجهة ايجابية – كما من زاوية التأثر بالمحيط العربي والتأثير فيه، اذا نشهد على هذا الصعيد اضمحلالاً لدور بيروت الرائد. لكنني في المقابل أقر بأن هناك تغيراً في الاشكال التعبيرية في لبنان. ففي بدايات القرن الماضي غلب الطابع الوجداني على الثقافة اللبنانية (جبران، نعيمه، وغيرهما من المهجريين). وفي الاربعينات حدث بروز واسع للشعر، فبيروت في الخمسينات والستينات كانت محطة رئيسية في بروز الشعر العربي الحديث الذي كان المادة الثقافية الاشد استقطاباً للمستمعين والقراء. ربما لأنه كان على تماس بالقضايا الكبرى لتلك المرحلة. وخلاصة، يمكن القول ان الزمن المنبري للثقافة اللبنانية قد غاب اليوم. وهذه ليست سمات سلبية على وجه الاجمال. وفي ذلك الزمن المنبري برز محاضرون جمعت محاضراتهم في مؤلفات او كتب، امثال المحاضرين في “الندوة اللبنانية”. وهذه المحاضرات كان لها تأثيرها على النخب المثقفة في ذلك الزمن الذي كان حضور المسيحيين فيه على الصعيد الثقافي أقوى منه في زمن ما بعد الستينات. وهذا احد مظاهر التحول في المصادر الاجتماعية لمنتجي الثقافة في لبنان. ومن السهل القول في هذا السياق ان الحرب كانت السبب الابرز في هذه التحولات، اذ ان منتجي الثقافة في زمن الحرب وما بعدها عبّروا عن مواقعهم ومناطقهم التي كانوا يرون ان تعبيراتها غائبة عن مسرح الحياة الثقافية اللبنانية العامة. النقطة الاساسية التي اود اثارتها هي ارتباط الثقافة اللبنانية بالحداثة في القرن العشرين، وهو ارتباط مثار تساؤل كبير اليوم تضعنا الاجابة عنه امام المشكلة الرئيسية التي تعيشها الثقافة في لبنان اليوم. لقد كانت الثقافة في كل اتجاهاتها، حتى الاتجاهات الثقافية العروبية منها، حليفة الحداثة. فسهيل ادريس العروبي في مجلة “الآداب” ترجم سارتر ومورافيا وكامو، مثلما ترجمت جماعتا مجلة “شعر” و”حوار” كثرة من الاصوات الشعرية الغربية. اما اليوم فالسؤال المطروح هو قدرة الثقافة اللبنانية على حمل الدعوة الحداثية التي حملتها طوال القرن الماضي. فالغرب اليوم لم يعد يقدم انتاجه الثقافي بصفته ممثلاً للحداثة، والادباء والمفكرون في الغرب اليوم ليسوا اصحاب دعوة حداثية، بصرف النظر عن مفهوم العولمة الغامض والمشوش. والجمهور الثقافي العام لم تعد الحداثة في رأس متطلباته، في حين ان المثقف اللبناني ما زال يعيش الدعوة الثقافية للحداثة، في ما يكتبه ويعبّر عنه، وهذا وجه اساسي من مشكلة الثقافة اللبنانية الراهنة. * يمكن تلخيص المداخلات في عناوين عدة: الثقافة اللبنانية انتقلت من البحث عن الاشكال الى البحث عن هوية (جورج دورليان)، الفردية وموت الآباء والرموز (أنيسة الامين)، حيرة نظام القيم الذي يحكم الثقافة والخلق اليوم (احمد بيضون)، العولمة التي تتلقفها الحياة الثقافية اللبنانية (جو باحوط)، غياب الحريات وثقافة الفرجة (ملحم شاوول)، ومسألة الحداثة وغيابها (خالد زيادة). سؤالنا الآن هو محاولة للاجابة عن هذا التعارض: كيف يمكن الاستغراق في البحث عن الهوية والفردية في ظل غياب الدعوات العامة، وفي مدينة نشعر انها امست صغيرة او اصغر مما كانت عليه في السابق. ربما لان هذه المدينة لم تعد منبراً للثقافة العربية. فما هو تأثير هذا الوضع الذي تعيشه بيروت والذي نعيشه نحن فيها على عملية البحث عن الاشكال والهوية والفردية؟
خراب المركز الامين: شخصياً تمسني في عمق مسألة خراب بيروت. انه خراب المركز الذي كانت تتعايش فيه كثرة من المدارس والتيارات والرؤى، والمكان الذي كان يتنفس فيه المثقف او الطامح الى ثقافة الخروج على الجماعات او الموعود بهذا الخروج. وفجأة وجد هؤلاء انفسهم داخل ثقافة العائلة التي لا تنتج عملاً خلاّقاً. ففي داخل الاطر العائلية لا نكبر، إلا فيزيولوجياً، ويبقى متخيلنا على حاله محاصراً. فلا آفاق لثقافة العائلة والحي والزاروب. وفي هذا المعنى شكل خراب المركز غياباً لمشروع الحداثة ولمشروع ابداع الذات وتوليدها. فالذات تبدع حين تخرج من هذه الاطر البيولوجية، وتنفتح على ثقافة الخروج والمتخيل. لذا ألاحظ اليوم ان الجيل الجديد يعيش حال حصار خانق، غير مرئي، ولكنه قائم ومطلوب. اما الاماكن التي تشكل فيها نوىً للابداع، فغالباً ما تكون في الاندية، داخل الجامعات وفي المراكز الثقافية.
ادب القطيعة وموت المدارس دورليان: إذا كان خراب بيروت مرده الى الحرب، فانني ارى في هذا الامر وجهاً ايجابياً. فالحرب اللبنانية وضعت نهاية لمرحلة، كأنما المراحل في بلادنا لا تنتهي الا بالخراب. ففي زمن ما قبل الحرب كانت ثقافتنا، برغم كل تجلياتها وبريقها، ثقافة تابعة ولم تصل الى مرحلة النضج. فدائماً كانت تصل الينا النماذج الثقافية وتأخذ بها او تتأثر بها، بعد موتها في الغرب، حيث |
نشأت. فجماعة مجلة “شعر” استعادت التجربة الشعرية بعد انتهائها في اوروبا، وهكذا كان شأن الرومنطيقية سابقاً. وعلى صعيد المضامين الثقافية غالباً ما كنا نبحث عن اوهام ايديولوجية. وحتى على الصعيد الايديولوجي كنا في حاجة الى استيراد ادواتنا من الخارج، ومنها الماركسية. ذلك لاننا لم نكن قادرين على انتاج ادوات تفكيرنا المستقلة. وهكذا كان شأننا مع الرواية والشعر.
الحرب انهت هذه المرحلة، فأمسى لدينا ادب مستقل لا يستورد نماذجه ولا ينتظر ايحاءات الآباء. فالادب الراهن هو ادب قطيعة. وربما لم يعد لدى الخارج ما يورّده الينا، مثلما سبقني خالد زيادة الى القول. وهكذا امسينا نتحرك اليوم على ايقاعات العالم كله. وقد اشار احمد بيضون الى انتهاء تبعية الاعمال الروائية الى نماذج اصلية في الخارج. فالرواية اللبنانية تنتج اليوم تقنياتها عبر مخاض داخلي خاص بها، ويواكب الانتاج الروائي العالمي. والعالم كله اليوم يشهد موت المدارس الادبية، ولبنان يعيش بدوره هذا الموت، ويعيش زمناً معولماً على صعيد الهموم والموضوعات. فالاعمال الروائية اللبنانية التي تنطرح فيها مشكلة البحث عن الاب الغائب او المغيّب او المجهول، لها ما يوازيها لدى جميع اللبنانيين الذين يعيشون حال بحث عن الهوية. واشارة خالد زيادة الى غلبة المسيحيين كمنتجين للثقافة في المرحلة السابقة، تبدو اليوم لا تعني شيئاً، لان الروائيين اليوم من جميع الطوائف. والامر نفسه ينطبق على الشعر. فالاستقرار في الهويات المعطاة سلفاً والمطمئنة، لم يعد اليوم قائماً، لان البحث امسى مطلبه الوصول الى هوية فعلية وحقيقية، فردية واجتماعية وسياسية على قدم المساواة، وعلى نحو متداخل وشامل. * البحث عن الهوية، ام البحث عن كيفية التخلي عن الهوية؟ دورليان: لا، هو البحث عن الهوية الذي اقدره تقديراً ايجابياً. الكتل المتراصة بيضون: في المقارنة بين البحث عن الهوية الفردية وخراب المكان البيروتي، اود ان اتساءل عن طبيعة هذا المكان قبل خرابه. لقد كانت بيروت كأي مدينة يمكن ان يرى البشر فيها بوصفهم ذرات قابلة للتأثر بتيارات تنشأ في مواقع معينة وتنتشر وتتنازع على قاعدة اتجاهات وحيازة قوة ما. اليوم في بيروت وخارجها نشعر اننا نعيش ازاء كتل متراصة من البشر، وان المثقفين الذين يدعون انهم افراد وليسوا مجرد اصوات لهذه الكتل، تبدو قابليتهم وقدراتهم للتأثير على هذه الكتل شبه معدومة، او يائسة. واذا شئنا الكلام من زاوية الاجتماعيات، نلاحظ ان الكتل، وخصوصاً الطائفية، كانت قائمة وموجودة دائماً. هذا اضافة الى وجود تيارات عصبية قوية تمثلها احزاب وشخصيات سياسية. لكن في مرحلة طويلة سبقت الحرب كان التعليم حاملاً لامكانات تفسيخ هذه الكتل، ولانشاء افراد. فمن كان يكتب ويحمل دعوة او لا يعبّر عن دعوة، او يعتبر نفسه قدوة في الفردية او في العزلة… ان جميع هؤلاء كانوا يأملون، ضمناً او صراحة، ان يلقى ما يعبّرون عنه صدىً او جواباً او محاكاة في المواضع الطرفية او الهامشية، وفي نقاط الضعف التي تنجم عن التعليم، في هذه الكتل المتراصة التي يتفلت منها افراد بفعل التعليم وغيره من الظواهر، كالهجرة من الارياف الى المدينة، حيث تتيح الاقامة مسارب التفلت من ضوابط الجماعات المتشنجة والصلبة. لكن ها نحن اليوم نعيش وضعاً مختلفاً. من مظاهر هذا الاختلاف قيام زعامات طائفية يمكن ان تنال مئة الف او مئتي الف صوت. وهذا امر لا يمكن اعتباره ثانوياً. اننا نعيش في وضع يظهر فيه تجمع لعشرات الألوف من الناس في بئر العبد او في بكركي، في حال من التعبئة العارمة. ومن الصعب اعتبار مثل هذه الظواهر مسائل هامشية في ما يتعلق بفاعلية المثقفين الذين يعيشون خارج هذه العصبيات، ويأملون ان يحدث مردود ما، لا لدعواتهم على وجه التحديد، وانما لوجودهم كأفراد يشكل كل منهم قدوة ودعوة في ذاته. ودعوتهم هذه لا تعني ان يكونوا مثالاً وقدوة للناس، بل ان يكون الناس متنوعين ومختلفين وغير متشابهين. فالمثقف الفرد ليس ذاك الذي يدعو الناس الى التشبه به، بل الذي يدعوهم الى ان يكونوا غير متشابهين، اي متنوعين. وهذا ما يبدو اليوم في حال اضعف بكثير من اي وقت مضى. والضغط الذي تحدث عنه ملحم شاوول على الحريات، هو أولاً هذا الضغط بالتحديد، وليس ضغط المخابرات السورية، ولا المخابرات اللبنانية، ولا الامن العام، فقط. فالضغط الحقيقي على الحريات انما يرمز اليه وجود المثقفين او من بقي منهم خارج نطاق العصبيات، في مواجهة الكتل المتراصة من البشر. وهي كتل على المثقفين ايجاد طريقة ما، وسياسة ما للتعامل معها، لا النظر اليها بوصفها ظاهرة عابرة، على ما يرى كثرة من المثقفين، اذ يتوهمون ان الاوضاع السابقة قابلة للاستعادة وكأن شيئاً لم يكن، وكأن ما نعيشه عارض وليس اصيلاً. كأنما التعويل على أن المنافذ التي كانت تتيح كلاماً للمثقف الفرد، هي الاصل، وأنها قابلة للاستعادة. وفي هذا السياق علينا حمل ما حدث ويحدث على محمل الجد والواقع، والذهاب بعيداً في البحث والتدقيق لمعرفة المسار الذي نتقلب فيه. فعلى سبيل المثال علينا ان نعرف ان كانت الاوضاع التي نعيشها صنيعة النفوذ السوري، ام هذه الاوضاع نفسها حاملة النفوذ السوري؟ ولا يسعني حسم الاجابة عن هذا السؤال في اتجاه معين.
مختبر للتفكير في الثقافة والحداثة باحوط: اعود الى موضوعات الهوية والفردية والدعوات والذاتية، لأشدد على ان للثقافة وظيفتين متناقضتين. هناك الهوية الثقافية الكامنة والضرورية لتحديد الهويات والذات والقوميات والحضارات. وهناك الثقافة التي تعتبر الوسيلة الفضلى للحوار مع ما هو كوني وعام. وهذان العنصران متلازمان ومتوازنان، واختلالهما يؤدي الى حرب الثقافات والحضارات والهويات. وفي زمن العولمة امست هاتان الوظيفتان للثقافة ضروريتين. وربطاً بالمكان البيروتي لا اشاطر الزملاء، وخصوصاً احمد بيضون، النظرة المتشائمة الى اجتياح الكتل المتراصة للمدينة. وقد يكون مرد ذلك الى انني من جيل آخر. ومع موافقتي على وجود كتل متراصة، فانني المح أيضاً وجود معطىً اجتماعي مختلف في بيروت أيضاً. فبيروت اليوم مدينة مثيرة في نظري. انها مختبر حي للثقافة، شرط الا ننظر الى الثقافة نظرة مؤسساتية. هنالك تعبيرات متنوعة وكثيرة تصنعها الاجيال الجديدة، وغيرها من الفئات المهمشة اقتصادياً واجتماعياً. وحديثنا في هذه الندوة تطغى عليه عموماً الثقافة العليا. هنالك أيضاً الثقافة اليومية، كموسيقى الراب والرسم على الجدران في مدينة كنيويورك على سبيل المثال. وهذا جزء فعلي من الثقافة في العالم كله، وفي لبنان. وهذا ما يجعل بيروت مختبراً مثيراً للتفكير حول مفهوم الثقافة والحداثة. و”الطائفة” الثقافية في البلد فوّتت على نفسها فرصة منذ اوائل التسعينات، حين لم تواكب الظواهر الثقافية الجديدة الناهضة. والجدال الذي حصل حول الاعمار في بيروت كان سبّاقاً، اذ إن معظم المدن اليوم تعيش الجدال نفسه. فبيروت كانت ولا تزال مدينة ما بعد حداثية. والبحث عن الهوية الثقافية اليوم يعني مزاوجة هويات متعددة. فالهوية متداخلة ومتدرجة ومتنوعة لدى الشخص الواحد.
ساحل لبنان شاوول: ان خراب بيروت مرحلة انتهت. فبيروت ماقبل الحرب امست فكرة، ولم تعد نموذجاً ولا معطىً حسياً يمكن اعادة تجسيده وصياغته. وأخيراً بدأت اكتشف ان بيروت نشأت وتراكمت بناءً على صدف، وليس بناءً على ارادة انسانية واعية. والصدف التي اقصدها متنوعة: حربية، اقتصادية، وسياسية، تطورات في المنطقة. ان دور الارادة البشرية في نشوء بيروت لم يكن حاسماً واحتمال استعادتها كما كانت امر مستحيل ووهمي: لقد انتجت بيروت، على ما اشار احمد بيضون، الفرد الذي بدأ يتحرر ويحاول امتلاك فرديته. لكن هذا الفرد ظل احتمالياً وغير منجز. وفي جوار احتمال هذا الفرد، كان هناك تواصل العائلات وتحاورها في بيروت، وكذلك تواصل الطوائف وتحاورها، وتواصل اللبنانيين مع العرب أيضاً، ناهيك بتواصل العرب مع العرب في بيروت. وهذا كله حدث بناءً على ظروف تتعدى ارادة المدينة نفسها. وهذا كله انتهى اليوم. لكن الجماعات التي خرجت من بيروت لم تعد الى ريفيتها، بل انشأت وحدات سكانية على طول الشاطئ اللبناني، وهي وحدات مدينية، على ما أظن. وما افكر فيه دائماً هو احتمال ان تكون بيروت اليوم والمستقبل هي ساحل لبنان كله. وهذا ليس هذياناً او هرطقة. فقد تكون مدينتنا المستقبلية مثل مدينة لوس انجلس التي يبلغ طولها 125 كلم، قوامها نظام حديث من المواصلات ومن فروع الجامعات. وفي المقابل هنالك تمركز سكاني ريفي واسع في البقاع. اما الهويات وعناصرها وتركيبها، فهي شأن المدينة المتمادية في امتداداتها، لكنها غير واضحة بعد. واذا كنت اوافق احمد بيضون في كلامه على الجماعات او الكتل المتراصة في لبنان، فان ما ليس لدينا صورة عنه هو مروحة التراص ومستوياته على صعيد الجماعات المختلفة والمتنوعة. وعلى سبيل المثال لا تطابق عوامل التراص ومقاديره في الطائفتين الشيعية والمارونية مثيلتها في الطائفتين الارثوذكسية والسنية. ثم انني اوافق جو باحوط في نظرته الى وجود ظواهر ثقافية وغير ثقافية، غير مرئية وغير منظورة في بيروت، حيث الحياة الليلية فـي منطقة ما مثلاً تختلف عنها في منـطقة أخـرى. n انطلاقاً مما قاله احمد بيضون حول الكتل المتراصة، نود أن نشير الى مسألة خيانة المثقفين. فالتراص رافقه اندراج جماعات واسعة من المثقفين الحديثين في الكتل الطائفية.
سؤال معاكس زيادة: أود أن اطرح سؤالاً معاكساً: لو لم تقع الحرب، هل كانت بيروت قادرة على الاحتفاظ بمكانتها التي كانت عليها في الستينات والسبعينات؟! فحين افكر في المدن العربية التي لم تشهد حروبا،ً اجد ان الثقافة فيها قد اندحرت. من السهل نسبة الامور جميعاً الى الحرب التي لا ينكر احد انها تركت آثاراً كبرى على الثقافة والمثقفين، وعلى الهويات المستقرة التي اصابها اهتزاز، ومنها الهويات الايديولوجية. لكن مع حدوث الحرب في لبنان كانت تحدث تغيرات كبرى في العالم العربي، ليس على صعيد تضاؤل حاجة العرب الى جامعاتنا ومطابعنا ودور نشرنا فحسب، بل على صعيد اوسع يطاول العلاقة بالثقافة. كانت بيروت تصدّر فكرة الحداثة، وتستقطبها. لكن العواصم والثقافات العربية اليوم جعلت تقيم صلة مباشرة بالحداثة الغربية من دون الحاجة الى وساطة بيروت التي تجلت اهميتها في تصدير الكتاب والافكار الحديثة. وفجأة اكتشفنا في الثمانينات ان بيروت امست هي التي تستورد الافكار والحركات الاصولية الاسلامية على سبيل المثال. وهي الافكار والحركات التي صلّبت تراص الكتل الاجتماعية الذي تحدث عنه الزملاء. واهل الثقافة الحديثة لا يقيمون وزناً كبيراً للجماعات المتراصة حين ينتجون سلعتهم الثقافية ويسوّقونها، على اعتبار ان تلك الجماعات خارج التطلب الثقافي الحديث، ثم ان الجماعات نفسها تعتبر نفسها غير معنية بالثقافة الحديثة. لذا لا ننظر الى الوف الاطنان من الكتب التراثية والاسلامية التي تطبع في بيروت ويصدر معظمها الى البلدان العربية، على اعتبار ان هذه الكتب لا تنتمي الى الثقافة الحديثة التي نزاولها. وآخر ما سمعناه ان مدينة دبي امست مثالاً يقتدى بالنسبة الى بيروت. هذه هي الديناميات n ما هي الديناميات التي تسمح باطلاق حياة ثقافية جديدة في بيروت، في محاولة لقراءة سريعة او نقد للمراكز المنتجة للثقافة في البلد. دورليان: في وجهات النظر التي سبقت، ارى اننا نتكلم عن ثقافتين وعن مثقفين: ثقافة العامة، وثقافة النخب. ثقافة العامة هي ثقافة سلوكية او ثقافة ذهنيات، ولكنها لا تنتج اشكالاً تعبيرية (رواية، شعر، ومسرح… الخ). شاوول: لكن علينا الا ننسى ما تنتجه الجماعات الشبابية من فنون بصرية. n هذه ظاهرة كبرى علينا الانتباه اليها… دورليان: اضافة الى ثقافة النخب وثقافة العامة، هناك المناخات الشبابية وانتاجها المتنوع. وهنا يحضرني تساؤل حول دور المثقف، هل انتهى المثقف، على ما قال ريجيس دوبريه في حوار مع زيغلر، ان المثقف لم يعد ملح الارض. ذلك انه لم يعد يمتلك ادوات التوصيل التي امتلكتها اليوم التقنيات الحديثة. فكتب الشعر في فرنسا لا يطبع منها اليوم اكثر من مئات النسخ. هذا وجه من وجوه الازمة الثقافية في العالم. أود ان اخلص الى القول ان الثقافة في مؤسساتها وانتاجها وتوزيعها تعيش في ازمة. واذا لم تتحول الجامعات مثلا بؤراً للتفكير والانتاج الثقافي، لا يمكن ان نستمر.
لولا اليأس بيضون: اعود الى ملاحظة “الملحق” حول اندماج المثقفين في الجماعات الطائفية. في حديثنا عن المثقفين كنا نقصد اشخاصاً لديهم طموح لتحقيق هوية فردية وشهوة حداثية. وهكذا اخرجنا هؤلاء من جماعة المثقفين العامة في المعنى الغرامشي، اي المثقفين العضويين والمندمجين في أجهزة ثقافية او ايديولوجية تابعة لجماعات. وانطلاقاً من الحرب تعممت هذه الاجهزة وانتشرت في طوائف لم تكن حاضرة فيها حضوراً كثيفاً من قبل. وفي السنوات الثلاثين الماضية ربما ردم معظم التفاوت بين الطوائف في ما يتعلق بانتشار الاجهزة الايديولوجية والثقافية فيها، رغم ان هذا التفاوت لا يزال قائماً في بعض وجوهه. وحين نستثني المثقفين المندمجين او العضويين في كلامنا على الثقافة والمثقفين في لبنان، نكون نطلق نوعاً من الغنائية الذاتية. انها غنائية الافراد الذين يشعرون انهم في حال من التراجع، وان الامل في التأثير ضعيف جداً. واذا استعرضنا مراكز انتاج الثقافة اليوم، تطالعنا اولاً الجامعات، وهي طائفية على الاغلب، ومراكز الابحاث أيضاً لها انتماءاتها الطائفية الغالبة، والصحف ووسائل الاعلام ليست بريئة ابداً من هذه الانتماءات، بل ان هذه الانتماءات متنامية فيها عما كانت من قبل. كلنا يعرف كيف جرى توزيع محطات التلفزة المحلية، والمنطق الذي حكم اصدار الصحف، وانشاء الجامعات الجديدة. والجامعة اللبنانية هي اشد جامعات لبنان طائفية في وضعها الراهن. فهي تعيش تفريعاً متناسباً مع التوزيع الطائفي على المناطق، وفي بيروت يبرز هذا الوضع في صورته الفاقعة، حيث لكل فرعين من فروع الكليات هويتان طائفيتان متقابلتان. وقد يكون هذا اقل وضوحاً في الشمال والبقاع بسبب الطابع السكاني في المنطقتين. ويزداد هذا الامر وضوحاً في الجنوب بسبب غلبة الطابع الشيعي. لكن الجامعات الاخرى في لبنان لا تخلو من هذه الظواهر، الى جانب تحملها ظواهر فردية من المثقفين القادرين على الكلام في نفس محايد الى هذا الحد او ذاك، عن المواقف التي تمثلها الاجهزة الطائفية في المؤسسات الثقافية والتعليمية والاعلامية. والهوامش التي تتركها اجهزة هذه المؤسسات للنقد والتعبير هي التي تحول دون الخواء المطلق والملل المميت اللذين يحملهما التجانس والتراص المطلقان. واجهزة الاعلام الواضحة اللون على المستوى الحزبي وليس الطائفي فحسب (مثل تلفزيون “المنار”)، تدعو اشخاصاً من مشارب مختلفة وتتقبل كلامهم والتعبير عن آرائهم الخاصة. ويمكن تعميم هذا التقبل على مؤسسات التعليم ومراكز الابحاث في شكل متباين ومتفاوت. والاشخاص الخارجون عن السكك العامة المرسومة لهذه المؤسسات والمراكز، لهم اوضاعهم الخاصة فيها، والتي تحول دون تصدرهم مراكز اساسية فيها. وهذا ما يبقي هولاء الاشخاص على هوامش المؤسسات التي يعملون فيها وتعيلهم، وينتجون في اطارها. واذا نظرنا الى ثقافة التعليم في معناها الاعم، نجد ان الدولة اللبنانية لعبت تاريخياً دوراً ملطفاً للطائفية. فهي انشأت المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية، على نحو اتاح شيئاً من التوازن مع مؤسسات التعليم الخاص الطائفية على الاغلب. وانطلاقاً من هذا الدور الذي لعبته الدولة سابقاً في مجال التعليم، يمكننا التساؤل اليوم عما اذا كانت الدولة قادرة على القيام بمثل هذا الدور الملطف للفرز الطائفي على المستوى الثقافي؟ على صعيد التعليم، ضعف تأثير دور الدولة على نحو كبير، نتيجة الفرز الطائفي الذي اصاب البلد. ربما لا تزال الدولة قادرة على اداء هذا الدور في انشائها بنىً تحتية ثقافية عامة يحتاجها البلد، مثل مكتبة وطنية عامة ومركز توثيق وطني، واوركسترا وطنية ومسرح وطني واوبرا ومركز انتاج سينمائي… الخ. لكن للاسف في حال انشاء هذه البنى المؤسسية للثقافة، فان الامل ضعيف في ان تقوم هذه المؤسسات بدورها الفعلي. والامثلة على هذا الضعف اكثر من ان تحصى. فالتجاذب السياسي والتقاسم الطائفي للمواقع، هو المنطق الغالب حالياً على ادارة المؤسسات العامة، ثقافية وغير ثقافية. والسعي الى تغيير هذا الوضع يحتاج الى نضال كبير يرسي معايير الكفاءة في ادارة هذه المؤسسات. على صعيد الانتاج الثقافي كان يمكن تقديم بعض الاقتراحات، لولا اليأس من ألاّ تكون هذه الاقتراحات صرخة في واد. مثلاً يمكن اقتراح ان تقوم الدولة برعاية روائي او شاعر اثبت جدارته، لكن انتاجه آيل الى اضمحلال نتيجة استغراق العمل الصحافي لهذا الروائي او الشاعر. لكن الخشية من ان يتحول هذا الاقتراح مدخلاً لدفع رواتب لأتفه انواع الكتاب، تحول دون تقديم مثل هذه الاقتراحات التي تصطدم مباشرة بجدران الفساد والطائفية والاستزلام والمحاصصة السياسية التي تشكل القواعد الراسخة للعمل العام والاسس التي تقوم عليها اركان الثقافة المسيطرة في البلد.
خصخصة الثقافة شاوول: في ما يتعلق بالحركة الفنية والادبية، لست قادراً على تقديم رأي الا في ما يتعلق بتجربتي المحدودة والمحصورة في الجامعة اللبنانية وبعض مراكز الابحاث. واذا كنت اشاطر احمد بيضون نظرته، فانني لا اميل الى الاخذ بوجود جدار سميك يحول دون نجاح اي تجربة او عمل. هناك كثير من مراكز البحث في القطاع الخاص لا تعمل وفق المعايير الطائفية ومعايير الاستزلام وغيرها، وان كانت تجارب هذه المراكز مهددة بالفشل احياناً. وفي ما يتعلق بالجامعات علينا التفكير في الاوضاع انطلاقاً من وجهة نظر الجمهور العام. فالطالب الذي ينتسب الى احدى كليات الهندسة في الجامعات الخاصة، هل سلوكه هذا يحمل موقفاً طائفياً؟! أود القول ان الدخول الى الجامعات الخاصة يخضع لعوامل كثيرة، ليس من الضروري ان يكون قوامها الفرز الطائفي. لذا لا يمكننا النظر الى التعليم في القطاع الخاص بناءً على الفرز الحاد، فمؤسسات هذا التعليم تتوخى في الدرجة الاولى تقديم سلعة تعليمية منافسة تمكنها من الاستمرار، وليس الفرز الطائفي في اولوياتها. على صعيد الاقتراحات العملية، اشير الى انه من الضروري ان نمر في مرحلة “تخصيص الثقافة”، نتيجة عجز الدولة، رغم ان مسألة الخصخصة تثير حفيظة كثيرين. فليس من الضروري ان تقوم بالمبادرات الخاصة رأسمالية جشعة على الدوام. هناك قوى تحمل على محمل الجد فكرة المجتمع المدني، مثل المبادرة التي نشأت باقامة “مسرح بيروت” مثلاً. فمبادرات القطاع الخاص التي اركّز عليها في المجال الثقافي، هي مبادرات تقدم اطراً للثقافة العامة. وقد يكون عدم القدرة على ان يقدم القطاع الخاص في المجال الثقافي خدمات ثقافية عامة، احدى مشاكلنا المستعصية في لبنان. الامين: من خارج المناقشة حول الخاص والعام، اشير الى مثال بسيط تجسده الجامعة اللبنانية التي تضم نحو 70 الف طالب وطالبة ينضوي قسم كبير منهم في الكتل المتراصة. لو استطاعت هذه الجامعة ان تزود طلابها عدة وافية من اللغة العلمية والمفاهيم العلمية، لانتاج فنون مسرحية وسينمائية وغيرها، لما انضوى طلابها في الكتل المتراصة. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى ليس من نتاج ثقافي او خلاق من دون اللقاء بالآخر. فالجيوش التي علمتها من الطلاب منذ ثلاثين سنة، اشعر ان ما يؤهلها لانتاج علمي وثقافي واعد يتلخص في مسألتين: تزويدها عدة علمية، وتأمين اتصالها بالآخر. بيضون: اود التعليق على مداخلة ملحم شاوول في نقطتين اثنتين: الاولى تتعلق بمراكز الابحاث التي احترم عملها، واعلم ان عدداً منها قام بمجهودات دراسية لا بأس بها. لكنني اشير الى ان اسلوب عمل هذه المراكز في الغالب (اقامة الندوات والمؤتمرات، وتأليف الكتب الجماعية) يشجع على السرعة ويخل بوحدة المعالجة ويضيق من مجالاتها وصدقيتها. فالتحقيقات الوطنية في مجالات السياسة والثقافة والتعليم والصحة والسكان والمهن والعمل… الخ، مهملة لصالح دراسات تختار اما نتيجة لسهولتها واما لالحاح طرحها على الصعيد الاعلامي. وهذا ما يحملني على الكلام عن غياب سياسة بحثية في البلد. واذا كنا لا نتمنى ان تجري الابحاث على نحو موجه تتولاه الاجهزة الرسمية الحالية، فلا نستطيع، في المقارنة مع دول اخرى، الا ان نسجل غياب التمويل الهادف الذي يختار مواطن الحاجة الاجتماعية للابحاث. النقطة الاخرى تتعلق بالجامعات. حين نفكر في الجامعات الخاصة تحضر فوراً الجامعة الاميركية والجامعة اليسوعية. الاولى لم تعد جامعة طائفية منذ زمن بعيد، بعد ما تركت تبعيتها لجماعة المبشرين المؤسسين في القرن التاسع عشر. وفي الواقع تطورت كتلتها الطالبية في الاتجاه نفسه: المناصفة الطائفية، وربما غلبة الطلبة المسلمين، وان كنا نسمع احياناً عن سلوك طائفي داخل اجهزة الجامعة الادارية، وخصوصاً في ما يتعلق بالتوظيف. وفي الجامعة اليسوعية هناك حراك معين في اتجاه ثقل ما للكتلة الطالبية المسلمة. فمنذ سنتين او ثلاث كانت نسبة الطلبة المسلمين في اليسوعية تبلغ نحو 27 في المئة. والمناصفة في الكتلة الطالبية قائمة في جامعة البلمند، رغم انها مثل اليسوعية ذات هوية دينية وطائفية. لكن ما كنت اشير اليه في كلامي على طائفية التعليم هو الجامعات الاخرى مثل جامعة الكسليك، والجامعة الإسلامية وغيرهما من الجامعات التي يبلغ عددها 15 جامعة. وهذا ما يستدعي الكلام على الشرذمة الطائفية في التعليم العالي، وخصوصاً في الجامعة اللبنانية. وتصير هذه الشرذمة واضحة واكيدة حين نعلم ان طلاب الجامعات اليسوعية والاميركية والبلمند يمثلون ما نسبته 10 في المئة تتقريباً من مجموع طلاب التعليم العالي في لبنان. زيادة: دور الجامعة في انتاج الثقافة في لبنان ما قبل الخمسينات وما بعدها بقليل، كان ثانوياً بالمقارنة مع الدور الذي كانت تؤديه دور النشر في الاربعينات والخمسينات، مثل “دار المكشوف”، و”دار الطليعة” لاحقاً. وهذه دور نشر كانت تصدر أيضاً مجلات ثقافية وادبية. الجامعة اليسوعية خرّجت نخباً من الاطباء والمحامين في الوقت الذي كان اصحاب المهن الحرة يتصدرون الحياة العامة، ومنهم المحامون الذين كانوا يخوضون النقاشات الايديولوجية في البلد. وعلينا الا ننسى في هذا السياق دور بعض رجال الاعمال في صياغة بعض الافكار الرئيسية في السياسة آنذاك. الجامعة الاميركية كان دورها اكبر من الناحية الاكاديمية، وخصوصاً في دائرتي التاريخ والادب العربي. وهما دائرتان عرفتا اسماءً كثيرة ونتاجاً ثقافياً واسعاً. ومع نشوء الجامعة اللبنانية وتوسعها في الستينات، لم نشهد منذ ذلك التاريخ نشوء مدرسة في ابحاث علم النفس او الابحاث التاريخية. ولم تخرّج الجامعة اللبنانية حقوقيين كباراً او منظورين. والمسرح بدوره لم تساهم الجامعة اللبنانية في نهضته في الستينات. على النقيض من ذلك فقد انحسر دور هذه الفنون والاداب في الحياة العامة حين راحت هذه الجامعة تخرّج اعداداً كبرى من كلياتها ومعاهدها في مجالات الفنون والهندسة والآداب والعلوم الانسانية. والمقلق في الجامعة اللبنانية انه كلما زاد عدد طلابها في مجالات الاداب والفنون والعلوم الاجتماعية والانسانية تضاءل انتاجها الجدي. والقراءة في صفوف هذه الكتلة الطالبية المتوسعة تنحسر وتتضاءل يوماً بعد يوم لصالح المقررات الجامعية الفقيرة. وفي ما يتعلق بالاقتراحات اشير اولاً الى ان في حديثنا الطويل هذا لم نشر الى وزارة الثقافة. وهذه مفارقة غريبة. ربما لان هذه الوزارة لم تُحدث اثراً منذ انشائها. واذا اردت الكلام على المناهج التربوية الجديدة، اشير الى ان هذه المناهج غايتها المفترضة احداث صدمة في الوضع التربوي، واعادة النظر في جفاف البرامج والمناهج السابقة. لكن هذا الهدف اصطدم بعائقين اثنين: فالمدرسون لم يعدوا اصلاً لتنفيذ البرامج المقترحة. ثم ان الذين اضطلعوا بتأليف البرامج الجديدة واعدادها هم انفسهم الذين كانوا يدرسون البرامج القديمة. لقد ادخلت الى البرامج الجديدة في مواد اللغة العربية مثلاً، نصوص واسماء جديدة، ربما لا تشكل صدمة اساسية. وفي مواد الفلسفة والعلوم الاقتصادية والاجتماعية حصل بعض التفكير الايجابي حول المشكلات الاجتماعية الراهنة. واذا كان لا بد من اقتراح في هذا المجال، اجد ان اعادة الاعتبار الى القراءة منذ الصفوف المدرسية الاولى، يمكن ان تكون مفيدة، في ظل انحسار القراءة المدوي. باحوط: سمعنا في الندوة كلاماً عن فئتين اثنتين من المثقفين، وهما فئتان مستضعفتان في الحياة الثقافية الراهنة: فئة المثقفين غير المنتمين والباحثين عن اشكال تعبيرية خارج التراص والتكتلات الطائفية والايديولوجية. ويمكن تسمية هذه الفئة من المثقفين بالفئة المنقرضة في وجه من الوجوه. والفئة المهمشة والتي تضم الفئة الشابة الباحثة عن اشكال تعبيرية جديدة في مجالات الفنون. والاقتراح الذي اجده مناسباً في هذا المجال، برغم عدم عمليته وانطوائه على شيء من الداروينية، يتمثل في صب الجهود والاهتمامات في القطاعات الثقافية التي تهتم بهاتين الفئتين من المثقفين. |