العلمانية خلْسةً؟

أحمد بيضون

لا تتمتّع العلمانية بصيت حسن في المشرق العربي. ولم يكن لطوفان الإسلام السياسي واحتدام تيّاراته إلا أن يزيدا صيتَ العلمانية سوءاً. لم يظهر نفعٌ يذكَر للصوت الذي ارتفع ألف مرّة منوّهاً بأن «فصلَ الدين عن الدولة» ليس خروجاً على الدين وإنما هو يحمي الدين إذ ينزّهه عن ابتذال المنازعات السياسية.
تختلف ردود الفعل، والحقّ يقال، على المواقف ذات المشرب العلماني من بلادٍ في هذه المنطقة إلى أخرى. ففي مصر يجازف المرء باستثارة من يبتغي ردَّه إلى الصواب بحمّيةٍ قد تبلغ حدّ العنف إذا هو أعلن في محفل عامٍّ تأييده لنظام حكم علماني. بل إنه قد يستدرج ردّ الفعل نفسه إذا قال بعلمنةٍ ذات بالٍ للقانون المدني وهذا على الرغم من الصفة التي يجهر بها اسم هذا القانون. يبقى صحيحاً مع ذلك أن تغيير هذا النظام أو ذاك من أنظمة الحكم في المنطقة قد يقوّي وقد يضعف النوازع إلى نشر سلطان الدين على مضامير بعينها من الحياة الاجتماعية لا يكون الدين قد استولى على مقاليدها إلى ذلك الحين.
في لبنان، يبقى دعاة العلمانية أقلّيين إلى حدّ يتيح إدراجهم بين أسرى الوهم. فهم وإن لم يكونوا مثارَ نفورٍ مبادر لا يمثّلون خطراً على النظام القائم أيةً كانت عللُه التي لا يرجى لها شفاء. مع ذلك لا يلقي خصومُ الواقعية هؤلاء سلاحَهم وهم لم يلقوه، في الواقع، في أيّ وقت. وقد حصل أن حصّلوا تنازلات ثانوية من النظام ولكن الطائفية تبقى سيّدة الموقف في ديارها سواء أتعلّق الأمر بالنظام السياسي أم بمساقات الاندراج في الاجتماع وبأطره وبالعلاقات البينفردية.
في العراق أيضاً، مضى من زمن طويل عهدُ مِثال العلمنة ذات المنحى الاشتراكي ولكن العلمنة عادت فعرفت بعض الحظوة غداة الاجتياح الأمريكي للبلاد في سنة 2003. ففي وسط الجائحة التي مثّلها الصراع الطائفي سُمعت أصوات ما لبثت الجائحة أن خنقتها لمثقّفين طلبوا النجدة من ماكيافيلي أو من لوك عسى أن يتمكنوا من صوغ الأجوبة التي تقتضيها المواطنة لمسائل ما بعد الدكتاتورية ولظواهر التعبئة العدوانية طائفيةً كانت أم قومية أم قبلية…، إلخ.
وإذ يشعر العلمانيون العرب بالضعف العامّ في قواعد موقفهم نراهم يوطّنون أنفسهم في كلّ مكان تقريباً على الغضّ شيئاً ما من صراحة مطالبهم ذات الصفة العلمانية المسمّاة باسمها ويرتدّون إلى مواقع ينعتونها بـ»المدنية». تلك صفة تسمع لها أصداءُ عداءٍ للطواقم الدينية أخْفَتُ من أصداء الأخرى. وتجد الإصلاحات التي يرد ذكرها تحت هذا العنوان تتويجاً لها في مطلبٍ إستراتيجي هو مطلب «الدولة المدنية». وكان الأَوْلى أن يقال «حكومة مدنية» إن شئنا الإبقاءَ على المصطلح الذي يعتمده جون لوك إذ المذكور هو المرجع المعلن أو المبطن لهؤلاء الإصلاحيين الشجعان. فنقول «حكومة مدنية» ولا نقول «دولة مدنية» بالإنكليزية ولا نقرب الترجمة الحرفية إلى الفرنسية لهذه العبارة الأخيرة إذ هي تنقلنا من صعيد للوقائع إلى صعيد آخر.
والخلاصة أن مصطلح «الدولة المدنية» مصطلح أنكلوسكسوني الأصل. وهو قد رعى، حيث ولد، إمدادَ مؤسسة العرش بشرعية مضافة مصدرها الكنيسة القومية. ولكنه لم يجعل نفسه أساساً للتمييز بين جماعات المواطنين المذهبية في حقوق المواطنة. ومعلومٌ أن هذا الحرص لم يُنْجِ بريطانيا من أطوارِ نزاعٍ مديدة كان الأثر المذهبي واضح الفاعلية فيها. وفي المشرق العربي، استَعْمل مصطلحَ «الدولة المدنية» مصريون وعراقيون بشيء من العفوية حداهم إلى ذلك طول عهدهم بمصادره الأنكلوسكسونية فضلاً عن توجّسٍ مرجّح من ردود الفعل بين ظهرانيهم على الرطانة العلمانية. ثم استحوذت على المصطلح نفسه فئة من المثقفين اللبنانيين كانت راغبةً، هي أيضاً، في جعل المستقبل الذي تدعو إليه مثاراً لمقدارٍ من القلق أقلّ.
على أن مصطلح «الحكم المدني» هذا إذ يُدْعى إلى الاستواء ضدّاً لمصطلح الحكم العسكري، من جهةٍ، ولمصطلح الحكم الديني أو الطائفي، من الجهة الأخرى، يبدو وكأنما يحمّل فوق طاقته فيسيء أداء المهمّة المنوطة به. وذاك أنه يوشك أن يجنح إلى السفسطة أو إلى الحذلقة الخطابية حين يزعم القدرة على الاستواء بديلاً لاثنين من أنظمة الحكم طالما ناطح أحدُهما الآخر أو هما لم يظهر بينهما من السمات المشتركة ما يعتدّ به، في كلّ حال. فالواقع أن الحكم الديني يصبح في وسعه، إذا اعتمدنا هذا الخلط، أن يعلن نفسه مدنيّاً طالما أنه ليس بالعسكري وأن الحكم العسكري يسعه إذّاك أن يصف نفسه بالمدني ما دام أنه ليس دينياً. وهو ما ينتهي إلى استحالة هذا البديل المقترح إلى عبارة فارغة… هذا ما لم ندرج بكل الصراحة المقتضاة، في موضع القلب من هذا المفهوم، مبدأ العلمانية مصحوباً بمقدّماته الفلسفية: وهي الحرّية والمساواة بين المواطنين. فهاتان هما بمثابة الأساس، وهما الحدّ أيضاً، للسيادة الشعبية التي تجعل لجماعة المواطنين صفةَ مصدر التشريع فتمنع استتباعَ الدولة من جانب السلطة الدينية وتمنع بالتالي كلّ تمييزٍ بين المواطنين على أساس الدين.
وذاك أن قصارى المثال العلماني ليست كبت الدين ولا الرزوح على حرّيات المتدينين. وإنما هي أن يُبْعِد التقديس عن أهل السلطة وعن أعمال التشريع والسياسة، وهذا مع اطوائه على العلم بوجود أصولٍ دينية للقيم التي يفترض أن ترعاها هذه وأولئك. ففي اعتماد هذا المثال وعي لكون اعتماد التقديس في هذا المضمار أو استدعاء المقدّس إليه لا يعدوان تمهيد الأرض للاستبداد بدعوى تمثيل المقدّس وللفساد بشتّى ألوانه بعد استبعاد الجراة من جانب الرعايا على المحاسبة. هذا التقديس يوجّه صاحبَ السلطان، في نهاية المطاف، إلى البطش بكلّ معارضة متوسّلاً وصفها بالمروق من الطاعة لله وللمؤتمنين على مشيئته في الأرض وفي أهلها.
هذا، في كلّ حالٍ، «بحثٌ» له «صلة». فإلى العجالة المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

«نقّل فؤادك»…

أحمد بيضون

من كان من معارف حسن داود أو ألمّ بشيء من سيرته الشخصية علم أن هذا الروائي يُدْرج كثيراً من وقائع حياته في أعماله الروائية. يتباين هذا من عملٍ إلى عمل ولكن يحصل في معظمها إن لم يكن في جميعها. ولا ملامة على الروائي في هذا، من حيث المبدأ. وينأى احتمال اللوم وتتضاءل الحاجة إلى المبدأ حين تكون للروائي دربة حسن داود فيلاحظ القارئ كم يبدو بعيداً عن نفسه، صارماً في النظر إليها، هذا الذي يدْخِل ملمحاً من ملامحه أو واقعةً من وقائع سيرته في صورة هذا أو ذاك من شخوص الرواية أو في مسلكه وفي ما يجري له من فصلٍ إلى فصل.
في رواية حسن داود الأخيرة «نقّل فؤادك»، يزيد من قوّة الحضور التي للكاتب في عمله أن الراوية الذي هو موضوع الرواية أيضاً، ويدعى قاسم، يروي وقائع قريبة إلى الوقت الذي نحن فيه بحيث يبدو وكأنه لا يستردّها من ذاكرته بل يقصّها وهي تحصل وتبدو الفصول التي تتوالى أشبه باليوميات المختارة. وهو ما لم يمنع أن يكون الشخص موثَقاً إلى وقائع من ماضيه البعيد هي وقائع علاقته الضامرة المحتوى بزميلة دراسة كان تعلّقه بها قد بقي معلّقاً فلم يُفْضِ في حينه إلى مكاشفة ولم يتكرّس باعتراف. ما تستولي عليه هذه العلاقة القديمة، في الزمن الحيّ للرواية، هو الحياة الحاضرة لشخصٍ بات على مشارف الستين وابتعد نحواً من أربعين سنة عن أيّام تشكّلها الذي بقي ناقصاً.
وأمّا سائر ما هي عليه أحوال قاسم ومشاغله وحركاته وسكناته فهو راهن جدّاً. أي إنه متعلّق بالصحافي المشرف على الستين الذي لم يخفِ حسن داود في حديث ممتع تناول فيه هذه الرواية أنه هو نفسه، على نحوٍ ما، في ترسيمة علاقته الراهنة بمهنته وبمدينته… بل أيضاً في بحثه عن فتاة لا يتوصّل إلى تخيّل ما آلت إليه بعد أربعين سنة وكان قد زاملها سنة مدرسية واحدة وهي التي مثّلتها دلال عبّاشي في الرواية. وكان المؤلّف قد توقّع، في عباراتٍ صدّر بها الرواية، هذا الشعور بحضوره وحضورٍ بعضٍ من معارفه (في ملامح لهم ولعلاقته بهم، على الأقلّ) فأقرّ من يساوره هذا الشعور على شعوره ولكنّه أكّد أن هذا الشعور سيتغيّر مع المضيّ قُدُماً في القراءة.
لا تزيد هذه الذاتية وهذه الراهنية إلا شدّةً ما في الرواية من اختبار مُرّ لتفاوت السرعة بين زمن موضوعي – هو، مثلاً، زمن العمران – لا يلوي على شيء وبين زمن ذاتي – هو زمن الغرام القديم طبعاً ولكنه زمن العلاقة بالمهنة وبالمدينة أيضاً – يحتاج المؤلّف إلى روايته كلّها لزحزحته شيئاً ما عن مداره.
وذاك أن الحركة، أي التغيير، إنما تحصل في داخل الراوية. وهي تبدو استجابةً لما شهدته أو تشهده المدينة والبلاد إن شئنا أن نرى فيها شيئاً من هذا القبيل. ولكنّ هذا النوع من الإلمام الجامع يقتضي الوقوف على مسافة شاسعة. الحركة، في السرد، سلسلة من الاختبارات القصيرة المتداخلة يمثّل واحداً منها كلّ مشهد أو كلّ موقف. وهي لذلك لا تصبح حركةً إلا ببطءٍ مضنٍ، لا للقارئ بل للراوية ولمحاوريه الذين هم مداوروه بالأحرى.
أقول داخل الراوية مع العلم أن الدواخل كلّها ههنا لا تظهر بما هي كذلك. هي تتوسّل في ظهورها عبارات مادية: حركاتٍ، في الأغلب، أو كلاماً… وأحياناً حركاتٍ لا تحصل أو كلاماً لا يقال. لا أسماء هنا للعواطف ولا للانفعالات. لا يسمّى الحبّ باسمه إلا في معرض استذكار أفلامٍ مصرية. ولا يخلو أحد إلى شوقٍ حارق إلا لبنى عبد العزيز وهي تحتضن وسادتها الخالية. في مسلك حركات قاسم وأفعاله لا يوجد محلّ لسوى الرغبات الراكدة يسوسها تجاذبٌ شديد اليقظة. قاسم لا يجلس أبداً أو ينام في مشاعره: هو واقف دائماً على المسافة المناسبة لمشاهدتها وسياستها وللردّ، خصوصاً، على ما قد يبدر في سياقها من جانب سواه.
هو إذن نوع من صراعٍ مديد، دقيق العناصر، يبدو وكأن الخائضين فيه غير مكترثين لحسمه فعلاً. ولكنّه يسوقهم مع ذلك في مسالك تلبث مكتومة عنهم إلى أن يأتي وقتٌ يقولون فيه أو يفعلون ما يشي بأنهم تغيّروا شيئاً ما أو تغيّرت بهم الدنيا. هذا الصراع هو الحياة، في عُرْف حسن داود، أو هو السبيل إلى إدراك الحياة وروايتها. وتتمثّل عبقرية هذا الروائي كلّها في انتباه لا يتراخى لحظة ولا يفوته حسٌ أو طرفةُ عين. فهو يرى المجالسة بين شخصين استنفاراً لتكتيكات متقابلة يُتّقى بها ما تنطوي عليه كلّ مبادلة فيوشك أن يجعل منها، مهما تكن ضئيلة الظاهر، مسألة حياةٍ أو موت.
أسمّي هذا النوع من القصّ قصّاً تفكّرياً. فيه يبدو الراوية ضالعاً في ما يفعله وفي ما يُفعل به ولكنه دائمُ المراقبة لهذا الضلوع أيضاً دائبٌ في تحليل الموقف الذي هو فيه واستطلاعِ حركته واحتمالاته. وإذا وُجد من وصفٍ شعوريّ لما يحصل من أحد الشخوص فهو الحيرة، مثلاً، حيال الدلالة التي تصحّ نسبتها لعنصر من عناصر الموقف أو هو الجبن، مثلاً، حيال احتمالٍ ما، بالغِ الخطر عادةً، ينطوي عليه إتيانُ حركةٍ أو النطقُ بعبارة…
وقد كنت سمّيتُ، في تناولٍ لرواية أخرى لحسن داود، هذا المنطلق الذي يعتمده الروائي، لنَسْج ما أتردّد في تسميته حبكةً ولسَوْق ما لا أتردّد في تسميته صراعاً منطلقاً «إستراتيجياً»: أي متمثّلاً في منطق تَغالُبٍ شامل يتشعّب في تكتيكات مختلفة. وهي تسمية ٌ أرى الرواية التي بين يديّ تؤيّدها.
في هذه الرواية تبدو العلاقة بسعادٍ: الصديقة المتطوّعة لمساعدة قاسم في العثور على دلال، نوعاً من الهاوية وُجِد هذا التفتيش عن دلال لإدامة خطرها ولاستبعاد الوقوع فيها في آن. ويبدو احتمال تحوّلها إلى بديل معلن من «الحبّ الضائع» حافّة للهاوية يقف قاسمٌ عنده ذات مساء ولكنه يتحاشى تجاوزه أو لعله يفشل في هذا التجاوز. وحين نرجع إلى الذريعة الأصلية لهذا النزاع أي إلى العلاقة القديمة التي جمعت بين قاسم ودلال لا نجد منها سوى نتفٍ: خطوات لم يقطعها قاسم عندما وقفت له دلال عند المنعطف المفضي إلى بيتها أو تفاوض مرير على ترتيب الجلوس وقياس الوقوف في السينما… تضاف إلى هذا كنزة من هنا وإصبع من هناك. وتمْثُل الأجساد ومباني المدينة ومعالمها سواءً بسواءٍ على قدْرٍ من البعد وغموض الملامح. وتستوي النساء الآسيويات الثلاث، شيئاً فشيئاً، مَخْرجاً من مهنةٍ دخلت العلاقة بها أزمةً يتعذّر تعيين المسؤولية عنها ومخرجاً من المدينة الجديدة المسرعة إلى الذواء أيضاً ومن الحياة السابقة كلّها.
إلى هذا المَخْرج يبدو المسار، في صراعيته، هيغلياً للغاية. ويبدو عمل الحرية مشكِلاً إذ لا تلغي خارجية النظرة فاعليةَ نوعٍ من القدر يسوق التصرّفات أو نوعٍ من الوسواس يملي تصاميمها المتتالية. وحين يذكر الراوية ذلك البرنامج الخارق الذي يستعيد عمليّات ينفّذها الدماغ البشري وتسمح لنا أن نحلّل في كسرٍ من الثانية ما يمثّله لنا وجهٌ نلمحه، لا نعلم إن كان هذا البرنامج موجوداً في متجرٍ من المتاجر المختصة. ولكنّنا نعلم أن حسن داود لا يبارى في تشغيله.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

الضحك

أحمد بيضون

ما كان من الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون إلا أن استقبل بزوغَ القرن العشرين بكتابٍ صغير بديع جعل عنوانَه «الضحك» وجعل له عنواناً ثانياً «رسالةٌ في دلالة الهزل». وذاك أنه لم يكن يريد أن يتناول أيّ ضحكٍ كان بل أراد «الهزل» موضوعاً له وجعل غايته أن يتوصّل إلى حصرٍ لكيفيّات «صناعة الهزلي». والهزل ههنا هو، على سبيل المثال لا الحصر، ذاك الذي نجعله صفةً للمسرح الهزلي، بأنواعه الكثيرة، أو – على الأعمّ – للأدب الهزلي. صدر الكتاب إذن سنة 1900 وكان مؤلّفاً من مقالاتٍ ثلاث نُشِرَت، قُبَيل جمعها، في مجلّة كانت تدعى «مجلّة باريس».
يوغل برغسون في تحليل هذه الكتلة من الأعمال وما تعرضه أو تستوحيه من أفعالٍ وأقوال إيغال المغامر غير المتهيب تشعّبَ السبل وبُعدَ المَطالب وشَبَهَ رحلته الكثيرة المحطّات بالسَفَر في متاهة. وهو يجعل الهزل، بادئ بدء، في أصنافٍ كبرى تَبَعاً لمادّة الهزل أو مستنده. فيفرّق أوّلاً ما بين الهزل في الصور والهزل في الحركات ثم يفرّق، في فصلٍ تالٍ، ما بين الموقف الهزليّ والكلام الهزلي. ثم نعلم أنه إنما ابتغى الوصول إلى غايةٍ أبعد منالاً هي حصر مقوّمات الهزل الذي يقترن ببعض من طبائع البشر: البخل، مثلاً، أو الغرور…
وتتمثّل خطّة الفيلسوف في حصر نوع من الداعي العامّ للضحك يعرض له أوّلاً في حالات الهزل البسيطة أي، على الخصوص، في حركات أو عبارات يقع عليها في نصوص مسرحية أو يستذكرها من مشاهد من الحياة اليومية. هذا أوّلاً. ثم إن المؤلّف يقع، في المستوى الأعلى من الهزل، أي في ذاك الملازم للطبائع، على هذا الداعي نفسه وقد تحوّل تحوّلاً عميقاً بمقتضى سياقه الجديد ولكن بقي فيه شيء جوهري من أصله: شيء يبيح الخلوص إلى نظريةٍ عامّة للضحك.
وما يراه برغسون مشتركاً بين ما يتناوله من مضحكات، على اختلاف مصادرها، إنما هو دخول الآلي في الحيّ واستبداده به. فيبدو لنا مضحكاً، مثلاً، مواصلة شخص من الأشخاص كلاماً أوعملاً انقضت مناسبته أو فقد مسوّغه وذاك بسبب غفلة الشخص عن تغيير طرأ فأدّى إلى هذا الفقدان أو إلى ذاك الانقضاء. يواصل الشخص المشار إليه إذن أداء حركات تصبح مضحكة أو يمضي في حديث يغدو مضحكاً مدفوعاً بقوّةٍ آلية، بالعادة مثلاً، بعد أن انسحب من محيطه ما كان يجعل الحركات ذات غاية أو من كان يتيح للعبارات من يسمع ويفهم.
لم تكن السينما قد انتشرت واستقرّت مرجعاً لبرغسون عند صدور كتابه. كان مصدر أمثلته المسرح والحياة اليومية والرواية أحيانًا وعلى الأخص دون كيخوتي بطبيعة الحال. ولكن السينما ستأتي بعد سنوات من الكتاب بمشاهد لا يطمح المسرح إلى كمالها تزكّي نظرية «الضحك» البرغسونية. سنرى شارلي شابلن في «الأزمنة الحديثة»، مثلاً، يُضحك مشاهديه لأنه يواصل في خارج المصنع حركاتٍ آليةً استولت عليه في المصنع فيعامل أزراراً يقع عليها بصره على صدر امرأة على أنها مَحازق ينبغي شدّها بالمفتاح المناسب! ذاك مثالٌ لاستبداد الآليّ بالحيّ بما هو باعث (يراه برغسون عامّاً) للضحك ومفتاح (عامّ ايضاً) لصناعة الهزل.
هذا وتبدو «الغفلة» مصطلحاً ذا أهمّية في مبنى هذا التعليل البرغسوني للضحك. فالحركات المضحكة هي تلك التي تغفل عن تغيير في المحيط أفقدها مسوّغَها وغايتَها المألوفَين. والكلام الهزلي هو ذاك الذي تجترحه اللغة في غفلة منها عن نفسها: عن وظائفها المتمثلة بالتواصل والتعبير أي بإنشاء صلة بالغير وبالخارج تستجيب لترسيمةٍ متعارفٍ عليها… فإذ تمضي اللغة في إنتاج الكلام نفسه بعد تغييرٍ قَطَع الصلةَ أو أخلّ بالترسيمة يصبح الكلامُ هزلاً والضحكُ محتمَلاً. مرّةً أخرى، يتجاوز إدراكُ هذه الآلية مجرّدَ التعرّض للضحك أو للإضحاك إذ هو يستوي وسيلة يمكن اعتمادها إلى ما يسمّيه برغسون «صناعة الهزل». غير أن العلم بالقاعدة لا يغني من شاء اعتمادها عن جودة القريحة ولا عن الدُرْبة. وهاتان تقعان على «حالاتٍ» يتمثّل فيها الهزلُ ويُستدرَج الضحكُ لا تعدّ ولا تحصى. وهذا على الرغم من وحدة المصدر العامّ أو القاعدة. وأما اللجوء إلى التكرار: تكرارِ ما جاء به الغير أو ما جاء به المُعيدُ نفسه من قبلُ دونما تجديد فيه أو في سياقه فإنما هو الطريق المستقيم إلى الرداءة.
عند الوصول إلى ما يسمّيه برغسون «الهزل في الطبائع»، يحضُر المجتمع ليحتلّ ساحة البحث كلّها بعد أن كان حضوره خَفِراً في تناول الفيلسوف صيغَ الهزل «البسيطة» أو «الأوّلية». يحضر المجتمع، ولم يكن قد غاب، لأن الطبع مشتمِلٌ على ما يبدو من صور الهزل في الصور والحركات وفي الكلام والمواقف اشتمالَ المجتمع على أصحاب الطبائع وما يبدر منهم من هذا كلّه. نحن، مع الهزل في الطبائع، على الصعيد الأرفع ومع الحبكة الأغنى. نبقى محتاجين ههنا، ولا ريب، إلى استذكار الآلي متسرّباً إلى الحيّ ومستبدّاً به. فالطبعُ المفْرِطُ يصبح هو نفسه آلةً لإنتاج ما هو آليٌ من الكلام ومن التصرّفات ولنَشْر هذا كلّه في ساحة الحياة الاجتماعية أي في وسطٍ يستهجنه. والاستهجانُ حيوي هنا ولكن لا ينبغي له أن يكون مفرطاً فيَجْنَحَ بأصحابه إلى الغضب لا إلى الضحك. شرط الضحك أن يكون الاستهجان خفيفاً أو معتدلاً أي أن يتبدّى الشطط البالغ في الطبع من غير أن يحدث ضرراً أو من غير أن يكون الضرر المترتّب عليه جسيماً. فإذا تحصّل الضحك من تجلّيات الطبع الناشز مقيّدةً بهذا الشرط أمكن اعتبار الضحك، في ما يرى برغسون، عقوبةً رهيفةً يُنْزِلها المجتمع بنوع بعينه من أنواع الخروج على معاييره…
لا يسوغ لقارئٍ من بلادنا يقرأ هذا الكتاب الآسر – على شيء من الصعوبة – أن يجتنب السؤال الذي يناسبه: ما الذي يحدو بفيلسوف فرنسي أن يستقبل القرن العشرين بتأمّلٍ شاقّ في الضحك؟ ما الذي يحمله على الغوص الدقيق، مثلاً، إلى التمييز المُحْكَم بين «الفُكاهة» و»السخرية»؟ الكتاب نفسه لا يُضحك والأمثلة التي يوردها لا يتجاوز ما تستدعيه الابتسام المكتوم. وقد نحّى برغسون لينشغل بالضحك أحوالَ بلادٍ وقارّةٍ كانت أبعدَ ما تكون عن الخمول أو عن الاستقرار. نحّى فرنسا قضية دريفوس ونحّى أوروبا الإمبراطوريات المتحاسدة والتسلّح المتقابل ونُذُر الثورات المقبلة. وكان فرويد قد نشر، بدوره، قبل عامٍ واحد من ظهور العمل البرغسوني كتابه العظيم في الأحلام… ليس لهذا النوع من الكتب أدنى مقابل في الثقافة العربية المعاصرة. وهذا جديرٌ جدّاً بأن يوقَف عنده.
الذي يحمل على تكريس الجهود الشديدة أو المديدة للتأمّل في موضوعاتٍ من قبيل الضحك أو الحلم أو الرغبة… هو الموقف الإنسانوي بمعناه الأعمّ. وكان قد مضى على تكوّنه في الفكر الأوروبي أربعةُ قرونٍ في مطلع القرن العشرين وكانت له إرهاصاتٌ هناك سبقت هذه المدّة. هو ذاك الموقف الذي لا يحدّ الكلام في الوجود البشري بقُطْبَي الخير والشرّ ناهيك بقُطْبَي الحلال والحرام. هو يجد لهذا الكلام أقطاباً ومداراتٍ كثيرةً أخرى. ومصدر هذه الكثرة التسليمُ بجدارة الإنسان بأن يعرف. ومصدرها الحاجة أيضاً إلى معرفة الإنسان لأجل سياسة الإنسان وتدبيره. في ديارنا هذه انقطع من قرون كثيرة ما كان من تراث مثّلَه الأدب (بمعناه العبّاسي) ومثّلَته الفلسفة وكانت هذه المشاغل بعض مشاغله.
في عصرنا هذا، بقيت الأقطاب التي هي، في الأصل، لوازم الدين وكانت كافيةً لإخضاع البشر. لم يكن الإنسان هو القيمة ليُعْرَف بتجلّيات وجوده كافّة. والسياسة نفسها لم تصبح رهيفةً بحيث ترسو على معرفة ضافية ورهيفة للبشر. بقيت السياسة، في معظم أحوالها وحالاتها، إخضاعاً فجّاً لا يحتاج إلا إلى القوّة وإلى معارفَ فجّةٍ على غراره وإلى مِراسٍ ينْتِجُ قواعده في مواقع مظلمة.
لذا لم تظهرالحاجة إلى ما يشبه معرفة الضحك أو ما جرى مجراه ممّا يمنح كينونة البشر ما لها من عمقٍ وسعة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

جيلان

أحمد بيضون

كانت خلافة العسكريين من ركّاب الانقلابات، ابتداءً من غدوات حرب فلسطينسنة 1948، للجيل الذي سبقهم من حكّام الدول العربية سبباً لحُكْمٍ بالإعدام المعنوي على هذا الجيل المدني من السياسيين. ولنسارع إلى القول أن الإعدام لم يكن، في بعض الحالات، معنوياً فحسب. ففي العراق، على الخصوص، لقي أركان العهد الملكي، بمن فيهم الملك الشاب نفسه، حتفهم بأشنع الأساليب قبل أن تباشر قوى الانقلاب وزعماؤه مسيرة الفتك الذريع بعضهم ببعض. ولعلّ الحملات الدموية التي كان العهد الملكي نفسه قد شهدها، مع أنها أصبحت تبدو متواضعة بالقياس إلى ما تتابع من فصول ابتداءً من تمّوز 1958، تقدّم تفسيراً جزئياً لهذا العنف الاستثنائي الذي اختصّت به الحالة العراقية. فلم تشهد سوريا(التي انحصر الفتك فيها، تقريباً، بأركان الانقلابات المتوالية) ولا شهدت مصرمثيلاً للبطش العراقي في المرحلة نفسها ولا تقاربه سوى الحالة اليمنية بما أفضى إليه الانقلاب العسكري فيها من نزاعٍ أهلي مديد.
على أن الإعدام المعنوي لجيل الساسة الحكّام السابق لهزيمة 1948 هو ما يعنينا ههنا. وهو إعدام تتبدّى قسوته عند استذكار المنطلق الذي تشكّلت فيه أدوار هؤلاء الزعماء وصورهم إذ هو منطلقٌ جلّلته أكاليل غارٍ معتبرة ضفرها شهداء وعزّزتها مواجهاتٌ قتالية ونضالات سياسية وانتهت إلى انهيار دولٍ وتأسيس دولٍ بعد انتصارٍ عامٍّ في الحرب الكونية الأولى تبعَتْه هزائم. والهزائم بقي بعضها يعتبر مجيداً بسبب التباين البالغ في ميزان القوى. هذا الجيل نفسه هو الذي واصل العراك الاستقلالي في مرحلة الانتدابين البريطاني والفرنسي وهو الذي حملت بعضَه بعضُ مراحل هذا العراك إلى مواقع في السلطة وحملتهم مراحل أخرى منه إلى السجون والمنافي. هو الجيل الذي تراوحت مساعيه، في تلك المرحلة، بين المصادمة والملاينة والذي اختلفت مواقع رجاله، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على خريطة السعي الاستقلالي أو هي تحرّكت في هذا الاتّجاه أو ذاك، على تلك الخريطة ولكنه كان يتولّى بنفسه، بتوسّط ما يدور فيه من مواجهات داخلية، تعديل موازينه فينبذ هذا إلى الهوامش ويرفع ذاك إلى سدّة الزعامة أو يؤهّله لها، إلخ.
صحيحٌ، من بعدُ، أن الموقع العامّ لأهل السلطة من هذا الجيل بقي فيه خلل جسيم. تمثّل هذا الخلل في الهوّة الفاغرة بين ما كان طموحاً معلناً إلى الاستقلال العربي حملته «ثورة» 1916 وما انتهت إليه الحال، بعد ميسلون، من تقاسمٍ للسيطرة ما بين بريطانيا وفرنسا، على دولٍ توزّعت الشرق العربي وبدت دون المأمول، على غير صعيد، أو قُدّمت في التنازع السياسي عليها على أنها كذلك. يضاف إلى هذا الخلل تهمة التسليم لإرادة السلطة المنتدبة أو التقصير في مقارعتها، وقد وجّهت إلى كثيرين من أركان الدول الجديدة، وتهمة الخنوع للوضع القائم، بما فيه من تشتت وضعف، والاكتفاء بالنصيب المتاح من سلطة منقوصة وقد وجّهت إلى هؤلاء أنفسهم أو إلى أقرانٍ لهم من الجيل نفسه. ولا ريب أن ثالثةَ الأثافي التي استوت نوعاً من الختام للمرحلة إنما كانت تهمة المسؤولية عن هزيمة 1948 في فلسطين…
هذا وقبل أن تدخل دول الشرق هذه مرحلة الاستقلال وبعد ان دخلتها (وهذا استقلال تباينت شروطه إذ استبقيت بعده، في بعض الحالات، امتيازاتٌ اقتصادية وسياسية وقواعد عسكرية للمحتلّ) نُسب إلى كثيرٍ من حكّام المرحلة كثيرٌ من الفساد، على اختلاف صوره، بما فيها الاستئثار بامتيازاتٍ مختلفة تتيحها السلطة وحصر كثير من المنافع بالأنصار والأقارب والتقصير في تحصيل الحقوق الوطنية في ثروة البلاد من الأجنبي ومن ذوي الامتياز والاحتكار في الداخل وفي استثمارها في رفع سويّة الأهالي على كلّ صعيد. إلخ.
كان لهذه التهم منطلقاتٌ واضحة المعالم ولكن كثيراً من القَصص الذي تناول أشخاصاً بأعيانهم بتهم الفساد السياسي او المالي أو كليهما، تبين مما ظهر من الوثائق لاحقاً أو أمكنت معاينته من الوقائع أنه كان واهي المادّة أو عديمها أو أنه بني على تأويل منحرف لوقائع ثابتة. وفي كلّ حال، عمد الإنقلابيون وأبواقهم إلى الجزم بصحّة تهمٍ أقلّ ما يقال فيها أنها كانت محلّ أخذٍ وردّ في العهد السابق. وهذا فضلاً عن زعمهم الكشف عن وقائع أكّدوا أنها كانت مســتورة ناســـبين إلى انفــسهم نزاهـــةً في الرواية لا يوجد سبــبٌ للتــســـليم لهـم بها وممتنعين عن تحكيم أيّة سلطة مستقلّة عن نفوذهم في صحّة ما يدّعون أو بطلانه.
في وقتٍ من الأوقات، انطلقت حركةٌ يسّرتها، بلا ريب، كبوات الأنظمة ذات الأصول الانقلابية وخبوّ نجمها بنتيجة ما توالى عليها من فصول الإخفاق على المسرحين الداخلي والخارجي وما ظهر من جنوحها إلى الاستبداد بسائر قبائحه، ومن بينها الفساد والتفريط بالحقوق الوطنية. تمثّلت الحركة التي نشير إليها بتوالي التآليف المتعلّقة بالجيل الذي كان الانقلابيون قد انتقلوا من إعدامه ودفنه إلى معاملته وكأنه لم يكن أصلاً. كانت هذه التآليف تمثّل، من وجوهٍ مختلفة، نوعاً من محاولة الثأر أو محاولة ردّ الاعتبار إلى كثيرين من أعيان الجيل الاستقلالي وإلى ذلك الجيل، في جملته، من خلالهم.
بعض هذه الأعمال تولاه المظلومون أنفسهم في بطالة منافيهم. وهو كتب مذكّراتٍ أو يوميّات أصبح بعضها، في ما يتعدّى الهمّ الذاتي لصاحبه، عظيم المكانة التاريخية. فلا يمكن، اليوم، على سبيل المثال، لباحث في تاريخ سوريةالمعاصرة، أن يهمل مذكّرات خالد العظم أو مذكّرات أكرم الحوراني. ولكانت خسارة كبيرة للأدب وللتاريخ المعاصرين في هذه البلاد أن تبقى مجهولةً مذكّرات عادل أرسلان. ولكان نقصاً فادحاً في معرفتنا بمحيطٍ شاسعٍ من وقائع تاريخنا المعاصر تتوسّطه المسألة الفلسطينية أن لا تنشر مذكّراتُ محمد عزّة دروزة. إلخ.، إلخ. وهذا ناهيك بمكانة مذكّرات بشارة الخوري وكميل شمعون من معرفتنا بتاريخ لبنان في العهدين الانتدابي والاستقلالي…
بعضٌ آخر من فيض التآليف هذا، وهو الأغزر، يتمثّل في كتب السِيَر. فمع توالي الأعوام، لم يكد يبقى سياسي من جيل ما بين الحربين العالميتين لم تنشر له سيرةٌ أو أكثر من واحدة. وتساوي هذه السير ما يساويه مؤلّفوها ومصادرها لجهة ضبط الوقائع ولزوم جانب الموضوعية، مع العلم أن الموضوعية لا تمنع الانعطاف إلى الشخصية ولا النفور منها. وفي كلّ حالٍ، يفترض أن تحمل هذه الكتب قارئها، إذا كان من ذوي الحصافة، على التماس نظرة أوفر اتّزاناً إلى هذه أو تلك من الشخصيات المدروسة. فحتى الذين كان يظنّ أن القضاء الانقلابي قد أنزل بهم حكماً بالإعدام لا يطعن فيه ولا يردّ، يستردّ هذا أو ذاك منهم، بفعل سيرةٍ متواضعة تناولت حياته وتقلّبه في أدوار السياسة وأطوارها، قدرة على محاورة القارئ وعلى نوع من الدفاع عن النفس من وراء القبر.
لا تُخْرِج كتب المذكرات واليوميات ولا كتب السِيَر جيلَ ما بين الحربين قفيراً من الملائكة بعد أن كان قد استوى في أعقاب الانقلابات رهطاً من الشياطين. وهي، لو فعلت، لم تكن خليقة بالاعتبار. وإنما هي تردّ هؤلاء البشر إلى المرحلة التي كانوا بعض معالمها. وهي توضح أنهم لم يكونوا مستغرقين في أشخاصهم أو في أضيق بيئاتهم خالي الوفاض من كلّ مشروع سياسي ذي طموح عامّ. هي توضح أنهم كانوا ذوي مشروع تراوحت مساعيهم في سبيله وأمانتهم له بين حدود متحركة وأطوارٍ مختلفة وكذلك بين واحد منهم وآخر. أي إنها تحمل نظراتنا إليهم على شيء من النسبية، وهذا أمر صحّي. وتحملنا أفعال الذين خلفوهم وأرادوا إخماد ذكرهم، في عقود خمسةٍ أو ستةٍ مضت، حين نقارنها بما هو منسوبٌ إليهم، على كثير من التسامح حيال جيلٍ أصبح بعيداً وعلى كثيرٍ من الضحك المرّ.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

وراءَ قناع بول فين

أحمد بيضون

27qpt999

لا يَسُوغ لمستعرض الأعمال التي نشرها بول فين، المؤرّخ الفرنسي البارز، في عشراتٍ من السنين أثمرت لائحة مؤلّفات معتبرة، أن ينسب إليه جفافاً في الموضوعات المختارة للبحث أو في أسلوب تناولها أو في تصوّره لعمل التأريخ عموماً. بل إن الرجل سبق أن خرج شيئاً ما من نطاق اختصاص كان يجنح به إلى الصرامة ليكرّس كتابين كبيرين لاثنين من أصدقائه الكبار أوّلهما الشاعر رينيه شار الذي كان يكبره سنّاً بكثير وقد سعى فين إلى لقائه مدفوعاً بالإعجاب بشعره ثم انتظمت علاقتهما حين أصبحا مقيمين في نوع من العزلة الواحدة في واحدةٍ من نواحي الجنوب الفرنسي. وأما الثاني فليس إلا ميشيل فوكو الذي كان يكبره بسنواتٍ قليلة فسبقه إلى مدرسة المعلّمين العليا في باريس ثم زامله فيها وعاد فأصبح زميلاً له بعد سنين كثيرة في الكوليج دو فرانس حين التحق به فين أستاذاً في سنة 1976.
ليس متّهماً بالجفاف أو بالجفاء في المقاربة والتناول من له هذا الإحساس بشعر شار الذي ينشئ عوالم بلمحات بصر أو بأعمال فوكو بما اتّسمت به من تغريب ومن درامية في العلاقة بين أطر الاجتماع المعتادة وأصولها أو بينها وبين سوابق لها موغلةٍ في القدم. وحتى في تناوله للتاريخ الروماني، وهو ميدان تخصّصه الأثير، لم يجتنب فين المسالك المنحرفة عن الجادّات العريضة فاهتمّ بالشعر الإيروسي اهتمامه بالدين وبالحكمة في عالم الرومان.
مع ذلك، لا يسع قارئ الكتاب الأخير الذي أصدره فين مع بلوغه الرابعة والثمانين هذه السنة وضمّنه معالم من سيرته إلا أن يذهل وهو يعاين البشري الذي كان مختبئاً عن الأنظار خلف ألقابه وكتبه ومنجزاته. ولسببٍ يبقى غير جليّ اختار فين عنواناً لهذا الكتاب «وفي الحياة الأبدية لن أشعر بالضجر». لعلّه كان يعلم كم هو بعيدٌ عن إملال القارئ الذي له بعض معرفةٍ بمؤلِّفه هذا الكتابُ المضطرب بنبض متباين الشدّة والسرعة لحياة طويلة متشعّبة السبل، متعدّدة المسارح والطبقات. وفي حسباننا أن أمثل الطرق إلى الشعور بما للكتاب من أهمّية مقابلته بما للقارئ من خبرةٍ، مهما تكن محدودةً، بأعمال مؤلّفه وبالصورة التي كانت متحصّلة لهذا المؤرّخ من تلك الخبرة.
والحال أن فين لا يهمل، في كتابه الأخير هذا نشاطه المهنيّ أو العلمي. فهو يحدّثنا (بشيء من الخفّة) عن كيفية وقوعه في غرام اللقى الأثرية الرومانية والنقوش العائدة إلى حضارة الرومان. يذكر لنا، مثلاً، عثوره على كسرة من خابية رومانية بظاهر قريته وهو في نحو الثامنة من عمره. ويذكر استيلاءه، بعيد ذلك، على نقش روماني أيضاً من موقع مهجور لم يكن يعلم أن له مالكاً عاد فاستردّه. ويذكر جولاته في إيطاليا لمعاينة النقوش الرومانية وبداياته المتعثّرة في الحفريات في حقل تونسي حيث اكتشف المشرف على الحفر أن فين كان يتجه بحفرته أوّل الأمر «نحو البحر» ثم راح يعمّقها متّجها بها نحو «مركز الأرض»!.
بدت في سلوك الصبي إذن أمارات باكرة جدّاً للشغف الذي سيلازمه بالتاريخ الروماني. وهو يروي لنا كيف اختار لاحقاً موضوعاً لرسالة الدكتوراه التي أعدّها في هذا الميدان وقد كرّسها لنوعٍ من العطاء أو التبرّع الإلزامي الذي كان يقدّمه الأعيان الرومان للجماعة. وقد نشر هذا البحث تحت عنوان «الخبز والسيرك» في كتاب أصبح مَعْلماً بين الأعمال المكرّسة لتاريخ تلك الحضارة وفي ميدان التاريخ الاجتماعي، على التعميم، في عصرنا هذا. يروي فين أيضاً كيف أن نصّاً كان يفترض أن يكون مقدّمة منهجية لبحثه ذاك تضخّم واستقلّ براسه وأثمر كتاباً مرموقاً آخر هو الموسوم «كيف يُكتب التاريخ».
يطلعنا فين أيضاً على جوانب من سيرته التعليمية بعد أن كان قد أوجز لنا سيرته الدراسية. فنعلم، مثلاً، أن ريمون آرون كان وراء ترشيحه للأستاذية في الكولّيج دو فرانس وأنه غضب عليه وناوأه بعد انتخابه لأنه لم يذكر فضله عليه ولا ذكر اسمه أصلاً في درسه الافتتاحي.
تلك وغيرها معطياتٌ ترسم مسار الشخص المعروض للعيان أصلاً عبر أبحاثه وحياته العامّة الذي هو المؤرّخ بول فين. ولكن قيمة هذه السيرة التي نشرها وهو في هذا الهزيع الأخير من العمر تتمثّل في إدراجها هذه المعطيات بإزاء صفّ آخر من المعطيات هو ذاك الذي يصف حياة الإنسان الخاص مخرجاً الشخص الحيّ من الدارس المكبّ على النقوش الرومانية وعلى التراث اللاتيني. نواكبه في فصول متباعدةٍ شيئاً ما من سيرته طفلاً يصف نفسه بقبح الخلقة لنموّ مرضي في عظْمة خدٍّ من خدّيه ويكبر في كنف أبٍ يتعاطى السمسرة ويمالئ الاحتلال الألماني لفرنسا سنة 1940… ثم نعاينه عضواً متردّداً في انتمائه إلى الحزب الشيوعي تتنازعه دواعٍ متعارضة بينها الرغبة الغيرية في الانتماء إلى معسكر العدل والتقدّم وبينها الشعور بالقيود الرازحة على سياسة الحزب من جرّاء تبعيته الأممية وتقاليد عمله الداخلي… وهذه عضوية سيضع لها حدّاً اجتياح الدبّابات السوفياتية بودابست سنة 1956 وسيخلفها امتحان الموقف من الثورة الجزائرية وكيفية مساندتها من جانب مثقّف فرنسي كان قد عرف الجزائر منقّباً عن الآثار الرومانية فيها وكان إعجابه بديغول لا يني يكبر.
هذا وتحضر النساء بقوّةٍ في هذا الجانب الشخصيّ من سيرة فين وتحضر معهنّ أشدّ المسارات درامية في حياة صاحبها. فهو يقول أن قبح طلعته لم يحل يوماً دون إقباله على التحبّب إلى النساء. وهو يذكر زوجته الأولى سيمون سولوديلوف وقد افترقا بعد سنواتٍ أولى من الصحبة أفضت إلى بضع سنواتٍ من الزواج. وهو يتبسّط في ذكر زوجته الثانية: الطبيبة أستيل. فمعها يغادر حالاً من السعادة الغامرة ليوغل في شقاء تسبب به احتراف ولدها الشاب من زواجٍ سابق، وكان قريباً إلى فين عظيم الثقة به، البغاء المثلي في باريس. وهو ما انتهى إلى إصابته بالإيدز ثم إلى إقدام والدته، على محاولات انتحارٍ تكرّرت قبل أن تعمد إلى مساعدته على الانتحار حين دخل مرحلة النزع… وهذه مساعدة سنعلم أن أستيل قدّمتها أيضاً إلى والدتها المحتضرة.
أفضت المأساة التي مثّلها ابن أستيل إلى جعل الزواج الذي جمع بول وهذه الأخيرة واحداً وثلاثين سنةً زواجاً «أبيض» لثمانية وعشرين عاماً من أصل هذه المدّة. وهو ما أدّى بفين إلى الوقوع في غرام فرانسواز صديقة زوجته المفضّلة. مع هذا الغرام بدأت علاقة ثلاثية قبلتها استيل التي كانت هي وفين مصرّين على استبقاء زواجهما الأبيض. دامت هذه الحال أعواماً كثيرة أمضت أستيل الجانب الأعظم منها مريضة إلى أن رحلت قبل بضع سنوات. وفي هذه المدّة فقد فين وحيده الشاب داميان منتحراً أيضاً من جرّاء اكتئابٍ استولى عليه وهو العشريني المبرّز في وسطه المهني الأميركي… إلخ.، إلخ.
يجرّ بول فين خلفه هذه الحوادث وقد أصبح اليوم في وسط ثمانيناته. يجرّها ويجرّ معها كتبه التي فرضت له في ميدان تخصصه مكانة عالمية. وإذا كان لسيرته هذه من أهمّية فمنشأها كشف هذا التزامن: تزامن أعمالٍ اقتضت الإكباب المديد على موادّ موغلة في القدم ومآسٍ تعاقبت وطال حضور بعضها في حياة هذا المؤلّف. وفي «كيف يُكتب التاريخ»، كان فين قد جعل تصوّر «الحبكة» في موضع القلب من تنظيره للمعرفة التاريخية. فكم من حبكة نسج فين لتستوي أقنعةً لفصول توالت من دراما حياته: لمرض زوجته، مثلاً، أو لانتحار ابنه؟

كاتب لبناني

أحمد بيضون

الدين في المجتمع أم العكس؟

أحمد بيضون

فرَض إلحاحُ المحنة الكبرى التي تعصف بمجتمعات المجال العربي من شرقها إلى غربها، نوعاً من البحث المحموم، المستعجلِ الإفضاءَ إلى نتائج، في بواعث هذه الكوارث وفي كيفيات تشكّلها واستشرائها وفي ما ينبغي أن يكون عليه سعيُ العاملين على بلوغ المخارج ورسمُ السبل التي يكون بسلوكها صلاح المستقبل. وقد كان لزاماً أن تحضُر مطالعاتٌ ومقترحات تتناول القريبَ من الأسباب والمستعجَلَ من الإجراءات. ولكنّ تصدُّر الدين ساحةَ الصراع الجاري في الأعوام الثلاثة الأخيرة فرَض على الناظرين في الحاضر والمستقبل أن يَمدّوا البصرَ إلى قرون ماضية، بعيدة وقريبة. فإن من طبائع الدين أن يحفظ ماضيه ماثلاً في حاضره على نحوٍ قد لا تدانيه، في شدّته ومباشرته اللازمنية، منظوماتٌ أخرى من قبيل الفلسفة مثلاً أو الشرع الوضعي.
فكان أن راحَ كثيرون بعضُهم من أهل الصناعة وبعضهم اختاروا انتحالَها أو اضطرّوا إليه، إلى البحث في المصادر الدينية للجماعات الضالعة في الصراع وإلى محاولاتٍ متنوّعة المداخل لمجادلة هذه الجماعات في قيمة مصادرها واستقامة ما تُرتّبه على الدين من إجراءات وتصرّفات. غَلَبَت هذه المقاربةُ الجدالية، المعتدّة بالمفردات الدينية إذن، على التناول النقدي للجماعات المتشدّدة ولما تقول وتفعل، وبدا أن «إفحامَ» الناطقين بألسنةِ هذه الجماعات هو المهمّة التي يترتّب على حسمها مصير المواجهة. لا ريب أن في هذا التوجّه استعادةً لثقة الدين نفسه بفاعلية الدعوة والموعظة. ولكنّ هذا التوجّهَ يهمل مسألةً نعتبرها المتصدّرة هي مسألة ظهور هذه الجماعات، في الساحة، في زمنٍ بعينه وفي مجتمعاتٍ بعينها، ثم تمتّعِها بحظوةٍ بعينها في تلك المجتمعات. وعلى صعيدٍ أعمّ أو أبعد مدىً وأوسع نطاقاً، يهمل هذا التوجّهُ مسألةَ العلاقة بين الإسلام، مذاهبَ ونِحَلاً، وبين أحوالِ المجتمعات التي تعصف بها أو تهدّد باقتحامها المحنةُ الجارية.
والحال أنه، مع شدّة الحاجة إلى الاحتياط والتأنّي في هذا الميدان، يَرْجَح عند المتأمّل في تاريخ المذاهب الإسلامية وعلاقتها بأزمان نشأتها وبيئاتها وبأحوال الجماعات التي نشأت فيها، على اختلاف وجوهها، أن الدينَ كان يتبع تنوّعَ الظروف وتحوّلاتِها ويخضع لإلزاماتها أكثرَ بكثيرٍ ممّا يُمْليها… وأن الجماعاتِ كانت تُطَوِّعه أكثرَ بكثير ممّا كانت تطيعه.
وقد أورثَ ذلك الإسلامَ توزُّعاً وتناقضاتٍ لا حصرَ لها ولا حدّ وحمَلَه على الأخذ بالأشياء وبأضدادها تبعاً للبيئة وللظرف ولموروث الجماعة المعنية. فيَعْتمدُ ما يناسبُ هذا كلَّه من أحكامٍ، مقدّساً الشيء وخلافه، ويدخُل في ما يمليه التشتّتُ والتناقضُ في هذا كلّه من صراعاتٍ وحروب.
وإذا كانت حالة الإسلام هذه تجد لها سنداً في حالاتٍ أخرى يتناولها علمُ اجتماع الدين، من راهنٍ وتاريخي، جازَ القول، فيما نرى، بغلبة الخطإ على تعيين المهمّة الرئيسة في مواجهة التشدّد الديني على أنها «إفحام» المتشدّدين بإظهارِ سَماحةِ الدين واتّساعه لمسالكَ متغايرة، ناهيك باتّساعه، في دياره، لمن هم على مذاهبَ في الاعتقاد تخالفه.
تلك مهمّةٌ لها أهلها ولا ريبَ في ضرورة اضطلاعهم بها. ولكن موضعَ الحسم بعيدٌ عن هذه الساحة. إنه في استطلاع الأوضاع الاجتماعية التاريخية التي تحمل كلّ جماعةٍ من أهل الدين على الأخذ بصيغةٍ بعينها لهذا الأخير. وهو في النظر في كيفيّات المعالجة المناسبة لهذه الأوضاع وفي إمكانات البناء على الراسخ منها أيضاً.
ذلك أَوْلى بالنظر والعمل من السعي إلى «إفحام» الجماعات، إذن، ومن الركون إلى جدلٍ قد يحيي قديماً أو يأتي بجديدٍ ينزل به إلى حَلَبة الصراع العَقَدي… فإن التبشير بالجديد أو بالقديم لا يُحتمل أن يلقى غير الرفض عند من لا يساير حاجاتِهم، فضلاً عن أن حسْمَ الصراع، على هذا الصعيد، يبقى، مع توجُّب خَوْضِه، متعذّراً كلّ التعذّر. نقول هذا غيرَ قاصدين، إذن، إلى استبعاد مجادلة المجتهدين في اجتهادهم أيّاً يكن.
… وصفوة القول أن تاريخ المجتمعات الإسلامية أرحب بكثير من تاريخ الدين الإسلامي أو المذاهب الإسلامية. ولا يجاوز الثاني أن يكون وجهاً متباين الحضور من وجوه الأوّل ولا يردّ الأوّل إلى الثاني بحالٍ.
فإن الدين لا يستوي، في التاريخ الفعلي، معياراً عامّاً معتمداً دون غيره في سلوك الأفراد والجماعات إلا جزئيّاً لجهة الأغراض واستثناءً لجهة الأوقات. ويختلف هذا الأمر كثيراً، في درجته ومضامير تَحَقّقِه، باختلاف الأمكنة والأزمنة… وتُمازِجُ المعيارَ الديني، على الدوام، معاييرُ أخرى مختلفة المصادر وتؤثّر فيه تفعيلاً أو تعطيلاً لأحكامه أو تبديلاً فيها وتتأثر به بدورها، بطبيعة الحال.
ذاك ما ينبغي بقاؤه ماثلاً لعين الدارس عند البحث في مستقبل المجتمعات التي تتّخذ الإسلام عنواناً وفي إمكانات الفعل في هذا المستقبل بما في ذلك إمكانُ إصلاحٍ ديني يكون له قبولٌ ذو معنىً، في هذا أو ذاك من تلك المجتمعات، وحظٌّ من الصمود.
والواقع أن هذه الكثرة في معايير العمل، من فرديّ وجماعيّ، وهذه الجزئية أو التقطّع في حضور الدين بينها هي ما يجعل بعضَ القيّمين على أمور الدين أو المتصدّين لما يحسبونه حمايةً له، في كلّ زمان، يشعرون بضرورة إصلاحه. وهي ما يجعل بعض هؤلاء ينبذون من تاريخه قروناً وعوالم بحالها. فهم قد لا يستبقون منه إلا ردحاً قصيراً من الزمن وبقعةً محدودةً من الأرض ملازمتين لنشأته وعدداً محدوداً من المؤمنين هم الذين شهدوا ميلاده وكانوا الناشرين الأوائل لرسالته. وهذه لحظةُ أصلٍ لا يوفّر الخلافُ الجسيم بين المسلمين ماجرياتِها ولكن يتوجّب عليهم استبقاؤها معياراً، في كلّ حال، ولا يمكن أن يداخلَها الريب الجذري الذي يداخل سواها لأن هذا الريب يكون إذّاك طعناً في الدين من أصله.
ما لا يتقبّله هؤلاء الذين يؤسّسون دعوة الإصلاح على دعوى تكفير الأمّة هو هذا المزيجُ الذي تمليه الحياة وتقدّمه وقائع التاريخ في صيغٍ لا تحصى ويدخل فيه أهل الدين بدينهم طائعين أو مكرَهين. هؤلاء يحسبون اختراعَ البشر المستمرّ لحياتهم بما بين أيديهم من موادّ وما يناسبهم من معايير، بعضها ديني المصدر، فساداً متمادياً للدين. هم يرون ردّةً أن يحصل ذلك في ديار المسلمين ويرون كفراً أن يحصل في ديار غيرهم. هم يرون الحياة والتاريخ برمّتهما تقريباً فساداً للدين وهم يريدون إرجاع الحياة والتاريخ إلى الجادّة. ولكن هذه الجادّة، بشهادة الأجيال والقارّات كلّها، تتعذّر استقامتها أو يتعذّر وجودها. ولم يحصل قطّ أن تمكّن الإسلام نفسه من شقّها وإلزام حياة المسلمين وتاريخهم بها في العالم الذي يحمل اسمه. فلا يبقى من احتمال ماثل، في أفق «الإصلاح» التكفيري، سوى تدمير الحياة ووقف التاريخ.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

مهديّان لبلاءٍ واحد

أحمد بيضون

لثلاثةِ عقودٍ أو أربعةٍ خَلَت، كان الإتيانُ على ذِكْر الإمام المهدي نادراً في ديارنا اللبنانية. أبرزَ ذلك وضّاح شرارة في كتابٍ نفيس كرّسه لنشأة حزب الله ونشره قبل نحوٍ من عشرين سنة. وأحسب أن الحال لم تكن لتخرج كثيراً عن هذا النهج المقتصد في ديار التشيّع العربي الأخرى ناهيك بديار التسنّن. كان القول بقرب ظهور المهديّ عندنا نوعاً من الفكاهة تدعو السامعين، ولو كانوا من الأتقياء، إلى الابتسام.
وهذا مع أن الأرض، في ذلك الوقت، كانت قد «ملئت ظلماً وجوراً»، مستجيبةً، شأنها قبل ذلك الوقت وبعده، لشرط الظهورِ الأوّل هذا. غير أن الناس لم يكونوا يرون يوم القيامة قريباً.
ويصحّ القول أن سنة 1979 شهدت ظهورَ مهديَّيْن اثنين. الأوّل منهما وهّابي ويدعى محمد بن عبد الله وهو صِهْر جهيمان العتيبي الذي احتَلّ الحرم المكيّ في غرّة القرن الخامس عشر الهجري ونصّب ـ على ما قيل صهره المذكور مهديّاً واحتجًّ في ذلك بكون الصهر سَميّ النبي العربي طبقاً لما ورد في الأثر.
لم تعمَّر ظاهرة المهديّ الوهّابي هذا إلا أياماً اقتحم بعدها الحرمَ رجالُ الحرس الوطني السعودي يدعمهم، بل يقودهم، على ما شاع، رجالُ أمنٍ فرنسيون استُحضروا على وجه السرعة لهذه الغاية. ولكن صورة هذا المهديّ، بما اتّسمت به من قَسَمات العنف الأقصى، بقيت ممتدّة الحضور إلى اليوم في حركات السلفية الجهادية، على اختلافها. وهي صورةٌ لا يدلّ شيءٌ على قرب اختفائها.
وأمّا المهدي الثاني (أو الأوّل)، وهو إمام الشيعة الثاني عشر محمد بن الحسن، فلم يظهر فعلاً. ولكنّ خياله ملأ مسرح الحوادث فجأةً بعد أن كان غائباً، بمَعانٍ مختلفةٍ للغياب، وراء حُجُبه. وكان منه أنه أناب عنه في الظهور الحسّي إماماً إيرانياً أصبح «الوليَّ الفقيه» أو «مرشدَ الجمهورية» الإيرانية أو «وليّ أمر المسلمين» دون اعتبارٍ لاختلاف المذاهب ولا لرأي المعنيّين… أو «نائبَ الإمام» في طهران، أخيراً لا آخراً.
طغت صورةُ المهديّ مذّاك على معظم من عداه من الأئمّة آبائه وكثُرَ استعجالُ فَرَجه على الألسنة وعلى جدران المُدُن والقرى وانتظم الاحتفالُ بذكرى ولادته وأصبح ظهورُه منتظراً بين الحين والحين. لا لأن شيئاً جديداً قد أثبت أن ظهوره قريب فعلاً ولا لأن هذا الظهور مرغوب فيه، بالضَرورة، من جانب الذين يجتهدون في إشاعةِ خَبَره. فإن أشدَّ ما يَسوءُ الوكيلَ، في حالاتٍ كثيرة، ظهورُ الأصيل. غير أن إبرازَ عَظَمة الأصيل يبقى ضرورياً، مع ذلك، لتعزيز شأن الوكيل. إذ كيف يكون «نائبُ الإمام» عمودَ الدنيا إذا لم يصبح هذا الإمامُ نفسه عمودَ الدين؟
هذا وللمهديّة والمهديين تاريخ نتركه لأهله هو وجهٌ من وجوه التاريخ الإسلامي وهو أيضاً، بتوسّط المسيح وما هو عليه من شَبَه عامٍّ بالمهدي أو من حضور بجانبه في الرواية الإسلامية، وجه من وجوه القرابة بين الإسلام وديانتي التوحيد الأخريين. ما يهمّنا تسجيله ههنا أن مستهلّ القرن الخامس عشر الهجري قد شهد اتّجاه العرب والفرس نحو التوحّد في بلاءٍ واحد راح يتفاقم: وهو الصراع السنّي الشيعي. وهو، على نحوٍ ما، صراعٌ بين مهديّين أي صراع على الثمرة المرتجاة من خراب العالم.
قبل ذلك كان الشعبان منشغلين، أحدهما عن الآخر، ببلاءين تأسّس عليهما البلاء المشترك، وكان كلّ منهما خاصّاً قبله بأحد الشعبين. فبلاء الفرس كان النفط مقترناً بالنظام الشاهنشاهاني وبلاء العرب كان النفط أيضاً مقترناً بأنظمةٍ متنوّعة. من بين هذه الأنظمة، كان قد ادّعى الزعامةَ الإسلامية (أو نوعاً من أنواعها) وسَعى في نشر دعوته المذهبية نظامُ آل سعود. وكان يسعفه في ذلك وقوع الحرمين المكيّ والمديني في نطاق سلطانه ومسؤوليتُه في تيسير الحجّ ورعاية الحجيج.
صفوةُ القول أن بلاءاتٍ كانت مختلفة أو مفترقة نراها لا تزال تترافد، على امتداد ما انقضى من هذا القرن الهجريّ الأغرّ… تترافدُ في بلاءٍ واحد عميم تدلّ الدلائل على أنه سيكون الأعظم.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

أزْمةٌ في ترتيب الزمن

أحمد بيضون

في الكتاب الذي جعل له عنواناً «وتائر التأرُّخ»، يوضح المؤرّخ الفرنسي فرنسوا هارتوغ أن ما أطلق عليه هذا الاسم أداةٌ لتحصيل المعرفة لا بنظام الزمن التاريخي، على عمومه، بل على الأخص، بلحظات الأزمة في ترتيب الزمن أي بآونة تفقد فيها المفاصل التي يتميّز بها كلّ من الماضي والحاضر والمستقبل وضوحها فلا تبقى تحصيلاً لحاصل. ويستدعي المؤلّف أعمالاً لأمثال كلود ليفي ستروس ومارشال سالنس تقدّم لاختلاف صورة الزمن وتقاسيمه بين المجتمعات. ويستدعي أعمالاً سابقة لميلاد علوم المجتمع الحديثة تنتشر على مدى التاريخ الأوروبي من هوميروس إلى أوغسطينوس إلى شاتوبريان. وهو ما يتيح له مثلاً أن يبحث عند هذا الأخير عن التجديد الذي حمله إلى صورة الزمن عند الأوروبيين حدث الثورة الفرنسية والملحمة النابوليونية التي تبعته عن كثب.
ولكن البؤرة التي ينتشر منها تأمّل هارتوغ وإليها ينتهي إنما هي حاضر عالمنا الذي يقترح المؤلّف أن نطلق على صورة الزمن فيه اسم «الحاضرية». والمقصود بالتسمية إبراز الاستيعاب الذي أصبح الحاضر في أيّامنا هذه قادراً عليه لكلّ من الماضي والمستقبل. وهو استيعاب يؤول إلى إبطال مستقبلية المستقبل وكَبْتِ نسبة الماضي إلى نفسه أيضاً أي استحضاره على نحوٍ يلغي ماضويته. وأمارة ذلك أن عالمنا بعد أن استغنى عن صوره التي كانت تسقطها في عهود مقبلة أو مترتبة الاستقدام فلسفاتٌ للتاريخ وأيديولوجياتٌ مختلفة أصبح رازحاً في الحاضر لا يتوقّع لنفسه شيئاً يختلف نوعاً عمّا هو حاصل فيه. بل إن التغيير المتواصل الذي تفرضه التقانات المتجددة في محيط الحياة وعادات البشر وما يتاح لهم من إمكانات يبدو كله، على جسامته، وكأنه «مزيد من الشيء نفسه». هذا عن «استحضار» المستقبل أي ردّه إلى الحاضر. وأما الماضي فهو يستعاد إلى الحاضر في صورة التراث المعروض أو المصطنع ويتاح لأنظار السيّاح بما هو عنصر راهن من نسيج المدن ومتاحف تصيّر الماضي حاضراً بمجرّد فعل العرض ومواقع استحضرتها الحفريات وإعادة التأهيل.
عاد إلى ذاكرتي كتاب هارتوغ النفيس، وقد صدرت طبعته الأولى سنة 2003، بسبب شعور مُلحّ بمتانة الوشيجة ما بين مداره الرئيسي وما نشهده في أصقاع مختلفة من هذه الديار التي ردّت إليها ثورات «ربيعـ»ها الفائت نوعاً من الشعور بوحدة الحال في أملٍ عريض الخطوط وحفظت الثورات المضادّة لها هذه الوحدة ولكن بعد انقلابها إلى وحدةٍ في الخيبة وفي التوجّه إلى الخراب العظيم. لا يستوقفني صلاحٌ أستبينه للـ»حاضرية» لإسعافنا في فهم ما يبدو «أزمة في ترتيب الزمن» نتخبّط في حمّاها. فما يستولي علينا يبدو موغلاً في الماضوية. والحاضرية يراها هارتوغ طوراً أخيراً بلغته حداثة العالم… ونحن لسنا في صلب هذا الطور وإن تكن لحالنا قرابة به يتعين البحث عن ماهيّتها.
فإذا سألنا، أوّلاً، عن المستقبل في الحبكة الراهنة لأبعاد زمننا: هل هو المزيد من الشيء نفسه؟ تبادر إلينا جواب ذو وجوه. فالدِين دائب في استعادة مجتمعاتنا، لا بصفته مثالاً تنشره الكتب والمواعظ، بل بصفته حركةً تستولي شيئاً فشيئاً على مقاليد المجتمعات، متخطّية نكساتٍ تمنى بها هنا وهناك، من نحو أربعة عقود. وإذ يتقدّم الدين، في حركيته المتوسعة، على أنه نظام للمجتمع وليس مجرّد عقد فردي بين العابد والمعبود تزداد صفته الماضوية رسوخاً. فيتبدّى وعده بمستقبل جديد وعداً بماضٍ تتغاير أوصافه وأمانته المبتغاة لمثاله ولكنّه ماضٍ كان العهد به قد بعُد، في كلّ حال، وكانت مياهٌ كثيرة قد جرت تحت جسور هذه البلاد بعد انقضائه.
ليس ابن يومين أو سنتين إذن هذا التوجّه المتقحّم إلى استعادة أوصاف إسلامية للمجتمعات وللدول. ولكنّه كان في الموطن الذي شهد أكبر انتصار له، وهو إيران، قد لابَس تقاليدَ دولةٍ قديمة راسخة وسلكٍ هرميّ معمّر للمذهب وبنى على تراثهما المؤسّسي ليتيح قدْراً من استبطان العنف في التغيير يغني عن الإفراط في استعراضه وليَدْخل مع المجتمع السابق للثورة في تبادلٍ يمتزج فيه القسر والاستجابة بنسب قابلة للتدبّر. وأما في دول الجزيرة العربية التي كانت لمجتمعاتها ولها صفة إسلامية سابقة على الثورة الإيرانية وسرعان ما بدت مزاحمة لها فقد كانت المعطيات العشيرية بقِيَمها ومعاييرها التنظيمية قد داخلت الدين أو المذهب بشدّة وأصبحت غالبةً عليه في السلطة السياسية وفي إدارة الموارد وأفضت إلى نصب موازين معه، في الحياة العامّة اليومية، اختلفت من حالة إلى حالة ومالت إلى تراخٍ في رعاية الأحكام الشرعية تباينت درجاته أيضاً وأصبح صارخاً في بعض الحالات. هكذا جاءت السلفية الحركية ردّاً على السلفية الحاكمة وسعياً إلى نقضها فيما أنشأت الأصولية الشيعية نوعاً من الأممية يمثّل النظام الإيراني قيادتها الميدانية، على غير صعيد، وقطب ولائها ومصدراً أوّل لمواردها ومبادراتها.
نشأ فارق في التشدّد إذن أملاه التقابل بين الاندراج المؤسسي للحركات الشيعية في منظومة تتوجّها دولة كبيرة والاقتحام الحركي لجهادية سنّية مشتتة الرعاية وقد ازدادت تشدّداً وانفلاتاً بعد مرحلتها الأفغانية الأولى. وقد أمكن للسلفية الجهادية أن تعرض صوراً لعنفها في التجربة الطالبانية وفي سنوات الجزائر«السوداء» وفي عمليات «القاعدة» في أمريكا وأوروبا، إلخ. على أن ما يشهدهالعراق وسوريا من عنف جهادي استوى صدىً فاجراً لعنف النظامين الطائفيين القائمين هو ما يجعل صورة «الأزمة في ترتيب الزمن» تلحّ بهذه القوّة كلّها على من قرأ هارتوغ. فما العنف الذي يمثله قطع رؤوس المخالفين وإخضاع النساء جماعةً وطرد طوائف بأسرها والتنكيل بها وهدم تراثها سوى توكيد للقدرة على إلغاء حاضر ذي ماضٍ بعينه واستبداله ماضياً له مرتبة الأصل يجري تنصيبه حاضراً بالقوّة الغاشمة.
يحتاج هذا المشروع إلى هذا العنف كلّه بل هو لا يكفيه. فهو وهمٌ لا يوهِم نفسَه بوجود حقيقة له إلا بهذا العناد الفادح. يلغي الجهاديون وجوهاً من العالم «الكافر» ويستبقون أخرى ليس أقلّها سلاحهم وتجهيز قواهم بوجوهه كلّها من الهاتف الجوّال وصفحة الفيسبوك إلى الفولاذ الذي تصنع منه السيوف أو السواطير. ثمة ماضٍ يجري إدراجه في الحاضر على أنه هو الحاضر وهذا كذب ومحال حين يتقدّم في صورة الفريضة المطلقة. والحصيلة دمار في الضفّتين: في المبدأ وفي المستقرّ.
حتى إذا طال العهد بهذا السلطان الأخرق حيث يعسكر اليوم فسيبدأ إرخاء القبضة وتتكاثر الخروق شيئاً فشيئاً في العباءة السلفية. ولكن ستكون الكلفة قد فاقت بما لا يقاس خراب الموصل وهذا في حينٍ لن تبدو فيه البصرة في أوج عمرانها.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

كتاب التاريخ أم فكر التاريخ؟

أحمد بيضون

في الدرس الذي بات استخلاصه واجباً من الإخفاق المتمادي للجان اللبنانية المتعاقبة على معالجة مادّة التاريخ المدرسي ووضع كتابها الواحد المنتظر (وهو الإخفاق الذي جعلتُه مداراً لعجالتي الماضية) رأيتُ أن على النظر أن يتجه إلى البحث عن السبب الأعمق (وهو لا يستبعد وجود أسباب أقرب إلى الظرف) في تصوّر بعينه للتاريخ. يعمد هذا التصوّر إلى إخراجٍ للزمن أو لفاعليّته من التاريخ بما هو البعد الذي تتعاقب فيه الحوادث فيكون فيها قبلٌ وبعدٌ وتتغيّر فيه الأشياء والقيم والمواقف والأحكام، إلخ. يجري إخراج الزمن ليُعمد إلى رصف الوقائع أو الحوادث جنباً إلى جنبٍ في بعد وحيد ذي صفة مكانية. فإذا كان لقيمة الواقعة أو الحادثة مقياس فليس هو قربها أو بعدها في الزمن بل أهليتها لتكرار البنية المعنوية لحادثةٍ أو واقعةٍ تستوي، بما هي أصل، مقياساً للقيمة. هذا التعبّد للأصل والاشتهاء لتكراره ينحوان إلى تجميد الجماعة في صورةٍ خالدة يمليها الأصل وإلى جبه الجديد الذي يأتي به الزمن حكماً بالنكران أو نعته بالانحراف عن الجادّة التي يرسمها رسماً مزعوم الثبات إلهام الأصل وصورة الجماعة.
في هذا النكران زيفٌ مثابر… إذ الواقع أن الجماعة تتغيّر في التاريخ، بنىً ومواقف وقيماً، وأن تصوّرها للأصل ولفحواه يتغيّر أيضاً فلا يستقيم اعتباره مقياساً ثابتاً للقيمة أيضاً. ولكن نكران التغيير أو رفض الاعتراف به ديدناً للتاريخ يبقى دأباً ثابتاً ومعه زعم القياس على أصلٍ ثابت. وذاك لأن هذا النكران أو الرفض هو درع الجماعة يحميها من التفكك والاندثار إذ يرتجل لها باستمرار هويّةً واحدة مستمرّة.
ما الصلة بين نكران الزمن أو نبذ التغييرِ والجديدِ هذا وبين استعصاء الإفضاء إلى وفاقٍ بين أطرافٍ لبنانيين على روايةٍ موحّدة لتاريخهم المشترك؟ يحول افتراض الهوية الثابتة والمعنى الواحد لتاريخ الجماعة إلى امتناع حركة المؤرّخ الملتزم برؤيا جماعته التاريخية بين حوادث ذلك التاريخ أو إلى التقييد الشديد لتلك الحركة، في الأقلّ. فهذا المؤرّخ يصبح مسوقاً، بوعيٍ منه أو بلا وعيٍ، إلى شدّ حوادث الماضي نحو ما تتخيله الجماعة اليوم على أنه صورتها وتبتغي قسر الماضي على الشهادة بصحّته وتعزيز الملامح المرادة له. وقد يستبقي المؤرّخ في ماضي الجماعة حالاتِ «خيانةٍ» لهذه الصورة. يستبقيها مرغماً ويريد لها أن تبقى محصورة، ضيّقةَ النطاق بكلّ معنىً ممكن. وهو يجالد «الأغيارَ» أو «الخصوم»، بما أوتي من حذق وهمّة، للحؤول دون طغيان «الخيانة» أو استشراء الشذوذ بحيث يزعزع القاعدة أو يطيحها. عليه يُفهم أن يعصي على لبنانيين معاصرين بلوغُ التفاهم المروم على معنى مواجهةٍ قديمة أو حديثة بين جماعتين لبنانيتين بعينهما أو حلفين متعارضين عقدتاهما أو أصلين مفترضين لهما، إلخ. فإن الناطق الحالي باسم الجماعة أو زجّالَها المفوّه سيستعيد محاولتها وضعَ القيمة في جانبها أو في جانب حليفها مستوحياً في ذلك ما تراه الجماعة صورةً راهنة لها يستدعى التاريخ لتعزيزها. وهو ما لا يسع الجماعة الأخرى أن تنصاع له لمعارضته سعيَها المناظر لهذا السعي… فيتعذّر الوفاق. هذا التعذّر ما كان ليحصل لو حصل الاستعداد للاعتراف بواقع الحال التاريخية: وهو أن فحوى الأصل نفسه أو دلالتَه (بل ورواية وقائعه نفسها، أحياناً) كانت تتغيّر كلّها أو جلّها في مدى تاريخ الجماعة… وأن هذا التاريخ إنما هو، فوق كلّ شيء، تاريخ التحوّلات في تصوّر الجماعة لنفسها أي تاريخ إعادات الابتكار لهويّتها ومعها توالي الأسانيد المتعارضة لثبات هذه الهوية.
فلو كان في مستطاع المؤرّخ «الملتزم» أن يتبيّن حركة الهويّة هذه في التاريخ وأن يرصد وقائعها من مرحلة إلى مرحلة لما وجد نفسه محمولاً، في مواجهة الواقع التاريخي، على تعيين حالة واحدة للقيمة (بما فيها قيمته الشخصية): ما لم يكن، في واقع الأمور، إلا حالةً من حالاتٍ للجماعة متغايرةٍ في ما بينها حتى احتمال التناقض. قبول التغاير هذا في تاريخ الجماعة، بما فيه تغاير الوجهات المنسوبة إلى الواقعة- لأصل، وهو قبولٌ يعادل الانفكاك الرمزي من أَسْر الجماعة دون حاجةٍ إلى الوقوع في خيانتها ولا إلى الخروج العملي منها، إنما هو شرطٌ لتحرير حركة المؤرّخ في التاريخ كلّه وشرطُ الوفاق على التاريخ إن لم يكن بين الجماعات فبين المؤرخين لها.
على هذا القبول بالتغاير (وعلى حقيقة حصوله) ضربتُ، في الندوة التي أشرتُ إليها في عجالتي الماضية، مثال الحرب اللبنانية. قلت أن الاعتراف بأن موارنة اليوم وسنّته وشيعته ودروزه، إلخ، أصبحت كلّ جماعة منهم، بتمثيلها السياسي الغالب، في موقع مخالف جدّاً لذاك الذي كانت فيه أثناء الحرب الماضية: مخالف له في «القضايا» وفي الأحلاف وفي المسلك… فما الذي يلزم المؤرّخ، لو ساغَ له الاعترافُ بهذا التغيير والصُدوعُ بمفاعيله، أن يُلزم الجماعة في صعيد القيمة بموقعٍ غادرَته وبدت مسلّمة بالخلل فيه، في صعيد الواقع؟ ولكن المؤرّخ يجنح عن هذا الاعتراف حين يلحظ ورود المطالبة به من جانب من يراه منافساً أو خصماً ويلحظ رغبة هذا الغير في جني فوائد من هذا الاعتراف للجماعة- الغير. هذا سبب لرفض الاعتراف بالتغيير وبالزمن. ولكن السبب الأعمق يبقى دأب الجماعة، في سعيها المتجدد للبقاء، إلى تصوير تاريخها (بمعناه كلّه إن لم يكن بوقائعه كلّها) على أنه حالةُ وفاءٍ راسخ لهويّةٍ عصيّة على التقادم عَصاوتَها على التجديد.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

عَبَثُ التاريخ بمشكلة كتاب التاريخ

أحمد بيضون

في ندوة بيروتية أخيرة، عادت إلى بساط البحث مسألة كتاب التاريخ المدرسي، وهي، في لبنان، مسألة تكرارية تَبْرز لنا بين حين وحين من حيث نحتسب أو لا نحتسب. وهي تشبه بهذا بنية ما يسمّى التاريخ عندنا: إذ هذه قائمة أيضاً على استعادة الأحداث كلها حدثاً بعينه لا تني تردّد معناه الفعلي أو المزعوم. لم يكن كتاب التاريخ موضوع تلك الندوة إذن ولكن مسألة الكتاب المذكور وجدت لنفسها موطئ قدم في الندوة.
وحين أزمعتُ التدخّل في المناقشة باعتباري من أصحاب السوابق في هذا المضمار، وجدتُني أنتبه إلى أن الزمن الذي مرّ على بقاء هذه المسألة بلا حلّ (وهو ربع القرن الذي انقضى على الانتهاء المفترض لحرب لبنان) بات يوجب تجاوز الزاوية التي كنت أعتمدها لكلامي في كلّ مرّةٍ طرقتُ فيها هذا الباب.
كنت أُوضح، عادةً، أنني أعارض توحيد الكتاب وأؤيد توحيد المنهاج وأؤيد معه رقابة علمية وتربوية تزاولها هيئة مختصة رفيعة المستوى في وزارة التربية يناط بها اعتماد الكتب المعروضة عليها أو رفضها أو طلب تعديلها. وكنت أبيّن أن توحيد الكتاب مشروع يبطن وهماً مريحاً للسلطة الضعيفة هو وهم القضاء على مشكلة من المشاكل بضربة واحدة لا تقوم بعدها للمشكلة قائمة بعد عامٍ ولا بعد قرن. فالسلطة اللبنانية تخاف ألا تجد نفسها قادرة، إذا تركت الباب مفتوحاً لاستقبال الكتب الجديدة، على رفض أيّ كتاب يظهر له دعم من جانب جهة سياسية أو مذهبية مهمّة، وهذا مهما يكن الكتاب تافهاً أو خطراً. وذلك أن هذه السلطة – سلطة الدولة – باتت ترى نفسها الأضعف بين سلطات أخرى كثيرة عاملة في البلاد وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بمسائل تعني جماعة من الجماعات الطائفية أو تتواجه بصددها جماعات مختلفة.
فترى السلطة إذن أنها إن واتاها الحظّ ووفّقت في هذا النوع من المسائل إلى صيغة ترضي أهل الحلّ والعقد كافّة فإن عليها أن تسجد شكراً للعناية ثم لا تعود إلى فتح الموضوع أبداً. وهي قد أصبحت تجد في يدها الدليل الساطع على صواب موقفها هذا: وذاك أن ربع قرن من الجهد الموصول تارةً والمتقطع أخرى لم تفض بها إلى نشوة الخلاص المرتجى. هذا واللجان التي شُكّلت تباعاً لوضع المنهج والكتاب لم تكن خالية من الكفاءة المهنية وإن تكن الواحدة منها قد بدت، بتشكيلها الطائفي، أقرب إلى مجلس للملل منها إلى لجنة للتخطيط التربوي والتأليف المدرسي. وكانت العادة أن كل وزير جديد يجد نفسه مغرىً بأن يعتبر أنه قد عفا الله عمّا مضى فيرتأي تشكيل لجنة جديدة ليحقّ القول أنه كلما دخلَت لجنةٌ لعَنَت أختَها.
ولكن هذا التسليم بالضعف من جانب سلطة الدولة لا يوهم بالخروج من مأزق إلا ليفضي إلى اثنين. فإن التلميذ سيبقى محاصراً بمصادر غير الكتاب للمعرفة التاريخية، بينها معلّمه نفسه، تخالف التسوية البائسة التي مثّلها الكتاب ولا يقوى على مجاراتها هذا الأخير، وهذا أوّلاً. وإن المعرفة التاريخية معرفة متحرّكة يكثر فيها الجديد بشأن وقائع الماضي ويفترض أن تلمّ بالحاضر أيضاً وهو ما يقتضي إعادة نظر دورية في الكتاب… خصوصاً وأن حركة التاريخ الحاضرة، فضلاً عن الكشوف الجديدة في ميدان المصادر، كثيراً ما تملي هي نفسها مراجعة التقويم المعتمد لهذا أو ذاك من حوادث الماضي وأشخاصه، وهذا ثانياً. يدلّ على هذا، مثلاً، أن الحاجة إلى الكتاب الموحّد إنما غلّبتها الحرب (وإن يكن الشعور بها سابقاً لهذه الأخيرة) وأن التسليم حاصل بأن الرواية المدرسية للتاريخ بعد الحرب لن تكون هي نفسها الرواية الرائجة له قبلها وأن الحرب نفسها بما هي حدث مركّب حديث العهد قد استوى تقديمها وروايتها وتقويمها مصدراً بارزاً من مصادر العسر الذي ابتلي به مشروع الكتاب الموحّد من أصله.
ذاك تقريباً ما كنت أقوله حين يطرح على بساط ما موضوع التاريخ المدرسي الموحّد. في الندوة الأخيرة التي أشرت إليها شعرت أن كلامي هذا، وإن لم أكن أجد فيه اليوم ما يجانب الصواب، قد أصبح غير واف بالغرض. وذاك أن الزمن الذي انقضى من غير أن يفضي السعي المشكور إلى الحجّ المبرور قد جاء بجديد يمسّ أساس المشروع لا تفاصيله وحسب وأن تمادي الإعجاز عن الإنجاز يكشف، في ما أرى اليوم، جذراً للمشكلة يضرب في رؤية للتاريخ ولزمنه هي رؤية موحّدة فعلاً ولكنها، بوحدتها هذه، تنشر على الأفرقاء جملةً هذا العجز عن تحصيل الوفاق في مسائل تفصيلية مختلفة. ففي أطوار الواقع التعليمي، بمقدار ما ترسم معالمه مصادر المعلومات وأساليب الوصول إليها، أن الكتب المدرسية، بمعناها المعتاد، ومنها كتاب التاريخ، قد تفاقمت هامشيتها كثيراً بما هي حاملٌ من حوامل المعرفة، بالقياس إلى ما باتت تقدّمه الشبكة من كتل المعلومات ومن سبل البحث فيها والوقوف على ما تحويه من روايات للحدث الواحد متعارضة وتقويمات للواقعة الواحدة متغايرة، إلخ. فهذه كتل يتصاغر بإزائها محتوى الكتاب المدرسي ويعترض تنوّعُها كلّ جهدٍ لفرض ترسيمة واحدة تحكم نظر التلامذة في شؤون التاريخ وشجونه. وقد بلغ من سيادة هذه الوفرة في المادّة وهذا التنوع في وجهات النظر أن تعليم المادّة أصبح اليوم تعليماً لكيفيات التعلّم وتوجيهاً بين مسالك التقويم ولم يعد يسعه بحالٍ أن يكون فرضاً لرواية وحيدة أو لرأي فردٍ في أيّ شأن.
هذا يفرض على أصحاب المشروع اللبناني أن ينقلوا همّهم من الكتاب الموحّد وروايته العسيرة الولادة للتاريخ إلى طريقة في تدريب التلامذة على البحث وعلى نقد الروايات وعلى تقويم الأحكام التقويمية واكتشاف زوايا النظر ومفاعيلها. وهذه أمور يحتاج تعليمها، فضلاً عن إتقان طرائق البحث، إلى أمثلة تاريخية متحرّكة بين الموضوعات ومتراتبة لجهة البساطة أو التعقيد ويحتاج بطبيعة الحال إلى مناهج في التحليل النقدي للمادة التاريخية. يحتاج هذا التعليم إلى هذا كله ولا يحتاج إلى رواية ناجزة تغطي عهوداً شاسعة وبلاداً كثيرة وتقدّمها سلسلة كتبٍ مدرسية. هذا تغيير لا يسع لجنةً تعمل في التخطيط لتعليم مادّة من الموادّ وفي توفير ما يلزم له أن تتجاهله بعد اليوم.
يبقى أن ثمّة، في الحالة اللبنانية، أمراً خاصّاً يبقى كامناً تحت هذا التحوّل العامّ في طرائق التعليم وموادّه وأهدافه. ثمة مشكل أشرنا إلى وجوده في صورة التاريخ والزمن وفي الغاية التي تُفترض لهما هو المانع الأعمق لإفضاء اللبنانيين إلى رواية مدرسية يتقبّلونها لتاريخ بلادهم. إلى هذا المشكل نعود في العجالة المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون