التصنيف: جريدة المُدُن الإلكترونيّة
كِتابٌ وجائزة
“http://www.almodon.com/opinion/b0366731-ae43-43c9-897e-dc7eb6b72916”
أحمد بيضون|الخميس20/06/2013
مساء الأربعاء 19 الجاري، تسلّمتُ، في لقاء اجتمع له أصدقاء ومهتمّون، “جائزة ميشال زكّور”. توّجت الجائزة كتابي الأخير “لبنان: الإصلاح المردود والخراب المنشود” الذي صدر في ربيع السنة الماضية عن دار الساقي في بيروت. والجائزة المرشّحة للاستواء تقليداً سنوياً أنشأتها هذه السنة مؤسسة ميشال زكّور على اسم الصحافي والسياسي الراحل، فكان كتابي أوّل عمل ينالها. وكانت هيئة المحكّمين قد أعلنَت، قبل أشهرٍ، لائحة قصيرة ضمّت ستة عناوين مرشّحة. وستُمنح الجائزة كلّ سنة لعملٍ بحثي موضوعٍ بالعربية أو الفرنسية أو الإنكليزية ومكرّس لموضوع لبناني.
– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/6/20/%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d9%88%d8%ac%d8%a7%d8%a6%d8%b2%d8%a9#sthash.kgfsZTAC.dpuf
قَبْلَ مائة عام: ذلك المؤتَمَرُ العربيُّ الأوّل
“http://www.almodon.com/opinion/5e6e6ad6-21d3-4e6f-94ba-714f629f3333”
أحمد بيضون|الخميس13/06/2013
تتمّ في هذا الشهر دورة مائة سنة على انعقاد المؤتمر الذي اصبح يسمّى “المؤتمر العربي الأوّل” في باريس. فيُطرح سؤال يتعلّق بمسوّغ الاستذكار: استذكارِ لقاءٍ يسعُ أيّ مركزٍ معتبر للأبحاث اليوم، متّصل بما يسمّى الجهات المموّلة، أن يعقد مثله بل أوسع منه في باريس، لا في غيرها، وعلى جادّة سان جرمان دو بري نفسها إذا لزم الأمر. وقد يسعه أن يجمع لهذا المؤتمر الجديد من هم أظهرُ أمراً من الصحافيين وأعيان المدن والطوائف ووجهاء المهاجر الذين جمعتهم قاعة الجمعية الجغرافية قبل قرن… اليوم لن يُعِدّ أحد نفسَه لتذكّر لقاء من هذا القبيل بعد عشرة أشهر، لا بعد مائة سنة… وهذا إذا وُجد من يرى فائدةً في عقده.
وأما الفارق بين حدث حزيران 1913 وحدث حزيران 2013 (إذا وُجد من يُحْدثه) فهو أن الأخير لن يجد دولة عثمانية متهالكة، مستغرقةً في دوّامة ثورة دستورية وفي حربٍ مصيرية ذات فصول، توجس من انعقاده وتسعى في البداية إلى استيعابه ثم تعمد، بعد ارفضاضه بحين، إلى شنق بعضٍ من أهمّ المشاركين فيه… ولن يجد المؤتمر الجديد المفترض عرباً يتّخذون اللامركزية عنواناً رئيساً لمطالبهم القومية. بل هو قد يقع على اللامركزية مطلباً يرفع هنا أو هناك في وجه العرب من جانب جماعات قومية أخرى ترزح عليها من عقود كثيرة مركزيةُ السلطة العربية. أو هو سيقع على اللامركزية نفسها طموحاً لجماعات استبدلت باللافتة القومية برمّتها ما هو أدنى منها: اللافتات الطائفية مثلاً. وهي قد وضعت في المحلّ الذي كانت تشغله قبل قرن مجابهةُ العرب والترك مواجهاتٍ متحرّكة ما بين الطوائف.
انعقد مؤتمر حزيران 1913 بعد أشهر من الإعداد في خضمّ تسارعٍ للتاريخ العثماني كان يُحسب فيه للأشهر حسابٌ غير قليل إذ كان يصعب أن يصمد الظرف السياسي الذي تُرسم فيه ملامحُ مشروعٍ من قبيل المؤتمر إلى حين تنفيذه فعلاً. والحقّ أن الظرف السياسي تغيّر كثيراً في الحالة التي نحن بصددها ما بين مباشرة الإعداد للمؤتمر وانعقاده فعلاً… ثم واصل الظرف طفراته بعد ذلك نحو حالٍ أصبح العنف والقمع أبرز سماتها، فيما انتقلت الحرب من تسلسل فصولها المتردّد على الأراضي الأوروبية للدولة وعلى ساحلها الإفريقي إلى طورٍ عالميّ أصبح يتناول وجود الدولة من أصله وذلك بعد سنة وبضعة أشهر من انفضاض المؤتمر الباريسي.
بين خريف 1912 وأوائل 1913، كانت الحرب البلقانية تأكل معظم ما كان قد بقي للدولة العثمانية من “ممالك” أوروبية. فتستكمل سيرة من التضعضع والخسارة استغرقت معظم القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. وهذا بعد انقضاض إيطاليا على سواحل بنغازي وطرابلس الغرب وقصف اسطولها بيروت في سنة 1911، بحيث انتشر إلى الولايات العربية الشعور بخطر الاجتياح الأوروبي وبعجز الدولة عن حماية أراضيها. كانت الجيوش المعادية قد وصلت إلى أبواب الآستانة إذ استولت على أدرنة، بوّابتها، واحتاج الأمر إلى معجزة ليستردّها جيش السلطان، حين بدا أن المهاجمين الأوروبيين موشكون على التذابح فيما بينهم حول جثمان “الرجل المريض” حالما يُسْلِم الروح. وكانت لندن التي حمت السلطنة طوال القرن السابق قد استضافت، في أثناء حرب البلقان الثانية هذه، مؤتمراً بدت مهمّته ترجمةَ نتائج الحرب على الأرض وفي موازين الدبلوماسية.
حصل هذا كلّه في أعقاب ثورة دستورية شهدها صيف سنة 1908 وتبعَتْها ردّة وارتداد على الردّة في السنة التالية وقد جعل القائمون بالثورة في رأس أهدافهم المعلنة حفظ سلامة الدولة واستعادة عنفوانها المتداعي، إلى الخروج من الاستبداد الحكومي بالعودة إلى الدستور وإلى ما يكفله من حرّيات ومن إصلاح مؤسّسي لهياكل السلطة.
كان العرب قد اغتنموا ظَرْفَ الحرب البلقانية، على التحديد، ليواجهوا بمطلب الإصلاح اللامركزي تباطؤَ التغيير في الوصول إلى ديارهم وما كانوا قد أخذوا يلمسونه لدى ضباط “الاتّحاد والترقّي”، القوّة المحرّكة للثورة، من نزعة تركية إلى الاستئثار حالت دون تحسين الشركة العربية في مؤسسات السلطة والدولة. وهذا في وقتٍ بدا فيه أن الدولة توشك أن تتحوّل من مجالٍ إمبراطوري متعدّد القومية إلى دولة ثنائية القومية تشهد نوعاً من التكافؤ الإجمالي، في أكثر من ميزان واحد، بين الأتراك والعرب.
اغتنم العرب ظرف أواخر العام 1912 وأوائل تاليه إذن ليشكّلوا هيئات إصلاحية موزّعة المراكز ولكنها متضافرةُ الأهداف وعلنيّةُ النشاط. وكان أسرعَها إلى البروز اثنتان: حزب اللامركزية الإدارية في مصر والجمعية الإصلاحية في بيروت. وكان الأوّل من هاتين محصّناً باتّخاذه الملاذَ المصري مقاماً له. وأما الثانية فلم تلبث أن باءت بالحلّ بعد إعلانها برنامجها وهذا على الرغم من الغطاء الذي وفّرته لها المجالس الملّية إذ تولّت اختيار أعضائها بواقع اثنين عن كلّ من الملل المسيحية واثنين عن اليهود وما يعادل مجموع هؤلاء من الأعضاء للمسلمين. فكان أن بلغ العدد الإجمالي نيّفاً وثمانين عضواً اعتُبروا ممتّعين بقوّة تمثيل وطيد للمدينة. وهو ما لم يمنع حلّ الجمعية، على ما سبقت الإشارة إليه، بعد أن أطاحت ظروف الحرب وزارةَ الصدر الأعظم كامل باشا الثانية، وهي التي كان الإصلاحيون العرب يعوّلون على مجاراتها لهم وعلى قوّتهم في حزب “الحرية والائتلاف” المهيمن عليها. أطاح جماعة “الاتّحاد والترقّي” هذه الوزارة وجاؤوا بأخرى أعادت نفوذهم المتوجّس من المطالب العربية والأرمنية خصوصاً والمناوئ لمنحى الإصلاح اللامركزي. فكان أن تغيّر مناخُ الدولة والعاصمة كثيراً في أشهرٍ قليلة فَصَلت ما بين تأسيس الجمعية البيروتية والحزب القاهري والبدء بالإعداد للمؤتمر العربي في باريس.
لم يتجاوز عدد الذين اعتبروا أعضاء رسميين في المؤتمر خمسة وعشرين شخصية. كانت سورية مدار البحث فلم يتمثل العراق إلا بعضوين ألقى أحدهما كلمة قصيرة وأعلن الرئيس أن الشأن المصري غير مطروح للبحث. وكان وفد بيروت (بما هي مدينةٌ “سورية” وعاصمةٌ للولاية المسمّاة باسمها) أكبرَ الوفود إذ ضمّ ستة أعضاء. هذا فيما كان صوت الموالين للسلطات عالياً في دمشق وتعذّر على بعض من أبرز ممثّلي الإصلاحيين فيها السفر إلى باريس لأسباب مالية. ولم يحضر من حزب اللامركزية الإداري سوى عضوين، على الرغم من اعتماد المعدّين للمؤتمر هذا الحزب راعياً لمبادرتهم. وتمثّل في المؤتمر المغتربون من أصقاع شتّى وكان أبرز جماعاتهم تمثيلاً، بطبيعة الحال، سوريو باريس ولبنانيوها.
وقد رئس المؤتمر لاذقيّ هو عبد الحميد الزهراوي أحد الموفَدَين من جانب الحزب وعيّن كاتباً له البيروتي عبد الغني العريسي. وكانت اللجنة التحضيرية الثمانيّة قد توزّعت مناصفة ما بين المسلمين والمسيحيين، وكان هذا التوزيع محبّذاً في تلك المرحلة على ما بدا من تجربة الجمعية البيروتية. وفي الحالتين – حالة الجمعية وحالة المؤتمر – كان الموقف السياسي متبايناً على أساس طائفي. فكان الأعضاء المسيحيون أصرحَ ميلاً إلى المطالبة بحماية فرنسية لسورية لم يكن بعضهم يمانع في وصولها إلى حدّ الاحتلال. هذا فيما كان المسلمون يحصرون همّهم في “الإصلاح” اللامركزي ولكن لا يمانعون في استقدام خبراء أوروبيين يتولّون توجيه دفّة الإصلاح حيث يلزم. ومما تشي به مذاكرات الأعضاء المسيحيين في جمعية بيروت ثم في مؤتمر باريس مع وزارة الخارجية الفرنسية وقنصلياتها، يتبين أن اللغم الطائفي كان مزروعاً في المبادرتين وكان انفجاره محتملاً لو أفلحت أيّ من المبادرتين في الاقتراب من أفق التنفيذ.
هذا وكانت اللامركزية هي العنوان الكاسح للحركة كلها. وكان أهمّ معانيها اعتمادُ اللغة العربية لغةً للتعليم وللمعاملات حيث تكون كثرة الرعايا عربية اللسان وتوسيعُ صلاحية المجلس العمومي للولاية في مواجهة سلطة الوالي وجعلُ الخدمة العسكرية تجري في موطن المجنّد ما لم يستوجب نقلَه داعٍ ملحّ ومنحُ الولايات أفضليّةً في إنفاق الواردات المجبية منها ومنحُ المسلمين الحقّ في إدارة أوقافهم واستثمارها على غرار غير المسلمين… إلخ. ولم يكن هذا البرنامج يمنع المطالبة بتحسين الأنصبة العربية من الوظائف المركزية ومن التمثيل السياسي…
لم يحظ هذا البرنامج بتنفيذ عملي. استبَقَته الدولة بتشريعات اعتُبرت تمويهاً لرفضها إياه وكان أهمّها قانونُ الولايات الجديد. وقد سُلّمت مقرّرات المؤتمر إلى السفير العثماني في باريس وإلى ممثّلي الدول الكبرى ثم سافر إلى الآستانة وفد من المؤتمر لمفاوضة السلطات. وكان عبد الكريم الخليل، وهو المقيم في الآستانة أصلاً، طليعة الساعين لدى جمعية “الاتّحاد والترقي” في سبيل اعتماد المقرّرات ولدى عرب العاصمة لإقناعهم بما توصّل إليه بالمفاوضة. ولكن هذا كلّه لم يَجِدْ طريقه إلى التنفيذ.
مضى التاريخ، بعد المؤتمر، في مسيرته المتسارعة المفضية إلى المزيد من تضعضع الدولة العثمانية ثم إلى الحرب العالمية التي ستلحق فيها الدولة بالجانب الألماني مواجِهةً فرنسا التي كان ظلّها قد هيمن على مؤتمر باريس ومتخلّية، على الأخص، عن مودّة بريطانيا التي كانت قد حالت دون انهيار الدولة الكلّي طوال القرن التاسع عشر. وعِوَضَ اختبار الإصلاح اللامركزي صيغةً لبقاء الدولة جنَح النافذون في إستانبول لمزيد من المركزية ولمواجهة القوميات الناهضة، وأولاها العربية والأرمنية، بالعصبية الطورانية وبالعنف.
وبين ضحايا الديوان العرفي في ساحتي الإعدام البيروتية والدمشقية، علّق ما بين صيف 1915 وربيع 1916 كلّ من رئيس مؤتمر باريس عبد الحميد الزهراوي وكاتب المؤتمر عبد الغني العريسي والمفاوض باسمه عبد الكريم الخليل وعضو هيئته التحضيرية محمد المحمصاني وأحد أبرز خطبائه أحمد طبّارة ومع هؤلاء نفر من الذين بعثوا إلى المؤتمر بتأييدهم أو رغبوا في المشاركة فيه فلم يتيسّر لهم ذلك لسبب عارض. من هؤلاء الذين جهروا من بعيد بولائهم لأهداف المؤتمر، لقي كلّ من صالح حيدر وعبد الوهاب الإنكليزي ورفيق رزق سلّوم حتفهم على أعواد المشانق أيضاً. وإذا كان عدد الضحايا من بين المؤتمرين لم يتجاوز هذا الحدّ فلأن كثيرين من هؤلاء كانوا مقيمين في مصر، متمتّعين بالحماية البريطانية، أو في خارج الأراضي العثمانية فلبثوا بمنجاة من ديوان جمال باشا العرفي ومشانقه.
وفي كلّ حال، لم تلبث الدولة العثمانية برمّتها أن علّقت على أعواد هزيمتها في الحرب ومطامع المنتصرين. فأنشأت فرنسا وبريطانيا ما أنشأته من دول في سورية الطبيعية وصحبتا ما شهدته هذه الدول من أطوار. وتكفّلتا أيضاً برعاية الطوائف والطائفية وما اتّصل بهما من أزماتٍ صغيرة وكبيرة، من طورٍ إلى طور. وذلك إلى حين استقلال سورية ولبنان والأردن ونشوء دولة إسرائيل. وعلى التعميم، برزت في كلّ من هذه الدول، قبل استقلالها وبعده، عصبيةٌ طائفية أو قوميةٌ غالبة رزَحَت بثقلها على غيرها من الجماعات. وكان الذين ورثوا إصلاحيي الهزيع العثماني الأخير، من العرب على الخصوص، أوّلَ من تَسبّب في بقاءِ حديث اللامركزية أو ما يجري مجراه سائراً على ألسنة الراغبين في الإصلاح واليائسين من إمكانه.
– See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/6/13/%d9%82%d8%a8%d9%84-%d9%85%d8%a7%d8%a6%d8%a9-%d8%b9%d8%a7%d9%85-%d8%b0%d9%84%d9%83-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a4%d8%aa%d9%85%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%88%d9%84#sthash.I0fwS15g.dpuf
ما يستَحِقُّهُ الفسابكة
“http://www.almodon.com/opinion/38f72896-2e28-411d-b6ea-fd5614091047”
أحمد بيضون|الخميس06/06/2013
السُفور والحِجاب في ما يتعدّى النَصّ
“http://www.almodon.com/opinion/6ae7fe3e-a4f1-460a-b91e-9a81c0fc72cd”
أحمد بيضون{ الخميس 31/5/2013
من أحوالِ إمبراطورٍ “سوريٍّ” قديم
“http://www.almodon.com/opinion/5ab0c5ca-6d54-458d-a7ee-847baf1fed45”
أحمد بيضون|الجمعة24/05/201
كاترين لو توما والتعليم الشيعي في لبنان
“http://www.almodon.com/opinion/cf9a2f1a-987d-48a7-8f39-2f70683d17ef”
صدرت مؤخّراً في كتاب رسالة الدكتوراه التي كانت الباحثة الفرنسية الشابة كاترين لو توما قد كرّستها للمدارس الشيعية في لبنان. وعلى جاري العادة التي باتت تزكّيها الرغبة في تقليص كلفة النشر، يستثني الكتاب الذي نشرته دار كارتالا الباريسية بعض ما كانت تضمه الرسالة من موادّ أو يختصره. وهو يبقى، على الرغم من ذلك، كتاباً كبيراً، دسم المحتوى. وكنت قد واكبت، على الأرض، جهود هذه الباحثة من أوّل مسارها إلى آخره واشتركت في لجنة المناقشة التي انعقدت في معهد العلوم السياسية في باريس في أوائل سنة 2009 وكان تقديري وما يزال أن هذه الرسالة مدعوّة إلى تبوّء مرتبة معتبرة بين أفضل ما كرّس لشيعة لبنان من بحوث جامعية تكاثرت في العقود الثلاثة الأخيرة. فهي تقارب من المستوى الأعمق أو الإستراتيجي، وهو مستوى إعداد البشر الناشئين والتصرّف بهم، ما شهدته الطائفة الشيعية من تحوّل يعتبر أهمّ التحوّلات التي كان مجتمع لبنان المعاصر غرضاً لها في نصف القرن الأخير. ويصحّ اعتبار هذا التحوّل أيضاً أهمّ امتحان أو محنة تعانيه قابلية النظام الطائفي اللبناني للتكيف بما يشهده المجتمع من تغيير. ولا حاجة إلى القول أنه، أي التحوّل، يمتحن في ما يمتحنه مستقبل العلاقات بين الطوائف ومستقبل الدولة. تستقصي الباحثة هذه الطفرة في مضمار التنشئة على صعيدين متكاملين: صعيد المؤسسات التي أتاح تكاثرها توسيع نطاق التحوّل ونشْر مفاعيله وصعيد التصوّرات التي منحت التحوّل مضامينه وأملى تنوّعها النسبي تنوّع وجهاته. لهذه الغاية، تَسوق لو توما بحثها مُجيدةً التصرّف بمقادير هائلة من المعلومات استقتها من مصادر بيّنة التنوّع. وهي تُدْرجها في خطّة محكمة للتحليل فتبرز ما بينها من تكامل للعيان. فعلى المستوى الحسّي، يستوي التأريخ لتشكّل الشبكات والتحقيق بالاستمارات إطاراً للتحليل الدقيق الذي تخضع له معطيات أتاحتها مقابلات وافرة العدد جدّاً ومعها، على الخصوص، الملاحظة المباشرة. وكانت المثابرة في الإقامة على أرض الموضوع المستهدف تقترن بالاستكشاف المنظّم لما نشر وما لم ينشر من كتلة وثائقية هائلة الحجم متعلّقة بالمجتمع اللبناني وبنظامه السياسي، فيقوّيان ألفة الباحثة لموضوع البحث ويعزّزان فرص الفهم الصائب للوقائع وللنصوص. هذا ولم تكن السبل مفتوحة أمام البحث الميداني الذي اعترضته تحفظات كثيرة من جانب الجهات المعنية به. وهي تحفظات تركت أثرها في التحقيق بالاستمارات فجاء من جرّائها غير خالٍ من الثغرات. وعندما حيل بين الباحثة ودخول بعض المؤسسات دارت حول العقبة بالاستكثار من المقابلات وتنويعها وبتفحّص ما تنشره تلك المؤسسات من نشرات ومجلات وباللجوء إلى مصادر غير مباشرة للمعلومات. وتلفت الصفحات ذات المنحى المقارن بوفرة المعطيات المتحصّلة مما يتعلّق بالشبكات والمؤسسات المدرسية غير الشيعية (السنّية، الدرزية، الكاثوليكية…). فلم تكتفِ الباحثة ههنا بما هو متاح من معطيات متّصلة بالملامح الكبرى وإنما قصدت الأمكنة المعنية في جميع هذه الحالات واعتمدت على معلومات طازجة، مستقاة من المصدر الصالح مباشرة لترسم لنا ملامح “الجو” في كلّ مؤسسة زارتها. وتتمثّل أهمّية هذه الرسالة في أنّها تبرز تنوّع الشبكات والمؤسسات المتناولة وتنوّع الطائفة الشيعية اللبنانية، بالتالي. ولكنها، إلى ذلك، تدرج المدرسة إدراجاً تامّاً في مشروعات اجتماعية سياسية متباينة يبدو أحدها (وهو مشروع حزب الله) أكثرها صراحة وتماسكاً واطمئناناً إلى إمكاناته. وعوض أن تعمد الباحثة إلى تكرار الكلام على انخراط المدرسة في حقل تكثر فيه وجوه الاتّحاد بين السياسي والديني على أنه تحصيل حاصل، نراها تدأب في الإنشاء الحسّي لصورة هذا الانخراط وتظهره في تجلّيه العملي. وتبتعد المقاربة النظرية المعتمدة ابتعاداً بيّناً عن مقاربة مدرسةٍ بعينها من مدارس علم الاجتماع التربوي (فرنسية، بالدرجة الأولى)، على الرغم من أن هذه المقاربة الأخيرة تملي أطر التحليل المنتحلة من جانب كثير من الأعمال اللبنانية المتعلقة بالمدرسة. فنحن ههنا بمنأى من “إعادة إنتاج علاقات الإنتاج” التي يفترض أنها تتحصّل بالاصطفاء المدرسي وبإحكام الربط ما بين ترسانة من مسارات الإعداد المتراتبة وبنى السوق. وذاك أن عمل المدرسة الشيعية أقرب بكثير إلى الاندراج في منطق للتغيير يمثّله مشروع التبلّر والتعبئة الطائفي. عليه لا تشدّد الباحثة على المضامين الاجتماعية التقنية ولا الاجتماعية الاقتصادية لمسارات الإعداد وهي المضامين التي تشكّل “عادةً” مادّة التعليم الأساسية ولكنها، في الحالة المدروسة، تبدو “محيّدةً” إلى حدّ ما. عوض التشديد على هذه المضامين، تلتقي الباحثة “المهمّة” السياسية التربوية التي تضطلع بها المدرسة الشيعية الجديدة في وجوه أخرى من “السيرة” المدرسية للتلامذة ومن “العمل” الاجتماعي السياسي الذي يخضعون له في المدرسة. هذا العمل يأتي مساوقاً، في كثرة من الحالات، لعمل العائلة ولعمل المؤسسات الدينية والتنظيمات السياسية ويرسّخ تأثيرها جميعاً. لذا تعمد هذه الرسالة إلى التشديد على تدريس موادّ تعتبر ثانوية المكانة إجمالاً في البنية “العادية” للمسار المدرسي. فيحتلّ المكان المتصدّر من عناية هذه الرسالة تدريس الدين والتاريخ والتنشئة “المدنية” أو “الوطنية”. ولكن يتصدّر هذه العناية، أيضاً وعلى التخصيص، مجموع النشاطات اللاصفيّة من كشفية واحتفالات مختلفة ومسرح، إلخ. ولا يأتي هذا التصدّر نتيجة اختيار تحكّمي من جانب الباحثة. وإنما تسوّغه مكانة عظيمة تتبوأها هذه الموادّ والنشاطات في العديد من المؤسسات التي تناولها البحث. ويسوّغ التصدّرَ نفسه أيضاً أن هذه الموادّ والنشاطات يصدي بعضها لبعض وتتشكّل منها شبكة رمزية شديدة الأسر تسند، على ما سبقت الإشارة إليه، عمل مؤسسات اجتماعية أخرى. وإذ تعوّل الباحثة على فهمها نمط الانخراط هذا، تنتهي إلى ذكر “مشروع المجتمع” الذي ترى أن المدرسة الشيعية الجديدة تمثّل جزءاً لا يتجزّأ منه. وهي لا ترى موضوع بحثها، أي المدرسة، كافياً لوصف حصري لهذا المشروع ولا تعتبره، من باب أولى، أساساً يصلح وحده لتقويم حظوظ النموّ التي يتوفّر عليها المشروع ووقعه على المجتمع والدولة اللبنانيين. على أن هذه الرسالة تستوي، من الآن فصاعداً، مرجعاً لا تجوز الإشاحة عنه لكل محاولة ترمي إلى التحليل المحسوس لهذا الوقع. أخيراً، نرى الجرأة الفكرية التي أتاحت لهذه الباحثة الشابّة أن تبتعد عن المسالك المطروقة في علم الاجتماع التربوي في فرنسا متجلّية، على الأعمّ، في ما يسعنا أن نسمّيه مقاربة اختبارية للتصوّرات. ذاك نوع يقتدى به من اليقظة يجنّب هذه الباحثة ما يتقدّم على أنه “ملبوس فكريّ جاهز” ويبعدها أيضاً عن الأشراك التي لا تتورّع النظريات السائرة عن نصبها لمن يتناول موضوعاً لا يزال جديداً. بل إن هذه الباحثة توحي هنا وهناك بشعورها التامّ بحدود الفاعلية التي لعدّتها النظرية. وهذا على الرغم من الموهبة المؤكّدة التي يدلّ عليها تصرّفها بهذه العدّة. كتاب لا يقرأ وحسب، بل يرجع إليه عند كلّ رجوع إلى أطوار التشكيل الطائفي للمجتمع اللبناني المعاصر ولشيعته على التخصيص. – See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/5/17/%d9%83%d8%a7%d8%aa%d8%b1%d9%8a%d9%86-%d9%84%d9%88-%d8%aa%d9%88%d9%85%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%b9%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86#sthash.62A5nmlo.dpuf
السياسةُ غباءً وذكاءً وغيرَ ذلك…
“http://www.almodon.com/opinion/779f4a4d-f9c5-4366-acc4-d5f16581eca7”
كثيراً ما يلجأ متعاطو التحليل السياسي (فضلاً عن السياسيين أنفسهم) إلى مقياس الخطأ والصواب للحكم على موقف أو عمل سياسي. يتبع ذلك تشديد معتاد أيضاً على البراعة السياسية يُنعت بها (أو بعكسها) هذا أو ذاك من السياسيين. وقد يصل الإعجاب إلى حدّ القول بـ”عبقرية” السياسي موضوع الحديث وإن تكن صفة “العبقرية” هذه تدّخر عادة لبعض الماضين فيندر إطلاقها على من لا يزالون من السياسيين في الخدمة. بخلاف ذلك، يُستسهل قذف الحاضرين بصفة “الغباء” أو بما يعادلها إذا كانت الخيبة قد حصلت لسعيهم أو كانت منتظرة له. وقد يكفي لاستدراج هذا النعت مخالفتهم لهوى المحلل أو المقوّم في موضوع من موضوعات السياسة أو مجال من مجالاتها. الأرجح أن ثمة إفراطاً جسيماً في تقدير صلاحية الخطإ والصواب أو دور الذكاء والغباء عند النظر في أمر فعل سياسي وتقويمه: إما بناءً على نتائج الفعل الحاصلة وإما تقديراً من جانب المقوّم لنتائج يراها متوقعة للفعل… وكثيراً ما تزين له توقّعها سيرة الفاعل والموقعُ والأسلوب المألوفان له. الأرجح أن السياسي لا يكون في معظم الحالات مطلق التصرف إلى الدرجة التي تبيح له أن يصيب أو يخطئ. فإن ثمة عوامل وبواعث تخطئ عنه أو تصيب وتفتح باب البراعة قليلاً أو كثيراً أو هي تقضي بالتخبط وتوقع ضحيتها في شبهة الغباء. الأرجح أن العبقرية لم يكن لها ما ينسب إليها من نصيب في نجاح من سايره النجاح قليلاً أو كثيراً في مساره السياسي أو في خطّه في الحكم وقيادة الدولة. ولكان صواب المستشارين (أو الوزراء أو الوعّاظ، إلخ.، في ما مضى) وذكاؤهم المفترض يعوّضان غباء الحاكم ويدرآن خطأه من حين إلى حين لو كانت هذه هي الرياح التي تجري فعلاً بسفينة السياسة. لا يعني هذا أن الذكاء والغباء لا يعودان على صاحبهما من الساسة بنفع ولا بضرر. فإن دورهما متّصل، في الواقع، بصفة أساسية للفعل السياسي هي صفة “الإمكان”. و”الإمكان” هنا محمول على معناه في المصطلح الفلسفي وهو خلاف “الوجوب”. الذكاء مهمّ لأن الأسانيد التي يتكئ عليها مشروع الفعل هي في العادة ناقصة ومختلة. فإن الفاعل لا يرى من موقعه إلا جوانب دون أخرى من ساحة الفعل ومما هو جارٍ فيها. وهو يجد نفسه مأخوذاً في تيار حوادث دينامي متّصل حكماً بما سيأتي. ولكنه – أي الفاعل السياسي – لا يحيط بما هو محتمل الحصول في هذا الآتي ولا، على الأخصّ، بما سيبدر من فاعلين آخرين محكوم عليهم هم أيضاً بالتصرف في ظروف تتّسم بالهشاشة: بضعف الرؤية ونقص المعرفة والتقلب بين الاحتمالات… هذا كله: أي صفة “الممكن” الذي يبقى غيره أو خلافه “ممكناً” أيضاً… صفة الخلوّ من البديهة أي من حالِ ما “يجب” فعله ولا “يجوز” فعل غيره… هو ما يمنح الذكاء ومعه ما قد يتاح أو يحصّل من معرفة بوقائع الساحة وما جرياتها مكانة تبقى لها أهمّيتها وإن تكن، على ما ذكرنا توّاً، بعيدة عن الاستئثار بالتحكم في مسار العمل السياسي ومصيره. الحاصل أننا إذا نظرنا بما يكفي من إمعان في ما يجعل التصرّف السياسي لحزب أو لشخصية سياسية أو لجماعة حاكمة يبدو واضح الغباء والغربة عمّا تدّعى خدمته من مصلحة لرأينا أن مصدر الخلل ليس عسر التمييز بين الصواب والخطإ في المسألة المطروحة، إذ يكون هذا التمييز في كثير من الحالات هيناً للغاية. وإنما نقع على الخلل الذي يمنع الإعراض عن الخطإ واتّباع الصواب ماثلاً في الواقع المركّب للفعل السياسي وفي الكثرة المباشرة أو غير المباشرة التي تلازم فاعليه. فالفعل ينطوي في تكوينه على مصالح لفاعلين مختلفين. وهذه المصالح لها صوابها وخطؤها الخاصّان بها أو بكلّ منها. وهذان الخطأ والصواب، في صيغهما المفردة أو المجتمعة هما غير الخطإ والصواب اللذين يصحّ أن ينعت بهما الفعل في جملته والفاعلون بعمومهم. ههنا يأتي تفاعل المكوّنات بحصيلة عامّة مختلفة عن تلك المرغوبة. ولا يستبعد أبداً أن يصحّ نعت هذه الحصيلة المغايرة بالغباء. ولكنه غباء ناشئ من ذكاء أفرقاء ذوي مصالح يعرف كلّ منهم حقّ المعرفة ما يريد ولا تصح فيهم صفة الغباء متفرّقين صحتها فيهم مجتمعين. في كثير من الحالات أيضاً يتعايش الغباء والذكاء بحكم التخالف ما بين مقياسيهما الزمنيين. فيكون السلوك الذي يبدو غبياً، في المدى البعيد، سلوكاً حاذقاً، وافياً بغرضه في المدى القريب. ويكون هذا الغرض القريب هو الهمّ الفعلي لهذا الفاعل. وأما الغرض البعيد، وهو عادةً ما تتوخّاه الجماعة الأوسع، فيرى بعض أطراف هذه الجماعة أن في وسعهم القبول بفواته. ويكون بعد ذلك ما يكون. وأما مرادنا من هذا الكلام فهو أن يشعر القارئ بوخزة تستوقفه حين يقع على نعت لسياسي ما أو لعمل من أعماله بالسفاهة أو بالعبقرية. مرادنا أيضاً (وهذا أعسر منالاً) أن نستوقف المحللين السياسيين كلما راحت تغريهم هذه الفئة من الأوصاف (وهو ما يحصل كثيراً)، لعلّهم يميلون إلى شيء من الروية في استعمالها. فلا يطلقونها جزافاً، تحصيلاً لاعتداد بالنفس لم يبذلوا من الجهد ما يكفي لاستحقاقه. بل يسلّمون بأن عليهم أن يلزموا جانب الخشية من أن يقعوا هم أنفسهم في شرّ ما يطلقون. – See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/5/10/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d8%ba%d8%a8%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%b0%d9%83%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%b0%d9%84%d9%83#sthash.4Z8BRxEX.dpuf
ذكرى دومينيك شوفالييه
“http://www.almodon.com/opinion/95da2b1b-0478-478e-90f2-f8f52820b657”
تتمّ في هذه الأيام دورة خمس سنوات انقضت على رحيل المؤرّخ الفرنسي البارز، صديق لبنان والعرب، وأستاذ كثر من مؤرّخي جيلنا والجيل الذي يليه دومينيك شوفالييه. لم يحصل عندنا، في مدّة الغياب هذه، ما ينمّ بعرفاننا فضل الرجل. وأقلّ ما أراني أفعله في هذه الذكرى أن أستعيد كلمة تأبين كنت قد ألقيتها أمام جثمانه المسجّى في كنيسة سان جرمان لوكسروا المجاورة لمتحف اللوفر في باريس. ما يلي ترجمة عربية لتلك الكلمة… كان منّي أن كتبتُ، قبل أعوامٍ كثيرة، أن دومينيك شوفالييه أدخل لبنان التاريخ. ولم يكن المقصود تاريخَ العالم الذي صدرت من الشرق الأدنى بعض من تمتماته الأولى بل قصدتُ عِلْمَ المؤرّخين الكبير. فحين أزمع دومينيك شوفالييه أن يصبح المؤرّخ الذي كانه، ترتّب عليه أن يصبح رجلاً عظيم الثقافة وأن يصبح كاتباً كبيراً أيضاً فضلاً عن استوائه رجل علم. وهو قد خصّ بلادنا هذه بباكورة موهبته التي كانت قد غدت واثقة بما اكتنزته من طاقات. فلم يكفه أنه واءم بين ما تتيحه أنظمة معارف معروفة بالغيرة كلاًّ على حوزته بل هو قد حملنا على نسيان ما بينها من حدود ترعاها عيون ساهرة. وإنما أرمي إذ أقول هذا إلى إبراز ما يتّصف به من ألمعية صريحة تأليف ينسينا نسيجه برهافته وشدّة أسره معاً وتنسينا تطلّعاته الجامعة إلى بعد المطمح ملازمةً لأكثر منحنيات الموضوع عسراً على المتابعة أين يبدأ علم الإناسة وأين ينتهي الاقتصاد السياسي أو تاريخ المؤسّسات. ننسى أيضاً أن نسأل أنفسنا كيف أمكن أن يندرج تحليل البنى بهذا اليسر في مساق رواية الحوادث. وذاك أن دومينيك شوفالييه يفلح في إتيان الأعجوبة التي هي المساوقة ما بين ضربات الفرشاة الآيلة إلى تشكيل لوحة وصفية وتكثير الملامح المظهرة للمرتكزات المتشابكة واستعراض الوقائع أخيراً. والوقائع ههنا كبيرة وصغيرة ولكن اختيارها موفّق دائماً. فيسعد بها القارئ الراغب في الاطلاع على تاريخ لبنان وعلى انغماس هذه البلاد في مبارزات راحت تتشكّل بفضلها ما بين أقوياء الغرب والشرق وتلبّى أيضاً رغبة هذا القارئ في فهم ذلك كله. يجعل دومينيك شوفالييه من هذه البلاد الصغيرة بوّابةً تتيح له، على ما في الأمر من مفارقة، وتتيح لقرّائه أيضاً فرصة الدخول، ليس إلى ماضي الشرق الأدنى العربي بالدرجة الأولى بل إلى حاضره على الخصوص. وهو يتوصّل أيضاً عبر بلادنا إلى مرتبة المؤرّخ الكبير المتبوّئ مكانة مقصورة عليه في الكوكبة الجميلة التي تمثّلها المدرسة التاريخية الفرنسية في عصرنا هذا. *** على أن لبنان لم يكن، في يوم من الأيام، لدومينيك شوفالييه مجرّد موضوع للدراسة. بل إن هذا الرجل الكثير الأسفار قد جعل من بلادنا مقصداً منتظماً له ومحطّة مفضّلة من محطات جولاته. ولسوف يبقى أصدقاؤه الكثر يستشعرون ونبقى نحن تلامذته المقيمين في بلاد عادت ضحية للمجاذبات المستأنفة، نستشعر إلى أجل غير مسمّى فقدنا لهذا السند الذي كانت تمثّله لنا، في أسوإ المراحل التي عبرتها محنتنا الوطنية، زيارات دومينيك شوفالييه لنا وجلساتنا إليه. كان يحضر ليستمع إلينا ولكن عباراته كانت تقطع أيضاً، على غرار شفرات من نور، في أمر مزالقنا المتكرّرة والمتعارضة. وفي أيام الحرب من صيف العام 2006، كان دومينيك شوفالييه يخابرني إلى بيروت كل يومٍ تقريباً. فهذا الرجل الذي كان ينأى به قناع غير حميم وكان يصعب على أيّ منّا أن يزعم الأُلْفة له، كان يسْتنفره جسداً وروحاً شعوره بالتضامن مع اللبنانيين المعذّبين أو المهدّدين الذين كان يمثّلهم عنده، في بعض الأحيان، وجه يعرفه. فلقد صدرت عنه عبارات هي عبارات الأب المفجوع ولكنها أيضاً عبارات الشاهد الثائر وهو يودّع تلميذين اثنين من بين ألمع تلامذته هما أنطوان عبد النور وسمير قصير وقد سقط كلاهما، بفاصل ربع قرن بينهما، برصاص طاغية المرحلة. ولقد أدركني، أنا أيضاً، صوته القويّ منتصراً لي عندما أمضيت أيّاماً من صيف العام 1982 في قبضة الأتباع اللبنانيين لجيش الاجتياح الإسرائيلي ثم في قبضة هذا الجيش نفسه. تلك بوادر ليس للبنانيين أن يأذنوا لأنفسهم بتناسيها. حظيت أيضاً بامتياز فاجع تمثّل في أنني كنت واحداً من أواخر اللبنانيين – وقد أكون آخرهم – الذين التقوا دومينيك شوفالييه. فقد استقبلني في منزله قبل رحيله بثلاثة أيام. وعلى جاري عادته، كان ، على الرغم من حاله الصحية التي بدت لي مثيرة لأبلغ القلق، قلقاً من جهته على لبنان. كانت بلادنا قد اجتازت، في السابع من هذا الشهر، ما بدا وكأنه الليل الأول من حرب أهلية جديدة. والحال ان دومينيك شوفالييه كان يجيب برتابة كلّما سألته إن كان محتاجاً إلى شيء من بيروت: “إلى السلام!” ستبقى ذكرى دومينيك شوفالييه في نفسي، على الدوام، ذكرى المعلّم الاستثنائي والسند المعنوي الذي لا يهتزّ والصديق. وإذ أشاطر ذويه ألمَهم مشاطرة الصديق، أشعر بأن عليّ التقدّم بأحرّ التعزية أيضاً من الهيئة الجامعية الفرنسية ومن بلادي لبنان. – See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/5/3/%d8%b0%d9%83%d8%b1%d9%89-%d8%af%d9%88%d9%85%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%83-%d8%b4%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%8a%d9%87#sthash.UTAnN2tp.dpuf
دُلّوا فلسطينَ على الصواب
“http://www.almodon.com/opinion/d30c0103-6c66-401b-932d-2ec3a7688acf”
قبل أيام، ذكر المكتب المركزي للإحصاءات في إسرائيل أن عدد سكان الدولة العبرية قد بلغ ثمانية ملايين وعشرة آلاف نسمة. وهو ما يعني أن العدد أصبح عشرة أمثال ما كانه في سنة 1948 تقريباً. ويحتسب الإسرائيليون في ملايينهم هذه عرب القدس الشرقية وعددهم 270 ألفاً ويحتسبون أيضاً نحواً من نصف مليون مستوطن يهودي أصبحوا مقيمين في الأراضي الفلسطينية التي احتلّت سنة 1967. وتبلغ نسبة اليهود من سكان إسرائيل 75,3 % وتبلغ نسبة العرب 20,7 % فيبقى 4% لغير العرب من معتنقي ديانة غير اليهودية. وفي هذه النسبة الأخيرة، يدخل مهاجرون من أوروبا الشرقية جاؤوا إسرائيل بصفتهم يهوداً ولكن لا ينطبق عليهم التعريف الإسرائيلي لليهودي. وكان ياسر عرفات قد أشار، في عشايا رحيله، إلى نوع من التساوي وجده حاصلاً بين عدد اليهود وعدد العرب المقيمين على أرض فلسطين التاريخية. وهو ما تثبت استمراره مقارنة الأرقام الإسرائيلية أعلاه بأرقام نشرتها السلطة الفلسطينية تتعلّق بأعداد الفلسطينيين في نهاية العام 2011. إذ ذاك كان في قطاع غزّة 1,6 مليون فلسطيني وفي الضفة الغربية بما فيها القدس 2,6 مليون وفي إسرائيل 1,37 مليون هم المعروفون باسم عرب 1948. فإذا أضفنا إلى هذه الأعداد 2 إلى 3 % تمثّل الزيادة السكانية في سنة وبعض سنة، وصلنا اليوم إلى عدد للعرب المقيمين على أرض فلسطين غير بعيد عن عدد اليهود الذي هو 6,42 ملايين بحسب الإحصاء الإسرائيلي المذكور أعلاه. ثمّة شبه توازن إجمالي إذن على الصعيد السكّاني. ولا ضير من الإشارة هنا إلى كون هذا التوازن قد أصبح موعوداً بقدرٍ مرموق من الاستقرار. فإن الهجرة اليهودية إلى إسرائيل قد شحّ مخزونها كثيراً في العقد الماضي. فأصبحت لا تتعدّى بضعة آلاف كلّ سنة وتطرح الهجرة من إسرائيل، بدورها، عدداً معتبراً من هذه الآلاف نفسها. هذا فيما خرج الفلسطينيون من عهد الازدياد الانفجاري الناجم عن كثرة المواليد نازعين نحو الاقتراب من حال اليهود، على هذا الصعيد. ثم إن الفلسطينيين يهاجرون هم أيضاً حين يستطيعون إلى الهجرة سبيلاً. وهذا السبيل ضاق عليهم ضيقه على غيرهم، في العقود الأخيرة. ولولا ذلك لكانت هجرتهم أوقع مما هي عليه بالنظر إلى ظروف عيشهم البالغة العُسْر تحت نير الاحتلال والتمييز. هذا النصف الفلسطيني من سكّان فلسطين يقيم ثلاثة أرباعه، تقريباً، على نحو الخُمْس من أرض فلسطين التاريخية. وهو خمس ينازعهم فيه استيطان لا يوجد ما يدلّ على أنه مزمعٌ التوقّف عند حدّ. وهو أيضاً خمس يفسد عليهم الاحتلال حياتهم على ما بقي في أيديهم منه ويعطّل من مقوّماتها الكثير ويرهنها إلى حدّ خطرٍ بتواصل العون الخارجي. وما دام الاستيطان جارياً فلا أمل في جلاء الاحتلال الذي يحمي القائم من الاستيطان ويكفل توسّعه. من سنة 2000، تاريخ الانتفاضة الثانية، يقال للفلسطينيين إن جنوح هذه الانتفاضة نحو العنف كان خطاً فادحاً. وهذا صحيح إذا قيست الأمور بعواقبها. ولكن لا يقال للفلسطينيين ما الذي كان عليهم أن يفعلوه، بعد ما فعلوه في أعقاب مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، إن كانوا يبغون وقف الاستيطان وإجلاء الاحتلال. فهذان أمران لم يكونا قد حصلا، في سنة 2000، بنتيجة مدريد وأوسلو وهما لم يحصلا إلى اليوم. ثم إن الحكم على انتفاضة سنة 2000 يجري جرّه عادة على كل ما فعله الفلسطينيون بين هزيمة 1967 وانتفاضة الحجارة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي. فيقال إن العنف الفلسطيني كان خطأ من أوّله وإن التفاوض، لا العنف، هو ما أنشأ السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزّة. ولكن العنف الفلسطيني، بعد 1967، وهو قد جرّ كوارث على الفلسطينيين وعلى غيرهم، هو أيضاً ما أعاد تكوين الشخصية الفلسطينية وفرض الفلسطينيين طرفاً في التفاوض. ولم يكن الفلسطينيون قد أنجزوا شيئاً أو حصلوا على شيء في 20 سنة تقضّت بين نكبتهم ولجوئهم إلى العنف. ثم إن التفاوض وصل، بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، إلى جدار قد يكون جدار الفصل في الضفة الغربية تمثالاً مناسباً له. ولا يقدّم إلى الفلسطينيين اليوم أيّ دليل على أن التفاوض سيخرق هذا الجدار. ولا يكفي القول إن التفاوض لم يوصل الفلسطينيين إلى حقّهم الاستراتيجي في إنشاء دولة وطنية لهم. بل يجب القول – وهذا هو الأمر الحاسم – إن حصائل التفاوض لم تخرج الوطن الفلسطيني من سيرورته نحو التصفية. ليس الفلسطينيون في حال تحالف مع الوقت حين ينظر إلى الوقت على أنه وقت انتظار ليس إلا: وقت انتظار يمضيه الفلسطينون في موقع ثابت ليستأنفوا حركتهم نحو هدفهم في ظرف أفضل. ليس موقع الفلسطينيين ثابتاً بل هم في تراجع. هم في تراجع متواصل لأن وطنهم في قيد التصفية. ولم يبق اليوم من أحدٍ يصدّق نفسه فعلاً إذا هو نصح الفلسطينيين بالتعويل على مستقبل ما لما دعي “عملية السلام”. فلا القيادة الغربية لهذه العملية أوصلتها أو هي في صدد الوصول بها إلى خواتيم مقبولة. ولا التعلّق بأذيال الجبهة “الممانعة”، المتخذة من قضية الفلسطينيين غطاءً للاستبداد وقناعاً لمطامع إقليمية ذات صفة إمبريالية وطائفية معاً، أمكن أن يجني منه الفلسطينيون خيراً لهم. بل إن المواجهة بين هذين الخيارين أفضت إلى شقّ الفلسطينيين ونقل النزاع إلى صفوفهم. وهذا أسوأ ما يمكن أن تجنيه جماعة وطنية مأسورة في الوضع الذي هو وضعهم. هذا وآخر ما تطمح إليه السياسة الإسرائيلية – وهي سياسة لا تلقى في إسرائيل مقاومة يعتدّ بها – يرجّح أن يكون حمل الفلسطينيين، في المدى الطويل، على الخروج من فلسطين. ذاك معنى القول المنتشر في إسرائيل بصدد النزاع الإسرائيلي الفلسطيني: القول إنه لا توجد ضرورة تملي حلّ هذا النزاع. هذا قول قديم أصلاً تستعيده السياسة الإسرائيلية اليوم. وليس معناه أنه لا يوجد حلّ جارٍ لهذا النزاع. بل معناه الوحيد أن الاتفاق على الحلّ مستثنى من بين إجراءات هذا الأخير. الحلّ يرسمه ويمليه طرف واحد هو الطرف الإسرائيلي. والمطلوب من الطرف الآخر لا يتعدّى التنفيذ أو بالأحرى تحمّل التنفيذ. التنفيذ أي الخروج، في نهاية المطاف، من فلسطين. ذاك ما سيتبدى أيضاً حين يجد الطرف الإسرائيلي ضرورة لإيضاح ما يقصده بـ”الحلّ الأردني” للمسألة الفلسطينية. المعنى الإسرائيلي لـ “الحل الأردني” أن إسرائيل ليست ملزمة بترك شيء يُذْكر مما في يدها طلباً للحل. أي أنها لن تترك شيئاً ذا أهمية من الوطن الفلسطيني الذي تتواصل فيه حركة الاستيطان وأنه سيكون على الفلسطينيين أن يتوجّهوا إلى الأردن. قد يترك لهم شيء من الضفة الغربية لا يخلو من شبه بقطاع غزّة الذي وجدته إسرائيل غير صالح للاستيطان فأخْلته. سيكون هذا نوعاً من التسهيل لرسم الوقائع الأخيرة وإرسائها. ولن يحصل تهجير بالقوة في أيام أو أشهر. التهجير (المسمّى في التاريخ الصهيوني باسمه الأوروبي: “ترانسفير”) فعلٌ تاريخي بكل معنى الكلمة. وهو سيحصل بضرب شروط البقاء في مدى عقود. في مدى هذا القرن الذي لا نزال في أوائله، مثلاً. هذا جارٍ تنفيذه من عقود أيضاً وهو يكاد يغني عن عدّ العقود ويبطل الحاجة إلى حلّ آخر للمسألة الفلسطينية مشروط بالاتفاق. أيكون معنى “الحلّ الأردني” أيضاً حرباً أهلية مفتوحة في الأردن؟ فلتكن متى أزف يومها. يبقى أن الفلسطينيين ما زالوا قرابة ستة ملايين في فلسطين التاريخية. ويقيم نحو من خمسة ملايين فلسطيني آخر في البلاد العربية ومعظمهم في بلاد الطوق المحيطة بفلسطين بما فيها الأردن. وهم سيفعلون شيئاً لوقف ما يجري لهم سواء أكان هذا الذي يجري خطة مرسومة أم سياسة ارتجالية، ماضيةً في سبيلها عفوَ الخاطر العنصري. سيفعل الفلسطينيون شيئاً ولن ينجو جوار فلسطين مما سيفعلونه. وسيضطرّ القائلون إن القضية الفلسطينية قد “انتهت” إلى اكتشاف هذه القضية مجدداً. والأرجح أنهم سيقولون إن الفلسطينيين على خطإ في ما يفعلونه والأرجح أيضاً أنهم سيكونون مصيبين في قولهم هذا. ولكن الفلسطينيين لن يرعووا وسيمضون في الخطإ المزعوم إلى حيث يستطيعون. وذلك أن أسهل الأشياء وأصوبها أن يقال للفلسطينيين إنهم مخطئون. ولكن منتهى اللؤم أن لا يقول أحد للفلسطينيين ما هو الصواب؟ ليُقلْ لهم، في الأقلّ، إن الصواب قد مات! – See more at: http://www.almodon.com/opinion/2013/4/25/%d8%af%d9%84%d9%88%d8%a7-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%88%d8%a7%d8%a8#sthash.ZbkEglXj.dpuf