في فشل السياسة

http://www.almodon.com/opinion/672e4f04-c0ab-4f25-b063-61db8a84356e

في كتاب له صدر قبل أشهر، يتوسع الفيلسوف الفرنسي أتيان تاسان في جلاء فكرة تبدو موحية جداً للمتفكّر في أحوال حركات التغيير التي اصطلح على إدراجها تحت عنوان “الربيع العربي”. وهذا مع أن الكتاب مركّز على النظام الديمقراطي الغربي يقاربه انطلاقاً من أصوله في اليونان القديمة بعد أن يقرّر وجود رابط متين بين الديمقراطية والمأساة التي أرسى أصولها أعلام المسرح الإغريقي. هذا الرابط هو ما يبيح للمؤلف أن يمنح كلاً من وجوه الديمقراطية التي يوزّع عليها فصول كتابه وجه واحدة من شخصيات المآسي اليونانية الذائعة الصيت: أورست، أوديب ولكن أيضاً سقراط من عالم الحكمة، أخيل من عالم الملحمة، إلخ.، إلخ.
وأما الفكرة التي ينعقد عليها الكتاب كله فهي واضحة منذ عنوانه: “شؤم العيش في جماعة”! والعبارة مأخوذة من نصّ لفيلسوف فرنسي آخر من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية هو الظواهري موريس ميرلو بونتي يقرّر فيه تعذّر الوصول إلى “حلّ موفّق” لمشكل الانقسام والتنازع الذي يشهده كل مجتمع والذي وجدت السياسة لمواجهته أو مداورته. عليه تنبسط فصول الكتاب في صورة مرافعة مؤداها إثبات فشل السياسة المحتوم: فشلها من أصلها بما هي سياسة.
تقوم هذه المرافعة على استطلاع مصائر الأفكار-المشاريع التي ترمي إلى تجديد صيغ العيش سوية أو إلى التأثير فيها حين يلقى بها (أي بالأفكار- المشاريع) في خضمّ الأفعال والتصرفات والأفهام التي يضطرب بها المجتمع ولا تنجو من مفاعيلها فكرة مطروحة على العموم ولا تبقى بعد التعرض لها فكرة على ما كانت عليه في نيّة مطلقيها ومرادهم.
ليست الفكرة جديدة على الفلسفة الغربية الحديثة في الواقع، وإن كانت تبغت حين تتخذ السياسة موضوعاً لها في كلام ميرلو بونتي ثم في كتاب تاسان. فهي ليست بعيدة عن تصوّر الاستلاب الهيغلي الذي يدلّ هو أيضاً على تحوّل المُثُل وخروجها من نطاق سيطرة العقل والإرادة اللذين يطلقانها عند انخراطها في العالم الموضوعي ووقوعها في أسر إلزاماته. وللفكرة نفسها تجلّيات معلومة في فكر ماركس الذي اعتمد هو أيضاً تصوّر “الاستلاب” في أعماله الأولى ثم استعاض عنه في عهد لاحق بتصوّر “التشييء” الذي يمثّله اندراج العمل الحيّ في السلعة الميتة. وقبل أن يظهر، عند ميرلو بونتي، تصوّر “الشؤم” الملازم للعيش في جماعة، ظهرت عند سارتر وعند ميرلو بونتي أيضاً (رفيق سارتر مدّة من الزمن) فكرة فقدان الفاعل السيطرة على معنى فعله ومصيره حالما يفلت الفعل من فاعله ليستوي نهباً للغير: لتيارات الأفعال الأخرى وشبكات التأثير المتداخلة التي تمثل مادّة الحياة الاجتماعة.
وفي السياسة، على وجه التحديد، كان آرثر كوستلر قد أبرز في روايته الذائعة الصيت “ظلام عند الظهر” مأساة الثوريين الروس المضطرين في عهد ستالين للاعتراف بـ”مسؤوليتهم الموضوعية” عن وقائع تستوي أساساً للحكم عليهم بالإعدام. ومعنى المسؤولية الموضوعية أن المسؤول إنما أراد شيئاً فكان أن حصل شيءٌ آخر: حصل شيء فظيع يصنف على أنه جريمة في حق الثورة نتيجة لإفلات الفعل من قبضة الفاعل المريد وانجرافه في تيار للوقائع لا سيطرة لهذا الفاعل عليه. على الرغم من فقدان السيطرة هذا، كانت المحاكم الستالينية ترى مسؤولية الفاعل عن الضرر الحاصل مسؤوليةً كاملة “موضوعياً”… مسؤوليةً يزيدها كمالاً اعتراف الفاعل بها فترسله المحكمة إلى الموت!
يتميّز كتاب تاسان بإفضائه بعد مطاف طويل إلى حكم مبرم على السياسة عموماً… وعلى السياسة الديمقراطية، على التخصيص، بالفشل المحتوم. فإن كل حلّ يعتمد ينتهي ههنا إلى غير ما أريد له أن يكون. ولا يقفل أي حلّ الباب أمام استمرار العمل لإعادة النظر فيه أو لاستبداله. ولا يعني الفشل مطلقاً إمكان الاستغناء عن السياسة إذ لا بدّ من مواصلة السعي في تسيير المجتمعات ومداراة ما يظهر فيها من شقوق لا تلأم إلا ويظهر غيرها، وما يعصف بها من نزاعات لا ينقطع دابرها إلا في وهم الواهمين. وما السياسة إلا ذلك السعي الخائب دائماً. وما القرابة بينه وبين “المأساة” الإغريقية إلا خيبته هذه نفسها.
يذهب الفكر بالقارئ العربي لتاسان إلى المسافة التي باتت تفصل كلا من ثورات العامين الأخيرين في العالم العربي عن إلهامها الأول. وهي مسافة نجمت إما عن عدم الإفضاء إلى الهدف أصلاً أو عن مباشرة النكوص عنه حالما أصبح في متناول اليد. يذهب الفكر بهذا القارئ إلى إفلات هذه الحركات من قبضات مطلقيها وانتهائها إلى أيد أخرى مع استمرار التنازع في أهدافها بين هؤلاء وأولئك وغيرهم أيضاً. يذهب الفكر بهذا القارئ إلى الغلبة الراهنة أو المتناهية على هذه الحركات لوجهات قد يصح اعتبارها نقائض لسعيها الأصلي وثأراً للمجتمعات التي ولّدتها من نفسها.
وفي حديثه عن فشل السياسة، يولي تاسان عناية خاصة لفشل الثورات الذي يبدو عنده محتوماً. فعسى أن نرى في هذا “التطبيع” لفشل السياسة بفعل تعميمه عزاءً لنا… عسى أن نجد في هذا التأصيل الذي يقع على جذور الفشل في الديمقراطية الغربية نفسها أي في القدوة التي يعتمدها الباحثون عن مخارج من أنظمة الاستبداد، ونحن في عدادهم، سلوى عما يحل بما شهدته ساحاتنا من حركات تغيير راحت تتغير بدورها… عسى أن نجد في صورة الفشل الملازم للسياسة – المأساة عزيمة لمواصلة الجري وراء مُثُل عادَ لا يمكن استئصالها من نفوس البشر: وهي – بحسب تاسان نفسه –  الرغبة في الحرية والافتراض المسبق للمساواة بين البشر والحاجة إلى العدالة. فهذا سعي لا بد منه ولا بديل له…
– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/2/14/%d9%81%d9%8a-%d9%81%d8%b4%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9#sthash.kFBcoteX.dpuf

مِحْنةُ الزواج في مجتمَعٍ مزدوج

http://www.almodon.com/opinion/bd1fbc58-42f1-4e60-9ec5-646a22c126f2

أحمد بيضون|الخميس07/02/2013

كان لطفاً من  مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني أنه لم يهدّد المسلمين من المسؤولين اللبنانيين بإرسالهم، بأمر منه، إلى المقابر على ما تبيح له أن يفعل أحكام الردّة التي رشقهم بها إن هم أسهموا في تشريع الزواج المدني. كان كرماً منه وتسامحاً أنه، عوض إنذارهم بإهدار دمائهم، لوّح لهم بمفاتيح المقابر التي هو القابض عليها جميعاً، مكتفياً بتهديدهم، خلافاً لذلك، بأنه سيحول بينهم وبين دخول المدافن جثثاً وأن في وسعه أن يدع الدود يباشر أكل جيفهم في الهواء الطلق. الرجل الخائف على ما في يده من سلطان على الحياة الأولى وغير المكتفي أصلاً بنصيبه منه، إنكفأ إلى سلطانه على الموتى. فإنْ فتَح الساسة، أحياءً، باباً للزواج المدني أَغْلَق في وجوههم، أمواتاً، باب المقبرة.
كان المفتي، في فتواه الأخيرة هذه، أميناً لسنّة استنّها لنفسه منذ الأزمة التي أثارها مشروع القانون الاختياري للأحوال الشخصية الذي قدّمه رئيس الجمهورية إلياس الهراوي في سنة 1998. ففي كلام له نشرته الصحف في 30 آذار من تلك السنة، إدّعى المفتي أن لكلّ رئيس من رؤساء الملل الحقّ في “الرئاسة” على الرئيس الزمني الذي من ملّته وعلى سائر المسؤولين السياسيين فيها… والراجح أن مراد المفتي لم يكن إذ ذاك أن يستوي رئيساً لرئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري. فإن ميزان القوى بين الشخصيتين ما كان ليبيح له مثل هذا الزعم وكانت دلائل هذا التعذّر كثيرة.
الراجح أن المفتي إنما أراد أن يدعم برئاسته “الروحية” هذه رفض الحريري القاطع للمشروع. وهو رفض حمل الرجل على الامتناع، خلافاً للعرف وللأصول، عن توقيع مشروع أقرّه مجلس الوزراء بالأكثرية لتستقيم إحالته إلى مجلس النواب. وكانت تجمع الرجلين أمور ومصالح كثيرة أهمّها، على الإطلاق، كسب الرضا السعودي. فإن المقاومة السعودية لعصف الرياح العلمانية في صفوف السنّة اللبنانيين ولالتحاق لبنان بالصف المدني في موضوع التشريع للأحوال الشخصية إنما هو، ولا ريب، أبرز العوامل التي تملي هذه الحدّة المنكرة في رفض المراجع السنية لأي بحث في الموضوع.
ولقد عبّرت هذه المقاومة السعودية عن نفسها، سنة 1998، في خطوة مباشرة لا سابق لها هي إصدار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ويرئسها مفتي المملكة، بياناً تناول مشروع الهراوي بالإسم معلناً أن الزواج المدني “لا يترتّب عليه شيء من أحكام الزواج الشرعي، من حِلّ الوطء والتوارث وإلحاق الأولاد وغير ذلك”!! تلك كانت إشارة إلى دور لبنان، بما هو مرآة ومختبر، في حفظ موازين عربية كبرى، مرئية وغير مرئية، أو في تعريضها للمحن.
ولم تكن مواقف رؤساء الملل اللبنانيين من مشروع القانون ذاك قد خلت من التباين. أمكن أن يصدر المفتي قباني والشيخ محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى آنذاك بياناً مشتركاً أنكرا فيه أن يكون الزواج المدني الاختياري “يعزّز التلاحم الوطني أو يحقق السيادة الوطنية”!! ولكن شمس الدين الذي كانت مرجعيات شيعية أخرى، دينية وزمنية، تناصبه العداء وتفيض عن نطاق سلطته من كل حدب وصوب لم يذهب إلى حدّ ادّعاء “الرئاسة” على الرؤساء والمسؤولين من طائفته جميعاً. وإنما اكتفى بإنكار أن يكون للدولة حقّ التشريع أصلاً في ميدان الأحوال الشخصية زاعماً للطوائف حقاً حصرياً في هذا الباب. ذاك ما يعود إليه بيان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الصادر توّاً بصدد المواجهة الراهنة. والسند في الحالتين تأويل متهافت لمادة من الدستور يجعلها تفيد الحصر بالسلطة الطائفية، فيما هي لا تحجب حقّ السلطة العامة قطعاً. مع ذلك يسجل للبيان الشيعي أنه لم يجنح إلى التهديد بنار جهنم وأبقى باباً شبه مفتوح لحوارٍ ما.
في معركة التسعينات أيضاً، كان بعض التراخي في رفض المشروع من جهة المراجع الملّية المسيحية يثير حنق الأقران المسلمين. فقد تكرّر على لسان بطريرك الموارنة وسواه كلام مفاده أن المرجعيات المسيحية لا يسعها الموافقة على المشروع ما دام المسلمون يرفضونه وذلك ضنّاً بالوحدة في هذا المضمار. وكان الشيخ شمس الدين قد تدرّج، من جهته، من الرفض المعتدل إلى الرفض المتشدّد للمشروع. وهو قد بدا، إلى حين، معوّلاً على تصدّر المراجع الكنسية صفوف الرافضين، فحمله تذرّع البطريرك الماروني بـ”مساندة المسلمين” على التذكير بأن المسيحية التي تعدّ الزواج سرّاً من أسرارها هي الأولى برفض المشروع المدني. وكان منه أن توجّه إلى الكنائس بالقول، في حديث متلفز، إن “هذا الموقف (…) موقف مسيحي إسلامي وقد يكون موقفاً مسيحياً قبل أن يكون إسلامياً (…) وهذه نقطة مركزية”. على الإجمال، كان الرفض هو القوام الأصلب لموقف المرجعيات المذهبية، وذلك في ما يتعدّى مواقف مسيحية وإسلامية أبدت تقبلاً تباينت درجاته للمشروع… أو هي كانت (على غرار المطرانين غريغوار حدّاد وجورج خضر) قد حملت فكرته زمناً طويلاً قبل أن يطرحه رئيس الجمهورية.
وسواء أنظرنا في الصيغة “المسترئسة” التي اعتمدها المفتي قباني سنة 1998 (وما يزال مثابراً عليها اليوم) أم في صيغة “حصر الصلاحية” التي اعتمدها الشيخ شمس الدين، فإن مراد المراجع الملّية الأول تسوير حقل الأحوال الشخصية الذي لا تزال مهيمنة عليه تمهيداً لتوسيعه ما أمكن وحيث وحين يمكن. وإذا كان الطموح إلى توسيع دائرة النفوذ جارياً من عقود على قدم وساق فإن الاستبسال في ردّ الهجوم المدني عن “المنطقة المحرّرة” أصلاً لا يجوز أن يباغت أحداً.
من الدستور اللبناني إلى سائر مؤسسات الدولة والمجتمع في هذه البلاد، يتجاور مبدآن متنازعان: الطائفي والمدني. ويمثّل كلام المفتي قباني، أمس واليوم، طموح الأول لنهش الثاني والاستيلاء المتدرّج على ملاعبه. وذلك بأسلحة شتى من بينها سلاح الفتوى التي تتيح حمل المصلحة الطائفية على أنها إرادة إلهية وتبيح للملتحين من معمّمين ومقلنسين أن يتقدّموا الحليقين من أهل السياسة والسلطة في ميدان السياسة والسلطة نفسه. ويعلم أصحاب هذا الطموح أن الطريق أمامهم طويل. فإن المبدأ المدني الذي يدقّ باب الأحوال الشخصية مستقرّ في معظم تضاعيف الدولة الأخرى. هو مستقرّ هنا وهناك وهنالك خلافاً للشرع السماوي، في كثرة من الحالات. وذاك أن حضور الطائفي، في الدولة وفي كثير من مؤسسات المجتمع، يبقى حضوراً اجتماعياً – سياسياً ولا يجلب معه المضامين الدينية الموائمة له. الدولة اللبنانية ليست دولة دينية وتديّن المجتمع اللبناني نفسه أمر فيه نظر.
على ذلك، تدافع العمائم والقلانس عن المواطن التي في أيديها وتترك ما لقيصر لقيصر. حتى المفتي الذي يدلّ استرئاسه على أنه يبطن، في هذا المضمار، غير ما يعلن، يترك ما لقيصر لقيصر في مجالات لا تحصى. وهذا على الرغم من أن نوازعه “الشرعية” لا تزكّي له هذا الترك. ولكن استمرار هذه العفّة رهن بمقاومة مدنية يجب أن تشتدّ لا أن تضعف وبميزان قوى يحتاج إلى جهود تؤيّد رجحان كفّته المدنية وتزيد منه.

– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/2/7/%d9%85%d8%ad%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%88%d8%a7%d8%ac-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%b9-%d9%85%d8%b2%d8%af%d9%88%d8%ac#sthash.LomdmjDy.dpuf

اللبننة: هل يبقى معها ربيع؟

http://www.almodon.com/opinion/30873278-e7a0-497d-a635-2845c2edc6ac

منذ أوائل ما سمّي “الربيع العربي”، ظهر في آفاق الأقطار التي عصفت بأنظمتها حركات التغيير مصطلح “اللبننة”. كان يقال “التوافقية” أيضاً للدلالة على المسمّى نفسه بإسم يتجاوز الحالة اللبنانية بكثير… وكان حديث “اللبننة” هذا فضفاضاً جداً فلم يذهب متعاطوه إلى تناول محدّد للنموذج اللبناني ولكيفيات اعتماده في بلاد أخرى ولحدود الشبه بين تكوين المجتمع اللبناني وتكوين هذا أو ذاك من المجتمعات التي طرحت اللبننة صيغة لنظام دولتها الجديد.

والحال أن اللبننة، في ترجّحها الدلالي بين حال السّلم وحال الحرب، اتخذت مفهومين متعارضين. فهي قد شاعت، في أعوام الحرب اللبنانية وفي الإحالات اللاحقة إلى تلك الحرب، إسماً لتشظّي البلاد إلى مناطق متعازلة ولتوزّع العباد تشكيلات متباينة الأنواع تتعادى وتتقاتل. ولا ريب أن الطوائف كان لها القدح المعلّى في رسم خطوط الفصل بين نواحٍ لم تكن، في بعض من أهمّ حالاتها، غير أحياء في مدينة واحدة. ولكن اللبننة، بمعناها هذا، كانت أيضاً عداوة في الطائفة الواحدة وأشكالاً من الصراع يتداخل فيها الخارج والداخل وتتقاتل الأحزاب والعشائر أو القرى والأسر.. إلخ. وقد مثّل هذه الحالة من سمّوا “أمراء الحرب” من كبار وصغار وأصبح نظام العلاقات بينهم ونظام علاقاتهم بما يتجاوزهم من أطراف صلب النظام الذي استقرّت عليه البلاد سنوات (أو امتنع استقرارها عليه، بالأحرى، وبسببه) ثم رَسَم الخطوط العريضة لصيغة الخروج من الحرب…

هذه الصيغة الأخيرة أصبحت تسمّى “اللبننة” أيضاً، لا بمعنى التنازع الذي مثّلته الحرب، بل بمعنى الترتيب الذي وُضع لما بعدها. وهذا ترتيب لم يكن مبدؤه العام جديداً على البلاد. فإن هذا المبدأ (أي اعتماد الطوائف وحدات سياسية وبناء النظام السياسي على التشكيل الطائفي لمؤسّسات الدولة وعلى توزيع معيّن بين الطوائف لمواقع السلطة في الدولة) هو الذي اعتُمد في الدولة اللبنانية منذ نشوئها وهو الذي كان قد انتهى، عبر تحوّلاته المختلفة الوجوه ومسالك أطرافه في معالجة المسائل التي واجهتها البلاد، إلى الحرب أصلاً.

توجد إذن لبننة – مشكلة أو محنة… ولبننة – حلٌّ أو صيغة حياة. وقد كانت الصيغة، قبل الحرب، موضوع فخر عالي الجَرْس اشتُهر من بين رافعي العقيرة به الشاعر سعيد عقل. دعا عقل إلى “لبننة” العالم (بعد “زحلنة” لبنان طبعاً). ولم يلبث الأخذ بدعوته أن راح ينتشر في مزيد من الأقطار. فإن الصيغة التي كانت موضوع تلك الدعوة (أي تقاسم السلطة في المجتمعات المتعدّدة المكوّنات) لم تكن “فريدة” في أيّ وقت، على ما زَيّن لبعض اللبنانيين إعراضهم عن أحوال العالم المعاصر. ولكن اللبننة التي أخذت تزداد انتشاراً كانت لبننة المحنة لا لبننة المخرج منها. وكانت المحنة قد ضربت لبنان نفسه بطبيعة الحال فاستحقّت، حين ضربت سواه، إسم اللبننة هذا. وليس من ريب، من بعد، أن حشْر المحنة وعلاجها في مدلولِ لفظٍ واحد إنما يشير إلى اتّحادهما المُعْضل: أي إلى كون الداء هو المقترح دواءً وكون الدواء هو نفسه الداء أو سببه.

في لبنان، ألفْنا مصطلح “التوافقية” من عشرات السنين إسماً ومبدأً للنظام الطائفي المعتمد في بلادنا. وخَبِرْنا ما في دسم “التوافقية” المزعوم من سمّ كثير.
المدلول الصريح للـ “توافقية” هو اتّخاذ الطوائف والأعراق وحداتٍ سياسية في البلاد واتّخاذ خطوط الفصل بينها أساساً لتكوين المجتمع السياسي والدولة.
وفي خبرة اللبنانيين أن اعتماد هذا المبدأ يقي البلاد طغيان جماعة واحدة على الجماعات الأخرى طغياناً مطلقاً ويحمي، باستبقاء الموازين بين الجماعات ظاهرة وفاعلة، حرّيات للجماعات وأخرى للأفراد. هذا منجَز معتبر ولا يسوغ الإزراء به قطعاً. ويزيد من قيمته النظر في أحوال الجوار القريب والبعيد من أقطار أديرت شؤونها على غير هذه الشاكلة.

مع ذلك تجب الإشارة، بادئ بدءٍ، إلى أن قَدْراً من الغلبة تفرضه جماعة من الجماعات اللبنانية على غيرها قد وسَم على الدوام سيرة النظام اللبناني وأن أحوال الحرّيات من جماعية وفردية لم تكن مما يثلج الصدر في مراحل غير قصيرة من تاريخ البلاد المعاصر. صحيح أن قوّة غير لبنانية كثيراً ما كانت تسأل عن إرهاب الأفراد والجماعات، ولكن دور تلك القوّة في البلاد كان على الدوام موصول الفاعلية بأدوار الداخل وعلاقاته: أي بالنظام السياسي- الإجتماعي.

أمر آخر قد يكون هو الأهمّ وهو أن حقوق المواطنين وحرّياتهم تبقى ههنا رهناً لا لسلطة القانون وحمايته بل للموازين الرجراجة ما بين القوى أو الكتل السياسية – الطائفية. وهذه موازين تحمي أيضاً ما كان مخالفاً للقانون، في مجال “الحريّات” وفي سواه، مرتجلة نوعاً من المساواة العملية بين الحقّ ونقيضه.

مؤدّى هذه المساواة نفسها أن “اللبننة”، بمعنى “التوافقية”، لا يقتصر المصاب بها على الإرهاب. هي أيضاً سيادة الفساد قاعدةً لعمل المؤسسات، وامتناع المحاسبة بسبب من نزوع العصبيّات وأهلها إلى حماية الجناة من كل نوع. معنى اللبننة إذن انحسار دولة الحقّ (أو القانون)، إذا وُجدت أصلاً. ومعناها، على صعيد آخر، فقدان الإستقلال الوطني باستتباع مكوّنات الدولة لقوى الخارج. ومعناها تقاسم سلطة الدولة أشلاءً بين المنتفعين. فتستولي عصبية الفئة على كل ما هو مرفق عامّ وتسخّره وتنحرف به عن مبدأ المساواة بين المواطنين الذي يفترض أن يحكمه. يُعتمد ذلك في مؤسسات الدولة السياسية ولكن يتعذّر ردع عدواه عن القضاء والإدارة والقوّات المسلّحة…

معنى هذه “اللبننة” أيضاً مصادرة الأفراد وإلحاقهم، دون سؤال، بهذه أو تلك من الطوائف “المعترف بها” وجعل مزاولتهم لحقوقهم، على اختلافها، رهناً بهذا الإلحاق وإخضاعهم لشرع الطائفة في أحوالهم الشخصية. يلي ذلك تسليطُ كل طرف قيادي على الوسط الذي يقوده ليعيث فيه نهباً ويجنح إلى استرقاق البشر فيه.

ومعنى “اللبننة”، أخيراً لا آخراً، التوجّه نحو الحرب الأهلية كلما دعا تطوّر الموازين الموضوعية في المجتمع إلى تعديل جسيم لقواعد التقاسم أو كلما تعاكست، على نحو معيّن، مشيئات القوى الخارجية المهيمنة على أطراف الداخل. في هذا المساق، تحوّل اللبننة كلّ تغيير واقعي في موازين المجتمع (الديمغرافية، الاقتصادية، التعليمية.. إلخ) إلى بعبعٍ مثارِ ذعر. وهي تنشر هذا الذعر في صور التحاسد بين الجماعات اللبنانية والتعصّب العنصري ضدّ الغير، لبنانيين أم غير لبنانيين، ممن يؤثّرون، على أي نحو كان، في موازين النظام اللبناني. إلخ، إلخ…

لا بدّ من الإلتفات أيضاً إلى أن تكوين المجتمع اللبناني مختلف، حتى في ترسيمته العامة، عن تكوين المجتمعات العربية التي جرى تداول صيغة اللبننة بصددها. فبين الجماعات التي يتشكّل منها كل من هذه المجتمعات واحدة ذات صفة أكثرية جسيمة وهذا إن لم تكن ساحقة. هذا بينما تتقابل في لبنان اليوم جماعات كثيرة بينها ثلاث رئيسة ولكنها أقلّيات كلها. ولعل العراق الذي لا يعدّ بين مجتمعات الربيع العربي أكثر الحالات العربية إيحاءً بالشبه الشكلي بالحالة اللبنانية. وهذا لوجود ثلاث مكوّنات رئيسة للمجتمع العراقي أيضاً. وقد نذهب بالفكر أيضاً نحو الحالة اليمنيّة الذي ذُكرت اللبننة بصددها كثيراً. ولكن خطوط الفصل القبلية والجهوية في اليمن تُداخل خط الفصل الطائفي وتفوقه فاعلية حتى الآن.

جليٌّ، من بعد، أن الطائفية هي ما يفرض نفسه على أنه وجه الشبه الأبرز الذي انكشف للعيان بعنف يجعل الإعراض عنه أمراً متعذّراً بين مجتمعات كانت (باستثناء لبنان) تعاند الإقرار بطائفيتها… غير أن الطائفية التي تكاد تستغرق، بما هي مرض، صورة هذه المجتمعات ومعناها، لا تفلح في الخروج من دائرة اللغو والكذب حين تأخذ في وصف نفسها على أنها علاج.

وأما القول إن سبيل “التوافقية” أو اللبننة هو الوحيد المتاح أمام هذه الثورة أو تلك فإن كانت له صحّة فلأن من يقولون به يجتمعون على اعتباره مناسباً لهم. وهذه، في لبنان نفسه، حالُ من لا يخرج أفقهم عن حدّ الكناية عن البلاد والدولة بـ”الكعكة” أو بقالب “الجبنة” والرغبة، بالتالي، في اقتطاع “حصّة” منهما. مثل هؤلاء لن تنفع معهم موعظة. ليسوا بالضالّين أصلاً، بل هم يعرفون ما يريدون ويعلنون أنه الضرورة عينها ويضمرون أنه ليكن بعد ذلك ما يكون.

…لاوالكوارث قد تكون هي الممكن الوحيد أحياناً فلا يمنعها ذلك أن تكون كوارث. بل يتعيّن، مع الاضطرار إليها، أن يُحفظ لها اسمها فلا تسمّى الكارثة “ثورة” ولا  “ربيعاً”.

– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/2/1/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%86%D8%A9-%D9%87%D9%84-%D9%8A%D8%A8%D9%82%D9%89-%D9%85%D8%B9%D9%87%D8%A7-%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9#sthash.QimNlGzF.dpuf

الغاب

http://www.almodon.com/opinion/564a412f-2575-4956-bd08-e8c18fb74c9b

من جناية إلى تاليتها، يبدو لبنان وكأنه يزداد قرباً من تصريح الجاني بفعلته وإعلانه نوعاً من الاعتداد بها وإظهاره الاستهتار بأي عقاب يفترض مبدئياً أن يترتب عليها. بل إن الجاني يكاد أن يعلن أنه سيرتكب ما يجد حاجة إليه من جنايات جديدة كلما بدت له الجريمة علاجاً مناسباً لحرج ثابت أو طارئ يواجهه ويوشك أن يفسد عليه هذه أو تلك من خططه ومراميه. ويكاد الجاني أن يعتذر ضاحكاً من ضحاياه: أن يسألهم ما الذي كانوا ينتظرونه منه حين وقفوا في وجهه، في هذا الظرف أو ذاك، وما الذي كان يسعه أن يفعله بهم غير ما فعله؟
منذ اغتيال رفيق الحريري في شتاء 2005، استقرّت هويّة الجاني واضحة في المخيلة العامّة، اللبنانية وغيرها. والجهود التي تبذل لتشتيت الأنظار المركّزة عليه لا تلبث هي نفسها أن تتشتّت في فضاء اللاشيء. فترى الناس يرجعون بعناد ورتابة، بعد كل محاولة لبلبلة الصورة في خواطرهم، إلى حيث كانوا. حتى الذين يقفون في جانب القاتل يبدو إنكارهم مسؤوليته إنكاراً رخواً ويروحون أحياناً يبحثون عن مسوّغات لفعلٍ معلوم الفاعل.
الناس يعلمون من قَتَل والساسة، على التخصيص، يعلمون… ومن هؤلاء من يعلم أنه قد يكون التالي على لائحة الاغتيال. ليس هذا مناخاً معتاداً لمسرح سياسي عادي، وليست هذه سياسة من القبيل الذي يطيب العيش فيه. بل إنها ليست أيضاً بالسياسة التي يطيب الموت فيها. لا يوجد في السياسة اللبنانية سموّ يكفي لرفعها إلى سوية الملحمة ولا ريب أن الضحايا يدهشهم، من جهةٍ ما، أن يكون ما يفعلونه مستحقّاً عقوبة القتل.
هوية الجاني واضحة، إذن. وهي هوية معسكر في الواقع وليست هويّة شخص أو موقع بالذات ويبقى ممكناً أن تحار نسبتها بين حفنة صغيرة من العناوين الشخصية. قد لا يطمئن الناظر إلى تخمينه اسم مرجع بالذات أعطى الأمر بهذا الاغتيال أو ذاك وقد يتردّد في أمر الجهة المنفّذة وفي الكيفيات الحسّية للإعداد والتنفيذ. وقد يكون للتسمية المحدّدة، حين تحصل، وقعٌ شديد على موازين البلاد لأن التسمية تُخرج الفعل من حيرته بين أطراف المعسكر الجاني وتبرز إلى الميدان طرفاً بعينه وتعيّن ما يترتب على جَبْهِه بفعلته من أكلافٍ عملية أو مبدئية. التسمية، بهذا المعنى، ساعة حقيقة. مع ذلك لا تبدو التسمية ولا ما ينتهي إليها من أنشطة التحقيق الجنائي أموراً جسيمة التأثير في تعيين الموقع الأصيل للمسؤولية السياسية عن الجرم.
بالطبع، لا يعتمد القضاء هذا المناخ، على ثقله وتعذّر الإفلات منه، للتوصل إلى حكم. للقضاء منطق آخر وإن كان التحقيق يستهدي، بطبيعة الحال، في صوغ فرضياته بالتحليل السياسي. القضاء يحتاج، في نهاية المطاف، إلى رواية مثبتة ذات أشخاصٍ يُعرفون بأسمائهم وهم مَن قال ومن فعل. ما يبنيه الناس على تواتر الوقائع وتماسك الدوافع شيء مختلف. وهو في وقعه على المصير الوطني وأثره في توجيه دفّة هذا المصير، أهمّ بكثير مما تقضي به أيّة محكمة.
وما يجب قوله، اليوم، ونحن حيث وصلنا من هذا المساق الفاجع، أن اغتيال وسام الحسن، بعد توقيف ميشال سماحة وإماطة اللثام عمّا كان قد أوكل إليه،  أدخلنا في طور جديد من المساق نفسه. فههنا أوشك القاتل أن يعلن عن نفسه وتولّت جوقته بما أسرفت فيه من لغوٍ بائس، زيادةَ الإعلان إعلاناً. وما يعلنه القاتل، في ثنايا هذه الحبكة، أنه حين يُكشف يَقتل من كشفه ويعدّ العدّة، من ثمّ، لمواصلة القتل على المكشوف أو لما هو بمثابته في أدنى تقدير.
فإذا نحن التفتنا مرّة أخرى إلى ساحتنا العامّة لنلاحظ انشطارها المستمرّ، في المضمار الذي نحن بصدده، بين أصحاب القاتل وأصحاب القتيل، ظهر لنا خطر ما نحن فيه. فأن ننقسم، بهذه الصراحة، بين مناهضين للاغتيال ومناصرين، ولو مراوغين، له معناه أننا أصبحنا غير بعيدين أبداً عن حالة الغاب. هذا ومؤسسات دولتنا يظهر عليها الانغماس في هذه المواجهة أو القابلية له. ويترجم ذلك تَوزّعُ ولائها بين ضفتي الجبهة السياسية وتزيده خطراً آفة الفساد المحتمي بمتاريس الفصل الطائفية نفسها. هذا ليس بالباعث على الاطمئنان ولا بالمُشْعِر بالحماية: حماية القانون وأذرعه الضاربة على التخصيص.
ولقد عادت آفة الفساد إلى الظهور مؤخّراً في فضائح مدوّية، بدت وكأنها تقول الشيء نفسه الذي تقوله جرائم الاغتيال: “قتلناه ونقتل غيره وافعلوا ما أنتم فاعلون!”… “نسرق وما الخطب إذا سرقنا؟!”… “نزوّر ونسمّم ونتعدّى ونعتدي وبلّطوا البحر!”… لم نصل بعد إلى هذا، لم نصل إلى الغاب بعد. نحن على أعتابه.

– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/1/25/%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8#sthash.48sQlToB.dpuf

في مشروع الفراق الأرثوذكسي

في مشروع الفراق الأرثوذكسي

 

أحمد بيضون

 

انكفأت بعض الشيء حدّة الهجمة التي حملت مشروع “اللقاء الأرثوذكسي” لقانون الانتخاب إلى صدارة المشاريع المطروحة إذ منحته قبولاً رحباً من أكثر القوى الوازنة في المجتمع السياسي اللبناني. فقد التقت على تأييده أوسع التشكيلات المسيحية تمثيلاً نيابياً ونفوذاً شعبياً. وجاراها في التأييد التنظيمان المستأثران، تقريباً، بالتمثيل الشيعي في كلّ من مجلس النواب والحكومة وبالحضور، باسم طائفة الشيعة، على المسرح السياسي اللبناني عموماً. هكذا بدا أن مشروعاً آخر كانت قد وافقت عليه الحكومة التي تضمّ أشدّ القوى منافحة عن مشروع “اللقاء الأرثوذكسي” قد أصيب بكسوف خطير مع استئثار هذا الأخير بالأضواء. وكان في طليعة من نحا إلى إهمال هذا المشروع (الذي يلقى رضىً من جانب رئيس الجمهورية) أولئك الذين كانوا قد أقرّوه في مجلس الوزراء. لقي المصيرَ نفسَه مشروع الدوائر الخمسين الصغيرة الذي كانت قد اعتمدته المعارضة المسيحية: إذ وضعته على الرفّ أبرز القوى في هذه الأخيرة (أي حزب الكتائب وحزب القوّات اللبنانية، خصوصاً) لتقع مع خصومها المستأثرين بنصيب المسيحيين من الحكم والحكومة في هوى مشروع “اللقاء الأرثوذكسي” أو ما بات معلوماً أنه مشروع (وائل) خير و(إلياس) الفرزلي.

هذا الحشد من المؤيدين قابلته معارضة كاسحة في الصفين السني والدرزي واجتمع على مواجهته أيضاً، في انسجام يبدو موعوداً بالتنامي وموقف رئيس الجمهورية،  شخصيات مسيحية بينها ثمانية نواب، على الأقل. غير أن المشروع المثير للجدل نال، على الرغم من ذلك، أكثرية الأصوات في اللجنة النيابية الفرعية وبدا أن له أكثرية مضمونة في المجلس النيابي فيما لو عرض على الهيئة العامّة لهذا المجلس…

أفق مريب لخرقٌ جسيم

يستحقّ وقفة طويلة – بل وقفات – هذا الاستقطاب الواسع يتاح لمشروع يمثّل تغييراً غير مسبوق في جسامته لنظام التمثيل النيابي الذي صحب الجمهورية اللبنانية منذ نشأتها الأولى. فقد عرف هذا النظام تغييراً كثير الوجوه شمل عدد النواب وعدد الدوائر وتقسيمها وعدد الطوائف وتوزيع المقاعد بينها والتناسب العامّ بين نصيبي كلّ من المسيحيين والمسلمين في المقاعد… ولكنه (أي النظام) استبقى، فضلاً عن مبدإ توزيع المقاعد إلى أنصبة طائفية مقرّرة سلفاً، مبدأين رئيسين لزمتهما جميع القوانين الانتخابية التي عرفتها البلاد وهما مبدأ الاقتراع الأكثري ومبدأ الهيئة الناخبة الواحدة في كل دائرة انتخابية. فظلّ يفوز بالنيابة من يتفوّق على كلّ من منافسيه ولو بصوت واحد. وظلّ الناخبون، من أيّة طائفة كانوا، مخوّلين أن يقترعوا لمرشحين عن دوائرهم موزّعين بين الطوائف ذات الأنصبة من تمثيل الدائرة. وهذا مع أن أقلام الاقتراع كانت مخصّصة لكلّ من الطوائف بالاسم كما راحت تخصّص، بعد اكتساب النساء حقّ الاقتراع، أقلام للذكور وأخرى للإناث.

نقول إن مشروع “اللقاء الأرثوذكسي” يمثّل خرقاً جسيماً للأعراف الانتخابية المستقرة في البلاد لأنه يطيح هذين المبدأين: مبدأ الهيئة الناخبة الواحدة ومبدأ الاقتراع الأكثري، دفعةً واحدة. فهو يعتمد الاقتراع النسبي وانتخاب نواب الطائفة الواحدة من جانب المنتمين إليها حصراً. وهو، إلى ذلك، يرى جعل البلاد دائرة انتخابية واحدة، وهذا أيضاً جديد كليّاً على القوانين الانتخابية اللبنانية التي بقيت الدائرة تراوح فيها بين المحافظة والقضاء مع استثناءات وخلطات مختلفة هنا وهناك. على أن “النسبية” و”الدائرة الواحدة” كانتا مطلبين ماثلين في الساحة السياسية تطرحهما أو تطرح أحدهما قوى سياسية ثانوية في الغالب. وأما مبدأ تقسيم الهيئة الناخبة إلى  هيئات بعدد الطوائف فيمكن اعتباره جديداً إذ لم يسبق أن اكتسب حضوراً يذكر أو استوى موضوع جدال جدّي في حومة التداول اللبناني الكثير الأطراف في الصيغ الانتخابية.

يوجز البيان الذي أصدرته الشخصيات المسيحية المعارضة لمشروع “اللقاء الأرثوذكسي”، يوم 10 كانون الثاني، أهمّ ما يثيره هذا المشروع من اعتراضات ومخاوف. أما الاعتراضات فمناطها مخالفة المشروع لتوجّه اتّفاق الطائف والدستور المبني عليه في رفضهما “فرز الشعب” ورهنهما شرعية السلطة بلزومها ما يسميانه “ميثاق العيش المشترك”. وأما المخاوف فتتصل بافضاء هذا المسار الذي يوزّع الهيئة الناخبة في البلاد إلى ثماني عشرة فئة إلى إطاحة المناصفة المسيحية الإسلامية واعتماد المثالثة التي أصبح يغري بها لا الميزان العددي وحده بل حال المواجهة السنية الشيعية السائدة من سنوات والطاغية، في طول البلاد وعرضها، على ما عداها من مواجهات. وهي قد جعلت اعتبار “المسلمين” وحدة سياسية تقابل “المسيحيين” عند البحث في النظام التمثيلي وتقرير الأنصبة أمراً ضعيف السند للغاية.

مصدران قريب وبعيد

فخلافاً لما كانت عليه الحال قبل سنين معدودة، لم يبق في السياسة جامع يُذكر يجمع سنّة لبنان وشيعته. هذا فيما شهد “الصف المسيحي”، في ما يتعدّى انقسامه الراهن بين جبهتي المعارضة والحكم، مساراً معاكساً استغرق العقود القريبة الماضية وأنشأ “مسألة” أو “قضية” مشتركة هي مسألة “المسيحيين” في لبنان فيما يتعدّى كلّ اختلاف بين طوائف هؤلاء الكثيرة ناهيك بالخلاف المستئشري بين قواهم السياسية. ولنشدّد على أن حديثنا كله ههنا يقع فيما وراء التوزّع الذي تعرفه الطوائف بين قوى وزعامات سياسية مختلفة. فإنما نتناول “الشخصية السياسية” لكل من الطوائف أو لكلّ من أهل الديانتين وهي تتحصّل حينما يتحصّل للطائفة الواحدة أو لأتباع الديانة الواحدة موقع مميّز سياسياً ومشترك في تكوين المجتمع السياسي الوطني.

فإذا وضعنا هذه الهواجس الملحّة في مساق التحوّلات الجارية في العالم العربي وحوله وجدنا زحف القوى الإسلامية إلى مواقع السلطة في أقطار العالم المذكور (بعدما كانت قد وصلت إليها في دولتي الجوار الكبريين: إيران وتركيا) يعزّز الخوف من هذا الفرز الذي يفرضه مشروع “اللقاء الأرثوذكسي” إذ ينذر بإطاحة ما تبقى من أواصر سياسية تبرزها الانتخابات المختلفة ما بين الكتل الناخبة على اختلاف الطوائف. فتصبح الحال حال مواجهة بين طوائف مستغنية بعضها عن بعض بعد حال التداخل النسبي التي كانت تلزم المرشحين والناخبين معاً بإدخال شركائهم من الطوائف الأخرى في كل حساب يحسبونه وتوجب عليهم بالتالي توخي قدر ما من الاعتدال في كل أمر يحتمل الجنوح نحو المنازعة الطائفية. هذا كله يبدو ماثلاً، بهذه العبارات أو بغيرها، في فكر الساسة المسيحيين الذي أصدروا بيان الرفض لمشروع “اللقاء الأرثوذكسي”.

هذه الهموم التي تلبّد بها أفق المشروع المذكور لا تغني – على مشروعيتها المؤكّدة – عن النظر في سبب ما بدا إقبالاً مسيحياً كاسحاً على المشروع اخترق خطّ الفصل القائم بين الكتلتين المسيحيتين الكبريين وتبعه إقبال شيعي لم يقلّ عنه سعة وإن يكن بقي أضعف ميلاً إلى الدفاع ” المبدئي” عن المشروع أي عن “التنظير” له والدخول في موجة الجدل العارمة التي استثارها.

شاع أن تجزئة الهيئة الانتخابية إلى هيئات طائفية تلقى هوى في نفوس جمهور المسيحيين وأن هذا قد أسهم في التفاف قواهم السياسية الكبيرة حول مشروع “اللقاء الأرثوذكسي” مجتازة في سبيل ذلك خندق الفصل المشار إليه بين جماعتي الثامن من آذار والرابع عشر منه. لا ريب، قبل ذلك، في أن هذه القوى تستريح، على وجه الإجمال، إلى الانفراد بجمهورها الانتخابي الخاص، وهو مجانس لكل منها طائفياً إلى أقصى حدّ. فهذا الانفراد يعفيها من الدَين السياسي، المفروض على من شاء الفوز، لكتل ناخبة تنتمي إلى طوائف أخرى، مسلمة في الغالب بسبب كثرة العدد ولكنها، في حالات كثيرة، مسيحية أيضاً يغاير انتماؤها المذهبي انتماء المرشّح. هذا الدَين الذي يفترض أنه متبادل وإن يكن، في الغالب، غير متكافئ، يفرض على المرشّح المعني أو على التشكيل السياسي الذي ينتمي إليه، ان يراعي اعتبار القرب السياسي من الجهة المغايرة له طائفياً والمؤيدة له انتخابياً.

حكمة ماثلة وانعزالية معدية

والحال أن هذا القرب السياسي هو ما يصنع، على علاته المؤكّدة (والممكنة المداراة إلى هذا الحدّ أو ذاك) ما يشبه أن يكون، في الحالة اللبنانية، حياة سياسية “وطنية”: لا للزومها مصالح الوطن، بالضرورة، بل لمجرّد إنشائها شبكة أو شبكات من الصلات السياسية بين ممثّلي الطوائف فيما يتعدّى الانتماء الطائفي لكل فردٍ او مجموعة منهم. عوض السعي الصعب إلى إصلاح الموازين التي تحكم إنشاء هذه الشبكات، وهذه موازين سياسية – اجتماعية يتعذّر الوصول بها إلى الصحّة المطلقة، تؤثر القوى السياسية المسيحية أن تقامر بوجود حياة سياسية وطنية من أصله ليخلو لها وجه ناخبيها ويخلو لهؤلاء وجهها دون اعتبار لضرورة الإبقاء، في الصيغة الانتخابية، على حوافز لمشاركات تتجاوز حدود الطائفة، أي مثلاً، لإنشاء أحلاف أو كتل سياسية وطنية النطاق والتطلع…

هذا المنحى “الانعزالي” (وهذه فرصة لاستعادة هذا المصطلح الذي ندر أن كان استعماله سائغاً إلى هذا الحدّ)  يصحّ اعتباره تعبيراً فاقعاً من الباب الانتخابي لمساق افتتحته الحرب وشمل جوانب كثيرة من الحياة اللبنانية فأسلمها للطوائف، أساساً، منتزعاً ما كان منها في يد الدولة أو مطوّعاً إياه ونازعاً صفة الاشتراك عمّا كان مشتركاً… انتشر التعازل المشار إليه في السكن، في الأعمال، في التعليم، في الرعاية الاجتماعية بسائر وجوهها، إلخ… ووصل المساق نفسه إلى حدّ اقتسام الدولة نفسها باستتباع أجهزة ومرافق مكوّنة لها من جانب قوى الطوائف وباقتسام أجهزة ومرافق أخرى بين هذه الأخيرة، على نحو يضرب مبدأ “المرفق العامّ” من أصله. هذا الحؤول دون نشوء العامّ وهذا الجنوح إلى إفساده ما أمكن الإفساد حيث ينشأ، إنما هما، في عمق معناهما، نوع من “التعازل” أيضاً يلاقي، من باب آخر، تنابذ الطوائف منذ الحرب: في السكن، في العمل، في التعليم، إلخ.، إلخ… كيف لنا أن نستغرب إذن وصول هذا الاضمحلال لكل ما هو مشترك أو “وطني” في النسيج الاجتماعي اللبناني إلى قانون الانتخابات النيابية؟ وكيف لتشخيص العلة وللبحث في العلاج أن لا يجنحا إلى التشاؤم وهما يكتشفان العمق الاجتماعي الذي تترعرع فيه نوازع يأس هي التي استنبتت مشروع “اللقاء الأرثوذكسي” ويسعها، عند اللزوم، أن تستنبت ما يعادله في غير مجال؟

وذاك أن الأشاوس من أبناء كلّ طائفة قد يرفضون غداً أن يحتسب الضريبة المستحقة عليهم مأمور في المالية من غير طائفتهم. وقد يطلبون ألاّ يدرّس في المدرسة الرسمية التي يتعلّم فيها المحروس ابنهم معلّم من غير دينهم. وقد يحتجّون إذا دعوا إلى المثول في دعوى مقامة منهم أو عليهم أمام قاضٍ من غير جماعتهم. وقد لا يأمنون أن يحفظ الأمن أو ينظّم السير شرطي من غير ملّتهم أو أن يدافع عن شطرهم من البلاد عسكري لا يقول قولهم في طبيعة المسيح أو في نبوّة محمّد. هذا فضلاً عمّا عرضت وتعرض منه حالات كثيرة من منع لبيع الأرض لغير أبناء الأبرشية أو ردع مباشر أو مداور لمن تحدّثه نفسه بالسكن أو بالزواج في غير ذوي إيمانه. فالواقع أن التعازل في هذا كله أقرب إلى نوازع الانتماء المذهبي من التعازل في السياسة. بل إن السياسة تكاد تكون النطاق الوحيد الذي يفرض التشارك فرضاً وتبدو البرامج المذهبية فيه وكأنما هي بلا موضوع فعلي. وإنما تُتّخذ أقنعةً لتحصيل منافع دنيوية جدّاً وافتعال لحمة تجيز الاستئثار والاستعلاء تعذّر إنشاؤها من مادّة أخرى، صريحة الطابع الحسّي. فإذا كنّا قد وصلنا بهذه الشهوة القويّة للتعازل إلى أكثر الميادين إيجاباً للتداخل، أفلا نكون ماضين قدماً في مفاقمة ما بدأته الحرب من تبلّر وفصل طائفيين في كلّ ميدان آخر؟

فدرالية؟

هذا وقد عاد مصطلح “الفدرالية” إلى الجري على الألسنة وتحت الأقلام بمناسبة ما لقيه قانون “اللقاء الأرثوذكسي” من إقبال. ولم يكن ثابتاً قطّ أن الذين يلجأون إلى هذا المصطلح عنواناً للدعوة أو أداة للتشخيص، في الحالة اللبنانية، يعرفون فعلاً شروط الفدرالية ومعناها. يقال إن الدولة اللبنانية فدرالية طوائف. ويشار (منذ عهد “القائمقاميتين” في القرن التاسع عشر) إلى أننا هنا حيال النوع “الشخصي” من الفدرالية. ويراد بالإشارة أن الفدرالية هنا ليست صيغة للعلاقة بين مناطق من تراب الدولة تسمى “ولايات”، مثلاً، بحيث نصفها بـ”الفدرالية الترابية” أي الجغرافية أو الجهوية. وإنما هي قائمة بين جماعات هي الطوائف لكلّ منها “شخصية” اعتبارية وليس لها قواعد ترابية مرسومة الحدود تفصل بينها مادّياً. والمفروض أن الصفة “الشخصية” هذه تفيد نوعاً من الهزال أو فقر الدم في مضمون الاستقلال المفترض للجماعة. إذ هي (أي الصفة “الشخصية”) تستثني من هذا الاستقلال ما كان ذا صلة بالأرض. وذلك لكون الأرض متاحة للجماعات كلها ولكون التداخل بين الجماعات حاصلاً فعلاً عليها إلى هذا الحدّ أو ذاك. شيء واحد يبدو شديد الأسر في الفدرالية الشخصية هو صعوبة فكّها: وهذه صعوبة تنجم، على وجه الدقّة، من تعذّر تقطيع الأرض قطعاً تطابق كلّ منها “شخصية” من الشخصيات المشار إليها وتحصر بين حدودها جماعة المشمولين بتلك الشخصية.

فضلاً عن ذلك، يبدو المحدّثون بفدرالية لبنانية ما غافلين عمّا هو جوهري في الفدرالية. ففي المخيلة اللبنانية أن الدولة المركزية تكون ضعيفة في الفدرالية فتستكمل الضعف الذي تتواطأ الطوائف على رعايته في الدولة اللبنانية القائمة. وهذا هراء يكفي لبيان غربته عن الوقائع ذكر أسماء الدول الفدرالية القائمة في العالم من صغيرة وكبيرة. وبينها دول كبرى تتيح لها بنى سلطاتها المركزية وما تتصرّف به من موارد وأجهزة أن تتحكّم، ولو في حدود، بدفّة العالم من أقصاه إلى أقصاه. يغفل القائلون بالفدرالية في لبنان عن أمر آخر له في الحالة اللبنانية أهمّية استثنائية. وهو أن السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية في الدولة الفدرالية تبقيان بكل متعلّقاتهما في يد السلطة المركزية. وهذا فضلاً عن النقد الوطني وعن صون البنى التحتية والتجهيزات العامة ذات الصفة الوطنية، على اختلافها، وتنميتها. وهو ما يفترض أن المكوّنات المشكّلة لهذه الدولة قادرة على التوصّل إلى رسم موحّد لكل من السياستين الدفاعية والخارجية وقابلة بوضع مقاليدهما في عهدة سلطة موحّدة متمكنة من تنفيذهما. فهل وحدة التخطيط والتنفيذ في هذين المجالين قابلة للتحصيل في الحالة اللبنانية أم أن الخلاف الذي يوجب حديث الفدرالية أصلاً متعلّق بهاتين السياستين قبل كلّ شيء آخر؟ هل تداوى علل التعايش بين الطوائف اللبنانية بما يفترض إمكانه أو استقامته أن يكون الشفاء منها حاصلاً أصلاً؟

توسّع الشعور الأقلّي

لا بدّ أخيراً من عودة إلى صلة الطفرة الانعزالية التي مثّل مشروع “اللقاء الأرثوذكسي” أصرح رموزها بما هو جارٍ من تحوّلات عاصفة في أقطار عربية مختلفة وفي سورية، بخاصّة. ويمكن إجمال الصلة بالقول إن وصول زحف الإسلاميين (من أهل السنّة) على مواقع السلطة إلى الجوار السوري الدائم الإقامة في متن الشؤون اللبنانية قد أيقظ الشعور الأقليّ بخطر داهم بدأ يدقّ الأبواب وتظهر بوادر قوية منه في ساحات الداخل. اشتدّ أوار هذا الشعور في أوساط المسيحيين، على الأخصّ. ولكن الوسط الشيعي الملتحق بموقف إيران من الأزمة السورية ليس بمنجاة منه قطعاً. هذا الاقتراب الشيعي من نمط الشعور الأقلي يمثّل نكوصاً طارئاً أو مستجدّاً لجماعة تغادر مرحلة اتّسمت فيها مواقف الجماعة الشيعية، لا بالإحباط والإلحاق على الغرار المسيحي، بل بفرط القوّة وبشكوى الأطراف الطائفية الأخرى من استعراض فائضها… يدخل الشيعة اللبنانيون في الظرف السوري الجديد دخولاً راح يزداد شبهاً بالدخول المسيحي فيه. وهو يجد أساساً له، بعد أعوام مضت على انقضاء عهد الإجماع على المقاومة، في جنوح يشبه الجنوح المسيحي أيضاً إلى الاستقلال بشبكات طائفية من المرافق المعدّة لخدمة الجماعة في وجوه حياتها المختلفة. هذا كله قد يمثّل تفسيراً مزدوجاً يرجع في آن إلى الظرف المباشر وإلى التطوّر الطويل المدّة نسبياً لتأييد التشكيلين الشيعيين مشروع “اللقاء الأرثوذكسي”. وهذا فيما يتعدّى الرغبة في ممالأة الحليف المسيحي. غير أن وجود الشيعة في وضع لا يزال إلى الآن قادراً على التحكّم بأقليات انتخابية لا يستهان بها من الطوائف الأخرى، قد يفسّر بدوره  قدراً من الفتور والتردّد خالط التأييد المشار إليه.

والسؤال الذي يطرح نفسه، بشأن المسيحيين خصوصاً وربما بشأن الشيعة أيضاً هو التالي: هل الأسلم للبنان ولكلّ من مكوّناته الطائفية مواجهة الضغوط والأخطار المرتقبة من الجوار السوري بمجتمع متداخل المكوّنات، موحّد المصير بسبب التداخل بين مكوّناته واضطرار كلّ منها إلى مداراة الأخرى، أم مواجهة تلك الضغوط والأخطار  بقبائل متعازلة يبحث كل منها عن سند خارجي (في سوريا أو في غيرها) يسعفه في حرب الجميع على الجميع؟ لم يقدّم مشروع اللقاء الأرثوذكسي جواب العقل المتروّي عن هذا السؤال. قدّم جواب الغريزة المذعورة أو المشرفة على الذعر.

ملاحظتان

تبقى ملاحظتان. الأولى أن معارضة التنظيمين الرئيسين السنّي والدرزي لمشروع اللقاء الأرثوذكسي لا تقلّ طائفية عن موالاة من والاه من مسيحيين وشيعة. وإنما تتحصّل المعارضة هنا من حساب انتخابي بسيط يتعلّق بالكسب والخسارة في انتخابات يرعاها هذا المشروع. وتتوجّه المعارضة نفسها، فيما يظهر، إلى الاقتراع النسبي الذي يوصي به المشروع قبل توجهها إلى التجزئة الطائفية للهيئة الناخبة.

الملاحظة الثانية موضوعها المرجعية الدستورية لمشروع “اللقاء الأرثوذكسي” وقد استغرق الجدل في موافقته ومخالفته للدستور جانباً من المشادّة الجارية بشأنه. هل المشروع موافق للدستور لأنه يحقّق المناصفة الفعلية والعدالة في التمثيل على ما زعم مناصروه أم هو مخالف للدستور لأنه يفرز الشعب ويضرب أساس العيش المشترك على ما زعم خصومه؟ المخالفة الكبرى للدستور في الواقع هي الاستمرار، بعد نيف وعشرين سنة من تعديله، في اعتماد التوزيع الطائفي لمقاعد مجلس النواب والمناصفة فيه بين المسلمين والمسيحيين. فهاتان صيغتان اعتبرهما الدستور المعدّل انتقاليتين وحدّد موعداً ملزماً (يكاد أن يمرّ على حلوله عقدان) لمباشرة الخروج منهما في نطاق ما سمّاه “إلغاء الطائفية السياسية”.

هذا التوجّه الذي تتواطأ القوى الطائفية (إلا ما رحم ربك) والمؤسسات الدستورية المشكّلة منها على تجاهله خلافاً للدستور ليس تفصيلاً أو شأناً يسكت عن إغفاله في نقاش من قبيل النقاش الجاري لقانون الانتخابات. هذا التوجّه يمثّل في مآله تغييراً إلزامياً بموجب الدستور للنظام السياسي اللبناني برمّته. فكيف يصحّ أن يفتح قانون الانتخاب مسلكاً مناقضاً له مناقضة كلية فيما يشبه الوداع للدستور المعتمد ولاتفاق الطائف الذي أملاه؟ إن كانت مناقضة الدستور تمليها مصلحة وطنية تفوقه سموّاً فليبدأ مسارها بتغيير الدستور نفسه وبدفن اتفاق الطائف بالمراسم المفروضة. فليس إلا جبناً ونفاقاً بحتاً أن يبحث للمشروع الأرثوذكسي عن مسوّغ أو عن سبب للبطلان في الدستور فيما الدستور كله، بديناميته العامّة المشتملة على تعديل النظام الانتخابي مع الهيكلة الجديدة للمؤسسات الدستورية، مكوّم بصمت تحت الأقدام الطائفية.

في 20 كانون الثاني 2013

ملحق: كلام في “مشروع الفراق” سبَق ظهوره بـ 17 سنة

ما يلي فقرات أخيرة من ورقة قدّمتُها (بالإنكليزية) في الندوة التي نظّمها مركز الدراسات اللبنانية في أكسفورد حول”إصلاح الأنظمة الانتخابية” وذلك في كانون الثاني 1996 . وقد ظهرت الورقة (بالعربية) في كتابي “الجمهورية المتقطّعة: مصائر الصيغة اللبنانية بعد اتّفاق الطائف”، دار النهار للنشر، بيروت 1999، ص 155-159.

“(…) لا بدّ من الإقرار إذن بأن عِبَر الاختبار التاريخي قد جعلت من الاحتفاظ بالقاعدتين الجغرافية والمذهبية كليهما على أنهما ركنان متساندان للنظام الانتخابي اختياراً واعياً يعبّر عن الحكمة الماثلة في الصيغة السياسية اللبنانية. وقد أمْلت الحكمة نفسها امتناعاً بات تقليدياً عن التضحية – في الظروف العاديّة على الأقلّ – بأي من الركنين عند اختيار أعضاء الحكومات. ونقع على هذه الحكمة نفسها أيضاً في أمرين آخرين متلازمين:

الأمر الأوّل أن الإقرار حاصل بوجود حاجة إلى تمثيل مناسب لكلّ من الطوائف في مؤسّسات الدولة. ولكن الإقرار حاصل أيضاً بوجوب الحؤول دون كلّ من الطوائف والاستقلال بحياة سياسية منعزلة تجسّدها أجهزة منفصلة لا يكون لها ما ترجوه ولا ما تخشاه من الفئات والقوى السياسية المنتمية إلى طوائف أخرى. بل إن الإقرار حاصل، بخلاف ذلك، بأن التمثيل ينبغي له أن يؤول إلى تكتّلات متنوّعة طائفياً ومتداخلة بحيث يحال دون الصراعات السياسية اليومية والجري على خطوط طائفية.

الأمر الثاني أن كون انتخاب ممثّلين لكلّ من الطوائف يتعلّق جزئياً بموقف جماعات تنتمي الطوائف أخرى إنما يعزّز الاعتدال في صفوف المرشّحين. فيكون على المتعصّبين والانعزاليين من هؤلاء أن يخشوا نبذاً كثيفاً من جهة الناخبين المنتمين إلى غير طائفتهم. والتمثيل النيابي، بخاصّة، مصمّم بحيث يغلّب الاختلاط والاعتدال في التكتّل السياسي.

ولقد كان لغياب الحرّية عن انتخابات 1992 نصيب من جعل مجلسنا النيابي، اليوم، بعيداً عن هذين الاختلاط والاعتدال. فإن حالة من الاستقطاب الطائفي الحادّ تسود بلادنا. ولم يكن لمجلس النوّاب الحالي، بتمثيله المحدود، أن يستوي ساحة لتدبير المواجهات السياسية التي هزّت البلاد في خلال السنوات الثلاث الفائتة. فآل الاستقطاب الطائفي إلى  أزمة دائمة في النظام. وغلب على الدولة أنها غنيمة تتنازع وتقتسم لا أنها بنيان يعاد إعلاؤه ويوطّد.(…)

ومهما يكن من شيء فإن الصيغة المذهبية ليست القاعدة الوحيدة التي يسع المجتمع الطائفي – بالمعنى الأعمّ – أن يرسو عليها. بل يمكن أن يتجزّأ المجتمع إلى وحدات قبلية أو إلى أقوام أو إلى قرى أو إلى مزيج من شبكات التضامن هذه جميعاً. في هذه الحالات، يجوز اعتبار دعم الجماعات الواسع للفساد ولاختلاس المال العامّ وما يتّصل بهما من مسالك دالّاً على وجود نوع من نظام المافيا (…).

ولعلنا لم نصل في لبنان بعد إلى اعتماد نظام من أنظمة المافيا تامّ السمات. على أن بعض الدلائل بات لها من القوّة ما يجعل من غير الجائز للآخذين بنصيب من المعرفة الاجتماعية والسياسية مواصلة تجاهلها. ولا بدّ من إعمال أدوات ديمقراطية عدّة – في رأسها قانون الانتخاب – ابتغاء مكافحة التبلّر المفرط لصور التضامن المذهبية والعشيرية وما جرى مجراها من أنواع العصبيات. ذاك همّ يبدو ملحّاً إذا أردنا حماية الحرّيات العامّة واستباق الانقلابات والاتّجاه نحو ديمقراطية تعزّز ما في مجتمعنا من تقاليد مستحسنة وتوطّدها. (…)