نجم الدين خلف الله: في صحبة أحمد بيضون

في “العربيّ الجديد”، ٢٦ أكتوبر ٢٠١٩

كان الطقس مُشمساً يَلفُّ مدينة “وجدة” المغربية، التي كانت تحتضن، أيامَها، فعالياتِ “مَعرض” وما تخلّله من نَدواتٍ. كان الباحث اللبناني أحمد جالساً في ردهة الفندق، يُطالع صفحات الفضاء الأزرق “التي تُوِّجَ عليها ملكاً”. وبَين الفَينة والأخرى، يحادث بعضَ المشاركين الذين وَفدوا من أوروبا والعالم العربي إسهاماً في مؤتمرات المعرض. كنتُ أحدَهم: أذرَعُ الردهةَ جيئةً وذهاباً في انتظار الحافلة التي سَتُقلّنا إلى مَسرح المدينة.

قلتُ في نفسي: سَأنتهز هذه الفرصة الثمينة وأسأل هذا الباحث، وهو من البقية الباقية من المتضلّعين في الضاد في عصرنا إلى جانب تألُّقه في لسان موليير، عن علاقة المباني بالمعاني في العربية. هي مسألة صرفيّة دلاليّة استنفَدت زمناً طويلاً من مُطارحات النحاة القدامى، مثل ابن جنّي وابن يعيش، وأرَّقت مَضاجع المُحدثين من العرب والمستَعربين، مثل عبد وإبراهيم أنيس، فضلاً عن ريجيس بلاشير وبيار لارشي وأندري رومون وجورج بوهاس من معاصرينا الفرنسيين.

مفهوم “الحَدْس اللغوي” ميَّزَ واضعي الكلمات الأوائل 

أطرق أحمد بيضون برهةً قصيرةً ثم قال بعفوية وهدوءٍ: “العلاقة بين أوزان الأفعال ودلالاتها ليست علاقة مُطّردة، إذ لا يُمكن للاطِّراد أنْ يَحكمها، بالنظر إلى التطوُّر المستمر في استحداث الأفعال وتضخّم أعدادها المستمر، في ظل نشاط الصحافة الدؤوب وازدهار الأدب. القانون الوحيد الذي يمكن اعتمادُه في توصيف العلاقة بين مباني الأفعال ومعانيها، هو التغليب، أيْ: أن نُغَلِّبَ كون دلالة وزن: فَعَّلَ، مثلاً، هي المبالغة، ودلالة استفعلَ الطلبُ، وهكذا، دون أن يكون هذا الاقترانُ ضرورياً ولا منطقياً.

وبنفس تلقائيته تلك، أشار صاحبُ “كلمن” إلى مفهوم “الحَدْس اللغوي” الذي ميَّزَ واضعي الكلمات الأوائل، وعلى ضوئه تَصرّفوا واستحدثوا مفردات الأفعال، فكأنَّهم، حَدسوا، وبحكم العادة والتكرار، أنَّ صيغة فعَّل تدلّ على المبالغة في الفعل، فصاغوا، على قياسها: كَسَّر وقتَّل و هدَّم… في حين حَدسوا أنّ وزن استفعل يفيد الطلب في مثل: استفهم واستخبر واستنجد… وهكذا، غلّبوا هذا الحَدس في صياغة سائر الأفعال، دون أن يَصنعوا منه قاعدةً مطلقةَ الاطراد.

وأما الشواذ، أضاف مُحدّثي في دقته، التي تَكسر هذه القاعدة العالية، فمردها إما إلى عامل الاستثقال الصوتي، حين لا تَتَلاءم الحروف في بعض الصيغ، إذ لا يمكن مثلاً اشتقاق فعلٍ على وزن “استفعل” من مادة: جَزَرَ. وقد يُردُّ هذا التباين بين الأوزان ومعانيها إلى استعجال توليد كلماتٍ، إذ قد تَجري الكلمة كما اتفق، في إطار حاجة آنية تفرض ابتكار فعلٍ ما، دون مراعاة ذلك التطابق.

وتخلَّص بيضون، بنبرته الرخيمة، أنّه كلما امتد الزمن كثرت الشواذ واستفحل التباين بين الأوزان ومعانيها، وضاع الاقتران بين القيم الأصلية للمباني وتجلياتها اللسانية. ففِعلٌ مثلَ استقبل، مثلاً لا يدل على مبدأ “الطلب” ولا على معنى “المبالغة” ولا “الوجدان”، وهي المعاني الثلاثة الأساسية التي وضعها النحاة القدامى مثل: الزمخشري والاستراباني وابن جني.

وحتى الغلطُ، أضاف مُحاوري، الذي قد يعتري عملية الاستحداث يمكن أن يكون سبباً من أسباب التباين بين الدال الصوتي والمدلول الذهني. وفي سبيل التأكد من اقتران المباني ومعانيها خَطرَ لنا معاً إنجاز عمل بحثي استقصائي يشمل عشرة آلاف فعل على وزن فَعَّل مثلاً لإحصاء مدى غلبة مبدأ ما على غيره من المبادئ، ثم مدى حضور هذا التغليب بالنظر إلى عدد الشواذ…

شكرتُ الأستاذ قائلاً: إنَّ فكرة “التغليب” وعدم الاطراد حلٌّ وَسط أرضى عقلي وسَيُيسر لي تدريسَ العربية للناطقين بها وبغيرها حين تُقدم هذه الفكرة كمبدأ رياضي يتواءم مع المنطق الحاكم في أبنية الأفعال. وما إن أنْهَينا حديثنا حتى أطلت علينا الصديقة رشا الأمير، فأخبرناها بما كنّا نخوض فيه. أقرّتنا على مبدأ التغليب وابتسمت.

قلت في نفسي: حَصل الإجماع في هذه المسألة بين عاشقَيْن للضاد، وهو ما يشرع للكتابة عنها انتظاراً لما ستؤول إليه نتائج البحث الإحصائي في مدونة محصورة، عسى أن يَثبُتَ الإجماعُ بالأرقام ويتقوى. وقد يتأكد مبدأ التوافق بين ألفاظ الأفعال ومعانيها

نجم الدين خلف الله عن صحبة العربيّة وتحولاتها

في كتابه الصادر حديثاً، يحاول اللغوي اللبناني أحمد بيضون إبراز التحوُّلات التي طاولت اللغة العربية في العقود الأخيرة ورصد تأثيرها، ليس فقط في نِظامها الداخلي، الصوتي والصَرفي والنحوي، بل وفي حضورها ضمن المشهد الثقافي القومي والعالمي وفي النسيج اليومي.
— Read on www.alaraby.co.uk/books/2019/1/8/أحمدبيضونصحبةالعربيةوتحولاتها

نجم الدين خلف الله عن “في صحبة العربيّة”

عقل العويط عن “في صحبة العربيّة”

قراءة “في صحبة العربية” لأحمد بيضون

الحاجة العظمى إلى ضوئه كاتبًا وشخصًا

عقل العويط

ينبغي للقارئ ألاّ يقف على الحياد، عاكفًا على قراءة أحمد بيضون، إنسانًا، مفكّرًا، باحثًا، أكاديميًا، أستاذًا جامعيًا، عالِم اجتماع، مؤرّخًا، كاتبًا، ناقدًا، شاعرًا، أديبًا، ولغويًا. فكيف لا يقرأه في كتابه النيّر، “في صحبة العربية/ منافذ إلى لغةٍ وأساليب”، الصادر لدى “دار الجديد”، حيث مجموعةٌ من أبحاثٍ وكلماتٍ ومقالاتٍ، كُتِبت في ظروفٍ ومناسباتٍ شتّى، سقفُها وبيتُها وملعبُها وأفقُها الفسيح، الكتابُ والقراءةُ، وهذه اللغة العربية، التي يستهويها أن تكون تحت قلمه وفي حبره، طيّعةً، لينًةً، مسبوكةً، معقلنةً، متأدّبة، هنيئةً، وعارفةً، بلا غرورٍ، ولا اصطناعٍ، وبالكثير من العرفان والتواضع والألفة.

لا بدّ من أن أكتب عن “صحبة العربية” ككتاب، بمعزلٍ عن الكاتب نفسه، في وقتٍ أستشعر كقارئٍ وكاتبٍ ومواطنٍ، عِظَم الحاجة إلى شخصيةٍ ثقافيةٍ – عقليةٍ – وطنيةٍ، كمثل أحمد بيضون، ليس في عوالم لغتنا وأدبنا وشعرنا وجامعتنا وفنوننا فحسب، بل ذلك كلّه مضموماً إلى أبعاد الرجل، وخصوصياته، وكفاءاته الجمّة، في ميادين متنوّعة، كثيفة، لو أتيح لنا أن نُستفاد منها، لما كانت أوضاعنا في الحياة، والثقافة، والسياسة، والشأن العام، والإدارة، والدولة، والاجتماع، وسلّم المعايير والقيم، آلت إلى ما آلت إليه من دركٍ سافلٍ وعميم.

هكذا أجدني عازلًا – بالافتراض – ذاتيّتي التفكرية والوطنية عن ذاتية المؤلف، ميّالاً إلى أن كتب عن “صحبة العربية” بتهيّبٍ، وغبطة. إذ لا مفرّ في قراءة الكتاب والكتابة عنه وفيه، من اجتماع الحالتين هاتين، على ما فيهما من تباعدٍ شكلانيّ، لا يصمد أمام أسباب التضامّ والوحدة. ذلك أن النصوص تُملي عليَّ أن أمتلئ بالاثنتين الحالتين معًا، لصفاتٍ موجودةٍ فيها. فكلَما أخذني التهيّب، بسببٍ من تضلّع الكاتب من العربية، صرفها ونحوها، وإرثها الأدبي، شعرًا ونثرًا ونقدًا وتفلسفًا، وبسببٍ من تضلّعه من حاضرها، – وهو تضلّعٌ معرفيٌّ بيّنٌ وجازمٌ وحاسمٌ – هتفت بي الغبطةُ هتافًا عاليًا، داعيةً إيّايَ إلى الانغماس في لذائذ المكتوب وجمالاته وفوائده المتنوّعة، غَرْفًا واستزادة.

هل من حجّة؟! ولا بدّ. إذ لم نعد نعرف من العربية شيئًا كثيرًا، أساتذةً وطلّاب أدبٍ ولغةٍ وتلامذةً، وهلمّ. لم نعد نتعامل مع العربية بما تقتضيه اللغة، كلّ لغة، من أصول التعامل، ومعاييره، وفنونه، وأنواعه، ومراتبه. لكن أحمد بيضون يعيدنا في كتابه هذا، إلى الأصول والمعايير والفنون والأنواع والمراتب، من دون وعظٍ أو تعليم، ملقيًا الضوء، نابشًا، كاشفًا، معبِّدًا السبل، مسهِّلًا، على غير تبسيط، داعيًا إلى التواضع المعرفيّ، والأخذ بالعقل والعلم، ضنينًا بالكتاب في زمن اللاكتاب، وبالقراءة في زمن اللاقراءة، فاتحًا الأبواب كلّها على الصناعات التكنولوجية والوسائط المعرفية الجديدة التي تتيح سبل الإبحار من دون التنكّر للحبر والتحبير.

لسببٍ من الأسباب، أخذتُ الكتاب من بابه الأخير، “من قبيل الختام”، تقريظًا للمطالعة، حيث “الكتابة”، على قول أحمد بيضون، “كَرَمٌ فادحٌ، في أصل ما هي، يصعب أن نقع له على نظير”. فالكَرَم الذي يُعطى بالكتابة لا يناظره كَرَمٌ، البتّة وقطعًا. لا بالوقت، ولا بالمال، ولا بالطاقة العضلية. “لا نفطن إلى أن عقولًا ومخيِّلاتٍ وحواسّ وذاكراتٍ ومشاعرَ لا تحصى… إلى أن بشرًا لا يُحصون مبذولون بأجلّ ما فيهم في ما هو منشورٌ. هم في المتناوَل، متناولنا، بالبَدَل البخس دائمًا أو، إن نحن بذلنا الجهدَ اللازم أو سلكنا السبيل المناسب (سبيل المكتبة العامة مثلًا)، بلا بدلٍ بالمرّة”. والحال هذه، “فليواجه القرّاءُ الكتابَ بإنصافٍ للكرَم الذي في الكتابة”، و”ليواجه الكتّابُ القرّاء بمعرفةٍ لما يسع الكتابةَ أن تكون عليه من جودٍ”؛ في الحالة الأولى (القرّاء) “بلا رهبةٍ من الكتّاب كائنين مَن كانوا”، وفي الحالة الثانية (الكتّاب) “دون ذاك الغرور الذي يسنده شعورٌ بكمال ما يبذلون”.

يطيب لي أن أخرج بوصيةٍ من قراءتي “في صحبة العربية” لأحمد بيضون، قوامها الجملة الأخيرة في الكتاب: “ولنعلم، أننا، على التعميم، محتاجون إلى القراءة كتّابًا وقرّاءً… فلا نكون مصداقًا لقولة واحدٍ من أصحابنا: “الناس كتّابٌ أو قرّاءٌ: القرّاء لا يكتبون والكتّاب لا يقرأون”.

يضمّ الكتاب، “على سبيل التقديم” (في صحبة العربية)، “في اللغة” (في أن استواء تعلُّم اللغات قيمةً مدركةً شرطٌ لمعالجة مشكلاته، العربيةُ مفسبكةً (عاميّاتٌ يُكتَب بها وفصحى حوارية، منافذ إلى “قضية” العربية، مصطلحا “طائفة” و”طتئفية”” ترسيمٌ لنسبهما الدلالي على نية المترجمين)، “استراحة” (النجوم الشهب: صورة شخصية من لبنان لثقافة مصر المعاصرة)، “أساليب” (أسلوب غسان تويني، غناء فيروز لكلمات زياد: قمر الصباح الباكر يحكي بلايا آخر السهرة، مرّ زمنٌ طويل)، “من قبيل الختام” (المطالعة).

عودٌ على بدءٍ: ولأني لا أقف على حيادٍ في قراءتي لأحمد بيضون الكاتب والشخص، ولأن الزمن زمنُ احتياجٍ إلى ضوءٍ، في هذه الظلامية اللبنانية الشرسة، يبثّه شخصٌ أو أشخاصٌ من أهل العقل والتفكّر والقيم والمعايير، أقترح على كلّ مَن يعنيهم الأمر، أمرُ الثقافة أو أمر الدولة مطلقاً، اللجوء إلى مثل الضوء الذي يبثّه حضور أحمد بيضون فينا. فلِمَ لا يكون وزيرًا للثقافة مثلًا؟ أو، على سبيل التوسع في الاقتراح: لِمَ لا يكون رئيسًا لدولتنا المدنية المقترحة؟!

Akl.awit@annahar.com.lb