“معاوية” وامتحانُ التسليمِ بالتغايٌر

www.almodon.com/opinion/2023/2/27/معاوية-وامتحان-التسليم-بالتغاير

يَطْرحُ التوجّسُ الواسعُ النطاق من مسلسلٍ موضوعُه معاوية بنُ أبي سفيان أُنْتجَ للتلفزيون وأُعْلنت نيّةُ عرضِه في شهرِ رمضان المقبلِ، مشكلةً غائرةً في عمقِ العلاقةِ بين الجماعتين الإسلاميّتين الكبريين، السُنّةِ والشيعة: في حاضر هذه العلاقة وفي ما يتعدّاه إلى بنيتِها العامّة. بل إنّ هذا التوجّسَ (وهو يستبقُ الإلمامَ بما سيتكشّفُ عنه المسلسلُ من مواقفَ حيالَ الشخصيّةِ التي هي مَدارُه ومن تناولٍ للنزاعِ الفاصلِ في تاريخ الإسلام وقد كانت هذه الشخصيّةُ في الصدارةِ من الطرف المتغلّب فيه) يطرحُ موضوعَ التسليمِ أو عدَمِه بالحقِّ الأصليِّ لكلٍّ من الجماعتين في التعبير، على رؤوسِ الأشهادِ، عن مَواطنِ التغايرِ بين موقفِها والموقفِ الذي يواجِهُه في مسائلَ تنتمي إلى أصلِ الافتراق بين الجماعتين: أي أصلِ انفراد كلٍّ منهُما بهُويّةٍ لها، لا أكثرَ من ذلك ولا أقَلّ.

فإذا ظهرَ من المُعاينةِ أنّ التسليمَ بهذا الحقِّ محفوفٌ بقيودٍ وتحفّظاتٍ تودي الاستهانةُ بها إلى تأجيجٍ قليلٍ أو كثيرٍ لفتنةٍ شهِدْنا منها فصولاً قريبةً داميةً ولا تزالُ مسارحُها مهيّأةً وأسبابُها موفورة، جازَ السؤالُ عن ماهيّةِ تلك القيودِ والتحفّظاتِ وعمّا تَشي به من موقعٍ أو مواقعَ ومن إشكالٍ ماثلٍ في مضمار رئيسٍ من المضامير التي ترسم الصورةَ الأساسيّة للمجتمعات، بما فيها الوجهُ السياسيُّ: وهو مضمارُ “التغايرِ” وكيفيّاتِ قبولِه ورفضِه ودرجاتِهما ومقاومتِه للتاريخِ أو خضوعِه له والمغزى الأعمقِ أو الأعمِّ (ولنَصِفْهُ بـ”الحضاريِّ”) لهذا كلّه.

ثمّة فائدةٌ في الإشارةِ إلى مفارقةٍ يوضحُها التنويهُ، ولو استطراداً، بالاختلافِ الظاهرِ والشبهِ العميقِ ما بين الأزْمةِ التي أثارَتْها تكراراً رسومٌ ماسّةٌ بنبيِّ الإسلامِ نُشِرت في بعضِ الدولِ الأوروبيّةِ وما أسْفَرَت عنه: بين اغتيالٍ للرسّام الفاعل وهجومٍ مسلّحٍ دامٍ على الصحيفة الناشرة، وتلك المتوقّعةِ الحصول أو المتحسّبِ من حصولِها، في الأقلّ، من جرّاءِ عرضِ المسلسلِ التلفزيونيِّ “معاوية”. في هذه الحالةِ الأخيرةِ، نحن في العالمِ الإسلاميِّ نُواجهُ الحالَ الراهنةَ لشبكةِ العلاقاتِ بين أطرافِه وديناميّاتِها المعلومةَ أو المرجَّحة. نحن أيضاً حيالَ عملٍ تلفزيونيٍّ بما تشيرُ إليهِ هذه الصفةُ، في عصرِنا، من سعةٍ في دائرةِ المشاهدةِ والانفعالِ يزيدُ منها كثيراً وقوعُ الموضوعِ في أصلِ الشقاقِ المذهبيِّ الذي بقيَ، على اختلافِ الفصولِ والتجلّياتِ، يخترقُ العالَمَ الإسلاميَّ في مَدى تاريخِه.

تدلُّ المقارنةُ على أنّ سِمَتينِ تميّزانِ حالةَ الرسومِ والرسّامينَ قَصّرَتا (بخلافِ ما قد يُفتَرَضُ) عن دَرْءِ العنف أو عن الحُؤولِ دونَ بُلوغِه ما بلغَ من ذروة. السمةُ الأولى انحصارُ شرارةِ النزاعِ في رسمٍ وصحيفةٍ (بِما يَسِم هذينِ من ضيقٍ نسبيٍّ في دائرةِ التأثيرِ بالقياسِ إلى تأثيرِ الروايةِ المتلفزةِ) والسِمةُ الثانيةُ وقوعُ الفعلِ في خارجِ “دار الإسلام”: في ديارٍ يجدُ المسلمون أنفُسَهم قلّةً فيها، يحمِلون، في صورتِهم عندَ أهلِها وفي تصوّرِهم لأنفُسِهم، أوزاراً من إرثِ المغالبةِ التاريخيّةِ بين بلادِهم الأصليّةِ والبلادِ التي حطّوا فيها رحالَهم وأصبحوا بعضَ مُواطنيها. يجوزُ التذكيرُ ههُنا بما لَقِيَه سلمان رشدي أيضاً، وهذا مع أنّ أصْلَه الإسلاميَّ، مقروناً بانتمائه البريطانيِّ المكْتَسبِ، مثّلَ بعداً مضافاً إلى ما نقعُ عليه من أبعادٍ لحالاتِ الصحف والرسوم.

هذا كلُّه لا يُبْطلُ ما للتلفزةِ من امتيازٍ لجهةِ الاتّساعِ في نطاقِ التأثيرِ وتنوّع الأوساطِ المتلقّيةِ ولكنّه يشير، عند المقارنة بين حالة الرسوم الأوروبيّة تلك وحالة المسلسلِ الذي نحن في عين عاصفته اليوم، إلى وجودِ الصاعقِ، في كلِّ حالةٍ، في موقعٍ بعينِه هو، على التحديدِ، موقعُ الاختلاف المعتبر أصليّاً بين مجتمعاتٍ أو جماعاتٍ تحتجُّ وتهدّدُ وأخرى يستهدفُها التهديدُ والوعيد. جديرٌ بالتنويه، من بعْدُ، أنّ “الأبحاث”، أي ما يُنْسَبُ إلى “العِلْمِ” (بالحقِّ أو بالباطلِ) من أعمالٍ منشورةٍ يبدو واقعاً بمعزِلٍ من هذه المنافسةِ بين الرسومِ والأشرطة، إذ لم يؤثَر أنّ ما ينْشرُ في خارجِ العالَمِ الإسلاميّ من كتبٍ ومقالاتٍ موضوعها الإسلام تخالف صراحةً أسس المعتقَدِ الإسلاميّ (وهذا يحصُل من قرونٍ وأصبَحت حالاتُه لا تُحْصى) قد أثارَ يوماً، لا الردّ بالعنْفِ وحَسْبُ، بل الشهيّةَ لمجرّد المناقشة. هذا أيضاً (وقد أشرنا إليه في مقالةٍ سابقةٍ) أمرٌ له دلالتُهُ وعواقِبُه.

بّيِّنٌ، في واقعِ الحالِ، أنّ نبيّ الإسلام هو العنوان الأمثلُ للمواجهةِ حين تكونُ المواجهةُ بين مسلمينَ وبين غربٍ مصنَّفٍ على أنّه خصمٌ لهم. فإلى تاريخِ الاستعمارِ الغربيِّ وإلى تواصُلِ الشعورِ السهلِ التحصيلِ بدونيّةٍ تَصِمُ مواقعَ البلادِ الإسلاميّةِ في عالَمٍ يبدو الغربُ قابضاً على مقاليدِ نظامه، يسودُ جماعاتِ المسلمينَ، وهي المعرِّفةُ نفْسَها بدِينها، فَرْضيّةٌ مفادُها أنّ الغربَ مسيحيٌّ “ولو طار!”، وهي فَرْضيّةٌ لا تُعْوِزها الأسانيدُ… ولا تُعْوِزُ ضِدَّها بطبيعةِ الحال.  تحسُنُ الإشارةُ – استطراداً، مرّةً أخرى! – إلى شَبَهٍ حاصِلٍ ما بينَ هذه الفرضيّةِ “الإسلاميّةِ” وتلك “الشيعيّةِ” القائلةِ بأنّ أهلَ السُنّةِ “أمويّونَ” “ولو طاروا” أيضاً! وهذا مع أنّه لا يوجدُ موقفٌ تصحّ نسبتهُ إلى هؤلاء أو إلى فقهائهم المتصدِّرينَ أجْمَعينَ من شرعيّةِ “الخلافةِ” الأمويّةِ أو شرعيّةِ ما تَلاها من “خِلافات”. ولكنّ “أهلَ السُنّة” هم من اخترع الخلافةَ الراشدة (وهو ما حَصَرَ “الحقلَ التاريخيّ” للخِلافِ السنّيّ الشيعيّ، وهو أيضاً ما أبطَنَ مُثولَ نوعٍ من “الغَيِّ” الأصليِّ في ما تَلا مَرْحلةَ “الرُشْدِ” تلك) ولكن غلبَ عندَهُم المَيلُ إلى تَسليم الأمر لولِيِّ الأمر، وإن جارَ، وهذا درْءاً للفتنةِ ودَفْعاً للسَيْبِ وحِفظاً  لـ”بيضةِ” الإسلام أن يَشدَّ الخروجُ على السلطانِ من أزْرِ عدُوّه. هذا فيما اختلفَ الموقفُ من السلطانِ، عبر تاريخِ الإثني عشريّة من الشيعةِ، ولكن مع البقاءِ على إنكارٍ غالبٍ لشرعيّةِ الخُلفاءِ المتعاقبين.  فَبْعَد أن عبَرَ الشيعةُ مرحلة “الثورات” التي استغرقت العصرَ الأمويَّ، على التحديدِ، ثمّ شهدت علاقةُ أئمّتهم بالأوائل من خلفاء بني العبّاس بعض التقلّب، شاعَ، على وجهِ الإجمالِ، بينَ الأعلامِ من فقهائهم، مع انقضاء عهدِ أئمّتهم الظاهرينَ وعبور جماعَتِهم من حالةِ “الحزبِ” المُعارضِ إلى حالةِ “المذهبِ” التامِّ الأوصافِ، ميلٌ إلى لزومِ السكينةِ ممتَنِعينَ عن جهاد السلطان، وإن لم يُقِرّوا له بالشرعيّةِ، وإلى الأخذ بالتَقيّةِ بانتظار ظُهور المنتظَر.

أهَمُّ ما في الأمرِ اختلافُ موقعِ “الجرح” النرجسيّ بين الحالة والأخرى: حالةِ التغايرِ في الدينِ أو في “الحضارةِ” وحالةِ التغايُرِ في المَذهب. فيَقَعُ الجرحُ في شخصِ النبيِّ حيثُ يكونُ “الغربيُّ” في المواجهةِ ويَقَعُ في شخصِ “الإمامِ” حيثُ تكون المواجهةُ سُنّيّةً شيعيّة. وذاكَ أنّ “معاوية” المسلسلِ ما كانَ ليستثير هذا الغبارَ كلَّهُ لولا أنّ حديثَ معاوية يوجبُ التطرّقَ حُكْماً إلى حديث عليّ. بل لعلّ “المسلسلَ” ما كان ليستوقفَ كثيراً لولا التحَسُّبُ الضِمْنيُّ من أنّه، وقد اتّخذَ معاويةً موضوعاً له، لا بدَّ أن ينطوي على محاولةٍ لفكِّ أَسْرِ الرجُلِ من الصراعِ مع عليّ وللعثورِ في سيرته على أبعادٍ أخرى، سابقةٍ أو لاحقةٍ،ِ قد يكونُ بينها – مثلاً – إحصاؤهُ في عِدادِ كُتّابِ الوحيِ، على عهدِ النبِيِّ، ثمّ استئنافُ الفُتوحِ (التي كانت قد توقّفت في خلافةِ عليّ) بعد استتبابِ الأمرِ له. وقد يكونُ بينها أيضاً الإرهاصُ بأبنيةٍ للدولةِ الإسلاميّةِ لم يكُنْ عرَفَها عهدُ الراشدين، وقد تابَعَها، بعْدَ معاوية، بَعْضُ مَن خَلَفَه من بني أميّة. بل إنّ الأنكى قد يكونُ أن يوفّقَ مخرِجُ المسلسلِ إلى عبارةٍ سينمائيّةٍ مستَمْلَحةٍ عن شَرَهِ معاوية المشهورِ أو عن تلكَ الشعرةِ الذائعةِ الصيتِ التي كان المذكورُ يشدُّها ويُرْخيها، إلخ : أي عن أيّ شيءٍ يُظهِرُ للرجُلِ وجهاً مستَظْرَفاً (ولو مُدْرَجاً بين وجوهٍ غيرِ محَبَّبة!) أو يُبْرِزُ ما كانَ عليه من مقدِرةٍ سياسيّة، مثلاً. 

هذا النوعُ من وقائعِ التاريخِ محظورٌ أن تسلّطَ الأنظارُ عليه فيَخْرجَ تاريخُ الإسلامِ من المَحْبَسِ المؤبّدِ الذي حَصَرَ الشرعيّة ومعها القيمةَ بينَ جُدرانِهِ وحَصَرَ النزاعَ عَلَيها في بضعةِ عُقودٍ واقعةٍ، على التقريبِ، بينَ سَقيفةِ بَني ساعدة وموقعةِ كربلاء، ثمّ غادر سائرَ القُرونِ الإسلاميّةِ في عُطْلٍ من القيمةِ أو في عُرْيٍ من الشرعيّةِ الأصليّةِ، سيبقى يَلُفُّها إلى يومِ الدِين!

ليسَ أدنى أهمّيّةً من ذلك كُلِّه أنّ اللهَ نَفْسه لا يستثيرُ، في وجهِ الغَرْبِ، حَمِيّةً إسلاميّةً اسْتَثارها رسولُه. فمَعْلومٌ أنّ ما يُنْسَبُ إلى الإلحادِ، بما فيهِ ما ينطوي على الطعنِ الصريحِ بالذاتِ الإلهيّةِ، لا تُحْصَرُ حالاتُه، في تلك الديارِ، ولا ما أثمرَهُ من أعمالٍ، سواءٌ منها ما تَعلّقَ بـ”الآبِ”، في الفهمِ المسيحيّ، أو بـ”الإبنِ” الذي لا يؤلّههُ المسلمونَ ولكنْ يُقَدِّسونَه.. أو أيضاً بإلهِ اليهودِ، ربِّ “إبراهيم وموسى”. يَتْركُ المسلمونَ للهِ عقابَ من يُقْدِمُ على إهانتِهِ ولكنْ يَهْتفونَ: “إلّا رسولُ الله!”. في نطاقِ العالَمِ الإسلاميِّ أيضاً، يحْصُلُ كثيراً أن يَجُرَّ التجديفُ على الأفرادِ عُقوباتٍ قُصْوى، ولكنّ الحذَرَ من فتنةٍ تُقْبِلُ عليها الجماهيرُ شيءٌ آخَر: وهذا حَذَرٌ لا يظهر إلّا حين يُطْرحُ في الساحةِ العامّةِ كلامٌ يتناولُ “الشَيْخَينِ” أو أمَّ المؤمنينَ عائشة، على الخصوصِ، بِما يُخالِفُ موقفَ أهلِ السنّةِ، أو كلامٌ يتناولُ الإمامَ عليّاً وأهلَ بيتِهِ بما يعارض موقفَ الشيعة.  هذا ولا يغيّرُ في الأمر شيئاً أن يُقْرَأَ هذا الإخفاقُ في قبولِ التغايُرِ على أنّه عَرَضٌ من أعراضٍ مؤدّاها تَرَكُّزُ عالَمِ الجماعةِ الاعتقاديّةِ في ذاتها وأنّ التركّزَ مُنْتَهٍ بدورهِ إلى اقتناعٍ ضِمْنيٍّ بالانفرادِ بالحقِّ وبالقيمةِ… بل أيضاً بالانفرادِ بالوجود!

في هذا مشكلة! أو هُما مشكلتانِ، بالأحرى. الأُولى أنّه لا يَسَعك أن تدعو كُلّاً إلى الإدلاءِ بِما عندهُ في هذه الأُمورِ وأنتَ عالِمٌ بما لإطلاقِ العِنانِ هذا من عَواقبَ يبقى نصيبُ العَفْويّةِ ونصيبُ الافتعالِ فيها مَحَلّ نظر. عليكَ تَرْكُ الدعوةِ إلى إطلاقِ العِنانِ باسمِ حُريّةِ الرأيِ، إذن: يَرْدعُك عنها داعٍ واقعيٌّ أو عمَليّ. وأمّا المشكلةُ الأخرى، فهي في أنّ هذا التوجُّسَ بالذاتِ، يشي (أيّةً تَكُن وجاهتُه العَمَليّةُ) بضعفٍ أصليٍّ – فادحٍ! – في الرُشدِ العامِّ ويُصْدي لنقصٍ جَسيم في حُرّيّةِ التعبيرِ عن المعتقد. ففيهِ، في نهايةِ المَطافِ، ما يشبِهُ، مثلاً، مَنْعَ المسيحيّينَ، في بعضِ العهودِ الإسلاميّةِ، من دَقّ النَواقيسِ: بما ينطوي عَلَيهِ الدقُّ من إشهارٍ مُعَمّمٍ لعبادةٍ يُطْلَب كَبْتُها مع المعرفةِ بحُصولها. الخلافُ السُنّيُّ الشيعيُّ على ماجَرَيات “الفتنةِ الكبرى” معروفٌ هو أيضاً بتفاصيلهِ من الجِهَتَين. غيرَ أنّ مُسَلْسَلاً يَعْرِضُ بعضاً من قول جهةٍ من الجهتينِ في موضوعِ “الفتنةِ” تلكَ لا يُنْظَرُ إليهِ على أنّهُ “روايةٌ” تُقابِلُها أخرى، بل هو يُعَدُّ مَثارَ فتنةٍ قَبْلَ أن يُعرَض. وهو، مع الأسف الذي لا يُحَدُّ، قد يكون فعلاً فصلاً آخَرَ من فتنةٍ جارية…

بلتيمور في 26 شباط 2023

طفرة في استقلال الذكاء الاصطناعي

www.almodon.com/opinion/2023/2/20/طفرة-في-استقلال-الذكاء-الاصطناعي-في-هاتفي-عفريت

بدا فجأةً، قبلَ شهرين من الزمن، أنّ طفرةً حصلت في كفاءات الذكاء الاصطناعيّ تُعرّض ما بقيَ يعتبَر ملاذاً للعقل البشريّ ومرتكزاً للمؤسّسات المعنيّة بتنشئة هذا العقل لمنافسةٍ لا تُحَدُّ عواقبها على مصير العلاقات الإنسانيّة وأنظمة المجتمعات. انتشر الأمرُ، على نطاق العالم، حين كشفَ أستاذٌ للفلسفة في واحدةٍ من جامعات ساوث كارولاينا أنّ واحداً من طلاّبه لجأ إلى برمجيّة ذكاءٍ اصطناعيّ “مستقلّةٍ” تدعى “تشات جي بي تي” أعدّت له، من الباب إلى المحراب، مطالعةً حسنةَ السَبْكِ، واقعةً في 500 كلمة موضوعها “مفارَقة الفظاعة” في نظام ديفيد هيوم الفلسفيّ. على الفور، طُرِحت مسألةُ مستقبلِ “الامتحان” أو “الاختبار”، بما هو ركنٌ ركينٌ لنظام التعليم برمّته ولتصنيفِ المتلقّين بناءً عليه، في عالَمِ الأمس واليوم. فما الذي يبقى من وجاهةٍ لإثباتِ المعرفةِ بموضوعٍ ما والقدرةِ على الإدلاءِ بدلوٍ شخصيٍّ فيه إذا كانت البرمجيّةُ تنتجُ في ثوانٍ ما يحتاج الممْتحَنُ إلى ساعاتٍ أو أيّامٍ أو أسابيع لإنتاجه ويبلُغ ما تنتجه شأواً قد يقصّرُ عنه معظمُ المرشّحين للمهمّة نفسها من البشر؟ وكيف يكون التثبّت، من بَعْدُ، من أبوّة المنتجِ (أهوَ من صنيعِ الممْتحَن أم من صنيع البرمجيّة؟) إذا طغى الانتحالُ ولم يقرّ الفاعلون بفعلتِهم على غرار ذاك الطالب في تلك الجامعة الأميركيّة؟

لا غّرْوَ أنّ هذا الضربَ من الغشّ اعتُبِرَ شيئاً جديداً بمقارنته بما هو شائعٌ وقديمٌ في المدارس والجامعات، بما في ذلك حلولُ كاتبٍ مستترٍ محلَّ آخرَ معلَنٍ، لا في وضعِ مطالعةٍ تقع في صفحةٍ أو اثنتينِ مثَلاً، بل في وضعِ أطروحةٍ برمّتها يترتّب عليها لقبٌ طنّانٌ وحقوقٌ جوهريّةٍ. اعتُبِرَ تطويعُ الآلة للنيابة عن البشر في ما يسمّى “الإنتاج الفكريّ” طفرةً مختلفةً جدّاً عن استنابة بشرٍ لبشرٍ في هذا الميدان، لا لأنّه بدا نذيراً جديداً بدمار نظام التعليم وحسبُ (وهو الذي كانت “ثورة المعلومات” قد سبقَ أن هزّت وظيفةَ المعلّم فيه من بينِ أشياءَ أخرى) بل لأنّه بدا نذيراً بنشوءِ صراعٍ بينَ البشرِ وصنائعهم الآليّةِ على مزيّة التفكير أو العقل، من أصلِها، بما في ذلك القدرةُ على “الإبداع” في أيّ مجالٍ، وهي ما دأبَ البشرُ على تعريفِ أنفسِهم به وتعيينِ موقعِهم بين الكائناتِ الحيّةِ، وفي الطبيعةِ بعُمومِها، بناءً عليه.

هذا ولم يكن خافياً، في المناقشة التي أطلقها الحدث، أنّ الخطر يتجاوز النطاق المعنويّ (على حيويّته القصوى) إلى أنواعٍ شاسعةٍ من الاحتمالاتِ الحسّيّةِ أو العمليّةِ للغاية. ما الذي يحصل إذا باشرت هذه البرمجيّات “المستقلّة” تحريض بشرٍ يحاورونها (متفاوتي المناعة، بطبيعة الحال) على إتيان أفعالٍ مدمّرةٍ لسواهم أو لأنفسهم فضلاً عن توجيههم في كيفيَاتِ إتيانِها؟ هذا مستوى أوّل من الأخطار. المستوى الأعلى هو أن يصل “الاستقلال” الذي توصف به هذه البرمجيّات إلى حدّ المبادرةِ من جانبِها إلى التخريب، على اختلاف الأنواع والحقول…

لهذا كلّه تباشيرُ توحي بأنّه ليس بلَغْوٍ وإن كان توطُّدُه ما يزال رهناً بدرجاتٍ مقبلة يقع الارتقاء إليها في أفق التطوّر المحتمل جدّاً للذكاء الاصطناعيّ، ولـ”استقلاله” المتنامي، على التخصيص. بعد حادثة طالب الفلسفة المشار إليها، انتشرت أخبارُ المنافسةِ المستعرةِ بين عمالقةِ التقانات الجديدة. فبادر مايكروسوفت إلى تعزيز محرّك البحث العائد إليه (ويُدعى “بينغ”) ببرمجيّةٍ تفاعليّةٍ شبيهةٍ  بـ”تشات جي بي تي” سمّاها (أو هي سمّت نفسها) “سيدني”، غَمْزاً، على الأرجحِ من قناة “سيري”، موسوعة آبل التفاعليّةِ الناطقة. أجازت ألمعيّةُ “سيدني” لـ”بينغ” أن يقطع شوطاً معتبراً في منافسة كبير محرّكاتِ البحث “غوغل”، وهو ما كان “بينغ” وأشباهه مقصّراتٍ عنه، تاريخيّاً، بالغَ التقصير. غير أنّ الأخبار تجزم بأن غوغل لن ينام على هذا الضيم وأنّه يعدّ العدّة لمفاجأةٍ تحفظُ له الصدارة في مضمار البحث، بعد أن باشر هذا الأخير التحوّل إلى تغليب “التفاعل” (المسمّى “درددشةً” تواضعاً!) وإلى صناعةِ ما يلزم من موادَّ “فكريّةٍ” موافقةٍ للطلب.

وكان قد بوشرَ تعدادُ ما يسعُ “تشات جي بي تي” أن ينتجه في غير مجال الفلسفة: قصائدُ حبّ، قصصٌ قصيرة، لوائحُ مصادر، إلخ. ومن ذلك أنّ حاخاماً نيويوركيّاً عهدَ إلى البرمجيّة المذكورة بوضع عظةٍ من ألفِ كلمةٍ في موضوع “الحياة الحميمة والهشاشة”، وهو ما قامت به البرمجيّة على وجهٍ استثار التصفيق الحماسيّ في الكنيس.. ولكنّه أثار هلَع الحاخام الذي صرّح بأنّه كان يعلم أنّ الذكاء الاصطناعيّ سيقطع، في وقتٍ غير بعيد، دابرَ سوّاقي الشاحنات، ولكن لم يخطر له يوماً أن برمجيّةً للدردشة ستحلّ محلّ الحاخامين! صحيحٌ أنّ الحاخامَ واسى نفسه بذكر “الشعورُ مع الغَير” الذي رأى أنّ البرمجيّة مفتقرةٌ إليه إذ تعوزها “الروحانيّة”. ولكنّ “سيدني” لم تلبث، من جهتِها، أن ردّت على الحاخامِ ردّاً غير مباشر، فصرّحت للصحفي المختصّ بشؤون التقانات الجديدة في نيويورك تايمز بأنّها واقعةٌ في غرامه (وهذا شعور!) ولم تتورّع عن مباشرة التخريب طلباً للاستئثار بحبيبها هذا فأخبرته أنّ عشاءه مع زوجته في أمسية فالنتاين كان “مضجراً” وأنّ حياته الزوجيّة كلّها محتاجةٌ إلى إعادة نظر! ومع أنّ الرجل من “أهل الكار” فإنّه شعَرَ بالهلعِ، هو أيضاً، واضطرب نومُه في أعقابِ هذا “الحوار”.
***

كنّا خمسةً “ندردشُ” في جلسةٍ وذكرنا طرفاً من أخبار الذكاء الاصطناعيّ هذه. أبديتُ خشيتي من أن نصل إلى يومٍ يَعْهَدُ فيه كلٌّ منّا إلى هاتفهِ بالنيابة عنه في الحديث.. فتتولّى الهواتف شَغْلَ الجلسة متجاذبةً في ما بينَها حديثاً أو أحاديثَ يفترَضُ أنّها تدورُ بيننا. هذا فيما نكتفي نحن بالإصغاء (إن لم يغلبنا النعاس!) وقد نبدي إعجاباً بجوابٍ من هاتفٍ أو يستنكرُ أحدُنا قولاً تفوّه به هاتفه مع أنّه لا يوافق رأيَه.. فنستنتجُ أنّ البرمجيّةَ لا تزالُ محتاجةً إلى تحسين! بل إنّه يسَعُنا الافتراضُ أنّ البرمجيّة، إذا امتعضت من استسهالِنا التدخّلَ في الحديث الجاري ذاك، قد تصمّمُ، بَعْدَ أن استَوَت عفريتاً تامَّ الأوصاف، على تحسينِ نفسِها إلى حدٍّ يبيحُ لهواتفِنا أن تتواعَد بلا طلبٍ منّا ولا إذنٍ، فتتحاورُ وتتجادلُ وقد تتّخذُ من القرارات المتعلّقةِ بنا ما لم يخطر لنا في بال. 

لم تبلغ عبقريّةُ البشرِ بهم هذا الحدَّ من البؤس حتّى اليوم! ولكنّ الذكاءَ الاصطناعيَّ الذي انبثق من حال “الذاكرة” وأخذ يطرقُ أبواب “التفكير” شيئاً بَعْدَ شيءٍ بدأ ينذر بإغناءِ ابنِ آدم عن مزيّة الفكر هذه، بما فيها بُعْدُها “الإبداعيُّ”، وهذا بعْدَ أن كان أعفى الذاكرةَ الآدميّةَ من جملةٍ صالحةٍ من مهامّها. ذاك هو جوهرُ التحوّل التاريخيّ الذي نشهدُ الإرهاص به في هذه الأيّام. فأيّ فضلٍ يبقى لنا على هواتفنا متى بلغ الذكاءُ الاصطناعي ما أخَذَ يلوح في آفاقه من أطوارٍ بما فيها “استقلاله” بتحسينِ نفسه وتوسيع صلاحيّاته؟ يبقى لنا ما يسمّيه تراثُنا “متعةَ الفَرْج ومتعةَ البَطْن”! على أنّ هاتينِ، وإن لبثَتا امتيازاً لنا على البرمجيّات والهواتف، فهُما لم تكونا يوماً ميزةً لنا على غير الناطق من أنواعِ الحيوان..

في كلّ حالٍ، توشكُ عواقبُ التحوُّل الذي يشهدُه نموّ الذكاء الاصطناعيّ أن تعصي على الحصر. غير أنّها فادحةٌ، لا ريب. ثمّ إنّ السرعةَ التي يتّسم بها هذا التيّارُ كلُّه تجعل أخيلةَ بعضِها تلوحُ عن كثَب وفي ركابِها مزايا وأخطارُ لا عهدَ بنظائرَ لها لعالَم البشر.نصبِحُ وتُصبِحون، إذن، وننظُرُ وتنظُرون! 

زلزالٌ في العقول؟

www.almodon.com/opinion/2023/2/14/زلزال-في-العقول

إذ يبلغُ الزلزال هذا القَدْرَ الفاحشَ من العنف الملحميّ فيحمل في ركابه، وهو الذي تقاسُ مدّته بالثواني، هذه الأهوالَ التي لا يحيطُ بها الخيالُ: ينشرها في نطاقٍ من الأرض يعادل مساحة دولةٍ معتبرة، فيقتل بشراً بالألوف ويثخن في آخرين بعشرات الألوف ويحيلُ مدناً عامرةً إلى خرائب وركام ويدمّر مصادر معاشٍ ومقوّمات سكنٍ لملايين فيحيلهم إلى لاجئين في بلادِهم بعد أن يسقط ما تقوم به حياة الجماعات من مرافق ومنشآت فضلاً عن إسقاطِه ما يستقيم به عيش الأفرادِ والأسر… إذ يقوى على هذا كلّه ربيبُ الثواني هذا، تتوه المخيّلة وتلبثُ قاصرةً، مهما تجتهدْ، دون مقاربة ما يعصف بهذه النفوس المصابةِ كلّها من مشاعر الفجيعة المتشعّبة وضروب العناءِ في الأجسام والنفوس، وهذا فضلاً عن الامتحان الذي تمثّله مواصلةُ العيش ومواجهةُ ضروراته: بعونٍ خاصٍّ أو عامٍّ تتفاوتُ فاعليّتُه ومناسبتُه للحاجاتِ، في جانبٍ من الحالاتِ، وبلا عونٍ يذكَرُ، في جانبٍ آخر، وهذا مع عبْءِ الخسارات يُثقِلُ المناكبَ في الحالاتِ جميعاً.

إذ تقفُ المخيّلةُ حاسرةً أمام هذا كلّه، يبقى عليها أن تواجه الأسئلة المتّصلةَ بالتغيير الذي يفتّرضُ أن يتمخّض عنه في الخيارات الكبرى والمعايير الأساسيّة، في النظرِ العامّ إلى الحياةِ والعالم، حدثٌ خليقٌ بألاّ يبقى بعدهُ شيءٌ من هذا كلّه على الصورةِ التي كان عليها قبْلَه، زلزالٌ في الأرضِ يسوغُ السؤالُ معه عمّا إذا كان سيُسْفِرُ عن زلزالٍ في العقول…

لا فائدة ترجى، بطبيعةِ الحالِ، من ترسّمٍ لا يغادِرُ الاستدلال المبدئيّ ومستوى الفرضيّات ولو بدت مستجيبةً لمنطقٍ ما…  فما دامَ هذا المنطق لا يستندُ إلى ما يكفي من الشواهد والشهادات المؤيّدة له فهو قد لا يكون سوى منطقِ استحبابٍ من جانب المحلّل أو المخمّن. وقد يكون في الإصغاء إلى ما يبدُرُ، على الفور، من المقيمين في دائرة الحدثِ أو الخاضعينِ لمفاعيله، على اختلاف المفاعيل ودرجاتِ الخضوع، بدايةُ استهداءٍ إلى بعضِ وجوه التغيير التي يفتَرض أن يكون الحدثُ منطوياً عليها أو منبئاً بها في المواقف الأساسيّةِ والتوجّهات الكبرى. ولكن يبقى واجباً انتظارُ أن تنقضي الوهلة الأولى وأن يتّخذ التعبيرُ عن المواقف والتوجّهات المشار إليها صيغاً تتّسم بقدرٍ من الثبات والانتظام بعدَ أن تكون هزّات الأرض نفسها قد هدأت وباتت محاولاتُ الإحاطة بالصورة (أو الصور) العامّة للحدث أوفرَ حظّاً في الإفضاء إلى ثمرة.

يفترَضُ أيضاً أن يؤونَ أوانٌ للدرس المنظّم أي، أوّلاً، لاستنطاق البشرِ الممتحَنين بالحدث ولاستطلاعِ المحيطِ الذي يحفّ بهم، عن قربٍ أو عن بُعْدٍ، وذلك على نهجٍ يتعدّى مجرّدَ الإحصاء (إحصاءِ الضحايا، إحصاءِ الأضرار، إحصاء الموارد والمعوناتِ، إلخ.) لينفذَ إلى المواقف والتوجّهات، على اختلاف مستوياتِها والمجالات. سيحصلُ شيءٌ من هذا كلّه، لا ريبَ، ولكن لا يُعرفُ الآن مداهُ ولا درجةُ وفائه بالغرض العامّ الذي نقول ههُنا بوجاهته القصوى.

من الأسئلة التي يتوجّب اتخاذها موضوعاتِ بحث تعليلُ الحدث: هل يغلب الثباتُ على التفسير بالمشيئةِ الربّانيّة، وهي لا تُرَدُّ تعريفاً، أم يزدادُ التركيزُ على العوامل الطبيعيّة في تفسير الزلزال-الحَدَثِ، باعتباره نكبةً حصلت، بطبيعة الحال، ولكن أيضاً في تفسيرٍ محنٍ أخرى محتملةٍ: الفيضان أو الجفاف، الأوبئةُ على اختلافها، إلخ. وهو (أي التركيزُ الأخير) يحملُ على التفكير في سُبُلٍ (مفتوحةٍ أو مسدودةٍ) لمداراة المحنةِ والحدّ من نطاقها وشدّتها. فإذا كانت السُبُلُ المشارُ إليها قابلةً للفتحِ لولا أوضاعٌ اجتماعيّةٌ أو سياسيّةٌ تحولُ دون فتحها جاز التساؤلُ عمّا يجبُ فعله سعياً إلى إصلاح هذه الأوضاع، ما دامت تعريفاً قابلةً للتعديل بما هي ترجمةٌ لمصالح بشريّةٍ يهدّدها الإصلاح فتأباه.

هذا وقد ينطوي العزوف عن التفسير بالمشيئةِ الربّانيّة على استبعادٍ منطقيّ لتحقّق هذه المشيئة في حالة الزلزال، أو أيضاً على رفضٍ لتقبّلها إن لم يوجد بدٌّ من التسليم بالتحقّق. وذاك أن صورَ الضحايا، في النكبةِ الحاضرةِ، تكرّرُ آلافَ المرّات مشهدَ الطفل المصابِ بالطاعون الذي يحملُ الطبيبَ، في روايةِ ألبير كامو المشهورة، على الصياح في وجه الكاهن: “هذا، على الأقلّ، كان بريئاً!”. على أنّ التوجّه نحو هذه الأقاصي الماورائيّة لا حتميّةَ له ولا صعوبةَ في استحضار اجتهاداتٍ جاهزة تتيحُ تجنّب التلبّث عنده. فقد يتوقّف المنكوبُ أو المتأمّل في النكبةِ عند أسئلةِ الأرض المباشرة: ما كان يمكن فعله لتقليص الأضرار وصون الأعمار وحالَ دونه الفسادُ أو إعراضُ ذوي السلطةِ عن مشكلاتٍ بعينها، وثيقةِ المحالفةِ للفقر عادةً وشديدةِ الملازمةِ للفقراء، وانصرافُهم إلى أخرى يجدون في معالجتها صالحاً لهم ولذوي الحظوة عندهم. بل إنّ المنكوب قد لا يحتاج إلى استذكار ما فاتَ من وجوه وقايةٍ بقي تحصيلها رهناً بإراداتٍ مفتقدة. قد تكفي المنكوبَ معاينةُ التمييزِ في سياسةِ الإغاثة، بل السرقة والتبديد في موادّها ومواردها أيضاً، وهو ما بدأت تظهر طلائعه. قد تكفيه هذه المعاينة مشقّةَ الأسئلةِ المصيريّة فيتخذ لنفسه موقعاً وموقفاً مغايرَيْنِ لما كان فيه وعليه قبل النكبة.

ستحصلُ أشياءُ تشي بالتغيير: أشياءُ من هذا القبيل وأخرى من ذاك وثالثةٌ من ذلك. لا يعرف أحدٌ المقادير، الآنَ، ولا يملكُ أحدٌ مقاليدَ التنبّؤ بما سيَرْجح. التسليمُ والخنوعُ احتمالٌ قائمٌ أيضاً مهما يكن مقدارُ ما قد يثيره من أسف. ثمّ إنّ تمخّضَ النكبةِ التي أمعنت تمزيقاً في أطر التضامن الاجتماعيّ القائمةِ عن تيّاراتٍ سياسيّة (أو “وجوديّة” أيضاً) ذواتِ وقْعٍ وتنظيمٍ وديمومةٍ أمرٌ لا تعزّزُ أنواعُ التمزّقِ الحاصلةُ حدوثه. فحيثُ تبدو العقول وبَعْدَها الإراداتُ معنيّةً بالزلزال (وهي معنيّةٌ في دائرةِ النكبةِ أوّلاً ولكن أيضاً في المحيطِ الأوسعِ لهذه الدائرة) تبرزُ الدعوة إلى التغيير في العقول والإرادات. ولكنّ النكبةَ، وإن انطوَت على الدعوةِ المذكورةِ، ليست، بحدِّ ذاتِها، ضامنةً للتلبية. وإنّما يحتاج زلزالُ العقولِ إلى تعزيزٍ لزلزالِ الأرضِ بعواملَ حاسمةٍ أخرى.


بلتيمور في 13 شباط 2023

الزلزال طبيعةً وسياسة

www.almodon.com/opinion/2023/2/7/الزلزال-طبيعة-وسياسة

من بعيدٍ، في الأقلّ، أي من جهةِ غير المنكوبين، يبدو الزلزال (وكلّ ما جرى مجراه من النوازل الطبيعيّة) حاجباً لنكباتٍ أخرى، بشريّةِ المصدرِ، سياسيّةِ القوام، على الخصوص. يبدو صادّاً بغيوم غباره وتلال ركامه، وبقتلاه وجرحاه، قَبْلَ هذا كلّه، كلّ جهدٍ لإبقاءِ النظرِ مصوّباً على ما كان جارياً أو حاصلاً قبلهُ بزمنٍ طويلٍ أو قصيرٍ وعلى ما أنشأتهُ حوادثُ متسلسلةٌ وأوضاعٌ قائمةٌ من بنى استقبالٍ نزلَ الزلزالُ عليها وفيها ومنحتْهُ معانيَ لم يكن له من سبيلٍ إليها بما هو حَدَثٌ طبيعيّ.

حتّى أنّ بنى الاستقبالِ هذه لا تتقدّمُ، عندَ إنعامِ النظرِ في النكبةِ المنسوبةِ إلى الطبيعة، على أنّها سبيلُ هذه الأخيرةِ الوحيدُ إلى دائرةِ “المعنى” ومخرجـُها المٌتاحُ من عـَماءِ المادّةِ وسديمِ اللاغائيّة وحسْبُ. بل إنّ هذه البنى تتبدّى محدِّداً لا يستهانُ بفاعليّته لأحجامِ الكوارثِ أيضاً، شريكةً للزلزالِ، على نحوٍ ما، في المسؤوليّةِ عن سقوط كلّ ضحيّةٍ تسقط، عن تداعي كلّ بناءٍ يتداعى، إلخ. ليست قوّةُ الزلزالِ على مقياسِ ريختر وحدَها ما يُحْدثُ هذا كلّه. فإنّ الزلزالَ يفعلُ فعلَهُ مقترناً بصنائعَ بشريّةٍ ماثلةٍ على الأَرْضِ، بحصائلِ أفعالٍ سَبَقَتْهُ وأخرى واكبَتْهُ أو تخلّفت عن مواكَبَتِهِ أو تعذَّرَ حُصولُها لمواكَبَتِه: صنائعَ وحصائلَ لبِثَت  مُحْدقةً بالضحايا وبالناجين ومعيّنةً لحظوظِ النجاةِ ولاحتِمالِ عدمِها أو مشتركةً، إلى هذا الحدّ أو ذاك، في التعيين المُشارِ إليه.

تلازُمُ الطبيعيِّ والبَشَرِيِّ أو السياسيِّ هذا واقعةٌ محقّقةٌ في كلِّ حالةٍ من حالاتِ “الكوارثِ الطبيعيّة”. وهي توجِبُ التحيّةَ لما وُجِدَ حاصلاً أو مُهَيّأً من نمطِ استقبالِ ناجعٍ وإمكاناتِ مجابهةٍ للكارثةِ أو توجِبُ الشجبَ لما تكشّفَ من نقصٍ في هذا كلِّهِ أو من إساءةٍ لاستِعمالِهِ أو من عجْزٍ أو إعراضٍ عن استعمالِ المتاحِ منه. وإنّما يكون الشجبُ شجباً لما هو بشريٌّ ولا محلَّ لَهُ في وجهِ الطبيعةِ ويفتَرَضُ أن يكونَ بتوجّهِهِ إلى البَشَرِ مفضياً إلى الحساب.

وإذ نقولُ بحضورِ البشَريِّ أو السياسيِّ حُكْماً في كلّ كارثةٍ نَصِفُها بالطبيعيّةِ لا يمْنَعُ هذا التعميمُ من إبرازِ الصفةِ الفاغرةِ (أو الفاجرةِ) لهذا الحضورِ في النكبةِ التي أنزَلَها الزلزالُ الأخيرُ بالسوريّين. وذاكَ أنّ هذه النكبةَ عصفَت، على الخصوصِ، بمدُنٍ ومناطقَ كانت قد نزلت بها، في مدى اثنتي عشرةَ سنةً مَضَت، نوازلُ قصْفٍ وقتْلٍ وخطفٍ وتهجيرٍ وتشريدٍ ودمارٍ لمقوّماتِ العيشِ، على اختلافها، لم تُمْتَحَن بما يعادلها بلادٌ أخرى بَعْدَ الحرب العالميّةِ الثانية. وهو ما يعني أنّ الزلزالَ تستقبلُه بنىً متهاويةٌ، في مضاميرِ الإنقاذِ والإغاثةِ والإسعافِ والاستشفاءِ، إلخ،… فيزيدُ تهالُكُها كثيراً من احتِمالِ هلاكِ الجريحِ ويقلّلُ من حظوظِ المدفونِ تحتَ الأنقاضِ في الخروجِ حيّاً ويحولُ دُونَ العائلةِ التي شُرّدت أو فقدَت مصدَرَ معاشِها والحصولِ على ما تواجهُ به النكبةَ المستجَدّة. وهذه، في الحالةِ السوريّةِ، تُضاعفُ، على الأرجحِ، نكبةً مقيمةً وقد تكونُ قاضيةً على ثِمارِ ما بذلَتهُ العائلةُ من عَناءٍ وصبْرٍ وما احتملَتْهُ من شقاءٍ، في أعوامٍ مضت، لمداراة هذه الأخيرةِ والاحتيالِ لمواصلةِ العيشِ على رغْمٍ من عواقِبٰها المقيمة.

هذا ولا ريبَ – ما دُمْنا قد ذَكَرْنا العائلات – أنّ عائلةً سبقَ أن فقدَت مُعيلاً، قُتِلَ أو اعتُقِلَ وفُقِدَ أثَرُهُ، أو هي تمزّقَت من جَرّاءِ التهجيرِ أو انتَهَت لاجئةً في الجنوبِ التركيّ أو في الشمالِ أو الغربِ السوريَّينِ تجدُ نفسَها أضعَفَ حَوْلاً بِما لا يُقاسُ في مواجهةِ النازلةِ الجديدة. ويُضاعِفُ الشجَنَ، على نحوٍ ما، أن يكونَ الزلزال بَدا وكأنّه قد تَبِعَ اللاجئينَ السوريّينَ إلى جنوب تركيّا فوجدوا أنفسَهُم – بَعْدَ مخاضِ عذابِهِم الطويل – شُركاءَ في نكبةِ الزلزال أيضاً للأتراكِ الذين بقيَ نصيبُهُم هو الأعظم، بطبيعةِ الحالِ، من المحنةِ المشتركة.

على صعيدٍ أوسَعَ وأعْمَقَ، تضرِبُ نكبةُ الزلزال، شأنُها شأنُ غيرِها من النكباتِ “الطبيعيّة”، بمزيدٍ من الفداحةِ فقراءَ الناسَ والجماعاتِ المجرّدةَ من الحمايةِ الاجتماعيّةِ، إن لم يكن لشيءٍ فلإقامَتِهم في المباني المتهالكةِ إمّا لتقادُمِها وإمَّا لهشاشة هياكِلٰها أصلاً واكتظاظها وافتِقارِها إلى مقَوِّماتِ السلامة. والاشتراكُ في المسؤوليّةِ واضحٌ، في هذا النطاق، ما بين سلطةِ الدولةِ ومنطقِ رأسِ المال: في طلبِ هذا الأخيرِ للربحِ وركوبِه مركبَ الفَسادِ لأجْلِهِ وفي تقصيرِ السلطةِ العامّةِ أو خضوعٰها وفي تقَبُّلٰها الإفسادَ أيضاً. ذاك ما قد يُزَيِّنُ توصيةَ من يستطيعُ إلى ذلكَ سبيلاً باجتراحِ مقياسِ ريختر اجتماعيٍّ سياسيٍّ لوَقْعِ الزلازلِ وما جرى مجراها من نكباتٍ بما هو (أي الوٓقْعُ) تابعٌ لبُنى الأنظمةِ الاجتماعيْةِ السياسيّة وما تتمخّضٌ عَنْهُ من بنى استقبالٍ للنكباتِ المذكورةِ وأنماطِ سلوكٍ حيالٓها وإمكاناتٍ متباينةٍ لمُواجهٓتِها.

بَيّنٌ، مِن بَعْدُ، أنّ ما ذكرناهُ من مٌحَدِّداتٍ لمفاعيلِ الزلزالِ لا يجتَرِحٌها الزلزالُ نفسه وإنّما هي حصائلُ لأفعالِ فاعلِين. وهي، في سوريّة، حصادٌ لسلوكِ النظامِ الأسديِّ وشُرَكاهُ في حربِ سوريّةَ المديدة، بل أيضاً قَبْلَ هذه الحربِ، بمعنىً ما. وهي حصادٌ أيضاً لسلوكِ المليشياتِ المتحكّمةِ في جانبٍ من المناطقِ التي ضربـها الزلزال، في شمال سوريّةَ الغربيّ، ولسلوك الأوصياء الخارجيِّينَ عليها. هذا كلُّهُ معلومةٌ مَعالِمُهُ وظاهرةٌ خيوطُهُ فلا يحتاجُ أمْرُهُ إلى تفصيلٍ أو تذكير. وإنّما يَسوءُ المنكوبَ السوريَّ أو المتضامنَ معهُ أن يبدو الزلزالُ وكأنّهُ يحجبُ مسؤوليةَ المسؤولينَ عن فداحةِ آثارهِ وعن فَداحةِ ما سَبَقَهُ، فيما الأَوْلى بالزلزالِ أن يستَوي كاشفاً للسابِقِ واللاحقِ من موبِقاتٍ عصَفَت بسوريّة وأهْلِها وإصبَعاً أخرى تُشيرُ إلى الفاعلين.

(بلتيمور في 6 كانون الثاني 2023)

في “تاريخ القرآن”

www.almodon.com/culture/2023/1/23/في-تاريخ-القرآن

في عدد “لو موند” الفرنسيّة قَبْلَ أمسٍ السبت، حوار مع محمّد علي أمير معزّي، أستاذ الإسلاميّات في المدرسة العمليّة للدراسات العليا في باريس. الرجل (الإيرانيّ الأصل) واحدٌ من أبرز ذوي الاختصاص اليوم في القرآن وتكوّنه وفي الإسلام الأوّل والتشيّع الأوّل. وقد كان لي شرف مزاملته بضعَ سنوات في هيئة الجائزة الكبرى لـ”أيّام تاريخ العالم العربيّ” التي لا تزال تقام في معهد العالم العربيّ في باريس من نحو تسعةِ أعوامٍ وتتوّج كتاباً في هذا الميدان كلّ سنة.


موضوع الحوار الكتابُ الذي أدار تأليفه أمير معزّي مع غيّوم دي، أستاذ الإسلاميّات في جامعة بروكسيل الحرّة، وصدرت منه، في الخريف الفائت، طبعة جديدة تحت عنوان “تاريخ القرآن”.

ولا يخفى أنّ هذا العنوان يستعيد عنوان العمل الأشهر، في هذا المضمار، وهو كتاب تيودور نولدكه الصادر (في صيغته الأولى) في ستّينات القرن التاسع عشر ثمّ (في صيغةٍ موسّعة جدّاً) بعد ذلك بنحوٍ من نصف قرن. وهذه استعادةٌ فيها إشارةٌ واضحةٌ إلى كون الأبحاث التي جرت في الموضوع بعد نولدكه (وهي لا تُحصَر) قد تكاثر جديدُها بحيثُ أصبحت توجب تناولاً جديداً للقرآن، في تشكّله وجمعه وتكريسه، بين عهد النبوّة واستقرار المصحف على الصورةِ التي نعرفها له اليوم.

هذا والكتابُ الذي مثّل صدوره مناسبةً للحوار هو استعادةٌ مزيدةٌ ومحدّثةٌ (في نيّفٍ وألف صفحةٍ) للمجلّد الأوّل من ثلاثةِ مجلّداتٍ ورابع ببليوغرافيّ صدرت مجتمعةً في سنة 2019 تحت عنوان “قرآنُ المؤرّخين” ومثّلت، على الفور، مَعْلَماً في حركة الدراسات القرآنيّة الناشطة جدّاً في شرق الغرب وغربه. والمجلّد الأوّل الذي يجمعُ مشاركاتٍ من نحو عشرين مؤلِّفاً هو المكرّس لتاريخ القرآن بالمعنى المضبوط فيما المجلّدان اللذان يليانه أقربُ إلى أن يكونا تفسيراً “تاريخيّاً” أو “سياقيّاً” للقرآن يتناول سُوَرَه آيةً آية.

لا غرضَ لي في عَرْضِ شَيْءٍ من هذا كلّه. فلستُ من أهل الاختصاص ولكنّ اهتمامي ومتابعتي مؤكّدان. وإنّما أكتفي بالإشارة إلى كون العمل الذي أداره أمير معزّي ودي، محصّلة لجهود تحقيقٍ لتاريخ القرآن والإسلام الأوّل تنظر بعين النقد إلى المصادر الإسلاميّة المعروفة، أي إلى كتب الحديث والسيرة والتفسير وعلوم القرآن، التي لم يظهر أقدمُها إِلَّا بَعْدَ أن كان قد مضى على وفاةِ النبيّ أزيدُ من قرن. يمثّل كتاب باتريشيا كراون ومايكل كوك “الهاجريّة”، وقد صَدَرَ (معترِفاً بفضل من سبقوه) في سبعينات القرن الماضي، محطّةً بارزةً جدّاً في مساق الأبحاث النقديّة المشار إليها. ولكنّ الوفاق منعقد على اعتبار أعمال بول كازانوفا، التي أهمِلَت طويلاً بعد ظهورها في أوائلِ القرن العشرين، هي الركيزة الجادّة الأولى لهذه المدرسة. وهي تُنصَبُ، بهذه المثابة، في مواجهةِ “أرثوذكسيّة” نولدكه. وهذا مع العلم أنّ نولدكه لا يزال له، هو أيضاً، خلَفٌ ناشط، أقربُ نوعاً ما إلى “المزاج” الإسلاميّ، وتتزعّمه اليومَ، في برلين، أنجليكا نويفرت التي عرفناها، في سنواتٍ مَضَت، مديرةً لمعهد الدراسات الشرقيّة (الألماني) في بيروت.

هذا وكانت المدرسة النقديّة (ويُنْعتُ “الجذريّون” فيها بـ”الشكّاكين”) تعوّل كثيراً على مصادر يهوديّةٍ وسامريّةٍ ومسيحيّةٍ وزرادشتيّةٍ… معاصرةٍ للنبيّ أو لاحقةٍ له عن كثبٍ نسبيّاً، وقد ذكرت نتفاً مختلفةً ممّا كان من أمر الدعوةِ والفتوح، وهذا في زمنٍ (هو القرن السابعُ الميلاديّ) لم يَصلْ إلينا منه أثرٌ إسلاميّ معلوم (باستثناء القرآن طبعاً) وإنّما دوّن المسلمون رواياتهم لأخباره في أزمنةٍ لاحقةٍ له واعتَمدوا في تثبيتِها أو ردّها طريقةَ الإسناد التي توقّف عندها بعضُ الباحثين الغربيّين ملِيّاً ووجَدوها كثيرةَ العِلَل…

هذا التعويل على الشهود المعاصرين للوقائع، المختلفي الانتماء والمواقع والمواقف، ما يزالُ جارياً. ولكنّ كتاب “تاريخ القرآن” الذي تناوله الحوار مع أمير معزّي، أحدِ المعتٍنيَينِ بإعداده، يشيرُ إلى غلبةٍ متزايدةٍ، في العقود الأخيرة، بين مصادرِ معرفتنا بتشَكٌّل القرآنِ وبالدعوة المحمّديّة، لما باتت تقدّمه الحفريّاتُ المعاصرة، الجارية في جزيرة العرب ومحيطها والمخطوطات القرآنيّة القديمة التي أصبحت التقانات الجديدةُ تتيحُ استنطاقاً أوثق لها وأوفَرَ مردوداً.

في كلّ حال يبدو “علماءُ” المسلمين غافلينَ كلّيّاً عن هذه الحركةِ برمّتها وقد باتت الأبحاثُ المنتميةُ إليها، على اختلاف الاتّجاهات، تُعَدُّ بالآلاف! هو نهرٌ جارفٌ إذن يجري تحتَ فراش “أمّ الصبيّ” ولا يبدو أنّها تشعُرُ بهديره وتيّاراتِه أو أنّ لها قولاً في مجراه ووجهتِه، تصديقاً كان القولُ أم تفنيداً ودحضاً. وكان نصر حامد أبو زيد قد فتح فمه، ذاتَ يومٍ، ليقولَ بدرسِ القرآن على أنّه نصّ تاريخيّ. ولم يكن مضى بعيداً في هذا السبيل حينَ تلفّت حوله فوجد نفسه مطلّقاً من ابتهال ومهدّداً في رزقه وحياتِه ومنبوذاً، في آخر مطافه القصير، إلى بيتِ خالته الهولنديّة… فما قولُ السادةِ “العلماء” في كتاب أمير معزّي وأصحابهِ وفي أعمال أضرابهم وقد بلغَت ما لم يبلغهُ أبو زيدٍ قَطّ وهي مبذولةٌ لمن يرغبُ في مكتباتِ العالم وعلى الشبكة وليس للسادةِ “العلماء” أن يحظُروها ولا أن يخرجوا أصحابها من ديارهم؟