الكاتب: معاني المباني: مدوّنة احمد بيضون
الحرب: منطوياتٌ لدخولِنا “المرحلةَ الجديدة”…
مقالةٌ لي في “المُدُنِ” اليوم
الحرب: منطَوَياتٌ لدخولِنا “المرحلةَ الجديدة”…
أحمد بيضون
القولُ إنّ المواجهةَ انتقلت إلى مرحلةٍ جديدةٍ معناهُ أنّ شيئاً حصلَ وكانَ قد قيلَ لنا إنّهُ لن يحصُل. معناهُ أوّلاً أنّ تصميمَ القيادةِ الإسرائيليّةِ الهائجةِ على المِضِيِّ قُدُماً في الحَرْبِ إلى الغايةِ المعلنةِ من جانِبِها لم يردعْهُ الرَدْعُ المُعْلَنُ المُقابِلُ ولا الضُغوطُ الدُوليّةُ ومنها التشديدُ الأميركيُّ والإيرانيُّ العالي النبرةِ على الرغبةِ في اجتنابِ حربٍ إقليميّةٍ بل أيضاً على الحؤولِ دونَ ما هُوَ أَقَلُّ من حربٍ إقليميّةٍ وهيَ الحربُ المفتوحةُ على لبنان.
مؤدّى الكلامِ نفسِهِ أيضاً أنّ “الإسنادَ”، بما ارتُضِيَ لهُ من أكلافٍ، لم يبعِد “الخطرَ الأعظمَ” عن لبنان – بخلافِ الوعدِ – بل أوشكَ على فتحِ الأبوابِ كلِّها أمامَ هذا الخطر. هذا فضلاً عن أنّ هذا الإسنادَ لم يَلْجِم الحربَ الآجراميّةَ في غزّةَ، على ما هُوَ ظاهرٌ للعيانِ، ولا حجبَ للفلسطينِيّينَ دَماً أو حَمى لَهُم حقّاً في المواجهةِ الجارِية.
ما حفظهُ هذا الإسنادُ، في الحدودِ المختارةِ له، هو هيبةُ القائمينَ بهِ وجَدارتُهم بما هم منذورونَ له: إذ حماهُم من الطَعنِ الذي كان خصومهم مِن كلِّ اتّجاهٍ سيُبادِرونَهم به، ومعهم راعيهم الإيرانيًّ، لو انّهم أحجموا.
شيءٌ آخرُ لاحَ أحياناً في أفقِ الجبهةِ اللبنانيّةِ وهو إفضاءُ المواجهةِ إلى تطبيقٍ للقرارِ ١٧٠١ يردعُ الخرقَ الإسرائيليَّ اليوميَّ للفضاءِ اللبنانيِّ ويُسهِّلُ المطابقةَ (ومَدارُها أقَلُّ بقليلٍ من نصفِ كيلومترٍ مربَّعٍ موزّعٍ على ١٣ نقطة) ما بينَ “الخطّ الأزرقِ” المعلومِ وخطِّ الحدودِ الدوليّةِ بين لبنان وفلسطين. وهو ما كان يقلّلُ من احتِمالِ الوصولِ إليهِ ما يُقابلُه من اشتِراطِ القَرارِ إخلاءَ جنوبِيّ الليطاني من كلّ سِلاحٍ سوى سِلاحِ الجيشِ والقوّات الدوليّة.
واقعةٌ أضخمُ يظهَرُ اليومَ أنّها لم تَنَلْ نَصيبَها مِن الاعْتِبارِ : وهيَ رغبةُ القيادةِ الهائجةِ في إسرائيل في تعطيلِ المَرافِقِ النَوَويّةِ الإيرانيّةِ وسعيُها غيرُ الخَفِيِّ، من سِنينٍ ، إلى جَرِّ حاميها الأميركيّ معها في هذه المغامَرة. فهل تَؤولُ حربُ غَزّة، بَعْدَ حينٍ، إلى فرصةٍ لِحَمْلةٍ من نوعٍ ما على تلك المرافق؟ لا أظُنُّ الأملَ في وضْعِ المواجهةِ الجاريةِ على هذه السِكّةِ الإجرامِيّةِ الأخرى قد غادرَ مُخَيِّلةَ القيادةِ الهائجةِ لحظةً في هذهِ الأيّامِ الأخيرة…
سَيَتَكَرَّرُ، في الوقتِ الحاضرِ، حديثُ ما هو مَعْلومٌ مِن كلفةٍ تُرتِّبُها الحربُ المفتوحةُ على العَدُوّ. ما قد يكونُ في هذا من عزاءٍ لبَعْضِنا يَحِدُّ منه ابتِداءً أنّ الحربَ، على جاري العادةِ، لن يؤذَنَ لها بأن تكونَ “القاضيةَ” بأيِّ حالٍ، بل سيبقى أفقُها الأسودُ مفتوحاً على حروبٍ أخرى وعلى محنٍ من كلّ نوعٍ تَبِعَت حروباً سَبَقت… وأنّ مواردَ جبرِ الضَرَرِ، فضلاً عن وسائلِ التَدْميرِ والقَتْلِ، لا تَكافؤَ فيها أصلاً…
أصبحَ مرَجَّحاً، في كلِّ حالٍ، أنّ القيادةَ الهائجةَ تلكَ باتت تؤثِرُ استِثمارَ المواجهةِ الجاربةِ وتّحَمّلَ ما لا بُدَّ منهُ لمحاولةِ مَنْعِ الضريبةِ من التعاظمِ سنةً بعدَ سنة. هذا إلى رغبةِ مرجّحةٍ أيضاً في إقامةِ الدليلِ على أنّ ما لَمْ يُفْلِحْ في حمايةِ لبنان لن يقفـَ حائلاً دونَ التَعَرُّضِ لإيران.
هذا ولا سبيلَ إلى نسيانِ واقعةٍ هي أمُّ الوقائعِ في ساحَتِنا اللبنانيّةِ: وهي أنّ الحرْبَ المفتوحةَ، إذا شَبّت، إنّما تُفْرَضُ على بلادٍ مَنهوبةٍ ومجتَمَعٍ مكتومِ الأنفاسِ ممزّقٍ ومَصائرَ متداولةٍ تُراوحُ ما بين مأزقِ الفدراليّةِ ومأزقِ التقسيمِ ودَوْلةٍ تَرْضَعُ مؤسّساتُها وحلَ الحضيض..
… على أنَّ الحسينَ بنَ عليٍّ كانَ قد قالَ لوالي المدينةِ الأمويِّ، بعدَ أن أبلغَهُ إباءَهُ البيعةَ ليَزيد: نصْبِحُ وتُصْبِحونَ ونَنْظُرُ وتَنْظُرون…
في الإعاقةِ ومُصْطَلَحِها: أينَ مَحَلُّ الإصْلاح؟
في الإياب من شبكات التواصل
في الإيابِ مِنْ شَبَكاتِ التَواصُل….
أحمد بيضون
في حَواليْ عَقْدٍ ونِصْفِ عَقْدٍ، تَغَيّرَ كَثيراً شُعورُنا حيالَ شَبَكاتِ التَواصُلِ ونَحْنُ نَتَصَفّحُ ما يُعْرَضُ عَلَيْنا فيها أو نُدْلي بِدَلْوِنا في مَجاهِلِها على نَحْوٍ أو آخَر… يَتَعَذَّرُ – على ما يَبْدو لي – حَصْرُ وُجوهِ هَذا التَغييرِ وأسْبابِه. والأَرْجَحُ أَنّها تَخْتَلِفُ كثيراً أو قَليلاً باخْتِلافِ المَواقِعِ والأَشْخاصِ وباخْتِلافِ التَجارِب. مَعَ ذَلِكَ أَحْسَبُنا لا نَعْدو الصَوابَ إذا قُلْنا إنّ الوجْهةَ السَلْبِيّةَ هِيَ الغالبةُ على هَذا التَغْيير.
فَفي مُنْطَلَقِ الانْخِراطِ في هذِهِ التَجْربةِ، كانَ الاسْتِبْشارُ بالفَضاءِ الحُرِّ، المَعْروضِ عَلى كُلِّ مُشارِكٍ، هُو الغالِب. بَدا مُتاحاً لِكُلٍّ مِنّا أنْ يُنْشىءَ لِنْفْسِه نَوْعاً مِن الصَحيفةِ الشَخْصِيّةِ فَيُوَدِّعَ أَنْواعاً مُخْتَلِفةً مِن القُيودِ عَلى النَشْرِ تَفْرِضُها عَلَيْهِ الصحافةُ التَقْليدِيّةُ المُسْتَأْثِرَةُ إلى حِينِهِ بالفَضاءِ وبالسوق. بَلْ إنَّ كلَّ مُرْتادٍ لواحدةٍ أو لِأَكْثَرَ مِنْ واحِدةٍ مِنْ هَذِهِ الشَبَكاتِ بَدا قادِراً عَلى نَوْعٍ مِن التَنَزُّهِ الحُرِّ بَيْنَ وسائطِ التَعْبيرِ المَعْروفةِ والأَنْواعِ المُخْتَلِفةِ التي يَسَعُ كُلّاً مِن الوَسائطِ أنْ يَسْتَقْبِلَهُ. فَيَسَعُهُ، مِنْ مَنْشورةٍ إلى أُخْرى، أنْ يَكونَ مَرّةً كاتِباً ومَرّةً مُصَوِّراً ومَرّةً عازِفاً، إلخ، ويَسَعُ الوَسيطَ المَوْضوعَ بِتَصَرُّفِهِ أن يَكونَ مَرّةً جَريدةً ومَرّةً إذاعةً ومَرّةً مَحَطّةَ تَلْفَزةٍ، إلخ. وهو، إذا اخْتارَ أنْ يَكونَ كاتِباً – مَثَلاً – أَمْكَنَهُ أنْ يَكونَ ناثِراً تارَةً وشاعِراً طَوْراً، إلخ، وإذا شاءَ أنْ يَصْرِفَ جُهودَهُ لِخِدْمةِ دَعْوةٍ يَتَبَنّاها – مَثَلاً أَيْضاً – لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ حَقَّهُ في دَعْوَتِهِ أو أنْ يُمْلِيَ عَلَيْهِ أُسْلوباً في مُزاوَلَتِها، إلخ.
فَإذا كانت هَذِهِ هي الحالَ التي تَبَيَّنّاها للمُنْشئِ، في أوائلِ العَهْدِ بشَبَكاتِ التَواصُلِ، فَإنَّ ما تَوَسَّمْناهُ في الجِهةِ المُقابِلةِ، أيْ في جِهةِ المُتَصَفِّحِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أنْ يَكونَ أَقَلَّ تَفَلُّتاً مِن قُيودِ الأَنْواعِ أَوْ مِن القُيودِ عَلى التَوَجُّهاتِ، إلخ. وإذا ظَهَرَ لَنا مِنْ داعٍ إلى التَوَجُّسِ، في تِلْكَ المَرْحَلةِ الأُولى، فإنّما وَجَدْناهُ (قَبْلَ أنْ يَطْغى ذِكْرُ الخَوارِزْمِيّاتِ) في الفَوْضى العارِمةِ التي لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أنْ يُسْفِرَ عَنْها طَوَفانُ المَوادِّ المُتَدَفِّقةِ تَحْتَ بَصَرِ مُتَصَفِّحٍ لا يَقْوى على الإحاطةِ بِهَذا الذي يُعْرَضُ عَلَيْهِ كُلِّهِ، وهو قَدْ لا يَرى في جُلِّهِ سِوى أسْبابٍ لِلتَشْتيتِ ومَصادِرَ لِلإزْعاج…
تِلْكَ كانَت أَعَمَّ التَباشيرِ لِحالِ الأَفْرادِ المُفْتَرَضةُ، مُنْشِئينَ ومُتَصَفِّحينَ، مُنْتِجينَ ومُسْتَهْلِكينَ، عَلى ما بَدَتْ لِلمُلاحِظِ، في آوِنةِ الاسْتِطْلاعِ والتَعَرُّفِ تِلْكَ مِنْ عُمْرِ الشَبَكات. وكانت الحُرِّيّةُ عُنْوانَها الجامِعَ: الحُرِّيّةُ أي التَحَرُّرُ مِنْ أَسْرِ الوَسائطِ القائمةِ ومُحْتَكِريها ومِنْ أَيِّ حِصارٍ مَضْروبٍ حَوْلَ الأَنْواعِ ومِنْ كُلِّ قَيْدٍ أو شَرْطٍ يُمْلى على الرَأْيِ والتَوَجُّهِ أو عَلى الذَوْقِ، إلخ. لا حاجةَ إلى القَوْلِ، مِنْ بَعْدُ، أنَّ ما لاحَ آنَذاكَ كانَ ثَوْرةً مُسْتَتَمّةَ السِماتِ، شاسِعةَ الأَبْعاد…
في ما يتعدّى نَظَرَ الأفرادِ، أيْ في نَظَرِ الجَماعاتِ، بِما هِيَ مُنْشِئةٌ، والرَأْيِ العامِّ (أو الآراءِ الجَماعِيّةِ بالأَحْرى) في الجِهَةِ المُتَصَفِّحةِ، بَدَت الثَوْرةُ واسِعةَ النِطاقِ، مُتَعَدِّدةَ الوُجوهِ، أَيْضاً. مِنْ ذاكَ أنَّ الوَسائطَ الجديدةَ راحت تَعْرِضُ فُرَصاً ل”ارْتِجالِ” جَماعاتٍ ولِإحْياءِ أُخْرى كان يُظَنُّ أَنّها ذاويةٌ، وهَذا بِلا حَدٍّ لأَنْواعِ الجَماعات المُحْتَمَلة. بَدا كافِياً إنْشاءُ صَفْحةٍ تَفْتَرِضُ – على اخْتِلافِ المَواطِنِ – وُجوداً أو اسْتِمْراراً لِجَماعةٍ بَلَدِيّةٍ أو نَسَبِيّةٍ، سِياسِيّةٍ أو ذَوْقِيّةٍ، إلخ، حَتّى تُقْبَلَ الفَرْضِيّةُ مَبْدَئيّاً. وهَذا عَلى أن يَكونَ صُمودُ الصَفْحةِ وازدِهارُها بِمَثابةِ امْتِحانٍ لِنَصيبِ الفَرْضِيّةِ مِن الحَقيقة. عَلَيْهِ أَتاحَت “لامَكانِيّةُ” الشَبَكةِ (أيْ تَعَوْلُمُها التِلْقائيِّ) لِجَماعاتٍ مِنْ قَبيلِ القَبائلِ – مَثَلاً – أن تَنْتَعِشَ وتَسْتَعيدَ قَليلاً أو كَثيراً مِن التَماسُكِ والحُضورِ، بَعْدَ أنْ كانت الهِجْراتُ والمُدُنُ قَد بَدَّدَتْها أو هِيَ أَوْشَكَتْ عَلى تَبْديدِها شَذَرَ مَذَر… ذاكَ هُوَ حالُ الجَماعاتِ البَلَدِيّةِ أَيْضاً، إلخ.
في جِهةِ الرَأْيِ العامِّ (أيْ في الجِهةِ المُتَصَفِّحةِ) أَذِنَتْ شَبَكاتُ التَواصُلِ بِتَنْويعِ المَعْروضِ بِلا حَدٍّ ولا ضابِطٍ تَقْريباً، وأَذِنَتْ (في مَجالِ السِياسةِ والحَرْبِ، مَثَلاً) بِوَضْعِ الوَقائعِ، فَوْرَ وُقوعِها، تَحْتَ أَبْصارِ الرَأْيِ العامِّ، في أَطْرافِ الأَرْضِ: وهوَ ما كانت التَلْفَزةُ الفَضائيّةُ قدْ بَدَأَت تُتيحُهُ أيضاً ولَكِنَّ شَبَكاتِ التَواصُلِ أَذِنَت لِكُلِّ شاهِدٍ أو مَعْنِيٍّ أنْ يَشْتَرِكَ فيه. فأَسْفَرَ هَذا التَوَسُّعُ في الجِهةِ المُنْشئةِ حُضوراً، في الجِهةِ المُتَصَفِّحةِ، لِتَفاصيلَ وهُمومٍ وآراءٍ، إلخ، لَمْ يَكُنْ لَها مِنْ وُصولٍ إلى المُعايناتِ المُتَلْفَزة. في السِياسةِ والحَرْبِ أيضاً، أَصْبَحَت الوَقائعُ والفَظائعُ مَعْروضةً على العُمومِ على مَدارِ الساعةِ فتَقَلَّصَت، شَيْئاً ما، فُرَصُ النَجاةِ بالفِعْلةِ بإنْكارِها أو بالتَلاعُبِ بِدَلالَتِها والزَوَغانِ مِن المَسْؤولِيّةِ عَنْها. إلخ، إلخ.
اليَوْمَ ما يَزالُ عَلَيْنا الإقْرارُ للشَبَكاتِ بِهذهِ المَزايا كُلِّها أو جُلّها: بِما يَقَعُ مِنْها تَحْتَ عُنْوانِ الحُرِّيّةِ والتَحَرُّرِ وما يَقَعُ تَحْتَ عُنْوانِ المَعْرِفةِ وتَعْظيمِ القُدْرةِ على وَضْعِ كلِّ أَمْرٍ في نِصابِهِ وتَقْويمِ الحُكْمِ في الماجَرَياتِ ودَلالاتِها. لَيْسَ حُصولُ المَزايا المُشارِ إلَيْها مَوْضوعَ الجَدَلِ إذَنْ أو سَبَبَ جُنوحِنا إلى السَلْبِيّةِ في تَقْويمِنا لِما انْتَهَت إلَيْهِ الشَبَكاتُ أَدْواراً ومَضامين. وإنّما مَبْعَثُ هذا الجُنوحِ أنَّ الشَبَكاتِ نَفْسَها فَتَحَت الأَبْوابَ واسِعةً لِمُواجَهةِ كُلٍّ مِنْ مُنْجَزاتِها بِضِدِّها في نَوْعٍ مِن الهُجومِ العامِّ المُضادِّ راحت تَشُنُّهُ سائرُ الجِهاتِ والقُوى المُتَأَذِّيةِ مِن الحُرِّيّةِ أو مِن المَعْرفة.
هَكذا بَدَت الأَبْوابُ مَفْتوحةً على مَصاريعِها كافّةً للتَفاهةِ وفَسادِ الأَذْواقِ وللتَضْليلِ ونَشْرِ التُرَّهاتِ على أَنْواعِها. وأَخَذَ الرَأْيُ المُتَحَرِّرُ، الخارِجُ عن السِكَكِ المَفْروضةِ، يَسْتَثيرُ الإرْهابَ المَعْنَوِيَّ مُتَمَثِّلاً بالتَسْفيهِ الاعْتِباطِيِّ للرَأْيِ وبِتَحْقيرِهِ أو تَحْقيرِ صاحِبِهِ أو يَسْتَثيرُ العُنْفَ المادِّيَّ في قَوالِبِ التَخْويفِ أو التَهْديدِ الذي لا يُسْتَبْعَدُ دائماً أن يَكونَ لَهُ ما بَعْدَه. وباتَ مُحْتَمَلاً أن يُواجِهَ الفَرْدُ المَعْزولُ، المُعْتَدُّ، بِلا زِيادةٍ، باسْتِقْلالِهِ بِرَأْيِهِ، كَتائبَ مُسْتَنْفَرةً، مُتَفَرِّغةً للضَبْطِ والرَبْطِ، على الشَبَكاتِ، وللرَدْعِ والإرْهابِ بِحَلالِ الأَساليبِ وحَرامِها، وللارْتِدادِ، ما أَمْكَنَ، بِفَضاءٍ وُلِدَ واعِداً بِتَعَدُّدٍ وتَنَوُّعٍ لا حُدودَ لَهُما إلى السَوِيَّةِ المَعْهودةِ لإِعْلامِ الرَأْيِ الواحِدِ وفِكْرِ الدَولةِ (أو ما دونَها) وإنْشاءِ الأَجْهِزةِ السُلْطانِيّةِ أو المُتَسَلْطِنةِ وإمْلائها.
هذا وَلَم يَكُن عَجَباً أن يَبْسُطَ السُلْطانُ يَدَهُ إلى الشَبَكاتِ بالقَمْعِ المُباشِرِ مُسْعِفاً جُنْدَهُ حَيْثُ لا يَنْفَعُ تَهْويلُهُم. هَكَذا نَشَأَت دوائرُ وأَجْهِزةٌ للدُوَلِ مُتَخَصِّصةٌ في رَدْعِ المُعارِضينَ في الشَبَكات ومُعاقَبَتِهِم إنْ لَمْ يَرْتَدِعوا. وبَلَغَت العُقوباتُ، في دُوَلٍ بِأَعْيانِها، سَوِيّةً مِن الشِدّةِ لا تَنْفَكُّ تُباغِتُ أَشَدَّ المُراقِبينَ تَشاؤماً بالحُكْمِ والحُكّامِ في تِلْكَ الدُوَل. هذا حَيْثُ لا يُحالُ أَصْلاً بَيْنَ الشَبَكاتِ والراغبينَ في الانْتِفاعِ بِها مَراكِبَ للتَعْبيرِ على اخْتِلافِ أَنْواعِه…
في ما دونَ الضَلالِ والتَضْليلِ، والسَفاهةِ والتَفاهةِ، والإرْهابِ والقَمْعِ، وَجَدت الجَريمةُ “العاديّةُ” مَراتِعَ لَها وسُبُلاً إلى التَفَشّي في شَبَكاتِ التَواصُل. فَضُمَّت حَيِّزاتٌ مِن هذِهِ الأَخيرةِ إلى ما باتَ يُدْعى “الشَبَكةَ المُظْلِمةَ”، وسَهَّلَت هذهِ الحَيِّزاتُ اتِّخاذَ أَقْبَحِ الجَرائمِ وأَحَطِّ العِصاباتِ أَبْعاداً أُمَمِيّةً إذ أَفادَتْ (هِيَ أَيْضاً) مِن اجْتِياحِ الشَبَكاتِ حُدودَ الدُوَلِ والمُجْتَمَعات. إلخ، إلخ.
اسْتَكْثَرْنا – عَلى ما هُوَ ظاهِرٌ – مِن “إلخ” وَمِنْ “مَثَلاً”… أَمْلى هذا الاسْتِكْثارَ أَنَّ المَوْضوعَ، وهوَ مُشْتَمِلٌ عَلى الكَوْكَبِ بِأَسْرِهِ، لا يُحاطُ بِهِ، ناهيكَ بِأَنْ يُسْتَنْفَدَ الكَلامُ فيه. تَبْقى خُلاصةُ القَوْلِ أنّ ما بَدا أَوّلَ وَهْلةٍ أَنَّهُ فَيَضانُ مَعارِفَ وحُرِّيّاتٍ ومُتَعٍ ذَوْقِيّةٍ لَمْ يَلْبَثْ أنْ تَكَشَّفَ عن ميزانِ قُوىً في إحْدى كَفَّتَيهِ الحُرِّيّاتُ والمَعارِفُ والمُتَعُ المُشارُ إلَيْها وفي الأُخْرى الجَهْلُ والسَفاهةُ والقَمْعُ والجَريمةُ. غَدا الكُلَّ مُعَرَّضاً، مَبْدَئيّاً، لِهَذا كُلِهِ، بِماهُوَ مُتَصَفِّحٌ، ومُغْرىً بالضُلوعِ في خَيْرِهِ وشَرِّهِ أيْضاً، بِما هُو مُنْشئ. أَيْ أنّ ما بَدا ارْتِقاءً مُنْتَظَراً بالعالَمِ أَسْفَرَعَنْ نَشْرٍ ومُضاعَفةٍ ذَريعَيْنِ لعُجَرِ العالَمِ الماثِلِ وبُجَرِه. فَتَقابَلَ السُمُوُّ المَبْذولُ لِلْبَشَرِ والامْتِثالُ الذَليلُ لِشَرِّ أَحْوالِهِمْ وأَقْبَحِ نَوازِعِهِم. والراجِحُ أنَّ هَذا التَقابُلَ ما كانَ لِيَفوتَ فِطْنةَ المُراقِبِ الحَصيفِ مِنْ وَقْتِ أن اتَّضَحَت مَعالِمُ الظاهرةِ وآفاقُ نُمُوِّها. ولَكِنّهُ فاتَ – وَلا رَيْبَ – شُعورَ المُقْبِلينَ عَلى اسْتِكْشافِها والإفادةِ مِنْها، المُسْتَبْشِرينَ بِحُمولَتِها المُفْتَرَضةِ، في أوائلِ العَهْدِ بِها. وَها هُم اليَوْمَ في أَوانِ الإفاقةِ الصَعْبةِ مِن السَكْرة.
بَلْتيمور، ٢-٣ حزيران ٢٠٢٤
تَخاريفُ على هَدْيِ المِزاجِ والقَريحة
أَفْطَنُ إلى ما انْتَهَتْ إليهِ حالُنا فَيَخْطُرُ لي قَوْلُهُم: “تَفَرَّقوا أيْدي سَبَأ!”. ذاكَ ما يَحِلّ بالعائلاتِ اللُبْنانيّةِ عادةً، إذْ تَخْرُجُ مِنْ دِيارِها رَفْساً لا طَوْعا. وقَد راحَت عائلَتُنا تَتَفَرَّقُ أَيْدي سَبَأٍ مِنْ عُقودٍ كَثيرةٍ وكُنْتُ آخِرَ مَن غادَرَ مِن بَيْنِ عَناصِرِها: اغْتَرَبْتُ وأنا على عَتَبةِ الثَمانينَ أي في السِنًِ التي يَكونُ المُغْتَرِبونَ قَدْ آبوا إلى دِيارِهِم، عَلى الإجْمالِ، قَبْلَ بُلوغِها بِزَمَن. تفَرَّقْنا إذَنْ أَيْدي سَبَأ…
وفي الحديثِ أنّ سَبَأ “رَجُلٌ من العَرَبِ وُلِدَ لَهُ عَشَرةٌ: تَيامَنَ مِنْهُم سِتّةٌ وتَشاءَمَ مِنْهُم أَرْبَعة”. وكان سَبَبُ تَفَرُّقِهِم هذا، بَيْنَ جِهاتِ الشامِ وجِهاتِ اليَمَنِ، ما يُسَمّيهِ القُرْآنُ “سَيْلَ العَرِم” وهو انْهِيارُ سَدِّ مَأْرِب. وهذا حَدَثٌ يَبْدو لي أَشْبَهَ الحَوادِثِ القديمةِ بِتَفْجيرِ مَرْفَإ بَيْروت المَعْلوم. هذا وإذا صَحَّ زَعْمُ المُحَدِّثينَ أنّ جُرَذاً نَقَبَ السَدَّ اليَمَنِيَّ العَظيمَ انْتَفى كُلُّ مانِعٍ مَنْطِقِيٍّ أنْ يَكونَ الجُرَذُ نَفْسُهُ وصَلَ إلى مَرْفَإ عاصِمَتِنا، وفي ذَيْلِهِ نارٌ، ذاتَ يَوْمٍ لاهِبٍ مِن صَيْفِ العامِ ٢٠٢٠. هذهِ فَرْضِيّةٌ أحِبُّ أن أُنَبِّهَ إلَيْها المُحَقِّقَ العَدْلِيَّ (الذي نَسيتُ اسمَهُ لِبُعْدِ العَهْدِ بِأَخْبارِهِ) عَسى أن يَجِدَ فيها مَخْرَجاً مِن وَرْطَتِهِ المُسْتَعْصِيةِ فَتُحْفَظَ القَضِيّة ويَنْصَرِفَ المُحَقِّقُ إلى ما يُفيد…
أعودُ إلى التَيامُنِ والتَشاؤم… وخُلاصةُ القَوْلِ فيهِما أنَّ المَعاجِمَ القَديمةَ حَفِظَت للتشاؤمِ هذا المَعْنى المُشارَ إلَيهِ وهو التوَجُّهُ إلى الشامِ، ويُقابِلُهُ التَيامُنُ وهو تَيْميمُ شَطْرِ اليَمَن.
هذا وقد شاعَ اسْتِعْمالُ “التَفاؤلِ” مُقابِلاً للتَشاؤمِ أيضاً. وهو اسْتِعْمالٌ مَقْبولٌ ولَكِنْ لا يَبْدو هذا المَعْنى (أي معنى الاسْتِبْشارِ) أَصْلِيّاً في “التَفاؤلِ” ويَبْقى “التَيامُنُ” أَوْلى بِه. فالتَفاؤلُ مِن “الفَأْلِ” وهذا يكونُ فَألَ خَيْرٍ ويَكونُ فَأْلَ سوء. وقد يَصِحُّ اعْتِبارُ المأثورِ “تَفاءلوا بالخَيْرِ تَجِدوه” مُؤيِّداً لِهذا الرَأْي. فهو قد اضطُرَّ إلى التَصْريحِ بِذِكْرِ الخَيرِ بِما هو مَوْضوعٌ للتَفاؤلِ ولَمْ يَعْتَبِر الخَيْرَ ماثِلاً بالضَرورةِ في مَفْهومِ التَفاؤلِ فَلا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِه. وهو لَمْ يَقُلْ مَثَلاً: “تَفاءَلوا تَجِدوا خَيْراً” إذ لا تَسْتَقيمُ هذهِ الصيغةُ ما دامَ التَفاؤلُ جائزاً بالخَيْرِ وبالشَرِّ على حَدٍّ سَواء. على أنّهُ لا رَيْبَ أنّ حَصْرَ التَفاؤلِ بالخَيْرِ والتَشاؤمِ بالشَرِّ قد شاعَ، في كَلامِنا، وذاع…
فّلِماذا فُرِضَت على الشامِ هذه الوَصْمةُ، في كَلامِ القُدَماءِ، واسْتَأْثَرَت اليَمَنُ باليُمْنِ والبَرَكات؟ الراجِحُ عِنْدي أنّ السَبَبَ هو مَوْقِعُ الشامِ إلى الشمالِ من الجزيرةِ، وهذهِ جِهةٌ كانت قَليلةَ الحَظِّ، على الدَوامِ، في عُرْفِهِم. ويقابِلُها اليَمَنُ، في الجَنوبِ، وقَدْ عُدّتْ مُجانِسةً لليمينِ ولليُمْنِ مِنْ ثَمّ. وهذا هو المَبْدَأُ الذي كانَ مُعْتَمَداً في التَطَيُّر: اليمينُ سَعْدٌ والشمالُ نَحْس. وفي عُهودِ التَعَصُّبِ والتَضْييقِ، كانَ يُقالُ للذِمِّيِّ: “أَشْمِلْ يا كافِر!” أي: إلْزَمْ جِهةَ الشمالِ مِن الطَريق.
وكانَ صَباحٌ وكانَ مَساءٌ… وثَبَتَت، في أيّامِنا، وَصْمةُ الشُؤمِ على الشامِ العَظيمةِ، وذلكَ للُزومِ التَعْريجِ المُحْتَمَلِ (والعِياذُ بِالله!) عَلى “فَرْعِ فلسطين”! وهو ما كادَ أنْ يَحْصُلَ لي ذاتَ مَرّةٍ لَوْلا أنَّ سَوّاقَ فرانك مرمييه Franck Mermier (وكُنّا مَعاً)كانَ لهُ مِن النُفوذِ الحُدودِيِّ ما يَفوقُ بِما لا يُقاسُ نُفوذَ نقابةِ السَوّاقينَ بِأَسْرِها. حَتّى أنّني كِدْتُ أنْ أَعْرِضَ عَلى هَذا السَوّاقِ قَيْلولةً في المَقْعَدِ الخَلْفِيِّ الأَيْمَنِ فيما أَتَوَلّى، بَعْدَ إذْنِهِ، سَوْقَ السَيّارة. وقد ازْدَدْتُ مُؤَخَّراً إكْباراً لبُعْدِ نَظَرِ الجِهازِ الذي وَضَعَ في خِدْمةِ ذَلِكَ المَرْكَزِ الفَرَنْسِيِّ سَوّاقاً مُطْلَقَ الصلاحِيّةِ، حَلّالاً للعُقَد: إذْ لَوْلاهُ لَوَجَدْتُ، عَلى الأَرْجَحِ، ما أَشْهَدُ بِهِ أَمامَ تِلْكَ المَحْكَمةِ الباريسِيّةِ التي نَطَقَت بِحُكْمِها قَبْلَ أَيّام…
وأمّا التَيامُنُ فخَرَجَ، مِن جِهَتِهِ، مِن اليَمَنِ السَعيدِ أي من مَمْلكةِ الحوثِيّينَ الحاليّةِ. خَرَجَ قَبْلَ زَمَنِ هؤلاءِ بِدَهْرٍ وَلَمْ يَعُدْ، وكانَ حَقّاً لهُ أن يَخْرُج. فَلَزِمَ أن نَحْمِلَ التَفاؤلَ على مَحْمَلِ الخَيْرِ حَمْلاً مطَّرِداً شاءَ التَفاؤلُ أمْ أبى!
يَبْقى التَمَرُّدُ على هذهِ الحالِ كُلِّها: يَبْقى لِمَن اسْتَطاعَ إليهِ سَبيلاً، بِطَبيعةِ الحال.
وقَد اتّفَقَ أنّ المَعاجِمَ القَديمةَ نَفْسَها أَدْرجَت بَيْنَ مَعاني التَمَرُّدِ التَوَجُّهَ إلى ماردين! وهذهِ، في أيّامِنا، رَمْيةٌ مِن غَيْرِ رامٍ : فَإنّ خَليطَ الكُرْدِ والأَشورِيّينَ والعَرَبِ الذي يَأْهَلُ هذهِ المَدينةَ مُتَمَرِّدٌ تلْقائيّاً بَعْضُهُ على بَعْضٍ وكُلُّهُ على تَرْكيا أردوغان!
نَتَوَجَّهُ إذَنْ إلى ماردين، مَتى اسْتَطَعْنا، مُسْتَهْدينَ ما تُسَوِّلُهُ لَنا مَعاجِمُنا القَديمةُ مِنْ غَيْرِ ميعاد.
أَحْسَنُ GPS مَعاجِمُنا هَذه!
في أنّ وقائعَ التاريخِ كَثيراً ما تَظْهَرُ مُلْغَزةً ولكنْ لا “يَتَقَدّمُ التاريخُ مُقَنَّعاً”…*
لعلّ أَسْوَأَ ما تداولَتْهُ الماركسيّةُ، في هذا المَشْرِقِ، ذاكَ الجُنوحُ إلى إخضاعِ وقائعِ التاريخِ، أيّةً تَكُنْ حَقائقُها، لِنَوْعٍ مِنْ لُعْبةِ الأَقْنٍعةِ. فَنَفْتَرِضُ أنّهُ لا بُدَّ مِنْ قِناعٍ (ليس لهُ أن يَعْدو كَوْنَهُ قِناعاً مَهْما يَكُنْ حُضورُهُ ساحِقاً وفاعِلِيَّتُهُ دامِغةً) وأنَّ الوَجْهَ ماثِلٌ، بأُبَّهَتِهِ، خَلْفَ ذلكَ القِناع.
عَلَيْهِ يَغْدو لِزاماً أنْ يُكْشَفَ ذاكَ القِناعُ ليَظْهَرَ هذا الوَجْهُ فَيُحَصْحِصَ الحَقّ! وأَمّا ما يَجْعَلُ القِناعَ قِناعاً والوَجْهَ وَجْهاً فَلَيْسَ شَيْئاً تُسْتَطاعُ مُعايَنَتُهُ في الوَقائعِ وإنّما هُوَ قَوْلٌ قالَتْ بِهِ قِراءةٌ لِتاريخٍ آخَر.
مؤدّى هذهِ اللُعْبةِ تَفْويتٌ في أَثَرِ تَفْويتٍ في أَثَرِ تَفْويت. باسْمِ صِراعِ الطَبَقاتِ (وهو هَهُنا بَيْتُ القَصيدِ)، تَفوتُنا أَقْوامٌ وطَوائفُ وعَشائرُ ومَناطِقُ، وتَفوتُنا أدْيانٌ وتَقاليدُ وأَبْنِيةُ سُلْطةٍ… بَلْ تَفوتُنا تَواريخُ بِحالِها تَبايَنَت مَساراتُها وتَغايَرَ ما أَثْمَرَتْهُ المَساراتُ مِن مَوارِدَ ونَوازع.
ولَعَلَّ هَذهِ كُلَّها لَمْ تَفُتْ هذهِ أو تِلْكَ مِنْ مارِكْسِيّاتٍ بَلَغَنا خَبَرُها. ولَعَلَّ صِراعَ الطَبَقاتِ لَمْ يَكُنْ مَطْلوباً إنْكارُهُ ولا الغَضُّ مِن مَكانَتِهِ حَيْثُ تَكونُ قابلةً للمُعاينةِ والتَقْدير. ولَعَلَّ تَصَوُّرَ “الكُلِّ” الهيغليِّ يُسْتَبْقى ولَكِنْ لا تُمْلى على الكُلِّ مَوازينُ مُسْبَقةُ التَعْيينِ ولا دينامِيّةٌ مَبْدَئيّة. ولَعَلَّ الهّيْمَنةَ حَصَلَتْ وتَحْصُلُ ولَكِنْ كانَتْ لَها حُدودٌ يَتَعَيَّنُ كَشْفُها على الدَوامِ، إذْ قد تَداوَلَت
الهَيْمَنةَ، باخْتِلافِ الأَزْمِنةِ، قِوىً غَلّابةٌ مُخْتَلِفةُ الوَقْعِ وتَلَقّتٌها الجَماعاتُ المَغْلوبةُ فَكَيَّفَتْها وتَكَيَّفَتْ بِإمْلاءاتِها أو قاوَمَتْها بِما مَلَكَتْ أَيْديها وغَيَّرَتْ قَليلاً أو كَثيراً مِن مَفاعيلِها المُفْتَرَضةِ، في كُلِّ حال…
مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ، ظَلَّ الإلْحاحُ في لُزومِ مَبْدَإٍ جامِعٍ للتاريخِ بِرُمَّتِهِ يَحولُ دونَ اسْتِواءِ هذه أو تلكَ مِن القوى والعّوامِلِ الأُخْرى الآنِفةِ الذِكْرِ مَتْناً تامَّ الأَهْلِيَةِ (أو وَجْهاً تامَّ الوَجْهِيّةِ) لِتاريخِ هذا أو ذاكًَ مِن المُجْتَمَعاتِ المَعْروضةِ على بَصائرِنا، وقد اتَّفَقَ أنّها مُجْتَمَعاتُنا، لا أَكْثَرَ ولا أَقَلّ.
ظَلَّ يَفوتُنا، والحالةُ هذهِ، كُلُّ شَيْء! بَلى بَقِيَت لّنا صِناعةُ “حَسْرِ اللِثامِ”… وهذهِ “صناعةُ تَحْويلٍ”: تَحْويلِ ما هُوَ حاصِلٌ إلى ما لا يَعْدو أن يَكونَ مُفْتَرَضَ الحُصول!
تَبّاً لَنا!
- “التاريخُ يَتَقَدَّمُ مُقَنَّعاً” عنوانُ كتابٍ أَصْدَرَهُ الفَرَنْسِيُّ لويس فالون سنة ١٩٥٧. وإذْ نَسْتَبْعِدُ هنا صورةَ القِناعِ، لا نُريدُ الإيحاءَ أنّ وقائعَ التاريخِ تَعْرِضُ نَفْسَها رَقْراقةً شَفّافةً لِنَظَرِ القارئ. فإنّما يكفي حُصولُ الفِعْلِ التاريخيِّ وانْدِراجُهُ في سِياقٍ لِيَسْتَوي فريسةً لإراداتٍ شَتّى وأسيراً لِمَجْرىً مُتَشَعِّبٍ لا يَضْبُطُ الفاعِلونَ، بالضَرورةِ، مَسارَهُ ووجْهَتِه. وما لا يَضْبُطُهُ الفاعلونَ لا يَتَبَيَّنُ للقُرّاءِ، كُلُّهُ أو جُلّه، من غَيْرِ عَناءٍ يَتَكَلّفونَهُ في الاسْتِطْلاعِ ومُغامَرةٍ في الاسْتِدْلال. ويَزيدُ العَناءَ عَناءً أنّ مَواقِعَ القُرّاءِ تَكونُ مُغايِرةً، على أنْحاءٍ مُخْتَلِفةٍ، لِمَواقِعِ الفاعِلين. ذاكَ ما يُشيرُ إليهِ تَنْويهُنا بِ”الإلْغازِ” في الوَقائع. ولَكِنّ هذا العَناءَ في اسْتِكْشافِ الدلالةِ المُلْغَزةِ وتَبَيُّنِ السِياقِ الفِعْلِيِّ والمَآلِ المُرَجَّحِ شَيءٌ مُخْتَلِفٌ كُلِّيّاً عَن رَدِّ الوَقائعِ، طَوْعاً أو قَسْراً، إلى “طبيعةٍ” مِعْيارِيّةٍ أو دينامِيّةٍ مَبْدَئيّةٍ مُعْتَمدة. بل إنّهُ يَجوزُ اعْتِبارُ ذاكَ العَناءِ ضِدّاً لِهذا الرَدّ.
إسرائيلُ ودُوَلُ “الجَنوبِ العالَمِيِّ” الكُبْرى
في العلاقاتِ الدوليّةِ الجاريةِ وقائعُ قابلةٌ للقياسِ يَسَعُ الإلْمامَ بِها أن يُعَدّلَ قليلاً أو كثيراً صُوَراً بَقِيَت راسِخةً وقَد أَكَلَ عَلَيْها الدَهْرُ أو هِيَ تُسْتَنْتَجُ اسْتِنْتاجاً مِن هُوِيّاتٍ شاخت وما تَزالُ تُفْتَرَض لَها فاعِلِيّةٌ في توجيهِ السُلوكِ فَقَدت مُعْظَمَها، في الواقِع.
مِنْ ذاكَ أنّ انتِسابَ إسرائيلَ إلى ما يُدْعى “الغَرْب” (وهو حاصِلٌ مَبْدَئيّاً) لم يَحُلْ بينَها، في ميدانِ السِياسةِ التِجاريّةِ، وبَيْنَ وَضْعِ قدَمٍ في ال”جي٧” (الذي يضُمّ أبْرَزَ الدُوَلِ الغَربيّةِ ومَعَها اليابانُ وتَقودُهُ الولاياتُ المتّحدة) وقَدَمٍ في ال”بريكس+” (الذي باتَ ينطُقُ باسمِ “الجنوبِ العالَمِيّ”) وتَتَصَدَّرُه الصينُ والهِنْدُ وروسيا.
فَخِلافاً لتَصَوُّرٍ مَبْدَئيٍّ يَبْدو شائعاً في دِيارِنا، نَمَتْ علاقاتٌ طَيّبةٌ إجْمالاً بَينَ الصينِ “الجديدةِ” وإسرائيلَ أَسْفَرَت عن جَعْلِ الصينِ ثاني شَريكٍ تِجارِيٍّ لإسْرائيل: تَحلُّ بَعْدَ الوِلاياتِ المُتّحدةِ مباشرةً.
هَذا وأفادَت إسرائيلُ من اضطرابِ العَلاقاتِ الإجْمالِيِّ بينَ الهِنْدِ، بَعْدَ اسْتِقْلالِها، وبَيْنَ العالمِ الإسْلامِيِّ فأنْشَأَت مَعَها شَبَكةَ علاقاتٍ لَعَلَّ أَبْرَزَ عَناوينِها أنّ إسْرائيلَ هِيَ أَبْرَزُ مُصَدّرٍ للسِلاحِ إلى الهِندِ بَعْدَ روسيا.
هذه الأخيرةُ تَعَهّدت، في عهدِها البوتينيّ، توثيقَ عَلاقاتِها بإسرائيلَ جاعلةً عنواناً له أنّ الروسيّةَ هي اللغةُ الثالثةُ المَنْطوقُ بِها في إسْرائيلَ، بَعْدَ العِبْرِيّةِ والعَرَبِيّة، وأنّ اليهودَ ذَوي الأصولِ الروسيّةِ يُمَثّلونَ نَحْوَ ١٧٪ من سُكّانِ إسرائيلَ بِما لِذلك مِنْ تَبِعاتٍ سِياسِيّةٍ، انْتِخابِيّةٍ على الخُصوصِ، في المُجْتَمَعَينِ مَعاً.
وفي أثناءِ إقامَتَيْهِما المَديدَتَينِ على رأسِ السُلْطةِ، وجَدَ بوتين (أبو علي!) ونتانياهو فُرَصاً عِدّةً للتَعْبيرِ عن المَوَدّةِ الشخصِيّةِ الوثيقةِ العُرى، القائمةِ بَيْنَهُما. وتُعَزِّزُ هذهِ المَوَدّةُ حِسابَ روسيا الإستراتيجيّ لعَلاقاتِها بإيران: فَيَدَعُ بوتين حَبْلَ نتانياهو على غارِبِهِ في سوريا لِيَضْرِبَ ما شاءَ له الضَرْبُ مَواقعَ الإيرانيّين ومُناصِريهِم. ولا تَبْدُرُ مِنْ الدُبِّ الروسِيِّ معارضةٌ – تَبْقى لَفْظِيّةً، خِلْواً من العواقبِ، في كُلّ حالٍ – ما لَم يتسبّبْ لهُ الفُحْشُ الإسرائيليّ بحَرَجٍ دُوَليٍّ اسْتِثْنائيّ أو يَتَعَرّضْ لإحدى طائراتِهِ بِشَرّ.
هذه السَماحةُ الروسِيّةُ يُقابِلُها نتانياهو بِمِثْلِها وأحْسَن. فَيَتَجاوزُ العلاقةَ الوطيدةَ بينَ أوكرانيا وإسْرائيلَ ويَتَجاوزُ الرَغبةَ الأمْيركيّةَ مِراراً أيضاً إذ يرفضُ ضَمّ صَوْتِهِ إلى أيٍّ من الإجراءات الدوليّةِ المُهِمّةِ التي ووجهت بها روسيا منذ احتلالها القُرمَ سنةَ ٢٠١٤ إلى حَربِها الجارِيةِ على أوكرانيا (التي يَتَرأّسُها يهوديّ وتوجَدُ فيها واحدةٌ مِن أَكْبَرِ الجَماعاتِ اليَهودِيّةِ في أوروبا) ويَرْفُضُ أيضاً تَزويدَ هذه الأخيرةِ منظومةَ الدفاعِ الجَوّيّ المعروفةَ بالقُبّةِ الحَديديّة، مكتَفِياً بفُتاتِ “معونةٍ إنسانيّةٍ” يَبْعَثُ بِهِ إلى الأوكرانيّين!
لا نَذْهَبُ إلى القَوْلِ أنّ إسرائيلَ تُمْلي سِياسةَ أيٍّ من هذه الدُولِ العُظمى في شَرْقِنا العَرَبيِّ، بما في ذلك الموقِفُ مِنْ أطوارِ الصِراعِ الفلسطينيِّ الإسرائيليّ. فهذه دُوَلٌ كُبْرى، في آخِرِ المَطافِ، وحِساباتُ كلٍّ مِنْها على قَدْرِها! ولكنّ إسْرائيلَ قابضةٌ على أوراقٍ ذاتِ شَأنٍ (تتَزَوّدُها من تَقَدُّمِها التكنولوجيّ البارزِ، على الخُصوص) في مُجاذَبَتِها هذه الدُوَل. ولا تأتَمِرُ إسْرائيلُ بأمْرِ الولاياتِ المتّحدةِ دائماً ولا تَرعى دَواعيَ انْتِمائها الغَرْبيِّ بِلا قَيْدٍ أو شرط.
ولا تُعَدُّ روسِيا أو الصينُ أو الهِنْدُ مَكْسوبةً بلا تَحفُّظٍ للجانبِ العَرَبيِّ حينَ تَكونُ إسرائيلُ في المُواجَهة. فإنّ في يَدِ هَذه الأخيرةِ ما تَحِدُّ بهِ، قليلاً أو كثيراً، من اعْتِراضِ هذه أو تلكَ على سياستِها، حينَ يَحْصُل. نَما ما أَشَرْنا إليهِ من علاقاتٍ وثيقةٍ بينَ هذه الدولِ وإسرائيل فيما إسرائيلُ ماضيةٌ قُدُماً في الاحْتِلالِ والاستيطانِ وفي التَنْكيلِ العُنْصُرِيِّ بالفلسطينيّين. لم يَلْجم العدوانُ توثيقَ العَلاقاتِ المُشارِ إليها، إذن، ولا هُوَ لَطّفَ من حَرارتِها إلّا في مَواسِمِ التَأَزُّم.
الصورةُ الماثلةُ “على الأرضِ”، إذنْ، بعيدةٌ للغايةِ عن تِلكَ الشائعةِ في دِيارِنا: تلكَ التي يُؤسِّسُ عَلَيْها أكْثَرُنا ما يَحْسَبونَهُ نِظاماً للعالَم، وهو إلى أضْغاثِ الأَحْلامِ أَقْرَب!
في الحنين إلى ترامواي بيروت!
هل أنا واهمٌ أم هي تتكاثرُ فِعْلاً هذه المواقعُ التي تنشرُ صُوَراً لبيروتَ في ربعِ القرنِ الذي سَبَقَ الحربَ ودمارَ وسطِ العاصمة؟
يُقالُ لَنا: انْظُروا إلى الترامواي! فننْظُرُ ونَراهُ ولكن لا يُقالُ لَنا ما المتعةُ التي يُفْتَرَضُ أن نجدَها في مَنْظَرِهِ وما الشعورُ الذي يُرادُ لذِكْراهُ أن تُثيرَهُ فينا. ويُقالُ لَنا: انظُروا إلى سيّاراتِ ذلك الزَمَنِ: كم هي جميلة! فَنَنْظُرُ ونَرى سَيّاراتٍ ولا نَراها جميلة! ويُقالُ لَنا انْظُروا إلى البناياتِ التُراثيّةِ الرائعةِ في ساحةِ البُرْج! هَهُنا يَبْلُغُ السَيْلُ الزُبى: متى كانت بناياتُ ساحةِ البُرْجِ تُراثيّةً، يا صاحِ، وما مَعْنى “تُراثِيّة” هَهُنا؟ ومَنْ هذا الذي كانَ يَنْظُرُ إليها فيَراها “رائعة”؟
وعَلى ذِكْرِ السَيْلِ: مَنْ يَذْكُرُ أيّامَ المَطَرِ وعُبُورَ شارِعِ الأمير بَشير على ظَهْرِ حَمّال؟ لَمْ يَكُنْ هذا الحَمّالُ بِسَلّ! الحَمّالونَ بِسَلٍّ كانَ الواحِدُ مِنْهُم يَدْفَعُكَ والآخرُ يَتَلَقّاكَ على بُعْدِ أمتارٍ مِن هُناكَ إذا كانَ اليومُ يَوْمَ نَحْسِكَ ونزلْتَ دَرَجَ خانِ البَيْض إلى حيثُ السّمَكُ والخُضار. وهل تُراكَ نسيتَ “الزَمَنَ الجَميلَ” الذي أمْضَيْتَهُ في السرفيس، مُتَصَبِّباً في حُمارّةِ القَيظِ، وأنتَ على سَفَرٍ بينَ ساعةِ الغداءِ وساعةِ العَصْرونيّةِ من أوّلِ جِدارِ جَبّانةِ الباشورةِ إلى آخره؟
نَحْنُ كُنّا هُناكَ، يا أَخانا، وعايَنّا الأبنيةَ “التُراثيّةَ” (أي الانتِدابيّةَ، على الإجْمالِ)… عايَنّاها من الداخلِ ونَعْلَمُ كَم كانت مُنْهَكةً! ونَعْلَمُ أنّ الترامواي ألغيَ لأنّهُ عادَ لا يُطاقُ ولا يُطيقُ غَيرَهُ من المَرْكَبات، ونَعْلَمُ أيضاً أنّ بديلَهُ (الذي لا تُعْفينا المواقعُ المُشارُ إليها من بعضِ صُوَرِهِ!) لَمْ يَكُن خَيراً منه فِعْلاً! نَعْلَمُ أنّ “البَلَدَ” ذاكَ كانَ مُتَهالِكاً للغايةِ وأنّ كلّ ما هو “طليعيٌّ” في العاصمةِ: من التجارةِ إلى الصحافةِ والنَشْرِ إلى السينَما إلى المَقاهي والمَلاهي، إلخ.، كان قد راحَ يهْجُرُهُ، أَوّلاً بأَوّلٍ، إلى فضاءاتٍ أخرى.
كانَ الوسَطُ أو “البَلَدُ” محتاجاً إلى تجديدٍ لئلّا يتحوّلَ إلى صحراء موبوءة.
عِوَضَ تجديدهِ، هدَمَهُ المُتَحاربونَ بَعْدَ أن حَوّلوا أطرافَهُ إلى بؤرٍ موبوءةٍ فِعْلاً. وبَعْدَ الحربِ أُخْضِعَ تجديدُهُ لمَنْطقٍ ألغى صفَتَهُ العُموميّةَ بِما هُوَ وَسَطٌ مَفْتوحٌ لِعاصمة. ولم يلْبَثْ هذا الإلغاءُ أن أتاحَ للحربِ المُسْتَمِرّةِ (المُسْتَتِرةِ إلى هذا الحَدِّ أو ذاك) أن تُحيلَهُ مُجَدّداً إلى صَحراءَ: صَحْراءَ لا هي مُتَهالكةٌ ولا هي موبوءةٌ. صحراءَ فاخرةٍ: فاخرةٍ وقاحلة.
هذا والتفكيرُ في شُروطِ عَودةِ الوسَطِ وَسَطاً أو “بَلَداً” لا يَسْتَقيمُ ما لَمْ يَكُنْ تَفكيراً في مَصيرِ العاصمةِ ومَكانِها من البلادِ كلّها، أي في مَصيرِ البلادِ كُلِّها.
ذاكَ تفكيرٌ لا يَصْلُحُ لهُ أن يُباشَرَ برَشْوَتِنا بالحنينِ إلى التراموايِ ولا هو يَنْتَفِعُ باخْتِراعِ “زمَنٍ جَميلٍ” لوسطٍ كانَ، في ذلك الزَمَنِ بالضَبْطِ، قد باشَرَ الاخْتِناقَ بأَزْمَتِه.
بلتيمور في ٤ نيسان ٢٠٢٤
الممانعة وحربُها
الممانعةُ ما الممانعةُ وما أدراكَ ما الممانعة؟
عمادُها نظامانِ: الإيرانيُّ والسوريُّ!
في الحربِ الدائرةِ، رَدَّدَ الأَوّلُ، بَعْدَ كُلِّ أذانٍ، أنّهُ لَم يُبادِرْ إلى إشْعالِ فَتيلِ الحَرْبِ ولا هُوَ يَرْغَبُ في “توسيعِها” (أي في دُخولِها).
ولَمْ يَنْطُق الثاني بَلْ واصَلَ تَلَقّي الصَفَعاتِ صامِتاً: من دمشقَ إلى حلَب ومن ديرِ الزورِ إلى الجولان.
وَحْدَهُ حُدَيْدانُ اللبْنانيُّ قال: “المعركةُ معركتُنا!” مُعْفِياً سائرَ الممانَعةِ مِن تَبِعاتِ الممانعةِ المُباشِرةِ كافّةً.
حُدَيْدانُ اللُبْنانيُّ قالَ أَيْضاً إنّهُ يُخَفِّفُ عن غَزّةَ، ولَمْ يَثْبُتْ هَذا بَلْ ثَبَتَ عَكْسُه. وقالَ إنّهُ يَرُدُّ العُدْوانَ عن لُبْنانَ، ولَمْ يَثْبُتْ هَذا بَلْ ثَبَتَ خِلافُهُ، والآتي قد يَكونُ أَعْظَم!
مَعَ هَذا كُلِّهِ، يَزْعُمُ حُدَيْدانُ المَذْكورُ أنَّ المَعْرَكةَ مَعْرَكَتُهُ، أيْ أنّهُ لَيْسَ وَكيلاً فيها لأيٍّ مِن نِظامَي المُمانَعةِ المُشارِ إليْهِما. هُوَ وَحْدَهُ، لا “فَيْلَقُ القُدْسِ” ولا “قَلْبُ العُروبةِ النابضُ”، رُكْنُ المُمانَعةِ الرَكينُ وأَصْلُها الأصيلُ، والحالةُ هذه!
والحالُ أنّهُ لوً كانَ أَمْرُ حُدَيْدانَ بِيَدِهِ، إلى هذا الحَدِّ، لَكانَ أَوّلَ ما يَضَعُهُ في حسْبانِهِ أنّ الحَرْبَ لا تُخاضُ (إذا ظَهَرَ لَها موجِبٌ) ببِلادٍ مُفْلِسةٍ إلى هَذهِ الدَرَجةِ ومُجْتَمَعٍ مُفَتَّتٍ إلى هذا الحَدِّ وشَعْبٍ مُتَحَفِّزٍ (لَو كانَت مَقاليدُهُ بِأَيْدِيهِ!) لِمُباشَرةِ الحَرْبِ الأَهْلِيّة.
…ولكنَّ مَنْطِقَ النَشْأةِ غَلّابٌ وشَرْطَ الاسْتِمْرارِ شارِط…
ولَكِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ لِمَنْ يُعْلِنُ أنَّ لهُ الأَمْر…
مشروع قانون لتنظيم الجامعة اللبنانيّة (آذار ٢٠٠٦)
في أواخر العام ٢٠٠٥ تشكّلت بمبادرة من وزير التربية والتعليم العالي آنذاك خالد قبّاني لجنة من حسن منيمنة وعبد الفتّاح خضر ومنّي لوضع مشروع قانونٍ جديدٍ لتنظيم الجامعة اللبنانيّة. كدَحنا كَدْحاً مُرّاً في هذا المشروع حتّى أنجزناه وكُنّا ورثةً في إعدادِهِ لمُبادَرَتَينِ أو ثلاثٍ سابقةٍ شهِدَتْها أعوامُ ما بَعْدَ الحَرْبِ. بعدَ ذلك طرَحْنا المَشْروعَ على المناقشةِ في الجامعةِ وتلقّينا ملاحظاتٍ مختلفةً عليه. وعند الاطمئنان إلى صيغةٍ مرضيةٍ للنَصِّ هيَ المَنشورةُ أدناهُ، دَعا الوزيرُ إلى ورشةِ عَمَلٍ مُوَسّعة لمناقشتِه. توَلّيتُ تَقديمَ المشروعِ بكلمةٍ أنْشُرُها هنا في موضِعٍ آخر. وعندَ ابتِداءِ المناقشةِ، تبيّن على وجهِ السُرْعةِ أنّ الذينَ دُعوا إليها كانوا، على الجُمْلةِ، أَهْلَ الأَمْرِ الواقعِ في الجامعةِ، المُعادينَ لأَيِّ إصلاحٍ أو تغييرٍ في هياكِلِها القائمة. عليهِ أَمْضَيْنا النَهارَ الطويلَ في الاستِماعِ إلى غَمْغَماتٍ لا تَرْقى إلى سَويّةِ ما يُسَمّى نَقْداً بُحَقّ، ولكن لم نتوانَ، من جِهتِنا، في تفنيدِها. وعندَما انطوى ذلكَ النَهار، انطوَت مَعَهٌ صَفْحةُ المَشْروعِ الذي كانَ يُفْتَرَضُ أن يُحالَ إلى مجلسِ الوزراءِ فأحيلَ إلى عتمةِ التَقاعُد. لم نسمع بهذا المشروعِ بعدَ ذلكَ أبَداً … حتّى أنّنا نسيناهُ نحن أيضاً، في ما يبدو لي، ولم ننشُرْهُ أبداً في أيّ وقت. إلى أن وقَعْتُ عليهِ بينَ مَلَفّاتي القديمةِ مؤخّراً وأعَدْتُ قراءتَهُ فصَمّمْتُ على نشرِهِ ومعهُ الكلمة التي قدّمتُهُ بِها في الورشة. أنشُرُهُما هنا إذن وفي المدوّنةِ المسمّاة “أدراجَ الرياح
adrajarriyah.wordpress.com
وهي التي أنشأتُها قَبْلَ سَنَواتٍ لِنَشْرِ وثائقَ كنتُ طَرَفاً في إعدادِها أو مُبادِراً إلى حِفْظِها ثمّ ذهبَت المشروعاتُ التي اُنْتِجَت الوثائقُ في سياقِها… أدراجَ الرِياح…