عقل العويط مستعيداً : “لم يبقَ لنا إلّا نحن”

الشاعر عقل العويط استعاد منشورةً لي ظهرت في فيسبوك قبل أيّام واتّخذها مداراً لمقالته اليوم في “النهار”.

“لم يبقَ لنا إلّا نحن”
عقل العويط

كتب أحمد بيضون ما يأتي على موقعه، تحت عنوان “لم يبقَ لنا الّا نحن”، وأراني أستعيده ليؤخَذ حكمةً نحتاج إليها في ليلنا البهيم هذا، فـ”نرى” جيّدًا ما قد يغفل ويتغافل كثرٌ عن “رؤياه” و”رؤيته” بتمامه: “نرغبُ في الصراخِ ومَنْ قد يتوجَّهُ إليهم صراخُنا لا آذانَ لهم. ليس في يدنا شيءٌ ولن يعطينا أحدٌ شيئاً. لم يبقَ لنا الآنَ إلّا نحنُ: ومن استطاعَ منّا أن يداري شيئاً من وقْعِ المُصابِ على المصابينَ سيفعل.
وأمّا الكلماتُ فعُلِّقتْ معانيها إلى أجَلٍ لا نعْلَمُهُ: منها ما قد نستردّهُ بمعنىً جديدٍ ومنها ما سيلبثُ تائهاً عن كلِّ معنىً فيتعيّنُ الإعراضُ عنه ومنها ما سيكونُ علينا ابتكارُ معنىً له أو ابتكارُهُ لمعنىً يلوحُ في الأفق.
… مع ذلكَ لا بأسَ علينا من الصراخِ في هذا الفراغِ المَهول!”.
اقرأوا جيّدًا: “لم يبقَ لنا إلّا نحن”. وأعتقد أنّه لم يكن لنا، في الأساس، إلّا نحن، وكان ينبغي للعاملين جميعهم أنْ يعملوا بوحيٍ من ذلك. لكنّ ما فات قد فات. والحال هذه، والوقت هو هذا، فليقم العقل الواجب الوجود بواجبه، وليرفع حكمة “لم يبقَ لنا إلّا نحن”، سراجًا في مسرى الحلكة المدلهّمة.
جميعنا في حاجةٍ إليها، هذه الحكمة، وليس فوق أحدٍ منّا خيمةٌ (ولا سماءٌ) تدرأ عنه المجزرة العظمى غير المسبوقة، التي قد تستمرّ ضاريةً في “الأيّام المقبلة”، وفي التي تليها، ولن يدرأ أحدٌ عنّا حجار اللعنة، وألسنتها، وأبابيلها، وهذه كلّها لم تكفّ يومًا، ولن تكفّ، عن رجمنا وبلادنا، ودفننا وإيّاها تحت الركام.
أقدارنا هي القسوة مطلقًا، وعلينا، أنْ نحتملها، ونحتمل حياتنا، بضراوتها التي تزداد، وتنمو، وتتوالد، وتتكاثر. أليس من أفعال العقل أنْ نحتضنها (أقدارنا وحياتنا)، نحن الذين “لم يبقَ لنا إلّا نحن”، وليس لنا، ولم يكن لنا إلّا نحن. ومَن يستدلّ إلى أفعال العقل فـ”يرى” الحكمة متأخّرًا، خيرٌ له من أنْ “لا يرى” مطلقًا. وخيرٌ، سبعين مرّةً سبع مرّات، ممّن “لا يريد أن يرى” في أيٍّ من الأيّام المقبلة.
كتبتُ قبل أسبوع مقالًا عنوانه “اسألوا الأيّام المقبلة”، وكان كثرٌ منّا يعتقدون أنّ أهوال الأيّام التي سبقتْ، كافية لتُعتبَر الحدّ الأقصى. لكنّها، يا للكارثة، لم تكن هي الحدّ الأقصى. وعليه، فلنرَ إلى “الأيّام المقبلة” بالاختبار، وبالحدس، وبالنزر القليل من الحكمة، وبالولاء لإمامة العقل. وها هي مقبلةٌ علينا، وستكون شديدة الهول، ويصعب التكهّن بها كلّها، وبفخاخها، لأنّها متداخلة، ومتشعّبة، وظاهرة، وباطنة. وهي ستكون طويلة الأمد. لكنّها لن تبقى إلى الأبد.
مقنعةٌ هي ولاية العقل حين تُرينا أنّ وحشيّة “الأيّام المقبلة” لن تظلّ تجثم على مصائرنا إلى الأبد، فأراني يجب عليَّ أنْ أرفع عاليًا مقولة أحمد بيضون بعنوانها الفذّ “لم يبقَ لنا إلّا نحن”.
مَن “نحن”؟ الدولة. وجميعنا، ولا استثناء. ولن أتردّد في تعميم هذا “الاقتراح”. والآن، وغدًا، وبعد غدٍ، وفي “الأيّام المقبلة” كلّها. لأنّه ليس لأحدٍ منّا مَن بقي له (وكان له) إلّا نفسه. ونفسه هي “نحن”. جميعنا. وأقول هذا على الإطلاق. وبالمهابة والتهيّب. وبشجاعة. وبالتواضع الرحيب جميعه.
قد يخطّئني بعضٌ هنا وهنالك وهناك، مراهنًا أو معتقدًا أنّه بقي لنا ما (ومَن) ليس “نحن”.
إنّي أصرخ هاتفًا: ليس لنا أحدٌ، ولم يكن ولن يكون لنا أحدٌ إلّا نحن. الدولة. وجميعنا. أوعا الغلط.
akl.awit@annahar.com.lb

تَخاريفُ على هَدْيِ المِزاجِ والقَريحة



أَفْطَنُ إلى ما انْتَهَتْ إليهِ حالُنا فَيَخْطُرُ لي قَوْلُهُم: “تَفَرَّقوا أيْدي سَبَأ!”. ذاكَ ما يَحِلّ بالعائلاتِ اللُبْنانيّةِ عادةً، إذْ تَخْرُجُ مِنْ دِيارِها رَفْساً لا طَوْعا. وقَد راحَت عائلَتُنا تَتَفَرَّقُ أَيْدي سَبَأٍ مِنْ عُقودٍ كَثيرةٍ وكُنْتُ آخِرَ مَن غادَرَ مِن بَيْنِ عَناصِرِها: اغْتَرَبْتُ وأنا على عَتَبةِ الثَمانينَ أي في السِنًِ التي يَكونُ المُغْتَرِبونَ قَدْ آبوا إلى دِيارِهِم، عَلى الإجْمالِ، قَبْلَ بُلوغِها بِزَمَن. تفَرَّقْنا إذَنْ أَيْدي سَبَأ…

وفي الحديثِ أنّ سَبَأ “رَجُلٌ من العَرَبِ وُلِدَ لَهُ عَشَرةٌ: تَيامَنَ مِنْهُم سِتّةٌ وتَشاءَمَ مِنْهُم أَرْبَعة”. وكان سَبَبُ تَفَرُّقِهِم هذا، بَيْنَ جِهاتِ الشامِ وجِهاتِ اليَمَنِ، ما يُسَمّيهِ القُرْآنُ “سَيْلَ العَرِم” وهو انْهِيارُ سَدِّ مَأْرِب. وهذا حَدَثٌ يَبْدو لي أَشْبَهَ الحَوادِثِ القديمةِ بِتَفْجيرِ مَرْفَإ بَيْروت المَعْلوم. هذا وإذا صَحَّ زَعْمُ المُحَدِّثينَ أنّ جُرَذاً نَقَبَ السَدَّ اليَمَنِيَّ العَظيمَ انْتَفى كُلُّ مانِعٍ مَنْطِقِيٍّ أنْ يَكونَ الجُرَذُ نَفْسُهُ وصَلَ إلى مَرْفَإ عاصِمَتِنا، وفي ذَيْلِهِ نارٌ، ذاتَ يَوْمٍ لاهِبٍ مِن صَيْفِ العامِ ٢٠٢٠. هذهِ فَرْضِيّةٌ أحِبُّ أن أُنَبِّهَ إلَيْها المُحَقِّقَ العَدْلِيَّ (الذي نَسيتُ اسمَهُ لِبُعْدِ العَهْدِ بِأَخْبارِهِ) عَسى أن يَجِدَ فيها مَخْرَجاً مِن وَرْطَتِهِ المُسْتَعْصِيةِ فَتُحْفَظَ القَضِيّة ويَنْصَرِفَ المُحَقِّقُ إلى ما يُفيد…

أعودُ إلى التَيامُنِ والتَشاؤم… وخُلاصةُ القَوْلِ فيهِما أنَّ المَعاجِمَ القَديمةَ حَفِظَت للتشاؤمِ هذا المَعْنى المُشارَ إلَيهِ وهو التوَجُّهُ إلى الشامِ، ويُقابِلُهُ التَيامُنُ وهو تَيْميمُ شَطْرِ اليَمَن.

هذا وقد شاعَ اسْتِعْمالُ “التَفاؤلِ” مُقابِلاً للتَشاؤمِ أيضاً. وهو اسْتِعْمالٌ مَقْبولٌ ولَكِنْ لا يَبْدو هذا المَعْنى (أي معنى الاسْتِبْشارِ) أَصْلِيّاً في “التَفاؤلِ” ويَبْقى “التَيامُنُ” أَوْلى بِه. فالتَفاؤلُ مِن “الفَأْلِ” وهذا يكونُ فَألَ خَيْرٍ ويَكونُ فَأْلَ سوء. وقد يَصِحُّ اعْتِبارُ المأثورِ “تَفاءلوا بالخَيْرِ تَجِدوه” مُؤيِّداً لِهذا الرَأْي. فهو قد اضطُرَّ إلى التَصْريحِ بِذِكْرِ الخَيرِ بِما هو مَوْضوعٌ للتَفاؤلِ ولَمْ يَعْتَبِر الخَيْرَ ماثِلاً بالضَرورةِ في مَفْهومِ التَفاؤلِ فَلا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِه. وهو لَمْ يَقُلْ مَثَلاً: “تَفاءَلوا تَجِدوا خَيْراً” إذ لا تَسْتَقيمُ هذهِ الصيغةُ ما دامَ التَفاؤلُ جائزاً بالخَيْرِ وبالشَرِّ على حَدٍّ سَواء. على أنّهُ لا رَيْبَ أنّ حَصْرَ التَفاؤلِ بالخَيْرِ والتَشاؤمِ بالشَرِّ قد شاعَ، في كَلامِنا، وذاع…

فّلِماذا فُرِضَت على الشامِ هذه الوَصْمةُ، في كَلامِ القُدَماءِ، واسْتَأْثَرَت اليَمَنُ باليُمْنِ والبَرَكات؟ الراجِحُ عِنْدي أنّ السَبَبَ هو مَوْقِعُ الشامِ إلى الشمالِ من الجزيرةِ، وهذهِ جِهةٌ كانت قَليلةَ الحَظِّ، على الدَوامِ، في عُرْفِهِم. ويقابِلُها اليَمَنُ، في الجَنوبِ، وقَدْ عُدّتْ مُجانِسةً لليمينِ ولليُمْنِ مِنْ ثَمّ. وهذا هو المَبْدَأُ الذي كانَ مُعْتَمَداً في التَطَيُّر: اليمينُ سَعْدٌ والشمالُ نَحْس. وفي عُهودِ التَعَصُّبِ والتَضْييقِ، كانَ يُقالُ للذِمِّيِّ: “أَشْمِلْ يا كافِر!” أي: إلْزَمْ جِهةَ الشمالِ مِن الطَريق.

وكانَ صَباحٌ وكانَ مَساءٌ… وثَبَتَت، في أيّامِنا، وَصْمةُ الشُؤمِ على الشامِ العَظيمةِ، وذلكَ للُزومِ التَعْريجِ المُحْتَمَلِ (والعِياذُ بِالله!) عَلى “فَرْعِ فلسطين”! وهو ما كادَ أنْ يَحْصُلَ لي ذاتَ مَرّةٍ لَوْلا أنَّ سَوّاقَ فرانك مرمييه Franck Mermier (وكُنّا مَعاً)كانَ لهُ مِن النُفوذِ الحُدودِيِّ ما يَفوقُ بِما لا يُقاسُ نُفوذَ نقابةِ السَوّاقينَ بِأَسْرِها. حَتّى أنّني كِدْتُ أنْ أَعْرِضَ عَلى هَذا السَوّاقِ قَيْلولةً في المَقْعَدِ الخَلْفِيِّ الأَيْمَنِ فيما أَتَوَلّى، بَعْدَ إذْنِهِ، سَوْقَ السَيّارة. وقد ازْدَدْتُ مُؤَخَّراً إكْباراً لبُعْدِ نَظَرِ الجِهازِ الذي وَضَعَ في خِدْمةِ ذَلِكَ المَرْكَزِ الفَرَنْسِيِّ سَوّاقاً مُطْلَقَ الصلاحِيّةِ، حَلّالاً للعُقَد: إذْ لَوْلاهُ لَوَجَدْتُ، عَلى الأَرْجَحِ، ما أَشْهَدُ بِهِ أَمامَ تِلْكَ المَحْكَمةِ الباريسِيّةِ التي نَطَقَت بِحُكْمِها قَبْلَ أَيّام…

وأمّا التَيامُنُ فخَرَجَ، مِن جِهَتِهِ، مِن اليَمَنِ السَعيدِ أي من مَمْلكةِ الحوثِيّينَ الحاليّةِ. خَرَجَ قَبْلَ زَمَنِ هؤلاءِ بِدَهْرٍ وَلَمْ يَعُدْ، وكانَ حَقّاً لهُ أن يَخْرُج. فَلَزِمَ أن نَحْمِلَ التَفاؤلَ على مَحْمَلِ الخَيْرِ حَمْلاً مطَّرِداً شاءَ التَفاؤلُ أمْ أبى!

يَبْقى التَمَرُّدُ على هذهِ الحالِ كُلِّها: يَبْقى لِمَن اسْتَطاعَ إليهِ سَبيلاً، بِطَبيعةِ الحال.

وقَد اتّفَقَ أنّ المَعاجِمَ القَديمةَ نَفْسَها أَدْرجَت بَيْنَ مَعاني التَمَرُّدِ التَوَجُّهَ إلى ماردين! وهذهِ، في أيّامِنا، رَمْيةٌ مِن غَيْرِ رامٍ : فَإنّ خَليطَ الكُرْدِ والأَشورِيّينَ والعَرَبِ الذي يَأْهَلُ هذهِ المَدينةَ مُتَمَرِّدٌ تلْقائيّاً بَعْضُهُ على بَعْضٍ وكُلُّهُ على تَرْكيا أردوغان!
نَتَوَجَّهُ إذَنْ إلى ماردين، مَتى اسْتَطَعْنا، مُسْتَهْدينَ ما تُسَوِّلُهُ لَنا مَعاجِمُنا القَديمةُ مِنْ غَيْرِ ميعاد.

أَحْسَنُ GPS مَعاجِمُنا هَذه!

في أنّ وقائعَ التاريخِ كَثيراً ما تَظْهَرُ مُلْغَزةً ولكنْ لا “يَتَقَدّمُ التاريخُ مُقَنَّعاً”…*

لعلّ أَسْوَأَ ما تداولَتْهُ الماركسيّةُ، في هذا المَشْرِقِ، ذاكَ الجُنوحُ إلى إخضاعِ وقائعِ التاريخِ، أيّةً تَكُنْ حَقائقُها، لِنَوْعٍ مِنْ لُعْبةِ الأَقْنٍعةِ. فَنَفْتَرِضُ أنّهُ لا بُدَّ مِنْ قِناعٍ (ليس لهُ أن يَعْدو كَوْنَهُ قِناعاً مَهْما يَكُنْ حُضورُهُ ساحِقاً وفاعِلِيَّتُهُ دامِغةً) وأنَّ الوَجْهَ ماثِلٌ، بأُبَّهَتِهِ، خَلْفَ ذلكَ القِناع.

عَلَيْهِ يَغْدو لِزاماً أنْ يُكْشَفَ ذاكَ القِناعُ ليَظْهَرَ هذا الوَجْهُ فَيُحَصْحِصَ الحَقّ! وأَمّا ما يَجْعَلُ القِناعَ قِناعاً والوَجْهَ وَجْهاً فَلَيْسَ شَيْئاً تُسْتَطاعُ مُعايَنَتُهُ في الوَقائعِ وإنّما هُوَ قَوْلٌ قالَتْ بِهِ قِراءةٌ لِتاريخٍ آخَر.

مؤدّى هذهِ اللُعْبةِ تَفْويتٌ في أَثَرِ تَفْويتٍ في أَثَرِ تَفْويت. باسْمِ صِراعِ الطَبَقاتِ (وهو هَهُنا بَيْتُ القَصيدِ)، تَفوتُنا أَقْوامٌ وطَوائفُ وعَشائرُ ومَناطِقُ، وتَفوتُنا أدْيانٌ وتَقاليدُ وأَبْنِيةُ سُلْطةٍ… بَلْ تَفوتُنا تَواريخُ بِحالِها تَبايَنَت مَساراتُها وتَغايَرَ ما أَثْمَرَتْهُ المَساراتُ مِن مَوارِدَ ونَوازع.

ولَعَلَّ هَذهِ كُلَّها لَمْ تَفُتْ هذهِ أو تِلْكَ مِنْ مارِكْسِيّاتٍ بَلَغَنا خَبَرُها. ولَعَلَّ صِراعَ الطَبَقاتِ لَمْ يَكُنْ مَطْلوباً إنْكارُهُ ولا الغَضُّ مِن مَكانَتِهِ حَيْثُ تَكونُ قابلةً للمُعاينةِ والتَقْدير. ولَعَلَّ تَصَوُّرَ “الكُلِّ” الهيغليِّ يُسْتَبْقى ولَكِنْ لا تُمْلى على الكُلِّ مَوازينُ مُسْبَقةُ التَعْيينِ ولا دينامِيّةٌ مَبْدَئيّة. ولَعَلَّ الهّيْمَنةَ حَصَلَتْ وتَحْصُلُ ولَكِنْ كانَتْ لَها حُدودٌ يَتَعَيَّنُ كَشْفُها على الدَوامِ، إذْ قد تَداوَلَت
الهَيْمَنةَ، باخْتِلافِ الأَزْمِنةِ، قِوىً غَلّابةٌ مُخْتَلِفةُ الوَقْعِ وتَلَقّتٌها الجَماعاتُ المَغْلوبةُ فَكَيَّفَتْها وتَكَيَّفَتْ بِإمْلاءاتِها أو قاوَمَتْها بِما مَلَكَتْ أَيْديها وغَيَّرَتْ قَليلاً أو كَثيراً مِن مَفاعيلِها المُفْتَرَضةِ، في كُلِّ حال…

مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ، ظَلَّ الإلْحاحُ في لُزومِ مَبْدَإٍ جامِعٍ للتاريخِ بِرُمَّتِهِ يَحولُ دونَ اسْتِواءِ هذه أو تلكَ مِن القوى والعّوامِلِ الأُخْرى الآنِفةِ الذِكْرِ مَتْناً تامَّ الأَهْلِيَةِ (أو وَجْهاً تامَّ الوَجْهِيّةِ) لِتاريخِ هذا أو ذاكًَ مِن المُجْتَمَعاتِ المَعْروضةِ على بَصائرِنا، وقد اتَّفَقَ أنّها مُجْتَمَعاتُنا، لا أَكْثَرَ ولا أَقَلّ.

ظَلَّ يَفوتُنا، والحالةُ هذهِ، كُلُّ شَيْء! بَلى بَقِيَت لّنا صِناعةُ “حَسْرِ اللِثامِ”… وهذهِ “صناعةُ تَحْويلٍ”: تَحْويلِ ما هُوَ حاصِلٌ إلى ما لا يَعْدو أن يَكونَ مُفْتَرَضَ الحُصول!

تَبّاً لَنا!

  • “التاريخُ يَتَقَدَّمُ مُقَنَّعاً” عنوانُ كتابٍ أَصْدَرَهُ الفَرَنْسِيُّ لويس فالون سنة ١٩٥٧. وإذْ نَسْتَبْعِدُ هنا صورةَ القِناعِ، لا نُريدُ الإيحاءَ أنّ وقائعَ التاريخِ تَعْرِضُ نَفْسَها رَقْراقةً شَفّافةً لِنَظَرِ القارئ. فإنّما يكفي حُصولُ الفِعْلِ التاريخيِّ وانْدِراجُهُ في سِياقٍ لِيَسْتَوي فريسةً لإراداتٍ شَتّى وأسيراً لِمَجْرىً مُتَشَعِّبٍ لا يَضْبُطُ الفاعِلونَ، بالضَرورةِ، مَسارَهُ ووجْهَتِه. وما لا يَضْبُطُهُ الفاعلونَ لا يَتَبَيَّنُ للقُرّاءِ، كُلُّهُ أو جُلّه، من غَيْرِ عَناءٍ يَتَكَلّفونَهُ في الاسْتِطْلاعِ ومُغامَرةٍ في الاسْتِدْلال. ويَزيدُ العَناءَ عَناءً أنّ مَواقِعَ القُرّاءِ تَكونُ مُغايِرةً، على أنْحاءٍ مُخْتَلِفةٍ، لِمَواقِعِ الفاعِلين. ذاكَ ما يُشيرُ إليهِ تَنْويهُنا بِ”الإلْغازِ” في الوَقائع. ولَكِنّ هذا العَناءَ في اسْتِكْشافِ الدلالةِ المُلْغَزةِ وتَبَيُّنِ السِياقِ الفِعْلِيِّ والمَآلِ المُرَجَّحِ شَيءٌ مُخْتَلِفٌ كُلِّيّاً عَن رَدِّ الوَقائعِ، طَوْعاً أو قَسْراً، إلى “طبيعةٍ” مِعْيارِيّةٍ أو دينامِيّةٍ مَبْدَئيّةٍ مُعْتَمدة. بل إنّهُ يَجوزُ اعْتِبارُ ذاكَ العَناءِ ضِدّاً لِهذا الرَدّ.

إسرائيلُ ودُوَلُ “الجَنوبِ العالَمِيِّ” الكُبْرى

في العلاقاتِ الدوليّةِ الجاريةِ وقائعُ قابلةٌ للقياسِ يَسَعُ الإلْمامَ بِها أن يُعَدّلَ قليلاً أو كثيراً صُوَراً بَقِيَت راسِخةً وقَد أَكَلَ عَلَيْها الدَهْرُ أو هِيَ تُسْتَنْتَجُ اسْتِنْتاجاً مِن هُوِيّاتٍ شاخت وما تَزالُ تُفْتَرَض لَها فاعِلِيّةٌ في توجيهِ السُلوكِ فَقَدت مُعْظَمَها، في الواقِع.

مِنْ ذاكَ أنّ انتِسابَ إسرائيلَ إلى ما يُدْعى “الغَرْب” (وهو حاصِلٌ مَبْدَئيّاً) لم يَحُلْ بينَها، في ميدانِ السِياسةِ التِجاريّةِ، وبَيْنَ وَضْعِ قدَمٍ في ال”جي٧” (الذي يضُمّ أبْرَزَ الدُوَلِ الغَربيّةِ ومَعَها اليابانُ وتَقودُهُ الولاياتُ المتّحدة) وقَدَمٍ في ال”بريكس+” (الذي باتَ ينطُقُ باسمِ “الجنوبِ العالَمِيّ”) وتَتَصَدَّرُه الصينُ والهِنْدُ وروسيا.

فَخِلافاً لتَصَوُّرٍ مَبْدَئيٍّ يَبْدو شائعاً في دِيارِنا، نَمَتْ علاقاتٌ طَيّبةٌ إجْمالاً بَينَ الصينِ “الجديدةِ” وإسرائيلَ أَسْفَرَت عن جَعْلِ الصينِ ثاني شَريكٍ تِجارِيٍّ لإسْرائيل: تَحلُّ بَعْدَ الوِلاياتِ المُتّحدةِ مباشرةً.

هَذا وأفادَت إسرائيلُ من اضطرابِ العَلاقاتِ الإجْمالِيِّ بينَ الهِنْدِ، بَعْدَ اسْتِقْلالِها، وبَيْنَ العالمِ الإسْلامِيِّ فأنْشَأَت مَعَها شَبَكةَ علاقاتٍ لَعَلَّ أَبْرَزَ عَناوينِها أنّ إسْرائيلَ هِيَ أَبْرَزُ مُصَدّرٍ للسِلاحِ إلى الهِندِ بَعْدَ روسيا.

هذه الأخيرةُ تَعَهّدت، في عهدِها البوتينيّ، توثيقَ عَلاقاتِها بإسرائيلَ جاعلةً عنواناً له أنّ الروسيّةَ هي اللغةُ الثالثةُ المَنْطوقُ بِها في إسْرائيلَ، بَعْدَ العِبْرِيّةِ والعَرَبِيّة، وأنّ اليهودَ ذَوي الأصولِ الروسيّةِ يُمَثّلونَ نَحْوَ ١٧٪؜ من سُكّانِ إسرائيلَ بِما لِذلك مِنْ تَبِعاتٍ سِياسِيّةٍ، انْتِخابِيّةٍ على الخُصوصِ، في المُجْتَمَعَينِ مَعاً.

وفي أثناءِ إقامَتَيْهِما المَديدَتَينِ على رأسِ السُلْطةِ، وجَدَ بوتين (أبو علي!) ونتانياهو فُرَصاً عِدّةً للتَعْبيرِ عن المَوَدّةِ الشخصِيّةِ الوثيقةِ العُرى، القائمةِ بَيْنَهُما. وتُعَزِّزُ هذهِ المَوَدّةُ حِسابَ روسيا الإستراتيجيّ لعَلاقاتِها بإيران: فَيَدَعُ بوتين حَبْلَ نتانياهو على غارِبِهِ في سوريا لِيَضْرِبَ ما شاءَ له الضَرْبُ مَواقعَ الإيرانيّين ومُناصِريهِم. ولا تَبْدُرُ مِنْ الدُبِّ الروسِيِّ معارضةٌ – تَبْقى لَفْظِيّةً، خِلْواً من العواقبِ، في كُلّ حالٍ – ما لَم يتسبّبْ لهُ الفُحْشُ الإسرائيليّ بحَرَجٍ دُوَليٍّ اسْتِثْنائيّ أو يَتَعَرّضْ لإحدى طائراتِهِ بِشَرّ.

هذه السَماحةُ الروسِيّةُ يُقابِلُها نتانياهو بِمِثْلِها وأحْسَن. فَيَتَجاوزُ العلاقةَ الوطيدةَ بينَ أوكرانيا وإسْرائيلَ ويَتَجاوزُ الرَغبةَ الأمْيركيّةَ مِراراً أيضاً إذ يرفضُ ضَمّ صَوْتِهِ إلى أيٍّ من الإجراءات الدوليّةِ المُهِمّةِ التي ووجهت بها روسيا منذ احتلالها القُرمَ سنةَ ٢٠١٤ إلى حَربِها الجارِيةِ على أوكرانيا (التي يَتَرأّسُها يهوديّ وتوجَدُ فيها واحدةٌ مِن أَكْبَرِ الجَماعاتِ اليَهودِيّةِ في أوروبا) ويَرْفُضُ أيضاً تَزويدَ هذه الأخيرةِ منظومةَ الدفاعِ الجَوّيّ المعروفةَ بالقُبّةِ الحَديديّة، مكتَفِياً بفُتاتِ “معونةٍ إنسانيّةٍ” يَبْعَثُ بِهِ إلى الأوكرانيّين!

لا نَذْهَبُ إلى القَوْلِ أنّ إسرائيلَ تُمْلي سِياسةَ أيٍّ من هذه الدُولِ العُظمى في شَرْقِنا العَرَبيِّ، بما في ذلك الموقِفُ مِنْ أطوارِ الصِراعِ الفلسطينيِّ الإسرائيليّ. فهذه دُوَلٌ كُبْرى، في آخِرِ المَطافِ، وحِساباتُ كلٍّ مِنْها على قَدْرِها! ولكنّ إسْرائيلَ قابضةٌ على أوراقٍ ذاتِ شَأنٍ (تتَزَوّدُها من تَقَدُّمِها التكنولوجيّ البارزِ، على الخُصوص) في مُجاذَبَتِها هذه الدُوَل. ولا تأتَمِرُ إسْرائيلُ بأمْرِ الولاياتِ المتّحدةِ دائماً ولا تَرعى دَواعيَ انْتِمائها الغَرْبيِّ بِلا قَيْدٍ أو شرط.

ولا تُعَدُّ روسِيا أو الصينُ أو الهِنْدُ مَكْسوبةً بلا تَحفُّظٍ للجانبِ العَرَبيِّ حينَ تَكونُ إسرائيلُ في المُواجَهة. فإنّ في يَدِ هَذه الأخيرةِ ما تَحِدُّ بهِ، قليلاً أو كثيراً، من اعْتِراضِ هذه أو تلكَ على سياستِها، حينَ يَحْصُل. نَما ما أَشَرْنا إليهِ من علاقاتٍ وثيقةٍ بينَ هذه الدولِ وإسرائيل فيما إسرائيلُ ماضيةٌ قُدُماً في الاحْتِلالِ والاستيطانِ وفي التَنْكيلِ العُنْصُرِيِّ بالفلسطينيّين. لم يَلْجم العدوانُ توثيقَ العَلاقاتِ المُشارِ إليها، إذن، ولا هُوَ لَطّفَ من حَرارتِها إلّا في مَواسِمِ التَأَزُّم.

الصورةُ الماثلةُ “على الأرضِ”، إذنْ، بعيدةٌ للغايةِ عن تِلكَ الشائعةِ في دِيارِنا: تلكَ التي يُؤسِّسُ عَلَيْها أكْثَرُنا ما يَحْسَبونَهُ نِظاماً للعالَم، وهو إلى أضْغاثِ الأَحْلامِ أَقْرَب!

في الحنين إلى ترامواي بيروت!

هل أنا واهمٌ أم هي تتكاثرُ فِعْلاً هذه المواقعُ التي تنشرُ صُوَراً لبيروتَ في ربعِ القرنِ الذي سَبَقَ الحربَ ودمارَ وسطِ العاصمة؟

يُقالُ لَنا: انْظُروا إلى الترامواي! فننْظُرُ ونَراهُ ولكن لا يُقالُ لَنا ما المتعةُ التي يُفْتَرَضُ أن نجدَها في مَنْظَرِهِ وما الشعورُ الذي يُرادُ لذِكْراهُ أن تُثيرَهُ فينا. ويُقالُ لَنا: انظُروا إلى سيّاراتِ ذلك الزَمَنِ: كم هي جميلة! فَنَنْظُرُ ونَرى سَيّاراتٍ ولا نَراها جميلة! ويُقالُ لَنا انْظُروا إلى البناياتِ التُراثيّةِ الرائعةِ في ساحةِ البُرْج! هَهُنا يَبْلُغُ السَيْلُ الزُبى: متى كانت بناياتُ ساحةِ البُرْجِ تُراثيّةً، يا صاحِ، وما مَعْنى “تُراثِيّة” هَهُنا؟ ومَنْ هذا الذي كانَ يَنْظُرُ إليها فيَراها “رائعة”؟

وعَلى ذِكْرِ السَيْلِ: مَنْ يَذْكُرُ أيّامَ المَطَرِ وعُبُورَ شارِعِ الأمير بَشير على ظَهْرِ حَمّال؟ لَمْ يَكُنْ هذا الحَمّالُ بِسَلّ! الحَمّالونَ بِسَلٍّ كانَ الواحِدُ مِنْهُم يَدْفَعُكَ والآخرُ يَتَلَقّاكَ على بُعْدِ أمتارٍ مِن هُناكَ إذا كانَ اليومُ يَوْمَ نَحْسِكَ ونزلْتَ دَرَجَ خانِ البَيْض إلى حيثُ السّمَكُ والخُضار. وهل تُراكَ نسيتَ “الزَمَنَ الجَميلَ” الذي أمْضَيْتَهُ في السرفيس، مُتَصَبِّباً في حُمارّةِ القَيظِ، وأنتَ على سَفَرٍ بينَ ساعةِ الغداءِ وساعةِ العَصْرونيّةِ من أوّلِ جِدارِ جَبّانةِ الباشورةِ إلى آخره؟

نَحْنُ كُنّا هُناكَ، يا أَخانا، وعايَنّا الأبنيةَ “التُراثيّةَ” (أي الانتِدابيّةَ، على الإجْمالِ)… عايَنّاها من الداخلِ ونَعْلَمُ كَم كانت مُنْهَكةً! ونَعْلَمُ أنّ الترامواي ألغيَ لأنّهُ عادَ لا يُطاقُ ولا يُطيقُ غَيرَهُ من المَرْكَبات، ونَعْلَمُ أيضاً أنّ بديلَهُ (الذي لا تُعْفينا المواقعُ المُشارُ إليها من بعضِ صُوَرِهِ!) لَمْ يَكُن خَيراً منه فِعْلاً! نَعْلَمُ أنّ “البَلَدَ” ذاكَ كانَ مُتَهالِكاً للغايةِ وأنّ كلّ ما هو “طليعيٌّ” في العاصمةِ: من التجارةِ إلى الصحافةِ والنَشْرِ إلى السينَما إلى المَقاهي والمَلاهي، إلخ.، كان قد راحَ يهْجُرُهُ، أَوّلاً بأَوّلٍ، إلى فضاءاتٍ أخرى.

كانَ الوسَطُ أو “البَلَدُ” محتاجاً إلى تجديدٍ لئلّا يتحوّلَ إلى صحراء موبوءة.

عِوَضَ تجديدهِ، هدَمَهُ المُتَحاربونَ بَعْدَ أن حَوّلوا أطرافَهُ إلى بؤرٍ موبوءةٍ فِعْلاً. وبَعْدَ الحربِ أُخْضِعَ تجديدُهُ لمَنْطقٍ ألغى صفَتَهُ العُموميّةَ بِما هُوَ وَسَطٌ مَفْتوحٌ لِعاصمة. ولم يلْبَثْ هذا الإلغاءُ أن أتاحَ للحربِ المُسْتَمِرّةِ (المُسْتَتِرةِ إلى هذا الحَدِّ أو ذاك) أن تُحيلَهُ مُجَدّداً إلى صَحراءَ: صَحْراءَ لا هي مُتَهالكةٌ ولا هي موبوءةٌ. صحراءَ فاخرةٍ: فاخرةٍ وقاحلة.

هذا والتفكيرُ في شُروطِ عَودةِ الوسَطِ وَسَطاً أو “بَلَداً” لا يَسْتَقيمُ ما لَمْ يَكُنْ تَفكيراً في مَصيرِ العاصمةِ ومَكانِها من البلادِ كلّها، أي في مَصيرِ البلادِ كُلِّها.

ذاكَ تفكيرٌ لا يَصْلُحُ لهُ أن يُباشَرَ برَشْوَتِنا بالحنينِ إلى التراموايِ ولا هو يَنْتَفِعُ باخْتِراعِ “زمَنٍ جَميلٍ” لوسطٍ كانَ، في ذلك الزَمَنِ بالضَبْطِ، قد باشَرَ الاخْتِناقَ بأَزْمَتِه.

بلتيمور في ٤ نيسان ٢٠٢٤

الممانعة وحربُها

الممانعةُ ما الممانعةُ وما أدراكَ ما الممانعة؟
عمادُها نظامانِ: الإيرانيُّ والسوريُّ!

في الحربِ الدائرةِ، رَدَّدَ الأَوّلُ، بَعْدَ كُلِّ أذانٍ، أنّهُ لَم يُبادِرْ إلى إشْعالِ فَتيلِ الحَرْبِ ولا هُوَ يَرْغَبُ في “توسيعِها” (أي في دُخولِها).

ولَمْ يَنْطُق الثاني بَلْ واصَلَ تَلَقّي الصَفَعاتِ صامِتاً: من دمشقَ إلى حلَب ومن ديرِ الزورِ إلى الجولان.

وَحْدَهُ حُدَيْدانُ اللبْنانيُّ قال: “المعركةُ معركتُنا!” مُعْفِياً سائرَ الممانَعةِ مِن تَبِعاتِ الممانعةِ المُباشِرةِ كافّةً.

حُدَيْدانُ اللُبْنانيُّ قالَ أَيْضاً إنّهُ يُخَفِّفُ عن غَزّةَ، ولَمْ يَثْبُتْ هَذا بَلْ ثَبَتَ عَكْسُه. وقالَ إنّهُ يَرُدُّ العُدْوانَ عن لُبْنانَ، ولَمْ يَثْبُتْ هَذا بَلْ ثَبَتَ خِلافُهُ، والآتي قد يَكونُ أَعْظَم!

مَعَ هَذا كُلِّهِ، يَزْعُمُ حُدَيْدانُ المَذْكورُ أنَّ المَعْرَكةَ مَعْرَكَتُهُ، أيْ أنّهُ لَيْسَ وَكيلاً فيها لأيٍّ مِن نِظامَي المُمانَعةِ المُشارِ إليْهِما. هُوَ وَحْدَهُ، لا “فَيْلَقُ القُدْسِ” ولا “قَلْبُ العُروبةِ النابضُ”، رُكْنُ المُمانَعةِ الرَكينُ وأَصْلُها الأصيلُ، والحالةُ هذه!

والحالُ أنّهُ لوً كانَ أَمْرُ حُدَيْدانَ بِيَدِهِ، إلى هذا الحَدِّ، لَكانَ أَوّلَ ما يَضَعُهُ في حسْبانِهِ أنّ الحَرْبَ لا تُخاضُ (إذا ظَهَرَ لَها موجِبٌ) ببِلادٍ مُفْلِسةٍ إلى هَذهِ الدَرَجةِ ومُجْتَمَعٍ مُفَتَّتٍ إلى هذا الحَدِّ وشَعْبٍ مُتَحَفِّزٍ (لَو كانَت مَقاليدُهُ بِأَيْدِيهِ!) لِمُباشَرةِ الحَرْبِ الأَهْلِيّة.

…ولكنَّ مَنْطِقَ النَشْأةِ غَلّابٌ وشَرْطَ الاسْتِمْرارِ شارِط…
ولَكِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ لِمَنْ يُعْلِنُ أنَّ لهُ الأَمْر…