خالد غزال عن “الربيع الفائت”

 آخر تحديث: الخميس، ٢٥ أغسطس/ آب ٢٠١٦ (٠١:٠٠بتوقيت غرينتش)خالد غزال 

 

في كتاب جديد للباحث والأستاذ الجامعي أحمد بيضون بعنوان «الربيع الفائت – في محنة الأوطان العربية أصولاً وفصولاً»، يتناول المؤلف جملة موضوعات سياسية وفكرية كتبت في أزمان متفرقة، يجمع بينها الاستعادة التاريخية لمحطات في التاريخ العربي، وتحليل نظري لخلفيات الأحداث التي تعصف منذ سنوات بالمنطقة، وصولاً إلى قراءة بعض محطات الربيع العربي خصوصاً منها السورية ومفاعيلها في الساحة اللبنانية. صدر الكتاب عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في بيروت.

على امتداد سبعة فصول ضمتها دفتا الكتاب، ينطلق بيضون في فصل أول «في المطالع والأصول: حركات التغيير العربية»، من إرث السلطانية المحدثة الى التشييد المؤسسي للديموقراطية. في فصل ثان تحت عنوان «معالم الهوية» يتناول قضية الطائفية في تاريخها وتشكلها في وحدات سياسية، كما يتناول الهوية والمذهب الديني والمواطنة. في فصل ثالث بعنوان «الخوف على سورية»، يتوقف أمام الانتفاضة السورية متناولاً إياها من جوانب متعددة، سواء بتحولاتها وبخطر سقوطها وبتدخل روسيا في أحداثها. الفصل الرابع بعنوان «الحلول بما هي مشكلات»، يتطرق إلى كيفية مداواة الأوطان عبر تفكيكها، متناولاً اللبننة وانعكاساتها. أما الفصل الخامس بعنوان «بلايا محيطة» فيتناول الموضوع الفلسطيني والوضع اللبناني من زاوية المجتمع السياسي اللبناني في مهب الربيع العربي. الفصل السادس بعنوان «مشكل المعرفة في مشكل الحل»، حيث يشير الى ان المعرفة تشكّل مادة استبدادية في محطات كثيرة. الفصل السابع «إشارات وتنبيهات» وفيه معالجات حول الدين وهل هو في المجتمع ام العكس؟ إضافة الى بحث عن عبد الرزاق السنهوري، وعن فشل السياسة. أما الخاتمة فقد أعطاها الكاتب عنوان «خاتمة للوقت الحاضر: شرور ما بعد الربيع (لمحة في المصلحة والقيمة)».

إذا كان من الصعوبة بمكان التطرُّق الى محتويات كل الفصول، فإن التوقف أمام الأزمة السورية وانعكاساتها اللبنانية تستحق المعالجة لراهنيتها، فمن بين الانتفاضات التي عصفت بالعالم العربي، تميّزت الانتفاضة السورية بأنها الأكثر عنفاً وإرهاباً من كل ما تشهده المنطقة العربية. منذ انطلاقتها، كان الخوف من مصيرها السلبي ومن نتائجها الداخلية خوفاً مشروعاً، كما كان الأمل بنجاحها واجتثاث أعتى حكم استبدادي، لا يضاهيه في الاستبداد سوى نظام كوريا الشمالية، كان هذا الأمل مشروعاً أيضاً.

كانت الحماسة كبيرة في المراحل الأولى من الانتفاضة التي تميزت بطابعها السلمي وتظاهراتها الحاشدة في شكل لم تعرفه سورية منذ عقود. هذا الطابع السلمي لم يستمر سوى أشهر معدودة انتقلت الانتفاضة بعدها الى مرحلة من العسكرة على يد النظام السوري، الذي كان يرى في تحويلها عن مسارها السلمي وسيلة لإجهاضها بالنظر الى التفاوت في موازين القوى وعدم قدرة الثوار على مجاراة آلة الحرب العسكرية للنظام. شهدت الانتفاضة انشقاقات في الجيش وفي المؤسسات السياسية، لكنها انشقاقات لم تصل الى حد تغيير موازين القوى لمصلحتها. يشير بيضون الى هذه المسألة قائلاً: «بدا، مع تعاقب المجازر، ان المنفذ المتاح من هذا النفق الدموي يتمثل في تشقّق آلة القمع على نحو يضعف ذراع النظام الضاربة مقلصاً قدرته على البطش، من جهة، ويوفر حماية للحركة، من جهة أخرى، وحاجزاً في وجه قمع لا يلوي في تصاعده على شيء. وقد حصل هذا التشقّق وتوسّع، الا انه لم يبلغ حداً تشلّ معه آلة النظام القامعة، وذلك لأسباب تتصل بالتكوين التاريخي لهذه الآلة، وبما أورثه هذا التكوين من تماسك طائفي لمعظم قياداتها ولأهم قطعاتها المقاتلة».

هذا القمع المتزايد أربك والثوار وفرض عليهم مساراً ومسؤوليات ضخمة، لم يكونوا مؤهلين لإدارة مناطق أمكن الاستيلاء عليها، ما جعل العسكرة لا تصب في مصلحة حماية الحركة الشعبية، بل دفع بقسم واسع من الجماهير الى الهامش. نجم عن العسكرة بروز قوى سياسية واجتماعية كان أبرزها التنظيمات الجهادية والسلفية التي وجدت الفرصة مناسبة لتتسلق على الثورة وتستولي عليها. لم يكن لهذه التنظيمات ان تنجح لولا التدخُّل الخارجي الذي تجلى في الدعم الخليجي لهذه التنظيمات، إضافة إلى تسهيل النظام نفسه لولادة تنظيم «داعش»، وسيادة منطق لدى الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً قال بتسهيل دخول الإرهابيين الى سورية، بحيث يتقاتلون مع بعضهم بعضاً ويفنون أنفسهم. وهو تصوّر ساذج بدأت هذه الدول المشجعة على الإرهاب تدفع ثمنه، فالذي يطلق الوحش، ليس بالضرورة سيكون قادراً على إعادته الى القفص.

يشكل هاجس سقوط الثورة السورية والمآل الذي وصلت إليه بعد مرور خمس سنوات ونيف على اندلاعها، مصدر قلق كبير لدى الكاتب، لكون سورية تشكل مفتاحاً للمنطقة العربية، فنجاح ثورتها نجاح للربيع العربي ينعكس إيجاباً على سائر الأقطار، وفشلها مصدر اضطراب في المنطقة والعالم بالنظر الى كونها أرض إرهاب وعنف يستحيل ان يبقى محصوراً في الساحة السورية. ومصدر القلق ينبع من المحطة الراهنة لهذه الثورة، حيث يدور السؤال مشروعاً عن غاية الثورة وهل هي مجرد إسقاط بشار الأسد وسلطة عصابته وأجهزته، ام ان الهدف هو الحرية والكرامة للشعب السوري، يجيب بيضون عن السؤال قائلاً :»اذا سقط بشار الأسد ولم يفتح سقوطه أفق «الحرية والكرامة» هذا في وجه السوريين، فإن الطاغية يكون قد أسقط الثورة السورية قبل سقوطه الذي هو آت لا ريب فيه. فهل يقيّض لأصحاب الثورة ان يتداركوا ثورتهم: عاجلاً قبل سقوط الطاغية أو آجلاً في صراع مديد قد يلي ذلك السقوط؟».

منذ اليوم الأول لاندلاع الانتفاضة السورية، كانت التقديرات كلها تشير الى ان لبنان يستحيل ان يبقى خارج امتدادات نار هذه الحرب. كان كثيرون يدقون ناقوس الخطر من عواقب تدخل قوى سياسية في الحرب الدائرة، بل كان الهم كيف نبقي على النسيج الاجتماعي اللبناني ونحصّنه من التفكك، بالنظر الى ان الحرب السورية تدور أيضاً على الساحة اللبنانية بمعنى من المعاني. عجز اللبنانيون عن منع الحريق من الامتداد الى أرضهم، فانخرطت القوى المؤيدة والمعارضة في هذه الحرب، وألقت بثقلها على الوضع اللبناني، العسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل ربطت الحرب السورية حلول الأزمات الداخلية بالمآل الذي ستصل إليه، وبالتسويات الإقليمية والدولية التي ستفرض على السوريين. إنها محنة استقلالية جديدة أوقع اللبنانيون أنفسهم وبلدهم في معمعانها.

تصبغ النظرة التشاؤمية معظم فصول الكتاب، بالنظر الى حجم الوقائع والتطورات السلبية التي عصفت بما يسمى الربيع العربي، وحولت التفاؤل الذي لف عقول معظم الشعوب العربية الى حالة سوداوية. لعل ما أورده الكاتب في ختام أبحاثه يشكّل افضل توصيف لهذا الربيع، حيث يقول: «فقدت الحركات اذاً، صفتها الشعبية وفقدت وحدتها العامة، أي، على الأخص، وحدة المعنى والوجهة، وفقدت كل منها كل وضوح في صيغة الصلة التي تنطوي عليها بالمستقبل وتريد املاءها عليه. فإذا كان قد بقي شيء من هذا، فإنما هي صيغة التخبُّط او صيغة الارتداد على العصر كله والبحث عن لا مكان في العالم، بل عن مخرج منه. هذه النكسات المتراكمة هي مصدر الشعور بالخيبة. ولا ريب ان هذه الخيبة تصدي، حين يعبّر عنها من اقتصر أمره على إبداء التضامن من قريب او بعيد، لخيبة من كانوا مادة القوى الضالعة في المرحلة الأولى من حركات التغيير واضطروا، لأسباب يقترن فيها التنوع بالوضوح، الى الانكفاء عن الساحات في أوقات مختلفة».

في الرد على “بيضون” .. بل خلافة واحدة – علامات أونلاين

ردّ على مقالة لي هي الثانية من 4 كرّستها لأطروحة السنهوري

في الرد على “بيضون” .. بل خلافة واحدة – علامات أونلاين

http://alamatonline.com/archives/43641

شادي علاء الدين عن “دفتر الفسبكة”

اللبناني أحمد بيضون يحاول رد الاعتبار للكلام المهدور
‘دفتر الفسبكة’ كتاب شيق لكاتب مثير للجدل يحاول إعادة الاعتبار للكلام المهدور بإنشائه مجموعة من النصوص تستجيب لعالم الـ’فيسبوك’.
العرب شادي علاء الدين [نُشر في 18/01/2014، العدد: 9442، ص(16)]
بيضون: صفحات الفيسبوك تعمم العنف

بيروت- كان الكاتب والباحث الاجتماعي اللبناني أحمد بيضون قد صدّر كتابه “الصراع على تاريخ لبنان” الصادر بالعربية عن “منشورات الجامعة اللبنانية” عام 1989، بعبارة تنسب للمسيح وردت في نسخة من الإنجيل لا تعترف بها الكنيسة وُجدت في صعيد مصر. هذه العبارة /الوصية هي “كن عابرا“. وبعد أكثر من ثلاثين عاما يُصدر مؤخرا كتابا عن دار “شرق الكتاب” بعنوان “دفتر الفسبكة”.

يصدّر أحمد بيضون كتابه الجديد الموسوم بـ”دفتر الفسبكة”، بأبيات مختارة للشاعر “هنري ميشو”، قام بترجمتها ووضعها بعنوان “ما يستحقه الفسابكة”، وتقول هذه الأبيات: “أيها العالم الكريه، ليس هيّنا أن يستخرج منك شيء حسن/ مدينة من الأسمال سأبنيها لكم/ أنا أبني لكم بلا تصميم وبلا إسمنت/ عمارة لن تقووا على هدمها/ سيسندها ويزيد من حجمها/ ضرب من البديهة المزبدة/ فتحضر لتنهق تحت أنوفكم/ وتحت الأنوف الجليدية من هياكلكم/ وأنوف فنونكم العربية وأنوف سلالة مينغ أباطرتكم/ من دخان ومن ضباب ذائب/ ومن صدى جلد الطبل/ سأنشئ لكم قلاعا ساحقة رائعة/ قلاعا مبنية من الرجّ والزلزلة حصراً/ وسيسقط دون أسوارها نظامكم الدهري وهندستكم/ سيسقطان في صورة لغو وهراء وغبار رمل لا منطق له”.

طاحونة الـ”فيسبوك”

وبعد رحلته في العالم الافتراضي، يختم بيضون كتابه بترجمة أخرى لهنري ميشو واضعا لها عنوان “السيرة “، تقول: “انقضى أوان العمل. تم نسج قميص الصوف، في كل موضع تجده/ نزل التوقيع على الورقة الأخيرة، هذا رحيل الفراشات/ انقضى أوان الحلم، الآن يُحلم بنا. سكوتٌ/ عدنا لا نستعجل المعرفة”.

يصف أحمد بيضون ولوجه إلى عالم الـ”فيسبوك” بأنه دخول في ضجة طاحونية يتم فيها هدر الكثير من الكلام والأصوات والصور. يحاول أن يجعل لدخوله معنى ما، فيقترح مشروعا لضبط المصطلح الفيسبوكي واستبدال مفرداته الشائعة بما يقابلها في العربية من مفردات يعتبرها أصح وأكثر تعبيرا عن واقع الحال.

إذ يقترح مثلا استبدال كلمة صديق بكلمة “صاحب” أو “صاحبة” و”طيب” و”أحسنت” بدلا من “أعجبني” و”فائدة” و”نبذة” بديلا عن “نوت” و”عرضحال” بدلا من “ستاتوس أبدايت”. كما يبادر هو بنفسه وقبل أن يسبقه أحد إلى الإعلان عن عقم هذا المسعى فيعلن أن هذا الجهد يشبه دق الماء.

لماذا يقوم به إذن؟ يبدو وكأن الرجل يقوم بواجبه، ولكنه بات في مرحلة من العمر أضحى فيها معفى من القيام بمثل هذا الجهد وخاصة إذا كان هو نفسه يائسا من جدواه.

التفسير الذي يمكن أن يضيء هذا النزوع إنما يكمن في ذلك المسار المتواصل الذي سعى الكاتب إلى السير عليه انطلاقا من وصية “كن عابراً” وصولا إلى مقدمة وخاتمة كتابه الحالي “دفتر الفسبكة”.

(دفتر الفسبكة)، مجموعة من النصوص تستجيب للطابع البرقي السريع الذي يتطلبه عالم الفيسبوك، وتحافظ على بنية لغوية وفكرية محكمة

يتعلق الأمر بالمسؤولية قبل أي شيء آخر، هو يضعها في مواجهة الهدر الفيسبوكي الذي صار فيه كل شيء متخففا بشكل لا يطاق من المسؤولية، حيث أتيحت للمرة الأولى في التاريخ لكل شخص أن يكون بمتناول يده وعبر تجهيزات بسيطة تكاد تقتصر على الاتصال بشبكة الإنترنت شبكة إعلامية خاصة به تجتمع فيها كل إمكانيات التلفزيون والإذاعة والصحافة معا.

كل شخص صار نجما يعيش نشوة البث المباشر والمتواصل والمعفى من أي مسؤولية إلى حدّ كبير ما أدّى وفق ما يلاحظه بيضون في الحال اللبنانية والسورية إلى تعميم العنف والطائفية والبذاءة وشيوع تردّي الخطاب غير المسبوق بحيث بات من النادر العثور على صفحات فيسبوكية لا تمارس مثل هذا النوع من الخطاب وتتبناه.

فضاء الكلام المهدور

محاولة بيضون تكمن بشكل خاص في محاولة إعادة الاعتبار للكلام المهدور عبر إنشائه مجموعة من النصوص تستجيب للطابع البرقي السريع الذي يتطلبه عالم الـ”فيسبوك”، ولكنها تحافظ في الآن نفسه على بنية لغوية وفكرية محكمة مشحونة بسخرية حكيمة وباردة ومنتبهة. يردد دائما أن ما يكتبه إنما يعبر عنه وأنه أناه الخاصة وشخصيته بمعنى أنه كتاب وجهه الفعلي، وأنه يتحمل كامل المسؤولية عنه.

معظم الداخلين في عالم الـ”فيسبوك” يعتبرون أن ما يقومون بنشره على صفحاتهم وخاصة التعليقات إنما هو نوع من الكلام الفاقد للوزن أو الذي يعبر عن حالة من التواصل الاجتماعي المشبع باللياقات التي ليست في نهاية المطاف سوى تبادل للمعلن “كتاب الوجه الممنتج” في حين يستقر المخفي “كتاب الوجه الحقيقي” في مكان آخر. من موقع المسؤولية يمكن للكاتب أن يبني سيرة ممكنة له.

هو يعلم أن مجالها الوحيد الممكن ليس في ما يتوهمه آلهة الـ”فيسبوك” الجدد وغيرهم ممن يدمنون إتلاف الكلام والمواقف والوجوه وإغراق المعاني تحت فيض مهول من الثرثرة الجوفاء بل في فعل العبور في قلب هذا العالم الكريه ومحاولة استخراج شيء حسن منه. السيرة التي يحاول رسمها لذاته لا تبنى على عملية رصد متسلسل ومحاولة القبض على التفاصيل، فهو لا يرى في ذلك كله سوى نوع من الهدر. تكمن السيرة التي يتبناها ويقوم مشروعه عليها في الدفاع عن اللغة، وتحديدا عن اللغة التي ترتدي هيئة نتف سيبني منها مدينة الأسمال.

هذه المدينة ستتضخم برفدها الدائم بضرب خاص يجيده من بديهة مزبدة من شأنها تدمير العمارات المنتظمة والشاهقة والثابتة، وتاليا الراكدة والميتة التي يوحي الـ”فايسبوك” أنه يقاومها في حين أنه يصنعها.

يريد بيضون سيرة هي عبارة عن الأثر الذي يخلفه العبور. العمارات الشاهقة والضجيج ليسا سيرة ممكنة له، بل تكمن سيرته في حشد الإضاءات اللامعة المؤلفة من دخان ومن ضباب ذائب.

ينهي الكاتب مهمته ويعلن ختاما عن راحة فيسبوكية تتيح المجال للمعرفة أن تتكون في الصمت وفي الهدوء خارج طاحونة الـ”فيسبوك”. يقول بيضون: “لقد تم نسج قميص الصوف. السيرة لا تكمن في القميص المنجز بل في فعل الحياكة نفسه”.

نازك سابا يارد عن “دفتر الفسبكة”

أحمد بيضون ساخراً بلغة فايسبوكية
نازك سابا يارد
الأحد ٢٢ ديسمبر٢٠١٣، جريدة الحياة

من تعوّد على قراءة أبحاث أحمد بيضون الجدية، الموضوعية، العميقة إلى أقصى الحدود، إن في السياسة أو المجتمع أو اللغة، في كتبه مثل «ما علمتم وذقتم»، «كلمن»، «الجمهورية المتقطعة» أو «لبنان: الإصلاح المردود والخراب المنشود» وغيرها وغيرها، يرى في «دفتر الفسبكة» وجهاً آخر لأحمد بيضون، لا يقلّ عن وجهه المعهود عمقاً، إلا أنه ممهور هذه المرّة بفكاهة وخفة روح، ولو امتزجتا بما عهدنا من فكر جدي رصين.

ككل باحث جدي يستهلّ كتابه بإظهار أهمية الموضوع الذي يتناوله: فبالفايسبوك نتعرّف إلى نواح كثيرة من شخصية الفايسبوكي، ويكون الفايسبوك بمثابة إذاعة شخصية، فضلاً عن أنه يكسر عزلة الإنسان ويزيد من ثقته بنفسه، أو العكس، لأنه يكوّن جماعات حول قضية معيّنة يدور السجال بينهم على مواقعه، فيتجلى من خلالها مدى نفوذ كل منهم.

نرى خفة الروح أول ما نرى في العنوان: «دفتر الفسبكة»، وكثيراً ما سُئلت عن المقصود بهذه اللفظة الغريبة حين ذكرت الكتاب. فإن دلّت على شيء فعلى تمكن الكاتب من التصرف بألفاظ اللغة التي يتقنها خير إتقان، من اشتقاق أو ابتكار أو صهر ألفاظ أجنبية بلفظة عربية، فيبتكر كلمات جديدة تفي بغرضه. وها نحن هنا الآن أمام «الفايسبوك» وما اشتقّ بيضون من اللفظة بعد تحويلها إلى كلمة «عربية».

من هذا القبيل اشتقاقه «الفسبكة» أو «الفايسبوكي» و «الفرند» أو «الصاحب» التي وجدها أنسب من «صديق» التي لا تكون في وضعها هنا. كذلك يستخدم المصطلح الإنكليزي محوّلاً إياه إلى لفظة عربية، مثل «يسيّف» و «يدلّت» و «تشات» و «المسدجات» ((save,delete,chat, messages. ولكنه بتمكنه من اللغة يقترح أحياناً لفظة عربية لترجمة اللفظة الإنكليزية. مثلاً، بدلاً من «ملاحظة» و «ملاحظات» المستخدمة يقترح «فائدة»، «فوائد»، أو «نبذة»، «نُبذ» لترجمة note, notes (ص192). ولا نرى براعته اللغوية في هذا وحده، ففي أحد «مسدجاته» يحاكي أسلوب بديع الزمان الهمذاني في مقاماته ناطقاً باسم راويته عيسى بن هشام فيستخدم «ابو الفتح الفايسبوكي»، راوية أحمد بيضون، أسلوب الهمذاني المسجّع عينه في حواره. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، لا يكتفي الكاتب بمحاكاة الهمذاني، وإنما يضمن «مسدجاته» إشارات كثيرة إلى التاريخ القديم (ص95-96، مثلاً) والأدب الأجنبي، ولا سيما العربي (ص102،110،111،127،147) وقد يحلله (ص149) أو ينقده كنقده نقداً عروضياً بيتاً من أبيات دالية أبي العلاء المعري (ص113-115) أو تحليله بعض ابيات السياب في رائعته «أنشودة المطر» (ص149-150).

غير أن بعض «مسدجاته» يتعلّق بقضايا شخصية كحزنه على غياب أستاذه المستشرق الكبير دومينيك شوفالييه الذي آلمه ألا يكون قد ذكره أحد من طلابه الذين كان له عليهم فضل كبير؛ ولا تغيب عنه ذكرى اغتيال المفكر الحر سمير قصير، أو صديقه القديم نصير الأسعد وفراقه، أو ألمه وإعجابه بوسام الحسن الذي اغتيل نتيجة شجاعته وصدقه في قيامه بواجبه بفضح العملاء.

من هذا يتضح أن الكاتب لا يفصل تأملاته ومواقفه الشخصية عما يحيط به. تعبّر مراسلاته، في ما تعبّر، عن انتقاده الانحطاط الثقافي في العالم العربي. تعليقاً على «تطيير» رأس كل من الأديبين الأعميين، أبي العلاء في المعرّة وطه حسين في المنيا، يقول: «في وحدة حالهما اليوم إشارة إلى وحدة الحال المستشرية بين المحيط والخليج… العمى الآخذ في التوسع… لا يقوى على تحمّل هذين البصيرين… لا يقوى على تحمّل من كان أعمى البصر، في حالتيهما، سخرية حارقة من عمى البصائر المنتشر». (ص163) وهو يرى أن من اسباب ذلك أن لا حرية للبحث الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي أو غيره في مجتمعاتنا (ص22).

وفي التفاته إلى مجتمعاتنا يثيره وضع المرأة المشين فيها، فمن خلال مقارنته بين صورتين التقطتا لفتاتين يفرق بينهما نصف قرن، يعرض بيضون للتغيير الذي طرأ على وضع المرأة التي ساهمت دعوة قاسم أمين في تحريرها، ووضعها اليوم «حيث يقضم النقاب بعض ما كان الحجاب استردّه، في العقود الماضية القريبة، من «أراضٍ» في «قارة النساء» كان السفور قد انتزعها قبل ذلك». وهنا لا يكتفي بهذا التعليق، فهو عبر مقارنته بين الصورتين يحلّل تحليلاً دقيقاً ممتعاً التعابير على وجه كل من المرأتين ودلالتها والمشاعر التي يستشفها منهما. (45-46)، وفي التفاته إلى قضية المرأة ينتقد انتقاداً شديداً النواب ورجال الدين الذين رفضوا تجريم الاغتصاب الزوجي (ص47-51). وليس هذا مأخذ الكاتب الوحيد على السياسة ورجالها في لبنان وعلى رجال الدين. يعرض مفصلاً لإفلاس السياسة في لبنان وأسباب ذلك (ص117-119 )، ولانعدام الروح الديموقراطية انعداماً تاماً، فكل من يخالف الآخر في الرأي يُلجأ إلى اغتياله. ومن أهم مآخذه على إفلاس السياسة في لبنان سيادة الفساد و «اندثار دولة القانون… وفقدان الاستقلال الوطني باستتباع مكوّنات الدولة لقوى الخارج» (ص132) من ايران إلى سورية فالسعودية وأميركا… إلخ. ولا يوفّر انتقاده اللاذع أياً من السياسيين، أياّ كان التيار او الحزب الذي ينتمون إليه. ففي سخرية فكهة من تعاون عون و «حزب الله» يقول: «بعد هذه العشرة الطويلة للشيعة، من يجرؤ على الاعتقاد أن العِماد الرئيس لا يسعى إلى توريث «شعب لبنان العظيم» لصهره الإمام باسيل؟» (ص142) وكأن تحالف عون مع «حزب الله» كان ليضمن لنفسه، أو لصهره، رئاسة الجمهورية حين تنتهي مدة الرئيس الحالي.

وفي صفحات كثيرة يهاجم الطائفية والتعصب والتطرّف والدعاة المزعومين الذين يغلطون في النحو والصرف وفي القرآن والحديث… وقد يكون أكثر ما أثار سخرية الكاتب قانون «مضاجعة الوداع» الذي يراد طرحه على مجلس النواب المصري، قانون يجيز للزوج ان يضاجع زوجته الميتة في غضون ست ساعات بعد وفاتها…

أما في ما يتعلّق بالأحزاب الدينية/السياسية، فينتقد بيضون «حزب الله» لتدخله في حرب سورية، وينتقد أيضاً في صفحات كثيرة، غيره من أنصار النظام السوري، بمقدار انتقاده معارضي ذلك النظام. وأكثر ما ينتقده عند الإثنين الهمجية. همجية النظام افقدته مسوّغ وجوده، وهمجية الثورة تفقدها تفوّقها الأخلاقي والتأييد العالمي، مما يجعلها في نهاية الأمر بحاجة إلى وصي دولي (ص68-69). وليس انتقاده السياسي موجهاً إلى هؤلاء وحدهم، وإنما إلى إسرائيل (طبعاً) وأميركا (أيضاً طبعاً) والفلسطينيين الذين أدّى انشقاقهم وتناحرهم إلى ازدياد تمكّن اسرائيل منهم.

ولكن ليس هذا وحده ما يعطي كتاب بيضون أهميته، فقيمته الفريدة تكمن في فكاهة وسخرية تمهران كل صفحة من صفحات الكتاب، كقوله إنّ نداء «يا حاج» حلّ في السنوات الأخيرة في الأوساط الشيعية محلّ «يا سيّد» حتى لا يبقى غير «سيّد» أوحد، ومحل «يا أستاذ» حتى لا يبقى على وجه البسيطة من أستاذ غير «الإستيذ» (ص57). وتعليقاً على الإشارة إلى «الاتحاد السوفياتي السابق» يسأل: «ليش عيّنوا واحد محلو؟» (ص58)، وفي سخريته من وزير الطاقة جبران باسيل سمّى المولد الذي اشتراه «باسيل» فيقول «أسعد لحظاتي في هذين اليومين حين تنادي عزة (زوجته) من بعيد: «يا أحمد! إطفي باسيل!» (ص99). وفي «أشقاء» لبنان يقول: «على كثرة من نكحوا أم بلادنا، لا نجد لنا إخوة غير أشقاء. كلهم «أشقاء»… «وكلهم عارف مصالحه أحسن المعرفة، ولبنان بينهم القاصر الدائم» (ص139). سخرية ممزوجة بمرارة وألم عميقين.

كتاب أحمد بيضون «دفتر الفسبكة» ممتع بمضمونه، بأسلوبه، بفكاهته، وبسخريته المضحكة حيناً، إلا أنها لا تخفي مرارة الكاتب وألمه في معظم الأحيان.

آخر تحديث:
السبت ٢١ ديسمبر ٢٠١٣