المدن – أحمد بيضون… لَما احتَرَقَت بلديّةُ طرابلُس

ما تَشْهَدُهُ من احتِجاجٍ موسومٍ بالعُنْفِ لا يُفْهَمُ بالعَداءِ لأهلِ السلطةِ وحدَهُم. المدن
— Read on www.almodon.com/culture/2021/1/30/أحمد-بيضون-لما-احترقت-بلدية-طرابلس

المدن – ذكرى 17 تشرين: إقبالٌ أَمْ إدبار؟

هو احتِفالٌ بذكرى حركةٍ مضت وانقَضتْ وليس وقفةَ اعتِزازٍ ومحاسبةٍ للسلطةِ وللذاتِ في خضَمِّ حركةٍ جاريةٍ. المدن
— Read on www.almodon.com/politics/2020/10/17/ذكرى-17-تشرين-إقبال-أم-إدبار

منشورة مستعادة من تشرين الأوّل 2015

أحمد بيضون…أتجنب التحوّل إلى “شخصية وطنية”

المدن – ثقافة|الأربعاء17/06/2020

أحمد بيضون...أتجنب التحوّل إلى "شخصية وطنية"
أحاول من سنين كثيرة أن أتجنب التحوّل إلى “شخصية وطنية” أو إلى “مثقف ملتزم”. ولهذا:
1- لم أوقّع في حياتي عرائض استنكار او تأييد إلا ما يقرب من عَشْرٍ مثّلت حالاتٍ قصوى. مع أن المعروض كان عشرات أو مئات.
2- لا أراعي ما يسمّى التوقيت أو التكتيك فيما أكتب ولا آبه إن كان ما أقوله يفيد شيئاً ما أو يضرّ شيئاً ما. يهمني أن يكون صادقاً ومستوجب الإعلان. أخوض نضالاً مرّاً في وجه الرقابة الذاتية والتحوير والانتقاص والكذب. وحين يغلبني الخوف، مثلاً، أترك الموضوع كلّه: لا أكتب. هذا معيار نصوصي وخلقي في مهنة الكتابة.
3- لا أفترض أن عليّ، بالضرورة، إعلان تضامني مع ضحايا من أي نوع. أعتبر أن هذا تحصيل حاصل: شيء لا يستحق أن يقال… أو صناعة “شخصيات وطنية” و”مثقّفين ملتزمين”. أعتبر، في ضوء حياتي كلها، أن موقفي من هذا النوع من الأمور لا يمكن التشكيك فيه، من جهة، ولا أهمية لإعلانه من جهة أخرى. ما أراه مستوجب الإعلان هو الفكرة أو الملاحظة: سواء أكانت تفيد معرفة أو تمثّل اقتراحاً أو تسهم في زجر تعدّ أو ردع خطر. وحين أجد شيئاً جميلاً وذكياً وحساساً يقال (أو بعض ذلك إن لم يكن كله) أقوله شعراً أو نثراً، بالفصحى أو بالعامية… أو بلغة أجنبية حيث يلزم.
4- أدرك كثرة الالتباس في كل كلام ولا يهمّني أن يُحمل كلامي على محمل أعتبره سيئاً حيث يكون المحمل الحسن هو المتصدّر والأَولى بالاعتبار. أرى مريعاً أن يطلب إليّ، مثلاً، أن أقول “أنتم وأنتنّ” مرّتين في بطن كل جملة وأن أَبِيض، بالنتيجة، جُملاً قبيحة، ثقيلة، تميت النفس. أفضّل على هذا أن أقلع عن الكتابة أو أن أنتحر. لا أهاب، في هذا أو ما يشبهه، مأخذاً من النساء لأنني أعرف موقفي منهن وأعرف أنه مشغول بقناعة سنين من نقد النفس ومن المتابعة والتفهّم والتعلق. أعرف، فوق ذلك، أنني مقيم مع “المساواة الجندرية” شخصياً، تحت سقف واحد من 46 سنة.
5- أكره السلطات بالغريزة بما فيها تلك التي أراها واجبة الوجود لحفظ الحياة والحقوق. لهذا الكره – لا ريب – أسباب ضاربة في القدم عزّزتها أعوام من ممارسة سياسة بعينها ومعاشرة بشرٍ بأعيانهم. على أنني أغالب هذا الكره حين أعالج مشكلاً يشتمل على آخرين. من زمن بعيد لا أستسهل التفريط بشيء لا يخصني، مع علمي بان جهة أخرى قد تُقْدم. أؤثر البحث عن المخرج المتزن.
6- أخوض نضالاً كان مرّاً وأصبح معتاداً في وجه الكلمات الكبيرة والشعوذة في أنواع الخطاب. لا لأنني لا أحبّ المجاز… أدرك أن المجاز رئة العالم والوجود الإنسانيين. ولكن أدرك أيضاً أن في صيغ الخطاب ما يراد به أو هو ينتهي إلى الغشّ وصرف النظر ومصادرة الحرية. ولا أشعر إلا بالازدراء لاعتماد الدارج أو الأحدث ظهوراً والأغلب نفوذاً من بين الأفكار والأساليب والقيم في كلّ باب. أستجمع شجاعتي في وجه النافذ من هذا كله لأرى إن كان يحسن الدفاع عن نفسه.
7- لي غرام تذوّقي وتعرّفيّ بالفصحى، دراسة وكتابة، لا آذن لأحد أن يعدّه مطعناً. وسندي في ذلك أن اطمئناني إلى موقفي من العاميّات يشبه ثقتي بموقفي من النساء. فقد كتبت بالعامية شعراً ونثراً ونشرتُ ما كتبت. وطالبت بإدراج العاميات، في المعاجم الجديدة الكبرى، مستوى من مستويات العربية، هي والفصحى سواء بسواء. ولكن السير في هذا النهج ليس في يد بيضون: الفرد العاري اليدين. إلى هذا لم يكن الانتصار عليّ في ندوة زجلية أمراً سهلاً. ولكنني أقلعت من زمن…
عندي، لو شئت التفكر، مزيد على ما سبق. ولكن أراه كافياً الآن…
لست جديداً ولا صدئاً: تجوّلت لأيام بين أربعة معتقلات سعد-حدّادية وإسرائيلية ولم أذكر هذا كتابةً إلا الآن. ومشيت في تظاهرات لا تعدّ أطلق على بعضها الرصاص الحي وسقط بالقرب مني قتلى وجرحى. وعرّضت نفسي لأخطار أخرى مختلفة… ثم حضرتُ الحرب كلّها (وهذه هي الأهمّ) ولم أغادر حين غادر من هم أضأل مني فرصاً في أوروبا أو أميركا ولم ألتحق بقوة من قوى الدمار ولم أطلب مكسباً بغير مهنتي. ولم أخرج من الحرب محبطاً ولا جباناً. ولكنني تعلّمت: تعلّمت حدودي أوّلاً: أنني أُحسِن أشياء ولا أُحسن غيرها وأن الكتابة مهنة تامّة تستهلك العمر والشخص وليست سلوى لآخر الاسبوع ولا هي صناعة محصورة يبقى معها كلّ شيء آخر على حاله: كلّ العلاقات وكلّ الأفعال والتصرّفات… تعلّمت أيضاً ما في كل اقتراح أو توجيه من مسؤولية عن بشر وحجر: عمّا لم أرثه عن والدي ولا تملّكته بمالي. وتعلّمت الحساب وتقدير الأصوب والأحسن وأن ما لا يجوز لوم الكاتب على قوله يجوز لوم الفاعل على فعله. ولهول ما عايشت أصبحت لا أجتنب الحدّة أحياناً في الزجر أو في النقد.
فللذين أصبحوا اليوم عاجزين عن إتمام جملة من غير أن يعلنوا إسقاط شيء ما أو شخص ما… وهذا دون أن ينتبهوا إلى أن هذه اللغة تسقطهم قبل أن تسقط شيئاً أو أحداً آخر… لهؤلاء أقول أنهم قد يُسقطون، إذا أصبح ذلك في أيديهم وأيدي من يشاطرهم هذا المزيج من الهياج والغفلة، حراكاً رائعاً بوشر إسقاطه فعلاً .بوشر إسقاطُه في عيون اللبنانيين أوّلاً. في عيون لبنانيين أقلّ ما يقال في حالهم أنهم باتوا معرّضين للطمر في نفايات نظامهم وقوى طوائفهم.
هذا ولا بدّ أن الحملة عليّ، بعد أن استوت، بلا قصد، ساتراً رقيقاً، في هذين اليومين، لبعض ما يعانيه الحراك وقياداته وأهله من معضلات، قد أوهمَت قلّة من الفسابكة المتعجّلين (مع العلم أن التعجّل من صميم الفسبكة!) بما أرادت إيهامهم به. أوهمَتهم بأن تعرضي بالنقد الصارم لأشاوسها ولأشباههم وللنموذج الذي يسعون إلى إملائه على الحراك إنما هو تعرّض للحراك، في جملته، بالقذف والتشهير .
وقد يكون الأشاوس أسقطوا مثقفاً ما وهم يسقطون ما يسقطونه بلا التقاط للأنفاس. ولكن هذا المثقف، مع شديد الاعتذار، لم يكن احمد بيضون.
… وكانت حماستي للحراك هي ما أعادني (مؤقتاً) إلى الفيسبوك. وبات علي الآن أن أهجره (مؤقتاً أيضاً) مرّة أخرى إلى أعمال أخرى.
شكراً لما بلَغَ صميمي من كلام طيّب كثير، لم يكن معظمه دفاعاً عني بل شبكاً للأيدي في الدفاع عن قيم وأفق وجدناها لهذا الحراك. وقبل القيم والأفق: عن بشرٍ اشتدّت معاناتهم للغاية وقد اشتركوا في الحراك أو وضعوا فيه أملاً ما.

إلى اللقاء!

(*) مدونة قديمة كتبها الباحث أحمد بيضون، وأعاد نشرها في فايسبوك.


شارك المقال :

91 مشاهدة

التعليقات

الرفيق سالم…

أحمد بيضون… الرفيق سالم

المدن – ثقافة|السبت06/06/2020

أحمد بيضون... الرفيق سالممحسن ابراهيم
لَمْ أفْطَن إلّا بَعْدَ زَمَنٍ من انقطاعِ صُحْبَتي لمحسن إبراهيم إلى معنى أن يُطْلِقَ على نفْسِهِ في “منظَّمةِ الاشتراكيّين اللبنانيّين” ثمَّ في “منظَّمةِ العَمَلِ الشُيوعيِّ” اسماً تنظيميّاً بِعَيْنِهِ هو “الرفيق سالِم”. كانَ القوميُّ العرَبيُّ، المقَرَّبُ في شَطْرٍ من مسيرتِهِ السياسيّةِ إلى عبدِ الناصِرِ، قد اعْتَمَدَ لنَفْسِهِ الاسمَ التنظيميَّ لفرج الله الحلو، القائدِ الشيوعيِّ اللبنانيِّ الذي قَتَلَتْهُ الاسْتِخباراتُ الناصريّةُ في دمَشقَ تَحْتَ التَعْذيب! وكان هذا الاسمُ أيضاً هو الذي اشتُهِرَت به وثيقةٌ معروفةٌ في تاريخ الحزب الشيوعيّ السوريِّ اللبنانيّ هي “رسالةُ الرفيق سالم” المُخْزِيةُ التي أجبرَتْ قيادةُ الحزبِ البكداشيّةُ فرج الله الحلو على توقيعِها إثباتاً لتَراجُعِهِ عن معارَضةٍ عابرةٍ للموقف السوفياتيِّ من “قرار تقسيمِ فلسطين” المُتّـخَذِ سنة ١٩٤٧. كانَ مُحْسِن باختيارِهِ هذا الاسمَ يُشيرُ إذنْ إلى اعْتِمادِهِ، بَعْدَ هزيمةٰ١٩٦٧، ماركسيّةً مستَقِلّةً عن الخطِّ السوفياتيِّ، مُخالِفةً أيضاً للتقْليدِ الستالينيِّ الذي كانَ لا يَزالُ مُحَكَّماً في العَلاقةِ بين الحزبِ السوفياتيِّ وأحْزابِ “الأطرافِ” وكانت آثارُهُ لا تزالٌ فاعلةً أيضاً في العلاقاتِ التنظيميّةِ السائدةِ في الأحزابِ الشيوعيْةِ العربيّة.

هكذا كانَ “الرفيق سالم” الجديد يُعْلِنُ، باختيارِهِ هذا الاسمَ، خروجَهُ من ولاءٍ قديمٍ (ناصريٍّ) ومغايرةَ ولائهِ الجَديدِ (الشُيوعيِّ) للتَقْليدِ السائدِ في مضْمارِه.

هل بقيَ مُحْسن أميناً لهذين المغايرةِٰ والخُروجِ في سلوكٰهِ السياسيِّ والتنظيميِّ اللاحق؟ هذه مسألةٌ حديثُها يَطول…

(*) مدونة نشرها المؤرخ أحمد بيضون في صفحته الفايسبوكية

(2)زمن الوباء

زمن الوباء (2): الاعتباط مَتْنٌ للطريقةِ الإنسانيّةِ في الحياة

أحمد بيضون|الثلاثاء12/05/2020

  • زمن الوباء (2): الاعتباط مَتْنٌ للطريقةِ الإنسانيّةِ في الحياةأكثرَ البَشرِ يقرنون الأمَلَ بالحسابِ، ليستقيمَ لهُم اعتبارُ زمنِ الوباءِ (Getty)

في الجزء الأول من هذا النص: ..ما بقيَ غالباً هو التطلّعُ المميِّزُ لبشَرِ أيّامِنا، على التعميمِ، إلى إملاءِ وجهةٍ على الزمنِ، مادّةً وبنيةً، تكونُ – مهما تَكُنْ صِفَتُها – مغايرةً لوجْهَتِه التلقائيّةِ حينَ يبقى حبْلُهُ على غارِبِهِ اضطِراراً، وهذه وجهةُ التبدُّدِ الإجْماليِّ المفضي إلى الموت. على أنّ شرطَ هذا النوعِ من السيطرةِ، في الظَرْفِ الذي نُعاينُ ونُعاني، إنَّما هو بقاءُ الصلاتِ التي تُدْعى قَنَوات التواصُلِ إلى تفعيلِها قائمةً أصْلاً لم يذهب بها ظَرْفُ الوباءِ، بما فيها، على الأخصّ، الصلةُ المِهْنيّةُ، وأن تكونَ هذه القنواتُ مُتاحةً لطرفَي العَلاقةِ أو لأطرافِها في آنٍ أيّةً تكن طبيعةُ العلاقة. وهذان، على ما هو مَعْلومٌ، شرطانِ مَيسورا التحقّقِ، في عالَمِ اليومِ، لمُعْظَمِ البَشَرَ…(وهنا تتمة النص):

بابٌ للتفاوت
… لمُعْظَمِ البَشَرِ لا لجميعِهم. فهذا بابٌ مفتوحٌ للتَفاوتِ على مصراعَيه. ومن التفاوتِ ما جاءَ بِهِ الوباءُ نَفْسُه أو كَشَفَه. فمِنَ الناسِ مَنْ هم غيرُ معَدّين ولا مجهَّزين، لعلّةِ الفقرِ على الخصوصِ، للإفادةِ من مزايا التواصلِ الذي تتيحه التقانةُ المعاصرةُ في مواجهتِهمْ للعَزْل. وهو ما يَنْحو، في حالتِهِم، إلى جعلِ الأوصافِ التي نجنَحُ جُمْلةً إلى إطلاقِها على زمن الوباءِ والحجْرِ، بلا اعتِبارٍ للفوارقِ الحاسمةِ بينَ الأوضاع، وقائعَ قائمة. ومن الناسِ أيضاً مَنْ هُمْ، في هذا المضمارِ، بَيْنَ بَيْن. ثمّ إنّ الوباءَ ومفاعيلَ الحَجْرِ العامّةِ ضربَت بشراً كثيرين جدّاً بفقدانِ أعزّاءَ عليهم أو في صحّتِهم هم أنفُسُهُم أو هي أفقدَتْهُم أعمالَهُم أو مَصادرَ معيشتِهم. فلا يمكِنُ افْتِراضُ التماثُلِ في بنيةِ الزمنِ المعيشِ بينَ هؤلاءِ وبَيْنَ الكثرةِ الكاثرةِ مِمّن بقوا بمعزِلٍ عن الوباءِ بما هو محنةٌ ذاتُ جرائرَ غيرِ قابلةٍ للإصلاح. ما تُمْليهِ البطالةُ، مثلاً، في بلادٍ لا يبَشِّرُ حاضرها بانفراجٍ في مجالِ الأعمالِ والاستخدامِ يلي انكماشَ الوباءِ (وهذه حالُ لبنانَ مَثَلاً) يُرَجَّحُ أنْ يُتَرْجِمهُ الشخصُ المُصابُ شعوراً بفقدانِ الحيلةِ ومَضضاً شديداً ولَجْماً لسَريانِ الزَمنِ في المجرى الذي يُحيلُهُ مُستَقْبَلاً واعِداً بنُمُوٍّ ما. هذا جلّابٌ للعنفِ طبعاً: للآعمى منه قَبْلَ المُبْصِر.

حالةٌ أخرى مُظْهِرةٌ للتفاوتِ هي حالةُ الذين لا يَقْوونَ على لزومِ الحَجْر أصلاً، وهذه حالةٌ لا يُنْتَبَهُ كثيراً إلى سعةِ نطاقِها. تُوجّهُ التحايا إلى العاملينَ في المهنِ الطبّيّةِ ممّن يتولّونَ العنايةَ بالمصابين. وهي تَحايا مستَحَقّةٌ، لا ريبَ، لما في تعرّضِ هؤلاءِ لخطرِ العدوى، وهم يؤدّون مهمّتَّهم الإنقاذيّةَ، من إيثارٍ وشجاعة. ولكن لا يُنْتَبَه، مثلاً لا حصْراً، إلى عمّالِ النظافةِ العامّةِ وعُمّالِ التموينِ والموكَلِ إليهم توزيعُ المياهِ والكهرباءِ والإنترنت، إلخ. لا يُنْتَبَهُ كثيراً أيضاً إلى من يحمِلُهم الاضطرارُ وضيقُ الأحوالِ كلِّها على خرقِ نظامِ الحجْرِ معَرّضينَ أنفُسَهُم للقَمْع ومثالُهُم الباعةُ المتجوّلون. لا مٌساواةَ أمامَ الوباءِ، في هذه الحالات ونظائرِها، ولا حَجْرَ أصلاً يُنْظَرُ في شعورِ مُزاوليه بالزمن. وإنّما الزمنُ ههنا زَمَنُ تَعَرُّضٍ للعَدْوى لا يردَعُهُ سوى إجراءاتِ وقايةٍ يعلَمُ متَّبِعوها أنّها دُونَ الحَجْرِ فاعِليّةً فيكونُ نصيبُهُم من القلَقِ أرجَحَ واستعجالُهُم انقِضاءَ زمنِ الوباءِ أشَدَّ، إذ يستوي هذا الاستعجالُ شاغلاً أو رجاءً وحيداً تتمخّضُ عَنْهُ معاناتُهم الزمَنَ، وهذا بِخِلافِ ما هي عليه حالُ المقيمين في الحَجْرِ، على الإجمال، من تشعُّبٍ في الهُموم التي يوزِّعونَ بينَها زمَنَهُم اليوميَّ ويرسمونَ بها آفاقَه.

إذا استَثْنينا الإصابةَ في الأنفُسِ (وهي، لحُسْنِ الحظّ، نصيبُ قلّةٍ من الناس) والإصابةَ الحاسمةَ في مقوّماتِ العيشِ (وهي نصيبُ قلّةٍ أعْرضَ نطاقاً) كان لنا أن ننسبَ إلى الخطإ أو إلى المبالغةِ زَعْمُ كثيرين أنّ هذا الوباء أمْلى على البَشرِ تغييراً قاطعاً في شعورِهم بحياتِهم هُم أو بالحياة البشريّة عموماً: تغييراً يبدّدُ الزمنَ إذ يطيح بنْيَتَه بما هو مجرىً لمشاريعِ البَشر: لحيواتِهم بما هي مشاريعُ، فرديّةً كانت المشاريعُ أمْ جَماعيّة. فإنّما التشخيصُ الأقربُ لهذا الشعورِ، في ما أرى، إذا نحْنُ اجتَنَبْنا الإطنابَ المنفَعِلَ باستثنائيّةِ الظرف، أنّ أكثرَ البَشرِ يقرنون الأمَلَ بالحسابِ، ليستقيمَ لهُم اعتبارُ زمنِ الوباءِ، بما هو زمنُ حَجْرٍ، على الخصوصِ، نوعاً من الاستثناءِ العارضِ، في مجرى حياتِهِم، يمْكِنُ أن يُعَدَّ خسارةً ويمْكِنُ أن يكونَ مَثاراً للضيقِ، ولكنّ “عودةَ الأمورِ إلى نصابِها” لن يطولَ انتظارُها.

هذا يَحْمِلُ، في ما وراءَ التشخيصِ المباشِرِ لنَمَطِ الشعورِ الغالبِ بزمنِ الوباءِ، على لزومِ الحذرِ والاعتِدالِ في تقديرِ قوّةِ الدفعِ إلى التغييرِ السياسيِّ الاجتماعيِّ التي يُحْتَمَل أن تنشأَ من محنةِ الوباء. ثمّةَ، ولا شكَّ، مصدَرٌ لهذا الدفعِ يتعدّى اختبارَ الشعورِ الراهنِ، وهو أطوارُ الأزْمةِ الموضوعيّةِ، الاقتصاديّةِ الاجتماعيّةِ، الناشئةِ من الوباء، أي ما هو باقٍ أو لاحقٌ من مفاعيلِه. فهذه أطوارٌ مجالُها مجتمَعاتُ الدُوَلِ ومستقْبَلُ العلاقاتِ بينَها، وهي لنْ تنقضي بانقضاءِ الوباءِ ولكنّ حديثَها يتعدّى نطاقَ هذه المقالة. وأمّا المحنةُ، بما هي محنةٌ أيْ خبرةٌ، فلن يكونَ لها، في تخميني، وقعٌ حاسمٌ أو بعيدُ المدى على سياسةِ المجتمعاتِ وتصوّرها لمستقبلها.

مَحَبّةُ الاعتباطِ والمَيلُ إلى الإطناب
وما دامت الحدودُ المرجَّحةُ لمفاعيلِ المحنةِ الذاتيّةِ هي هذه وما دامَ الحجْرُ محدوداً بالترسانةِ التي نوّهنا بها من وسائلِ العَمَلِ والخدمةِ والتواصُل (وهي كلّها وسائلُ تنتمي إلى مستقبلِ البشرِ أو ينتمي هذا المستقبَلُ إليها)، فما الذي يحمِلُ على الإطنابِ غيرِ الواقعيِّ في تقديرِ تلك المفاعيلِ وعلى بخْسِ هذه الترسانةِ حقَّها، أو بعضَهُ، في الأقلّ؟ ما الذي يحمِلُ على هذا التقريب اللجوج ما بين الإلزام بالحَجْرِ وعقوبةِ السجنِ المعروفة، فيما الاختلاف بينهما حاسمٌ كثيرُ الوجوه؟ أفترضُ أنّ الشعورِ بالحصارِ المتأتّي من انتشارِ عدوٍّ غيرِ مرئيٍّ يحتلُّ العالَمَ المحيطَ ولا تُحْصى أعدادُه، يتكاثرُ ضحاياهُ ولا يَخْلصُ من كَمائنه موضعٌ، له شأنٌ في هذا الأمر. ولكنّ معنى الشعورِ بالحصارِ هذا أنّ التعلّقَ بحرّيةِ التجوالِ والتجمّعِ أصيلٌ بقَطْعِ النظرِ عن وجودِ نفعٍ مادّيٍّ أو عمليٍّ للتجوالِ والتجمّعِ أو عدَمِه. ما يُسمّى التنزّهَ أو التسكّعَ في حيٍّ من مدينةٍ أو في ظاهرِ قريةٍ يتكشّف عن حاجةٍ يُعانِدها الحجْرُ وتُعانِده. وعندَ التأمّلِ، يتبيّنُ أنّ ما هو ألْزَمُ لإنسانيّتنا ليسَ العملَ ولا هو مواصلةُ الغيرِ بعُمومِ مَعْناها ناهيكَ بسدّ حاجاتنا المُفْردةِ من أمَسِّها بالرمقِ إلى أسماها، بحيث يكفي أن تبقى هذه الأشياء موفورةً لنا ليتحصّلَ بها رضانا بحالِ دنيانا. بل الألزمُ من هذا لأرواحِنا هو الاعتباط: أن نفعلَ ما لا تُلْزِمنا بفعلِه حاجةٌ معلومةٌ وأن نذهبَ إلى حيثُ لا طلبَ معيّناً لحُضُورنا: أن نَرْتجِلَ ما هو اعتباطيٌّ إذن ولا بأسَ أن يكونَ ما نفعلُه تلبيةً لدعوةٍ شائعةٍ في مُحيطِنا أو بعضِه ولا بأسَ أن يتحوّلَ ما ارتَجَلْناه إلى عادة. الاعتباطيُّ هو قُصارى ما هو إنسانيٌّ فينا والحؤولُ دونَهُ أو الردعُ عنه هو الأذى الأشملُ نطاقاً والأبعدُ غوراً يوقِعُه بنا شُعورناِ بالحصارِ والحَجْر.

وأمّا أن تتولّى وسائطُ منتميةٌ إلى المستقبلِ تلبيةَ ما هو مصنّفٌ على أنّه حاجةٌ أوّليّةٌ أو ضرورةٌ مقرّرةٌ، مخليةً هذه التلبيةَ من حواشيها الاعتباطيّةِ ثمّ لا يبدو ذلك محقّقاً لرضا المستفيدين فمعناه أنّ وعودَ المستقبلِ هذه قد لا تحمل إلينا سروراً وأنّ الحواشي التي نستغني عنها في الحصارِ إنَّما هي مَتْنٌ للطريقةِ الإنسانيّةِ في الحياة. فلعلَّ أشدَّ ما في هذه المحنةِ على عمومِ البشرِ تعميمُها صورةً مسبقةً جزئيّاً لعالَمٍ إنسانيٍّ مقتصَرٍ على ما تقرّرت ضرورتُه للعُموم، بعدما أخلِي من إمكان الارتجال والاعتباط.

أتكونُ هذه كلّها أقاويلَ تلْهِمُها ثقافةٌ برجوازيّةٌ صغيرة؟ نعم، بِفَخْر!

مِنْ قَبيلِ الاختتام: حالةٌ لبنانيّة
أقيمُ وزوجتي في شقّةٍ في رأسِ بيروت ولنا ابنتان مهاجرتان في الولايات المتّحدة. اتّبعْنا التعليماتِ المتّصلةَ بالوقايةِ والحجْرِ بقدْرٍ مرموقٍ من الانضباط. وفي حوزتنا ما سبقَ بيانُه من وسائطَ للتواصلِ القريبِ والبعيدِ ولاستحضارِ ما يلزمُنا لمـَعاشِنا اليوميّ. كلانا متقاعدٌ من مهنةِ التعليمِ وما لا نزالُ نمارسُه من عملٍ باتَ الحاسوبُ والإنترنتّ يمثّلان بنيته التحتيّة: لذا لم يشهد عملُنا اضطراباً أو تقطّعاً يُذْكَر في ما مرَّ من زمن الوباء. أقولُ إنّني افتقدت نزهتي اليوميّةَ في الحيّ وجلوسي في المقهى الذي لا أجالسُ فيه أحداً إلّا في النادر بل أواصلُ قراءةً أو كتابةً بدأتُها في البيت. أفتقد أيضاً سهراتٍ مُتَباعِدةً أستَمْتِعُ فيها بمُنادمةِ أصحابٍ لي. وقد عوّضنا المنادمةَ بالمهاتفةِ التي نتقاعسُ عنها عادةً، وهذا الإحجام المعتادُ يرَسِّخُه، في حالتي خصوصاً، مَقْتٌ عظيمٌ للهاتف.

حين أفكّرُ في ما أملتْهُ عليّ المحنةُ الحاضرةُ من تغييرٍ في مجرى حياتي اليوميّةِ ألتفِتُ (فَضْلاً عن استغراقي مع سائرِ آهِلي الكرةِ في ملاحقةِ المعطياتِ المتعلّقةِ بالوباءِ وأخبارِه المتضاربة) إلى هذه الأمورِ القليلةِ التي ردعَني عنها الحجْرُ أو فرَضَها عليّ. فلا أجدُها، للوهلةِ الأولى، مستأهلةً أن تُعَدَّ، هي أو الحَجْرُ نفسه، انقطاعاً أو انقلاباً في مجرى حياتي الأليف. ولكنّ هذا التقويمَ ما هو إِلَّا تقويمُ الوهلةِ الأولى فلا يصمُدُ لإمعانِ النظر. فالمقهى، على سبيلِ المثالِ، إنّما هو، بِخِلافِ مكتبتي المنزليّةِ وما لها من صفةٍ شِبْهِ مؤسّسيّةٍ توشك أن تحيلَني إلى موظّفٍ فيها، مكتبٌ اعتباطيٌّ لي أو هو بالأحرى، مكاتبُ تتعدّدُ بتعدّدِ المقاهي التي اتنقّل بينها دونَما نظامٍ أو موجِبٍ قطعيٍّ لهذا التنقّل. هذا وما جرى مجراه، أي الحؤولُ دُونَ الاعتباطِ، هو ما يفسّرُ استدخالي تجربةَ الحَجْرِ على أنّها محنةٌ وجوديّةٌ وتحوّلٌ في مبنى الزمنِ ومعناهُ لا يَحِدُّ من وطأتِه سوى الأملِ المعزّزِ بالتوقّعاتِ الراجحةِ في نهايةٍ له وشيكة.

غَيْرَ أنّ هذا الأمَلَ لا يُزَكّيهِ، في حالتي بما أنا فردٌ لبنانيّ، شعوري بمحنةٍ أخرى جاريةٍ من قبْلِ الوباءِ بزمنٍ بعيدٍ ولكنّها بلَغَت قُبَيْلَ ظهورِه طوراً يبدو مشْرِفاً على أفقٍ حالك. تلك هي محنةُ اللبنانيّين بنظامهم السياسيِّ الاقتصاديِّ (أو الاجتماعيِّ التاريخيّ، إنْ آثَرْنا الإحالة إلى البُعْدِ التكوينيَّ) وهي لم تَدَعْ وجهاً من وجوهِ حياتِهٰم إِلَّا طاوَلـتْه. ذاك هو المعطى الخليقُ، وهو يأخذُ بخناقنا، بفرضِ نفسِهِ على أنّه انقطاعٌ في مجرى زمنِنا وتغيّرٌ حاسمٌ في وَقْعِ الزمنِ علينا. وقد أظهرَتْ كثرةٌ من اللبنانيّين، في عشايا الوباءِ، شعورَها بهذا الانقلابِ: أظهَرَتْهُ في الساحاتِ وفي الشوارع…

وفي هَدْأةِ المَنْزلِ الذي استوى مَحْجَراً لي، رُحْتُ أشعرُ أنّ سكونَ الحيِّ والمدينةِ يجيزُ لي أن أفتَحَ مخيّلتي لأصواتِ أزيزٍ أو قرقعةٍ بدا أنّ جلَبةَ الساحاتِ والشوارعِ كانت تَكْتمُها، على نحوٍ ما. تلكَ أصواتٌ لوقائعَ تحصُلُ ولإجراءاتٍ تُتَّخَذُ تحتَ جِنْحِ الوباء. وهي، إذْ تَتَوالى، تَقْطَعُ على واحدِنا ما كان حسِبَهُ مسلكاً مفتوحاً أو مُمْكنَ الفَتْحِ في شعابِ ما يتطلّعُ إليه من مستقبلٍ لنفسِه وتُلْزِمُهُ بالتِماسِ ممكناتٍ أخرى لمُقْبِلِ أيّامِهِ إذا هي وُجِدَت. تـنْتَشِرُ تلك الأصواتُ في مخيّلتي مشابهةً أزيزَ خشبِ العَوارضِ المهترئةِ إذْ يتَسارَعُ تَفَسُّخُها في سقفِ كوخٍ مكتظٍّ، مغلَقٍ على ساكنيه وآيِلٍ إلى السقوط.

بيروت في أوائلِ أيّار 2020.

(1)زمن الوباء

زمنُ الوباء (1): فلسفة الحجر ومزاولة العمل

أحمد بيضون|الإثنين11/05/2020

 زمنُ الوباء (1): فلسفة الحجر ومزاولة العملفرض العزل ممارسات خالفَت المألوفَ غيرَ أنّ لها بعداً مستقبليّاً (علي علّوش)

طرَحَ الوباءُ على كثيرين مسألةَ التحوّلِ في بنيةِ الزمنِ ومَعْناهُ والشٌعورِ بلا جدواه أو باستحالتِه عبئاً مفروضاً، في رأيِ بعضِهِم، لا يَدَ للواقعِ تحتَ وطأتِهِ في تدبّرهِ وسياسته. وما أمْلى هذا الشعورَ، في زمنِ الوباءِ، إنَّما هو، على التخصيصِ، الحجْرُ بما هو مرادفٌ للحبسِ وللتبطّلِ وللعزلةِ وبما هو استجابةٌ للحصارِ أيضاً أي بما هو تغييرٌ في بنيةِ الزمنِ اليوميِّ وفي مألوفِ توزيعِهِ وفي البيئةِ البشريّةِ والماديّةِ لتقضّيهِ وبما هو مقرّرٌ لها من تبدّلٍ. وكانَ أن أغرى عنوانُ روايةٍ لغارثيا ماركيز بنوعٍ من التسليمِ التلقائيّ، المعزّزِ بالتكرارِ، بفرادةٍ لا نسعى إلى حصْرِ وجوهِها بالضرورةِ لزمنِ الوباء.

أشعُرُ أنّ هذا القولِ بنوعٍ من القطيعةِ في الزمنِ يمثِّلُها الوباءُ فيه جَرْيٌ مع شائعٍ مفترضٍ لا ريبَ في استمرارِ تحقّقهِ في حالاتٍ كثيرةٍ… ولكنْ لا ريبَ أيضاً في ضرورةِ إخضاعِهِ لفحصٍ ناقدٍ تمْليهِ تحوّلاتٌ لأوضاعِ العَمَلِ وللحياةِ اليوميّةِ كلّها بمَهامِّها ومواردِها شهِدَتْها الأعوامُ الأخيرةُ وانتشَرَت، ولو بتفاوتٍ، إلى حياةِ معْظَمِ البشر. وإذا كانَ لصورةِ الزمنِ الذي يجمّدُه الحَجْرُ أو يفْرِغه من جدواه ومعناه من أصْلٍ فمرجعُ هذا الأصْلِ إلى عهودٍ سبَقت التحوّلاتِ المشارَ إليها وما تزالُ، على غِرارِ العاداتِ الذهنيّةِ جملةً، تفرضُ نفسـها حيث توجَدُ لها شرعيّةٌ وحيث لا توجَدُ، إذ هي تُعْفي صاحبَها من هَمِّ التبصّرِ في الجديدِ وترَسُّمِ المتحوِّل.

عالَمُ الوَباءِ عالَمُ المستقبَل؟
وما أرجِّحُهُ، بوَجيزِ القولِ، أن يَكونَ الوباءُ الذي يُقالُ أنّهُ عطّلَ حياةَ البشرِ (وهو قد عطّلَ فعلاً معاشَ كثيرين منهم) قد أدخَلَ إلى حياةِ كثيرين منهم أيضاً ملامحَ مستقبليّةً كان الإرهاصُ بها قد حصَلَ في أوقاتٍ متباينةٍ بتبايُنِ الفئاتِ. فجاءَ الوباءُ ليكشِفَ إمكانَ استوائها سَويّةً مفروضةً في نُطُقٍ أعمَّ وأكثرَ تنوّعاً ممّا كان ملحوظاً من قبْل.

أشيرُ، وهذا واضحٌ، إلى إمكان العَمَلِ من المسكن والاستغناء عمّا يُدْعى “المكتب”. والمكتب هنا كنايةٌ عن المدرسةِ والجامعةِ أيضاً، فضلاً عن كونِه صفّاً من المنشآتِ تتراصف فيه الجريدةُ والمصرفُ وأضرابٌ كثيرةٌ أخرى من الأعمالِ والمِهَن. وفي معْظَمِ هذه الحالاتِ يشتَمِلُ الاستغناءُ على العاملينَ وعلى المتعاملينَ سويّةً. فيسعُ المعلّمين والمتعلّمين أن يهجروا الصفوفَ ويسعُ المصارفَ أن تقفِلَ أبوابَها دونَ الزبائنِ آماداً غيرَ قصيرةٍ، إلخ. على أنّ الاستغناءَ عن اللقاءِ في المكتبِ أو في المدرسةِ لم يكن مهمّةً سلسةَ الأداءِ – على ما شاعَ – في هذه الأسابيعِ التي مضَت… ولكن ماذا إن كانت أَوْجُهُ القصورِ من الأنواعِ التي يَسَعُ أجيالاً جديدةً من التقاناتِ أن تعالِجَها وماذا إن كان الضيقُ بالصيغةِ كلّها مجرّدَ عَرَضٍ من أعراض التغرُّبِ أمْلَتْهُ حداثةُ عهدِنا بالصيغةِ وسنتجاوزُهُ بالتعوّد؟

التشاورُ أو العملُ جماعةً ممكنٌ أيضاً في الصيغةِ الجديدة، وقد خَبِرَهُ المحتاجون إليه في أثناءِ الحَجْر. وليس ضعيفَ الدلالةِ أن تكُونَ مواضعُ مختلفةٌ من العالَمِ المتعازِلِ (بينَها بيروت) قد شَهِدت عزفاً جماعيّاً تولّاهُ موسيقيّو الفِرْقةِ كلٌّ من مَعْزَلِه. فمعلومٌ أنّ وَحْدةَ الأوركسترا، إذ يحصُلُ تظهيرُها بالقيادةِ الواحدة، تُعَدُّ أرْفَعَ أنواعِ الوَحْدةِ وأشدَّها عُسْراً وأسْراً. فإذا هي أصبَحَت في المتناوَلِ عن بُعْدٍ فكلُّ ما دونَها أيسَرُ منها تناوُلاً. هذا والاستغناءُ عن التوثيقِ المُخْتَزَنِ في مقرِّ العملِ أو في المكتبة ممكنٌ أيضاً من الآنِ بفضلِ الاتّصالِ عن بعدٍ بقواعد المعطَيات أو خَزْنِها. وإذا كانت مراقبةُ العاملين عن بعدٍ ما تزالُ جزئيّةً إذ قد يَسَعُ الواحدَ منهم أن يأذَنَ َلنَفْسِه، وهو في بَيْتِهِ، بإغفاءةٍ قصيرةٍ، فهذا أيضاً يمكِنُ لأصحابِ الأعمالِ تَلافيهِ بتحسينِ الوسائلِ والأعرافِ بحيثُ لا يعودُ للمستخدَمِ البائسِ أن يحوّلَ وَجْهَه عن شاشتِه لحظةً بلا ترتيبٍ مسبق.

على أنّ ما خبِرْناهُ فعلاً من تغييرٍ مفتوحٍ على أفقٍ قريبٍ أو بعيدٍ في حياتِنا اليوميّةِ قد لا يكُونُ متّصلاً بالعملِ بالدرجةِ الأولى. أو إنّ بعضَنا كان معتاداً، من قبْلِ الوباءِ، أن يزاولَ عمَلَه في عُزْلةِ مَنْزله وهو عالِمٌ بإمكانِ التواصلِ وأطرافَ العملِ الآخَرِين ومادّةَ العملِ ووسائلَه كلّما احتاج إلى ذلك. ولكنّ هذه السُنّةَ اتّسعَ مجالُها كثيراً في ظرْفِ الحَجْر، في ديارِنا هذه على الخصوص.

الحياةُ اليوميّةُ ومَواردُ الحاضر
ما بدا أشدَّ احتياجاً إلى معالجةِ آثارِ الحجْرِ في مختلِفِ وجوهه، بما هو حبسٌ، إنَّما هو الحياةُ اليوميّة بما هي نسيجُ علاقاتٍ وأفعالٍ معتادةٍ أو ممكنة يفيضُ كثيراً عن مُزاوَلةِ المِهْنة. عُزِلْنا عن العالَمِ الذي نَزْعُمُ أنّهُ واسعٌ فأصْبَحَ كلُّ خروجٍ إليه، مهما يَكُنْ استثناءً، بل كلُّ استقبالٍ لشخصٍ أو لشيءٍ يأتينا منه، مجلبةً للخطرِ أو للشعورِ بِهِ في الأقلّ. وشَملَ اعتزالُنا، فضلاً عن الأصدقاءِ والمعارفِ، أفراداً من العائلةِ لا يشاطِرونَنا السَكَن… بل رُحْنا نتحسّبُ أيضاً من تعرُّضِ أولئك الذين يشاطِرونَنا إيّاه لمخالطةٍ قد لا يَكُونُ منها بدٌّ، مهما تَكُنْ عارضةً، لأشخاصٍ وأشياءٍ من خارجِ سكَنِنا، متوجّسينَ ممّا يمكِنُ أنْ يجُرّه هذا النوعُ من المخالطةِ على مُساكِنينا فضلاً عن أنفُسِنا. وفي هذا كلِّهِ اضطُرِرْنا للرُكونِ إلى تقليص مُماسّتنا للخارجِ ومُماسّةِ الخارِجِ لنا بما هو تقليصٌ لاحتمال الخَطر: فهذه هي فلسفةُ الحجْرِ أصْلاً. وقد أفضت هذه الضرورةُ إلى شيوعِ ممارَساتٍ خالفَت المألوفَ، على الرُغْم من سابقِ ورودِها، غيرَ أنّ لها بعداً مستقبليّاً يَسْتَبْعدُ اعتبارَها مجرّدَ شذوذٍ عن جادّةٍ ما أو استثناءً زائلاً من قاعدة. هكذا غَلَبَ استقدامُ موادّ الاستهلاكِ من المطعمِ أو من المتجرِ إلى المستَهْلِكِ إقدامَ هذا الأخير على الانتقالِ إلى المطعمِ أو المتجرِ لتناولِ الطعامِ أو للتبضُّع. وهو ما يُنْذِرُ برَدِّ المتجَرِ إلى مستَودَعٍ وباختصارِ المطعمِ في مطبَخِه. فما حاجَةُ البشرِ بالمطعم والمتجرِ، من بَعْدُ، وما بالُهُم لا تكفيهم أمازون؟ تبدو أمازون ملبّيةً لحاجاتِ رأسِ المالِ فلِمَ لا يَرْضى بها البشر؟ هذا سؤالٌ أعودُ إليه في الختام.

مع ما سبقَ كلِّه، يبقى علينا الانتباهُ إلى كونِ هذا الاعتِزالِ، إذ نُحْمَلُ عليه اليوم، لا يُشْبهُ، في مروحةِ وجوهه ولا في وطأتِهِ العمَليّة، ما كان يسَعُه أن يكونَهُ لو ضرَبَ هذا الوباءُ عالَمَنا قَبْلَ ربعِ قرنٍ لا أكثر. وليس البَطَلُ المحْدِثُ للفارقِ إِلَّا الهاتِفَ الذكِيَّ أو الحاسوبَ وهما ههنا واحدٌ يجتمعان في الإنترنت. صلةُ الوصْلِ هذه جاءت لتنضَمّ إلى الإذاعةِ من مرئيّةٍ ومسموعةٍ أو لتُداخِلَها وتقومَ مقامَها في استبقاءِ القَنواتِ المفتوحةِ بينَنا وبَيْنَ زمنِ العالَم الذي أخذ يبدو مشغولاً، كلُّهُ أو جُلُّه، بالوباءِ اشتِغالَنا نحْنُ بهذا الأخير. وقد اتّفقَ أنّ ما بقيَ مفتوحاً من تلك القنواتِ لا يُقْتَصَرُ فِعْلُهُ على وصْلِنا بما يُدْعى وقائعَ عامّةً بل هو يحفَظُ أيضاً إمكانَ متابعتِنا لكلِّ ما نَعدُّه شخصيّاً في شبكةِ اهتماماتِنا: لأخبارِ من هم بِعادٌ عنّا من أهْلٍ وأصدقاءٍ ومن معارفَ عموماً، سواءٌ أكانوا على مسافةِ شارعٍ أمْ على مسافةِ قارّتَين.

ليسَ لنا أن نشتكي إذن عَزْلاً فرضَهُ الوباءُ سوى العَزْلِ عن إمكانِ التلامُسِ والتجالُس المباشِر. وذاك أنّ سائرَ أحوالِ العلاقةِ ظلّت مُتاحةً بما فيها الرؤيةُ ناهيك بالتخاطُبِ طبعاً. وهو ما يكفي دليلاً على كونِ العَمَلِ، بمعنى المهنةِ، ليس سوى وجهٍ بينَ وجوهٍ لِما بقيَ ميسورَ التفعيلِ من مَناشِطَ وعَلائقَ بين الناسِ وهم في ما يستعجِلون اعتبارَه حبْساً في البيوتِ وتعازُلاً. وهو ما يُفيدُ أيضاً أنّ بنيةَ الزمنِ وغائيّتَهُ بقيَتا، من حيث الأساس، على حالِهِما المألوفةِ من مُعْظَمِ الناس… أي أنّ ما بقيَ غالباً هو التطلّعُ المميِّزُ لبشَرِ أيّامِنا، على التعميمِ، إلى إملاءِ وجهةٍ على الزمنِ، مادّةً وبنيةً، تكونُ – مهما تَكُنْ صِفَتُها – مغايرةً لوجْهَتِه التلقائيّةِ حينَ يبقى حبْلُهُ على غارِبِهِ اضطِراراً، وهذه وجهةُ التبدُّدِ الإجْماليِّ المفضي إلى الموت. على أنّ شرطَ هذا النوعِ من السيطرةِ، في الظَرْفِ الذي نُعاينُ ونُعاني، إنَّما هو بقاءُ الصلاتِ التي تُدْعى قَنَوات التواصُلِ إلى تفعيلِها قائمةً أصْلاً لم يذهب بها ظَرْفُ الوباءِ، بما فيها، على الأخصّ، الصلةُ المِهْنيّةُ، وأن تكونَ هذه القنواتُ مُتاحةً لطرفَي العَلاقةِ أو لأطرافِها في آنٍ أيّةً تكن طبيعةُ العلاقة. وهذان، على ما هو مَعْلومٌ، شرطانِ مَيسورا التحقّقِ، في عالَمِ اليومِ، لمُعْظَمِ البَشَرَ…
(يُتبع جزء ثانٍ وأخير)

المدن – عن الحريرية والديابية.. ورياض سلامة

السؤالُ الأوّلُ المستحقُّ – قبْلَ ذاكَ المتعلّقِ بالتَهْريبِ الحديثِ العهدِ للأموال – هو المتعلّقَ بهذا الدَيْنِ المهولِ ووجوه إنفاقِه وضوابطه، وهي ما سكتَ عنه حسّان دياب كلّيّاً. المدن
— Read on www.almodon.com/politics/2020/4/25/عن-الحريرية-والديابية-ورياض-سلامة