بيروت بعيون نزلائها

أحمد بيضون

أبريل 11, 2015

يروت مدينة لا يعوزها المدّاحون. هي تجد حاجتَها منهم بين اللبنانيين المتأصّلين فيها وتجدها بين غير اللبنانيين، على اختلاف التابعيّات، ممّن يقيّض لهم أن يقيموا فيها مُدداً طويلة إلى هذا الحدّ أو ذاك. ولا غَرْوَ أن تكون أصوات المثقّفين هي التي تُسمع قبل سواها حين يخطر لهذا أو ذاك منهم أن يعدّد مزايا العاصمة اللبنانية فإن إسماع الصوت من لوازم صناعتهم. وهم يتوزّعون في هذا إلى فئات ثلاث، لجهة المصدر، وتحدّد مصادرُهم (وهذا طبيعي) ما تغلّبه كلّ فئة في علاقتها بالمدينة. هم، من حيث المصادر، لبنانيون أو عرب أو أجانب. فإن العرب يجدون سبيلاً إلى تشكيل مجموع على حدة يخرج عن حصرية التوزّع المعتادة بين مواطنين وأجانب. ههنا أستلهم شذرات من أحاديث ومن قراءات أستخلصها من ذاكرتي لأغامر باقتراح «نموذج مثالي» يرسمه لبيروت كلامُ كلّ من هذه الفئات الثلاث. ومع إقراري بنصيب للتعسّف من هذا المشروع، يبدو لي مدخلاً موحياً إلى حقيقة بيروت المعاصرة.
نسمع مراسل واحدة كبرى من الصحف البريطانية، مثلاً، أو نسمع باحثاً فرنسياً في العلوم الاجتماعية يسترسل، على الخصوص، في مدح الشمس والبحر. وقد يضيف إلى دواعي افتتانه ببيروت إيقاع الحياة اليومية الذي يجنح إلى التراخي وإلى التفكك. وقد يجاهر بتعلّقه بالمطبخ اللبناني (وهذا مطبخ لا يدين لبيروت إلا بالقليل). وقد يظهر تعلقه بالموسيقى العربية التراثية وهذه لا تدين إلا بالقليل للبنانيين، على العموم، ولكن بيروت تجد سبلاً لنشر أصدائها. ولا يستبعد أن يتوج المعجب نفسه مرافعته بالتنويه بالحيوية النسبية للحياة الثقافية. ولكنه قد يجعل مسكَ الختام (إذا كان سنّه ووضعه الزوجي يأذنان له بالإقبال على هذا النوع من المُتَع) ذكْرَ الصخب الذي تتّسم به حياةُ الليل في المدينة نفسها وفي ضواحيها على الأخصّ.
والراجح أن يغفر هذا «الأجنبي» لبيروت زحماتِ السير المهولة في شوارعها والتقطّعَ المزمن – وقد بات ميؤوساً من إصلاحه – لإمدادها بالتيّار الكهربائي وندرةَ الماء التي تلابس الفصل القائظ خصوصاً وضيقَ الأرصفة التي يتنازعها المشاةُ والدراجاتُ النارية والسياراتُ أيضاً إذ تتّخذها مواقف، في بعض الأحيان… وقد يغفر صاحبُنا نفسه للمدينة ما يجتاحها من قبحٍ معماري وقد يغفر الغلاء الفاحش الذي تتّصف به المطاعم الجيدة فيها، إلخ. فعلى الإجمال، تتّسع إمكاناتُ المراسل أو الباحث الأوروبي أو الأميركي لمداورة هذه البلايا أو معظمها. فهو يتدبّر أمرَه للإقامة غير بعيد عن مكتبه. بل هو قد يجد لنفسه سكناً على شاطئ البحر. وهو حُكْماً أحدُ المشتركين في أقرب مولّد خاصّ للكهرباء، وهذا إن لم تكن البناية التي هو فيها مستقلّةً بمولّد لها وحدها. وهو يبتاع منفرداً أو مع السكّان الآخرين في البناية ما يحتاج إليه حفظُ النظافة وطيبُ المزاج من ماء، وهذا بلا اكتراثٍ زائدٍ للكلفة، إلخ.
على أن هذا السيد نفسه يـُلْفي نفسَه مضطرّاً، لقاءَ ما يجده لحياته البيروتية من محاسن، أن يحتمل من المدينة آفةً صعبة التدبّر: تلك هي آفةُ الأخطار التي ترتّبها الإقامةُ في الديار البيروتية على سلامته وقد ترتّبها على سلامة عائلته. وهذه، في حالة الأجنبي، أخطارٌ مختلفة عن تلك التي تكابدها عامّة البيروتيين في أوقات التوتّر (ويكون الأجانب من هذه الفئة، عادةً، أشدّ حصانةً عليها من نظرائهم اللبنانيين). وهي أيضاً أخطارٌ مختلفة عن تلك التي تترصّد، في بعض الفصول، حياةَ البعض من سياسيّي لبنان وصحافيّيه. فإن التهديد الذي يتّخذ هدفاً له صحافياً أو دبلوماسياً غربياً أو، على التعميم، مواطناً من مواطني الدول الغربية مقيماً في بيروت أو مارّاً بها (ولا تكون الضحية شاعرةً بوجوده، بالضرورة) يقعُ دائماً على تقاطع مساعٍ سرّية ومتشابكة للغاية تشتمل ساحتُها على الشرق الأوسط كلّه. وهو ما يجعل الخطرَ عصيّاً على التوقّع ويجعل ردَّه أمراً شبه متعذّر. عليه يكون على المواطن الغربي الذي يختار بيروت موقعاً لتقاعده أو يتدبّر أمورَه بحيث يمضي عشراتٍ من سنيّ خدمته فيها أن ينشئ حاجزاً نفسياً يفصل الشمس والبحر عن كلّ سياق سياسي.
وأما المثقفون العرب الذين تنشأ ألفةٌ ما بينهم وبين عاصمتنا فإن وجوهاً مغايرة جدّاً لما ذكرنا هي ما يستهويهم من العيش فيها. وذاك أن المواقعَ التي تجذبهم فيها، فضلاً عن دور الصحف ودور النشر ومراكز الأبحاث التي يعمل كثير منهم فيها، هي المقاهي والحانات قبل شاطئ البحر. لا ريب أن الطعام والشراب يستهويهم أيضاً ولكن ما يجذبهم أشدّ الجذب يبقى تبادلَ الحديث ومناقشةَ ما يشهده هذا أو ذاك من بلاد منشئهم من تطوّرات سياسية أو من ركود يوحي باليأس من كلّ تطوّر. وقد لا يحسب هؤلاء أنفسهم بمنأىً من عيون جهاز المخابرات التابع لكلّ من دولهم ومن أعوانه اللبنانيين ولكنهم يقدّرون مع ذلك حرّيةَ التعبير التي تتيحها لهم الصحافة اللبنانية ويحتضنها عالم الثقافة البيروتية الصغير. وهم يؤْثرون أن يعهدوا بكتبهم لدور النشر البيروتية، وهو ما يؤْثره نظراؤهم الصامدون في ديارهم الأصلية أيضاً. وهذا مع العلم أن العاصمة اللبنانية مدينةٌ لسوريين ولعراقيين بالبعض من دور النشر العاملة فيها.
بيّنٌ من بعدُ أن اتّساع الميزات التي تمنحها عاصمةٌ يتمتّع فيها بعض الدول العربية (أو كان يتمتّع) بنفوذ طاغٍ إلى هذا الحدّ أو ذاك، ومنافسٍ لغيره من أمثاله، على الخصوص، قد تزيده أو تنقصه كثيراً هوية الدولة التي جاء منها الصحافي أو الكاتب المعني. ويسع هذه الميزاتِ نفسَها أن تختلف باختلاف الأوقات وأمزجتها. فإن الصحافي الفلسطيني مثلاً لا يُلْفي نفسَه اليومَ ممتّعاً بما كان له من حصانات في بيروت السبعينات من القرن الماضي. وقد قيّض للصحافي السوري أن يشعر، تبعاً لموقعه السياسي، بمزيد من الهشاشة أو بمزيد من الحماية بعد 2005 عمّا كانت عليه حاله قبلها، إلخ. ويدين المثقّف العربي اليوم، في بيروت، بمعظم ما يُتْرك له من حرّية للحماية الطائفية التي يؤهّله انتماؤه السياسي للإفادة منها. وأما الخطر فمصدره المعسكر الطائفي المقابل. ويفضي تآزرُ القوى الطائفية وأجهزة الاستخبارات الخارجية إلى ضمورٍ في هامش الاستقلال المتاح للصحافي ويجعله يبدو مفرطَ الامتثال لخطّ جريدته السياسي ويجعل الضماناتِ المتوفّرة لأمنه أشبهَ بالرمال المتحرّكة. ولقد أمضى مثقفون عرب كثيرون جانباً معتبراً، إلى هذا الحدّ أو ذاك، من أعمارهم في بيروت. واختارت قلّةٌ منهم جعلَها مقاماً دائماً لهم. ومن مرحلةٍ إلى أخرى، تتغير وجهة السياسة فتضطرّ فئةٌ من هذا الجمهور إلى سلوك طريق المنفى. وقد لا يقيّض للبعض أن ينجوا بأنفسهم فينزل بهم القضاء المحتوم.
هذا ولا ينكر الراحلون، على الإجمال، ما لبيروت من دَيْن في أعناقهم. وهم إذ يذكرون هذا الدَيْن ينطقون عادةً باسم قضيةٍ أو باسم شعب. فبينما يميل المثقفون الغربيون إلى تفسير تعلّقهم ببيروت بالذوق الشخصي أو بالأفضليات الثقافية، يجنح نظراؤهم العرب إلى ذكر الملجإ السياسي الذي مثّلته لهم، دون احتياج إلى اللجوء الرسمي، بالضرورة، مدينةٌ منَحَتْهم حريّةَ تعبير بقيت، على علاّتها، مخرجاً من ضيق بلادهم بحريّتهم. ولا غرْوَ أن هؤلاء يستكثرون من عبارات الشكر للتضحيات التي تكبّدتها بيروت أو تكبّدها اللبنانيون، على الأعمّ، من جرّاء مغامراتٍ كان هؤلاء المثقفون جزءاً لا يتجزّأ من طواقمها. ويتظاهر معظم هؤلاء بأن حالات الصدام الذي خاض فيه اللبنانيون في ما بينهم بصدد هذه المغامرات لا ينبغي لها أن تنتقصَ من الضيافة الغريبة الزيّ التي ينسبونها إلى بيروت.
يبقى ما يلهج به مدّاحو بيروت من المثقّفين اللبنانيين ويبقى ما يمكن الخلوص إليه من مقابلة هذه الصور الكلامية كلّها بواقع الحال. ذاك ما نكرّس له عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

إكليروس الشيعة

أحمد بيضون

أبريل 4, 2015

ثمة ما يستوقف في كتاب بيار جان لويزار الأخير «التاريخ السياسي للإكليروس الشيعي». والمؤلّف باحثٌ فرنسيّ متخصص في تاريخ العراق المعاصر وهذا كتابه الرابع المركّز على العراق (أو هو الخامس إن تجاوزنا التردّد في ضمّ كتابٍ آخر له إلى هذه الفئة). وما يستوقف فيه ليس اتخاذ العراق وتكوّنِ دولته المعاصرة مداراً. فقد كان هذا دأب كثيرين قبله زادهم كثرةً عنفُ المحن التي تقلّب فيها الوطن العراقي وما يزال في ثلث القرن الذي انقضى على بدء الحرب الإيرانية العراقية. ليس البحث في أحوال الشيعة المعاصرين، في إيران والعراق، على الخصوص، وفي محيطهما، هو ما يستوقف أيضاً وقد ازدحمت رفوف المكتبات، في الحقبة نفسها، بكتب دعت إلى تكاثرها الثورة الإسلامية في إيران وما أعقبها من هزّات في بلادٍ قريبة إلى إيران أوّلها العراق وفي أخرى بعيدة عنها بُعدَ اليمن أو لبنان.
يستوقف أوّلاً جعلُ علماء الدين الشيعة – منذ العنوان! – مسمّىً لاسمٍ غير مألوف في المصطلح المكرّس للدلّ على تكاوين الجماعات المذهبية في الإسلام وهو «الإكليروس». فهذا مخالف لقول شائع ذائع مفاده أن «لا إكليروس في الإسلام». وهو قولٌ يمثّل توسّعاً في الحديث المشهور (ولو اختلف في وروده بهذا اللفظ) «لا رهبانية في الإسلام». وأما ما يحمل لويزار على اعتبار علماء الدين الشيعة متشكّلين في «إكليروس» (وهو ما يوحي باعتبار التشيع نوعاً من «كنيسة») فهو مسارُ تشكّلٍ تاريخي معقّد كان مسرحاه المتداخلان، على تنافس، الدولتين العثمانية والفارسية. وما يجعل علماء الدين الشيعة مستحقّين أن ينعتوا بالـ»إكليروس» إنما هو استقلالهم عن الدولة وأجهزتها بتنظيم خاصٍ بهم ذي مراتب وموارد.
ينفرد هذا التنظيم بمدارس يتولّى فيها العلماء ذوو الصفة تجديد السلك وبموارد تتمثّل، على الخصوص، في الخمس والزكاة وتضاف إليها موارد الأوقاف وغيرها… ويتميز التنظيم نفسه بتراتب يقع في قمّته «المرجع الأعلى» يليه ثلّة من المراجع الذين يتبعهم مجتهدون يتوزّعون حيث تظهر حاجةٌ إليهم وقد أخذ يطلق عليهم لقب «حجة الإسلام» بعد أن انفرد المراجع بلقب «آية الله» أو «آية الله العظمى»… وهذه كلّها صفاتٌ تخضع لاعتراف الأنداد ولإقبال المقلّدين وفقاً لنظامٍ يتّسم بمزايا الأنظمة العرفية وبعيوبها لجهة المرونة التي قد لا تكون سوى اسمٍ للنقص في دقّة المفهوم وفي قوّة الإلزام. ويتّصل هذا الهرم بجماعة المؤمنين بحكم مبدأ التقليد الذي يجعل الفرد الشيعي ملزماً باختيار مرجع له يقتديه في العبادات وفي المعاملات سواءً بسواء.
ولقد أمكن أن يتآزر في إتاحة الاستقلال لهذا السلك من علماء الدين أو الفقهاء وضعان متخالفان: فارسي وعثماني. فالتقت- على نحوٍ لا يخلو من المفارقة – «شيعية» الدولتين الصفوية والقاجارية في بلاد فارس و»سنّية» الدولة العثمانية (التي لم تعترف للشيعة بوضع «الملّة» الذي أسبغته على المذاهب المسيحية، مثلاً) على ترك جوانب ذات أهمّية من تدبير أمور الجماعة الشيعية لعلماء الدين. فأصبح منوطاً بهؤلاء تدبير شؤون حيوية لعامّة الشيعة في هذه المملكة وفي تلك. وأصبح لهم من الموارد المستقلّة ومن النفوذ ما يعادل نوعاً من الوصاية المعنوية- وإن تكن محلّ نزاع – على السلطة القائمة في بلاد فارس ونوعاً من السلطة البديلة في جنوب العراق العثماني. وهو ما لم يكن ممكناً أن يبقى بلا فاعليةٍ سياسية أو طموحٍ إلى الفاعلية حين تلوح الفرصة هنا أوهناك.
على أن بين ما يظهره كتاب لويزار – مما تنساه الذاكرة العامّة – ما تتّسم به ظاهرة الإكليروس الشيعي من جدّة نسبية في العراق الذي هو موئلها الأهمّ، العربي والفارسي، إذ كانت المدن الشيعية المقدّسة فيه تضمّ أبرز المراجع الشيعة من عرب وإيرانيين ومن منتمين إلى اقوامٍ أخرى أيضاً. وذاك أن الإرهاص بالمرجعية العليا في النجف (وهي التي تبدو اليوم وكأنها بنت قرونٍ لا تحصى) لا يرقى في الواقع إلى ما هو أبعد من أواخر القرن الثامن عشر. نقول «إرهاص» لأن السمات المميّزة للمرجعية العليا ولما يليها من هياكل لن يظهر مكتملاً، بحمولته السياسية الصريحة، إلا مع السيد حسن الشيرازي في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر. وأمّا ما يعدّ سنداً عقدياً لهذه الصيغة التنظيمية فكان استظهار المدرسة «الأصولية» على منافستها «الأَخْبارية» في الفقه الشيعي. فإن هذا الاستظهار هو ما منح الاجتهاد موقعه في مزاولة الفقه وجعل للمجتهدين مكانة رفيعة في الجماعة إذ أملى على المؤمن اتّخاذ مرجعٍ يقلّده من بينهم في أمور دينه أو يقلّده توجيه هذه الأمورَ من غير حاجةٍ إلى حرف الجرّ.
هذا وليس الإكليروس الشيعي وحده هو الحديث الظهور أو الاكتمال بل الغلبة الشيعية على عشائر الفرات الأوسط وجنوب العراق جديدة نسبياً أيضاً. فإن منشأ هذه الغلبة كان ميل هذه العشائر إلى الاستقرار الحضري وتعرّضها من ثمّ لغزوات البدو الجمّالين من آهلي جزيرة العرب واحتياجها، في مواجهة هذا الخطر، إلى قيادةٍ توحّد صفّها وتتدبّر لوازم حمايتها. وقد وجدتها في العلماء الشيعة المتوطّنين في مدن الشيعة المقدّسة، وكان معظمهم من الفرس ذوي النفوذ في بلادهم وذوي الموارد. هذا التحوّل الواسع إلى التشيّع، وهو يوهم من يعاينه اليوم برقيّه إلى صدر الإسلام، لا يرقى في الغالب من حالاته، على ما يقرّره لويزار – بعد آخرين – إلا إلى قرنين من الزمن أو أزيد من ذلك بقليل.
أمرٌ آخر يتبدّى لقارئ لويزار هو تبادل الحماية والدعم ما بين الفرعين العراقي (أي العربي) والفارسي من الإكليروس إلى حدّ لا يصحّ اعتباره مبطلاً التمييز بين هذين الفرعين (الرئيسيين في وسطٍ متعدّد القوميات) ولكنه يجعل هذا التمييز ثانوياً في معظم المراحل ويحصر فاعليته في ظروفٍ استثنائية. وهو ما يشي بتغليب لوحدة المذهب على وحدة القومية يستوي قاعدةً على الرغم من خرقه في بعض الأحيان. فقد كانت المزارات العراقية ملجأً عثمانياً لمعارضة العلماء الفرس سلطة بلادهم الأصلية كلـّما اقتضى الأمر. وكانت هذه المزارات تتمتّع بنوع من الحصانة النسبية أقرّت لها بها السلطة العثمانية نفسها. وكانت إيران مستعدّة أيضاً لاستقبال اللاجئين من علماء العراق حين تدعو الحاجة إلى ذلك في العهد العثماني وبعده: أي أيضاً في عهد الدولة العراقية المعاصرة. وكان هؤلاء يجدون في بلاد فارس (وهي بلادهم الأصلية، في أكثر الحالات) أي في مشهد أو في قمّ، مثلاً، ملاذاً معنوياً وبنى استقبال مادية تأذن لهم بمواصلة نشاط قريب الشبه بذاك الذي ألفوا مزاولته في المدن العراقية.
هذا كله يوجب على الدارس الوقوف عند أمرين: أوّلهما العمق الذي أصبح عليه الانتماء المذهبي على الرغم من حداثة عهده، وهو عمق لا تفسير له سوى حدّة الصراع بين أهله ومخالفيهم، وثانيهما حداثة الرابطة الوطنية التي تجعل تعايش الفئتين الفارسية والعربية في الوسط العلمائي، على الخصوص، أمراً ميسوراً، على الإجمال، وإن لم يخلُ من احتكاكٍ عارضٍ وتوليد شرر.
ذاك أظهرُ ما يدعو إلى التأمل في كتاب لويزار. وهذا مع أن الكتاب يتناول مسائل أخرى كثيرة: من ثورة التبغ ثم الثورة الدستورية في إيران إلى الجهاد المواجه للاحتلال البريطاني ثم إلى ثورة العشرين في العراق… وهذا إلى مضيه قدماً في تناول ما شهده كلّ من العراق وإيران، في عشايا الثورة الإيرانية وبعدها، من حربٍ ومن سلم، وفي رصد سياسة المراجع الشيعة حيال مبدأ «ولاية الفقيه» ونكوص الثورة الإيرانية عن مثالها الديني بعد الخميني، وفي بروز مرجعيات شيعية وتكوّن قوى سياسية ممثّلة للشيعة في بلاد مختلفة تنتشر بين لبنان والدول العربية الحافّة بالخليج، إلخ. وفي هذا كلّه تبدو الحواضر الشيعية في العراق مقارّ قيادة رئيسة أو رديفة لحركات سياسية كبرى شهدتها إيران ولنظائر لها شهدها العراق وتبدو أدوارها هذه متآزرة وأدوار المدن الإيرانية.
ينمّ الكتاب بمتابعة دقيقة لهذا كلّه، وإن اعتورتها هنا وهناك هناتٌ هيّنات. وهي متابعةٌ تفضي بنا إلى الراهن من أوضاع الانتشار الشيعي، في مختلف أقطاره، وتجعل من الكتاب مدخلاً إلى هذا الراهن. ولكن العراق وتشيّع شيعته وتشكّل «إكليروسه» الشيعي وأدواره وأطوار محنه المتناسلة تبقى في موقع القلب من هذا الكتاب الذي أراده مؤلّفه جامعاً إلى الدقة في المتابعة بعداً عن التمحّل الأكاديمي أثمر بساطة في العرض وسهولة في القراءة.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

المكتبة الإمبريالية

أحمد بيضون

مارس 28, 2015

كلما همَمْتُ بتنزيل كتابٍ من كتب التراث الإسلامي عن الشبكة: سواءٌ أكان الكتاب أدباً أم تاريخاً، علومَ قرآنٍ أم علومَ حديث، فقهاً وأصولاً أم كلاماً وفلسفة، إلخ، إلخ، تبيّن لي أن الموقع الذي أهتدي إلى التنزيل عنه قد أخذ الكتابَ بدوره عن الموقع الأمريكي المعروف بـ»إنترنت أركايف» أو بـ us.archive.org .
يعلن هذا الموقع طموحاً أقصاه التوصّل إلى خزن نسخة عن الإنترنت بقضّها وقضيضها… وعلى هذا الموقع الذي تبيح هيمنته العالمية نعْتَه بالإمبريالي، نقع (بين ما نقع عليه، وهو لا يُحْصَر!) على كتب التراث الإسلامي بعشرات الألوف. ومنه يتزوّد السَلَفيون والخَلَفيون، الأُصوليون والفُصوليون، أهلُ الظاهر وأهلُ الباطن، أشياعُ السُنّة وأسنانُ الشيعة، الخوارجُ والدَوارجُ، المعتزلةُ والأَشاعرة، أهلُ النقل وأهلُ العقل، حُماةُ التنزيل ودعاةُ التأويل، المتصوّفة والمتخوّفة، إلخ، إلخ.
فيظهر لي أن الذي يُغْلَق في وجهه هذا الموقع (وهو لا يُغْلَق في وجه أحد) ترتدُّ فرصُه في نشر كتبه وتعميم دعوته إلى ما يشبه العصرَ الحجري.
ذاك جانبٌ لا يُنْتَبَه إليه كثيراً من جوانب اعتماد العداء للإمبريالية على أسلحةٍ تقدّمها الإمبريالية بطيبِ خاطر: منها الأسلحة النارية طبعاً، من الطلقة إلى الصاروخ الثقيل، ومنها الهاتف الخلوي والتلفزيون الفضائي والبريد الإلكتروني… ومنها المواقع على الشبكة وبعض هذه الأخيرة ما يحمل كنوزَ المكتبات إلى الحواسيب الشخصية ناهيك بالألواح والهواتف.
ووراءَ كنوز المكتبات يقبع «مستشرقون» استقدموا المطبوعات بعد أن كان أسلافهم قد اهتدوا – وهذا هو الأهمّ – إلى كثير من أهمّ المخطوطات. فحقّق المتقدّمون وقدّموا وذيّلوا وقابلوا النُسَخ ونَقَدوا النصوصَ ونَشروا المؤلفات. وحين حلّ العهد الرقمي راح الفنيون ينقلون بإشرافٍ من بعض المتأخّرين هذه الكنوزَ ويضعونها بين أيدي أصحابها من أصدقاء وأعداء.
هذا ولا بدّ من التنويه بأن من يفعل معظمَ هذه الأشياء ليس الحكومات وإنما هي مؤسساتٌ مستقلةٌ عنها أو هي تابعةٌ لها ولكن العاملين فيها يحظون بقدر من الاعتبار لحرّية البحث. فلا يمنع مانعٌ أن يكون الواحد منهم معادياً جدّاً لسياسة الحكومة ولا أن يعبّر عن هذا العداء في نطاق مؤسّسته البحثية. ولا ينقض هذا الوضعَ المبدئي وجودُ آخرين في الوسط نفسه يعتمدون مواقفَ أخرى. ولا يُبْطِله أيضاً تعرّضُ هذا أو ذاك من العاملين لتضييقٍ أو حصار.
لا بدعَ أن تبقى الأبواب مفتوحة، على الرغم من هذا كلّه، للتنويه بأن اليسوعي البلجيكي هنري لامنس كان مجنّداً نفسه لخدمة الجنرال غورو وجيشه أو بأن الفرنسي لويس ماسينيون كان ضابطاً سياسياً مكلفاً توزيع الرشاوى على المطلوب تأييدهم للانتداب الفرنسي أو بأن البريطاني المتأمرك برنارد لويس نصيرٌ متحمّسٌ للصهيونية. ولا بأس أبداً في تتبع آثارٍ خَلَّفتها هذه الانتماءات أو الميول في مؤلفات هؤلاء. ولكننا نخسر كثيراً إذا أشحنا عمّا يسعنا تعلّـمه من لامنس بصدد العصر الإسلامي الأوّل ومن ماسينيون بصدد الحلاج ومن لويس بصدد نشأة تركيا الحديثة أو بصدد نظام الرقّ في الإسلام.
وفي كلّ حال ليس المستشرقون موضوع حديثنا هنا إلا من زاوية محددة. نذكرهم أولاً بمقدار ما ضلعوا في جهود آلت إلى نشر ما نعرفه من كتب التراث الإسلامي-العربي وذلك، في أكثر الحالات، في طبعاتٍ نقدية محققة. ونذكرهم ثانياً – وخصوصاً – بمقدار ما يسهم بعض الجيل الحاضر منهم (ومعهم خبراء في المكتبات وخبراء في الإنترنت) في رقمنة هذا التراث ووضعه في أحدث صيغ النشر وأوثقها تحت أبصارنا دون قيدٍ ولا شرط.
ولا أملك، في ما يتّصل بشخصي، ألاّ أعترف للموقع الإمبريالي المشار إليه بأنه أتاح لي أن أعيد، في شهور معدودة وبلا كلفة مالية، بناء مكتبة إسلامية-عربية مرقمنة كان اقتناء نظيرتها الورقية (وهي أضأل منها حجماً وأقلّ تنوعاً) قد كلّفني نحواً من أربعين سنة من الجهود ومبالغ من المال لا يستهان بها.
وقد كان ردّ الثقافة إلى السياسة، وهو قد اشتمل عندنا على وجوهها كافـّةً بما في ذلك حواملها المادية، أي الكتب مثلاً، قد جنح بكثيرين، مع إدوارد سعيد وبعده، إلى غمط المستشرقين حقوقاً مستحقة لهم وأخذ الصالح من أعمالهم بجريرة الطالح. وقد كنت أحد قلائل من النقاد العرب استوقفهم هذا الشطط، وهو ذو وجوه عدّة، فأبديت تحفّظي عمّا ساقه سعيد في كتاب أساسي من كتبه هو «الثقافة والإمبريالية» وذلك بعيد صدور الكتاب.
على أن الضرر الأكبر جاء، لا من المضمون الفعلي لأعمال سعيد ولكتابه «الاستشراق»، على الخصوص، بل من جوّ الاستسهال الذي أنشأه مريدون له ومقتدون به لاتخاذ الاستشراق تهمة أو شتيمة لا يقذف بها المستشرقون وحدهم بلا تمييز بين واحد وواحد أو بين عمل وعمل بل تتخذ سلاحاً في المواجهات الأهلية بين مثقفينا أيضاً. فيوصف بالمستشرق كل من حاول الإفادة من بعض مناهج الغربيين في تناول البشر والمجتمعات أو من تعرّض بالنقد لمواريث إسلامية أصبحت ترزح رزوحاً خانقاً على صدور المسلمين ومجتمعاتهم.
هذا مع أن رأس ما يجب تقديره في حالة سعيد إنما هو استواؤه ناقداً لمدوّنة غربية أصيلة بلغة من لغات هذه المدوّنة وبمنهاجٍ نقدي شكّله بأدواتها مستلهماً، على الأخصّ، منحىً فرنسياً معاصراً له في النقد التاريخي. فلا أذلّته لغةُ تآليفه وموروثها ولا كان يسعه التبرؤ من دَيْن لها في عنقه مؤكّد الجسامة. وأوّل وجوه هذا الدين أن ما كسبه الرجل من ثقافة تلك اللغة أو من ثقافاتٍ رصيفةٍ لها كان عدّته في التحرّر من نظرةٍ إليه وإلى بني قومه وجدها في تلك الثقافة وفي رصيفاتها.
إدوارد سعيد مثقف فلسطيني المنبت والنشأة الأولى أبرز هو نفسه ما كان في وسَطَي نشأته الفلسطيني والمصري من لَبْسٍ لغوي – ثقافي. وهو، بعد ذلك، مهاجر تعلّم في بعضٍ من أهمّ الجامعات الأمريكية وأمضى الشطر الأهمّ من حياته المهنية مدرّساً في الجامعة الأمريكية التي أتمّ فيها دراسته. وهو قد رفع صوته وألّف باللغة الإنكليزية كتباً ناقدة لمواقف غربية من فلسطين ومن الإسلام ومن بشَر الشرق ومجتمعاتهم في إبّان انتمائه إلى تلك الجامعة الأمريكية نفسها.
أقول هذا عالماً أن هذه العجالة لا تجاوز ملامسة موضوعٍ شاسع النطاق، متداخل الوجوه. وإنما حملني على هذه الإشارات معاينتي الموارد الرقمية لكثرةٍ من الأعمال المنتمية إلى ما نطلق عليه اسم التراث العربي الإسلامي. وقد ردّتني هذه المعاينة إلى اقتناعي بأن نقد منتجات الثقافة لا يستغني – على التعميم – عن النظر في مقدار ما لها من استقلالٍ لا تقوم لها قائمة بغيره عن أهواء منتجيها أنفسهم ناهيك بمصالح دولهم. لا يستغني هذا النقد نفسه أيضاً عن النظر في حال الناقد وموقعه بما في ذلك الإقرار بجلوسه على ركبتي الثقافة التي ينتقد وباستوائه، إلى هذا الحدّ أو ذاك، عالةً عليها أو على بعض وجوهها، في الأقلّ، إذا كان ذاك الجلوس وهذا الاستواء واقعاً محقّقاً.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

النسيان

أحمد بيضون

مارس 21, 2015

أرغب في لفت الأنظار إلى موضوع ما يزال الخوض فيه سابقاً لأوانه. لا أتجاوز التنبيه إلى وجاهته وليس في جعبتي كلام كثيرٌ أقوله فيه. تحملني على التطرّق إلى هذا الموضوع عودتي – لسببٍ عارض – إلى كتابٍ يصحّ أن يعتبر افتتاحاً فكرياً لهذا القرن الذي نحن فيه اقترحه، في أواخر حياته الطويلة، فيلسوفٌ كان قد وجد الوقت للنظر النقدي في مدارسَ تصدّرت ساحات الفكر الفلسفي وعلوم الإنسان في القرن العشرين: من الظواهرية والوجودية إلى التأويلية إلى التحليل النفسي إلى الألسنية ونظرية الرواية… وكان قد جهد في مدّ الجسور بينها وفي البحث عمّا يمكن أن يرفد به كلّ منها جهد الفلسفة والعلوم لتكوين صورة متكاملة الأبعاد للإنسان المعاصر كما يظهر في سائر أوضاعه وأفعاله.
الفيلسوف الذي أشير إليه هو الفرنسي بول ريكور وكان لي شرف التتلمذ عليه مدّةً قصيرةً في باريس، في وسط الستينيات من القرن الماضي. وأما الكتاب فواحد من أواخر كتبه الأخيرة نشره سنة 2000 قبل رحيله بخمس سنوات. وكان قد بلغ السابعة والثمانين عند ظهور الكتاب ولكنه وجد وقتاً، بعد ذلك، لنشر بضعة كتبٍ أخرى قد يصحّ اعتبارها دون ذلك الكتاب طموحاً أو أهميّةً بين مؤلّفاته.
جعل ريكور لكتابه ذاك عنواناً استعاد بأمانة مدارات أقسامه «الذاكرة، التاريخ، النسيان». ولأقُلْ، على الفور، أنني لا أزمع عرضه هنا. فتلك مهمةٌ لا تتسع لها هذه السطور المعدودة دائماً ولا مناسبةَ تسوّغ الإقدام عليها ههنا. وإنما أحبّ ان أسترشد الصفحات الأخيرة من الكتاب في صوغ سؤال أو أسئلة تلحّ عليّ – وعلى غيري – في أيام الشقاء الذي نحن فيه.
جعل ريكور النسيان موضوعاً للقسم الأخير من كتابه فحصلنا في موضوع النسيان على صفحاتٍ لا تنسى! وهو، بذلك، قد قرن هذا العنوان الذي يبدو، أول وهلة، محتاجاً إلى ما يثبت وجاهته، بعنوانين تفرض أهمّيتهما نفسها من غير سؤال وتفرض معها أهمّية البحث في الجدل المصيري بينهما وهما الذاكرة والتاريخ. والحال أن ريكور يفلح في إبراز النسيان على أنه شرط للتذكّر ولتكوين النص التاريخي معاً. ولكنه يتتبّع النسيان أيضاً بما هو ممارسة قائمة برأسها، بمعنىً ما، كثيرة الوجوه والتجليات تنتشر من سرّ الذاكرة الفردية إلى علن الذاكرة الاجتماعية أو التاريخية. هذه الممارسة تنشعب إلى فرعين رئيسيين يسمّي المؤلف أوّلهما النسيان بمحو الأثر، وهو الضياع القطعي للذكرى، ويسمّي الثاني النسيان الاحتياطي وهو، بخلاف الأوّل، بمثابة الكنز الذي تستقي منه الذاكرة مادّتها محققةً «معجزة التعرّف الصغيرة» لكلّ وجه أو حدَثٍ أو شيء تفلح في استعادته.
وإذ يسوس النسيان الذاكرة ويفرض نفسه في ممارسة التاريخ أيضاً يدخل في أبعد مناطق الشخصية غوراً أي في تشكيل خريطة المواقف المؤسِّسة وما يداخلها من أهواء وعواطف وانفعالات ويدخل في لعبة الهويّات المتحرّكة التي يتداولها السلوك الشخصي. على المستوى الاجتماعي أيضاً، توجد سياسة للنسيان قد تتشعّب إلى سياساتٍ تتواجه عبر الصدوع والخنادق التي ترسم خريطة المجتمع بمستوياتها المتداخلة أو المتراكبة. على هذا المستوى نفسه، أيضاً، يداخل النسيان هشاشة الهويّات التي تصبح هويّاتٍ لجماعات إذ يستوي بعداً من أبعاد الروايات التي تنشأ الهوية أو تتحوّل بالتواطؤ عليها. هذا النسيان الأخير له سياسة أيضاً، بطبيعة الحال. بل إن سياسته أقربُ إلى المعنى العامّ الذي نعرفه للسياسة.
يستأنس ريكور بمبدأ الكبت الفرويدي لإبراز ما يطلق عليه اسم «الذاكرة المعْتَرَضة». فها هنا يحلّ تكرار الفعل في محلّ تذكّره. وهذا مشروطٌ بنوع النسيان الذي يفرضه الكبت بما هو أبعد أنواع النسيان عن محو الذكرى إذ هو يجعلها غير قابلة للمحو. أقْرَبُ من هذا النوع من النسيان إلى النسيان الاجتماعي ما يراه ريكور مقترناً بـ»الذاكرة المتلاعَب بها» وهي تلك التي ينحو إلى تشكيلها عمل الأيديولوجية بما يقضي به من تخيّر لعناصر تناسبه من الماضي (بل من الحاضر أيضاً) ونسيانٍ لأخرى. أخيراً يصل بنا ريكور إلى «الذاكرة المأمورة» وهي ما يصبح النسيان فيها موضوعاً لقرارات تتّخذها السلطة ذات الصلاحية. هذه الذاكرة الأخيرة تجد تجسيداً بارزاً لها في «العفو العامّ» الذي يُجْعَلُ خاتمةً للنزاع الأهلي. وهي تنشئ بهذا المعنى جسراً يبدأ منه جدل معقّد بين نوعٍ من النسيان يصفه ريكور بـ»المفيد» وبين العفو بأقرب معانيه وأعمّها.
في هذا كله ما يصلح التفكير فيه لتلمّس ما قد يفضي بنا إليه مستقبل الأزمات المريرة التي تعصف بمنطقتنا ومجتمعاتنا. ذاك تلمّسٌ يبتغي ردّنا من التأمّل في حاضر هذه الأزمات وفي ما يبدو قريباً من احتمالاتها إلى ما قد تنطوي عليه من احتمالاتٍ بعيدة. وقد يكون في الأمر طموحٌ سابقٌ لأوانه ودعوى تنبّؤٍ تعوزها الأسانيد المستقاة من الواقع. ولكن يكفي أن يكون لما نتنبّأ به حظّ مقبول من السلامة المنطقية (وإن تكن استدلاليةً لا غير) ليستثيرَ أشدّ القلق.
كيف سيتمثّل أولاد هذا الجيل وأحفاده في أقطارنا التي تشهد ما تشهده من الفظائع ما سيروى لهم وصفاً لها وتعليلاً وما الذي سيُذكر وما الذي سيُنسى؟ وهل ستوجَد روايةٌ يحصل التواطؤ (أي ما يسمّى «الإجماع») عليها أم ستتشعّب الروايات فتَسْتذكر هذه ما نسيَته الأخرياتُ وترسم كلّ رواية حدوداً جديدة لجماعة واقفة عند ثاراتها؟ وهل سينفع «عفوٌ عامّ» ما في هذه البلاد أو في تلك في تعيين ذاكرة مأمورةٍ للمعنيين؟ أم أن تكرار الفعل سيترتّب على رفض تذكّره أو على تعذّره كما في الذاكرة المعترَضة؟ وهل سيُتاح لأجيالٍ تخلفنا أن ترتقي إلى سويّةٍ من الإنسانية تمنح العفو معنىً في ما يتعدّى هول ما يرتكب اليوم وما قد يرتكب غداً من الفظائع؟ أم أن جيلنا قد بلغ مبلغاً من الوحشية يُلْزِم أجيالاً مقبلة بالتفوّق عليه في الوحشية ليكون لها أن تقبل أبوّتَه لها؟
من ذا ينظر اليومَ، بين ظهرانينا، في هذا القبيل من الأسئلة قبل أن يَقْتُل أو يُقتل؟
كاتب لبناني

أحمد بيضون

الشهيد والشخص

أحمد بيضون

في تناولنا «ألاقي زيّك فين يا علي»، عمل لينا أبيض المونودرامي الذي كتبت نصّه وأدّته رائدة طه، وهي ابنة شهيدٍ فتْحاويّ سقط سنة 1972 عند اقتحام طائرة كان قد اختطفها إلى مطار اللدّ، وقعنا على نوع من اللعب لا ينتقص من الفجيعة أبداً. وإنما هو أداءٌ لأدوارٍ يستولي أداؤها على حياة رائدة وأمّها وشقيقاتها: أدوار أملاها عليهن استشهاد رأس العائلة واستواؤهنّ عائلة لشهيد…
هذا الحضور للَعبٍ في صلب الفجيعة يظَهِّر شيئاً أصيلاً في حال البشر كان فلاسفة الوجود، على الأخصّ، قد توقّفوا عنده مليّاً. وهو أن الآدمي لا يماثل نفسه أبداً كما يماثل الحجَرُ نفسه. بل هو يبقى مصدوعاً يحزن أو يفرح، مثلاً، وينظر إلى نفسه وهو يحزن أو يفرح. فيلابس الجدُّ اللعبَ في حالته ويمضي في أحواله واحداً ومزدوجاً في آن. والواقع أن رائدة طه إنّما تتنزّه في أدائها بين شِعاب هذا الصدع الذي يشطرها بما هي «ابنة الشهيد» بين مزدوجتين، من جهة، وابنة علي طه، بلا مزدوجتين من الجهة الأخرى. فهاتان صفتان تكادان أن تكونا نفسين لشخصٍ يلبثُ واحداً. في هذا التنزّه الصعب بين النفس والنفس وفي مسرحته تكمن روعة الإخراج وروعة الأداء اللذين تمكنت منهما لينا أبيض ورائدة طه.
وذاك أن رائدة لا تفلح في التنَزُّل عن والدها لصالح الشهيد الذي أصبَحَه ولا هي تريد ذلك. والحال نفسها حال فتحية والدتها وحال سهيلة عمّتها الرائعة. ذاك تنزّلٌ مُحالٌ في حالة هذا العليّ الذي يصحّ فيه السؤال: «ألاقي زيك فين يا علي؟». من إشارات متفرّقة نعلم كم كان مبدعاً في الأبوّة هذا الأب الذي يقول لابنته أن «العصفورة» حكت له شيئاً عنها وحين تردّ عليه منكرةً أن تكون العصفورة تحكي يأتيها في اليوم التالي بعصفورة… تحكي! ومن حكاية قفلِ الباب الذي اضطرّت فتحية إلى تغييره وراحت بعد ذلك تستيقظ مذعورةً خشية أن يعود عليّ ويتعذّر عليه أن يدخل بيته نعلم ما كانه هذا الرجلُ في قلب زوجته. ونعلم من قصّة الجثّة التي لبثَت زمناً مديداً في البرّاد الإسرائيلي ومن النَذْر الذي نذرته سهيلة ألا تتغطّى صيفاً ولا شتاءً إلا بعد أن تدفن أخاها ما كانه هذا الأخ في قلب أخته.
تحتلّ هذه الشقيقة شطراً صالحاً من نصّ رائدة تظهر فيه فلسطينيةً مقدسية معتدّة بحقّها إلى الدرجة التي تبيح لها أن تبقي السؤال الذي قد تطرحه بشأن جارٍ لها على حاله لا تعدّل فيه حرفاً واحداً حين تطرق باب غرفة في فندق مقدسيّ قائلةً لمن فتح لها الباب: «كيسنجر هون؟»! تستردّ سهيلة بتوسّط كيسنجر جثمانَ أخيها وتدفنه في الخليل، إذن، وتستردّ أيضاً شعورها بالحاجة إلى غطاءٍ بعد أن عاد إليها في ذلك الصيف القائظ بردٌ ينخر العظام كانت قد كبتته في حمّى سعيها إلى استرداد الجسد العزيز من ذلك البرّاد.
يبقى أن اللعب الذي يداخل كلّ شيء ههنا، من جهة آل طه، بما في ذلك جريُ سهيلة وراء الجثمان، يخالطه كثير من الغشّ من الجهة التي أملت على العائلة قواعدَ دورها وألزمَتْها به. يجيء الغشّ، على الخصوص، من حيث يحتسب مجيئه: أي من مدخل الأنوثة التي هي الصفة الجامعة لمن خلّفهن علي طه وراءه. وفي بوادر الاستباحة التي تشير إليها رائدة بصدد والدتها الفتية، على الخصوص، دواعٍ للتقزّز الشديد، خصوصاً وأن المتحرّشين لا يتحرّجون من توظيف «القضية» و»المسيرة» في طلبهم لمبتغاهم. غير أن المؤدّية، بما هي عليه من خفّة ظلّ في كل ما تفعل وتقول، تفلح في تحويل هذا كله إلى نوعٍ من اللعب أيضاً تسعفها في ذلك أنفة والدتها وتشبّثُها بكرامتها.
هذا كلّ شيء تقريباً. هذا ما يجعل هذا العمل نقداً نفّاذاً لأطنانٍ من الكلام تخصّ الثورة والشهادة. وهو ما يبقيه بعيداً كلّ البعد عن إهانة الثورة أو الشهادة. وإنما هو إخراج للثورة من سحرها الاختزالي إلى نور بشريتها المعقّدة. وهو أيضاً ردّ للشهيد إلى أهله. تبقى إشاراتٌ إلى موقع العمل من وَسَطه ومن وقتِ إعداده وظهوره…
يتّصل عمل لينا أبيض ورائدة طه بخيطٍ مؤكّد المتانة، وإن لم يَسْهل تبيُّنُه، بأعمال فلسطينية أخرى ترسي معالم حقبة جديدة من الإبداع الفلسطيني وتشير بذلك، على الأرجح، إلى طور جديد من أطوار الوجدان الفلسطيني أيضاً. ينشئ هذا العمل، مثلاً، نوعاً من القرابة بينه وبين النَفَس الذي مثّله كتاب سعاد العامري «شارون وحماتي»، وقد صدر بالإنكليزية أوّلاً قبل أزيد من عقد. ويوجّه العمل نفسه أيضاً تحيةً خفية إلى «عمر» رائعة هاني أبو أسعد السينمائية التي شاهدناها في بيروت قبل وقتٍ يسير.
تصل بين رائدة طه وسعاد العامري روح الفكاهة النفّاذة التي تفلح في تحويل السخرية من النفس ومن أصحاب الحقّ باباً إلى ترسيخ للحقّ لا تقوى على مثله الخُطب وإلى إبلاغ أهله ذرىً لا يسهل بلوغها على أيٍّ كان. ليس أمراً هيّناً أن تبدو «ابنة الشهيد» على هذا القدْر من المرح وأن تستثير هذا الضحك الكثير في قاعة المسرح فيما هيتتناول شهادة والدها وحال الفقدان التي خيمت بعد هذه الشهادة عليها وعلى عائلتها.
وأما عمل أبو أسعد فتصل بينه وبين عمل أبيض – طه جرأةٌ في تقحّم المحرّم أو ما يشبه المحرّم ما كانت لتفضي إلى غايتها بلا رهافة التناول وبلا النُبْل الشخصي الذي يجعله تأصّلُه في هؤلاء الفنّانين متّسِعاً لكلّ صعب. يعالج أبو أسعد العمالة، بمعنى التعاون مع العدو، فيضرب صفحاً عن التحقير السهل للعملاء ويدخل إلى الظاهرة من باب الجُرْم المتمادي الذي يمثّله «تصنيع» العدوّ للعملاء. وهو «تصنيع» يتشكّل من ضروبٍ قصوى من الحقارة يلجأ إليها الجهاز الإسرائيلي. تقابل هذا الأسلوبَ مقاومةٌ من جانب الشبّان الفلسطينيين تُظْهر ما يحتاج إليه من بطولةٍ لا يمكن افتراضُ توفّرِها في المعرّضين جميعاً تجنّبُ السقوط. هكذا يدخل أبو أسعد من جهة العمالة إلى الحرم نفسه الذي دخلته أبيض وطه من جهة الشهادة. لا العميل يُختصر في عارِه ولا الشهيدُ يَقْبل الاختزالَ في مجده. وإنما يبقى النظر إلى البشري واجباً في الحالين وجوبَه في كلّ حال أخرى…
تشي هذه الأعمال بنضجٍ في هذه الموجة الجديدة من الفنّ الفلسطيني هو، على الأرجح، نضج من جرّب كلّ شيء: في السياسة وفي الحياة عموماً. يَعْرض هذا النضجُ الفنّيّ نفسه في وقتٍ تبدو فيه أبوابُ السياسة مغلقةً أمام الفلسطينيين، سلماً كانت السياسةُ أم حرباً. فلعلّ هذه الأعمال إشاراتٌ إلى حقّ الفلسطينيين الأصيل في أن تُفتح لهم أبوابُ الحياة. وهذا حقّ للأشخاص قد تضيّق السياسة، على اختلاف مصادرها، من حظوظ ترجمته ولكنها لا تقوى على الطعن فيه.

كاتب لبناني

«ألاقي زيّك فين يا علي؟»

أحمد بيضون

شعرتُ أن حظّي أسعدني بحضور هذه المسرحية… وكان ممكناً جدّاً أن يصرفني عن حضورها ازدحام العروض أو كثرة المشاغل. بل إنني شعرتُ أن كلّاً من المشاهدين الذين اكتظّ بهم مسرح بابل البيروتي قد شاطرني هذا الشعور حين وقفنا، في نهاية العرض، مصفّقين بحماسة مدوّية للينا أبيض ورائدة طه… كنّا نختتم أمسية باهرةً حقّاً.
يبدو العمل عمل أخذٍ باليد تولّته لينا أبيض لاستعادة رائدة طه السيطرة على حياتها. ولا غروَ أن تكون هذه العملية قد استغرقت زمناً طويلاً واقتضت جهوداً ومعاناة مضنية. ولا ريب أنها بدأت بمعنىً ما في وقتٍ سبق تعرّف كاتبة النص ومؤدّيته على المسرح رائدة طه إلى المخرجة لينا أبيض. وحيدةً تبقى رائدة، مدّة العرض. تبقى جالسة، معظم الوقت، بثوبها الفيروزي البسيط على الأريكة البسيطة، لا تسعفها إلا صوَرٌ متقشّفة أو مقاطعُ فيديو قصيرة تستقبلها الشاشة التي خلفها بين حينٍ وآخر.
ومن المشهد الأوّل الذي تستعيده رائدة، وهي تباشر، وقد بلغت الخمسين، تمريناً عسيراً هو أداء سيرتها الفعلية على مسرح، يظهر بُعْدا العمل الشخصي والسياسي في حال الاتّحاد المدهش التي ستبقى حالهما مدّة العرض كلّه.
المشهد الأوّل مشهد اغتصاب. لا منجاة من الإحالة على اغتصاب فلسطين فهذا اسم الحدث العامّ الذي اغتصب حيواتٍ كثيرة منها – بمعنىً ما – حياةُ رائدة. ولكن في هذه الإحالة سهولةً زائدة. فكأن في الاغتصاب الذي يستعيده المشهد نوعاً من الغمز الساخر من قناة ما آل إليه الاغتصاب الأصلي. وذاك أن الفلسطينية رائدة تبقى هي من يتعرّض لمحاولة اغتصابٍ في شقّتها في تونس ولكن صاحب المحاولة ليس إلا واحداً – لن نعرف اسمه – من ذوي السطوة في قيادة الثورة الفلسطينية التي كانت قد استقرّت هناك، حولَ ياسر عرفات، بعد خروجها من بيروت…
هي إذن ضربة معولٍ أولى في سحر الثورة تباشر بها رائدة حكايتها إذ توحي إلينا أن في وسعها أن تقول كل شيء (تقريباً!) فيما سحر الشيء يقوم على كتمان جوانب منه بالضرورة. والحادثة نفسها مدخل أوّل تعرضه علينا رائدة إلى حال الفقدان التي بقيت فيها منذ منيت باليُتْم وعجز ياسر عرفات نفسه (وكان قد تكفّلها وأخواتها وكانت تعمل في مكتبه في تونس) عن رأْبِ صُدوعها.
شعرت الشابّة أن والدها وحده كان القادر على ردّ هذه الغائلة عنها… ولم يلبث شعورُها أن تأكّد حين بدا أن أبا عمّار الذي شكت إليه أمرها لم يبدُ، في ما يتعدّى التهديد والوعيد، أنه زحزح المعتدي عن موقع نفوذه. ستبقى رائدة مستوطنةً فقدان الأب هذا. ستبقى في الالتباس الضخم الذي مثلته لها خسارة والد سقط في سبيل فلسطين ولكنه – إذ سقط – وقعت شهادته في وسطٍ أخذت أهواؤه تتقاذف معانيها وترك زوجته وبناته لثورةٍ كان فيها من يرعاهنّ لقاءَ أدوارٍ استولَت على حياتهن وكان فيها أيضاً من رأى إلى الوالدة فريسةً محتملة قبل أن يوجَد من يحاول اغتصابَ البنت معتدّاً بنفوذه وافتقادها إلى السنَد.
وذاك أن رائدة طه هي ابنة علي طه. وكان والدها المنتمي إلى منظّمة أيلول الأسود (المشتقّة من منظّمة فتح بعد الخروج من الأردن) قد سقط في عملية قادها، ومعه شابٌّ آخر وصبيّتان، تمثّلت في خطف طائرة لسابينا البلجيكية في سنة 1972 إلى مطار اللدّ الإسرائيلي سعياً إلى إطلاق أسرى فلسطينيين. قُتل الشابان وأُسرت الفتاتان عندما اقتحمت الطائرةَ قوّةٌ إسرائيلية قادها إيهود باراك وكان فيها بنيامين نتانياهو… وقد لبثت الفتاتان في الأسر عشر سنوات ثم أفرج عنهما في مبادلة.
كانت رائدة في السابعة عندما أصبحت ابنة شهيد: الكبرى بين بناتٍ أربع، وكانت والدتها فتحية في السابعة والعشرين…
في موضع الالتحام من بعدَي الأداء الذي تقوم به رائدة لنصّها يقع ثنائيّ «الشهادةـاليُتْم» ويلابسه ثنائيّ «الشهادة-الترمّل» الذي يستولي على والدتها استيلاءً يقوم بإخراجه مَن حولَها إخراجاً طقسياً موسوماً بالعنف وشدّة الإيلام.. والاستيلاء هو المصطلح المُحْكَم لتسمية هذه الحالة. وذاك أن الشهيد لا يقدّم حياته وحسب وإنما يتخلّى للجماعة عن الكثرة في أبعاد وجوده بما هو شخص وعن الشبكة البشرية المنعقدة حول شخصه، أي عن عائلته أيضاً. وإذا كانت العائلة تلفي من يرعاها في مؤسّسات الثورة ومن يخصّها بالعطف في دوائر ضيقة وواسعة من محيط الثورة البشري فإن لذلك مقابلاً هو أن تتقبّل العائلة اختزال الشخص الذي فقدته إلى صورته المؤمّمة وأن يختزل كلٌّ من أعضائها نفسه إلى الدور الذي تمليه علاقته بصورة الشهيد تلك لا بفقيده-الشخص. هكذا يملي استشهاد علي على فتحية أن ترى إلى نفسها امرأةَ شهيد أوّلاً وآخراً ويملي على الصغيرة رائدة وعلى شقيقاتها أن يكنّ بنات الشهيد الذي هو صورةٌ متجمّدة الملامح والذي يدلّ اسمه العلم على صورته تلك لا على شخصه الذي كان…
يملي هذا التحويل المباغت بما فيه من قسوةٍ وبما له من إغراءٍ أيضاً أدواراً عامّة تكاد أن تستغرق أشخاص الأحياء وتأخذهم من أنفسهم. في هذه الأدوار شكليّاتٌ كثيرة وفيها ممنوعات بينها كلّ ما يشي بالانكسار وفيها، فضلاً عن التكفّل، بوجهيه الماديّ والاعتباري، تعويضاتٌ شتّى من بينها الانخراط في شبكة العائلات الشبيهة والتصدّر في مناسبات شتّى والرقص «الثوري» والأسفار التي يستدعيها تمثيل الثورة ولا تخلو من ترفيه، إلخ.
على أن إبداعَ رائدة طه إنّما يتمثّل، في شطرٍ جسيمٍ منه، في كشف اللعب الذي ينطوي عليه هذا النوع من الأدوار من أقصاه إلى أقصاه وفي كشف ما يتخلل اللعب من غشٍّ في اللعب أيضاً. في حالة الطفلات يبدأ اللعب فور وصول خبر الاستشهاد إذ يستمتعن، مثلاً، بالخلاص المؤقت من ممنوعات صغيرة رفعَها انشغالُ والدتهن بمصابها. وفي حالة الوالدة يبدأ اللعب فوراً أيضاً إذ تجد نفسها محاصرةً بما ومن يملي عليها بلا هوادة قواعدَ الحزن والحداد الموائمة لحالتها. هذا اللعب يستمرّ طويلاً طويلاً. فمع أن العائلة تستعيد بعد حينٍ خلوتها إلى نفسها وإلى خسارتها فإن شهادة الشهيد تبقى ماثلةً في أفق قريب تحكم حركات الإناث الخمس اللواتي خلّفَهُن وسكناتِهن. عليه يتواصل اللعب. ما الأفق الذي يفتح عليه هذا اللعبُ علاقةَ رائدة بدورها بما هي «ابنة الشهيد»؟ وأين يقع عمل أبيض – طه من الفنّ الفلسطيني، في طوره الأخير؟ وهل من جديد يشير إليه في وجدان الفلسطينيين هذا العمل وأشباهه…إذ نحن نرى – أو نفترض – له وجوهَ شَبَه بسواه من الأعمال الحديثة العهد؟
تستحقّ هذه الأسئلةُ (بسببٍ من قيمة العمل كلّه، بالدرجة الأولى) أن نخصّها بعجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

السوابق

أحمد بيضون

في التصدير الذي وضعه لـ»كتاب التاج في أخلاق الملوك» المنسوب إلى أبي عثمان الجاحظ، وقد حقّقه تحقيقاً ضافياً ونشره في القاهرة سنة 1914، أقدَمَ العلامة أحمد زكي باشا (وكان يلقّب بـ»شيخ العروبة») على أمرٍ أجده مثيراً للتأمّل. فهو قد وجد الكتاب، أوّلَ ما وجده، في مجلّدة وقع عليها في خزانة سَراي طوب قبّو في إستانبول… وكانت هذه المجلّدة التي يصفها المحقق الناشر بأنها «من أنفس الذخائر التي خلّفها الأوائل للأواخر» تضمّ إلى هذا الكتاب كتابَي «الأدب الكبير» و»الأدب الصغير» لعبد الله بن المقفّع. نقل الباشا هذا المخطوط وغيره بالتصوير الشمسي وعاد بصيده إلى مصر.
إلى هنا وكلام الرجل يدخل في باب الخبر الذي هو بعضٌ من قصّة إفضاء الكتاب إلى يدي قارئه. ولكن الرجل حين يدخل في التأريخ للمخطوط الذي وقع عليه ينتقل وينقل معه قارئه إلى همّ آخر هو همّ الحقّ الوطني (أو القومي بالمصطلح الغالب في مصر) في ملكية المخطوط. فهو إذ يجد ما يفيد أن رجلاً يدعى يوسف الحلبي قرأ المخطوط في سنة 894 للهجرة يرى أن النسخة قد تكون كتبت في تلك المدّة في حلب… أو في القاهرة. ثم يضيف أن حلب كانت، في تلك الأيام، عُمالةً لسلطان مصر ليخلص إلى أن المجلّدة هي، أيّاً كان الأمر، «من ذخائر مصر»!
ما الذي يحمل الباشا على هذا الاستدلال كلّه لينتهي إلى تسويغ أمرٍ لا يجادله أحد أصلاً في مسوّغ الإقدام عليه ولا في فضله فيه؟ هل العودة من السفر بصورة لمخطوط نفيس والتهيّؤ لتحقيقه ونشره أمرٌ يحتاج إلى إثبات ملكية وطنية (أو قومية) للمخطوط؟ وما هو المنطق الذي يجعل احتمال الانتماء الحلبي للمخطوط قابلاً للتجاوز بإثبات تبعية حلب، بأمّها وأبيها، لسلطان مصر المملوكي، بتاجه وصولجانه؟
ولأقل ههنا أن جهد الباشا للاستيلاء القومي رمزياً على هذا المخطوط ردّني إلى حالة أخرى وجدتها مشابهة لهذه ومعزّزة لما أجده لها من دلالة. تتعلّق هذه الحالة الأخرى بالاستيلاء الرمزي، لا على مخطوط، بل على مدينة بأسرها هي مدينة طرابلس المعروفة تاريخياً باسم طرابلس الشام تمييزاً لها عن عاصمة ليبيا الحالية. فقد لاحظت أن الاستيلاء هذا يحصل في الحالين من طريق إثبات سابقة بعينها هي سابقة السلطان السياسي، وهي عادةً سابقةُ تغلّبٍ ووضعِ يد.
وأما صاحب المأثرة الطرابلسية فهو المؤرّخ اللبناني الكسرواني نجيب الدحداح وكان سفيراً في السلك الخارجي نشر، بعد خمسين سنة من نشر «شيخ العروبة» كتاب «التاج»، مؤلّفاً وضعه بالفرنسية وجعل عنوانه «تطوّر لبنان التاريخي». على رأي العبارة الفرنسية، يوقد الدحداح «ناراً من كلّ حطب» يجده ليثبت التابعية اللبنانية للمناطق التي ضمّت سنة 1920 إلى متصرّفية جبل لبنان، وقد نشأت من هذا الضمّ «دولة لبنان الكبير»، وهي على وجه التقريب، جمهورية لبنان الحالية. والواقع أن التبعية للسلطة الجبلية المصدر هي الحجّة الرئيسة التي يعتمدها الدحداح إثباتاً للبنانية المدن والمناطق المضمومة. هكذا تردّ الحجج، بتنوعها التاريخي إلى حجّة أصلية رئيسة: استولى حاكم لبناني، مدّة من الزمن، على هذه المدينة أو تلك المنطقة (ويستحسن أن يكون هذا الاستيلاء قد حصل بالقوّة) فهي إذن مدينة أو منطقة لبنانية تعتبر تابعيتها هذه تامّة الشرعية: لا عند اتّخاذ قرار الضمّ المشار إليه أعلاه بل أيضاً في يوم المؤلف الحاضر…
تستجيب مناطق البلاد ومدنها لرغبة المؤلّف هذه استجابة متباينة الدرجات. وتبدو طرابلس، وهي عاصمة لبنان الثانية، في أيامنا، أقلّ المدن طواعية تاريخية لعمل الضمّ الرمزي الذي يسعى إليه الدحداح. فهو يضطرّ إلى الاكتفاء في هذه الحالة بإخافة فخر الدين الثاني أمير الجبل حكّام طرابلس من آل سيفا ثم باستيلائه على مقاليد المدينة أعواماً قبل أن يستردّها الوالي العثماني إلى حكمه المباشر. هذه زبدة البرهان. ولا يقع الدحداح على ما يعززه سوى «اهتمام» حكام لبنان المستمر بطرابلس والمصادر اللبنانية لبعض المأمورين الذين عهدت الدولة العثمانية بشؤون مختلفة في طرابلس. ذاك يكفي المؤرخ شرّ النظر في سائر التاريخ وفي الحاضر: أي في تبعيّاتٍ كثيرةٍ تداولتها طرابلس في مدى تاريخها الطويل أو أيضاً في موقف طرابلس من لبنانيتها، على ما بدا عليه في الوقائع. يكفيه هذا الزاد الضئيل أيضاً همّ البحث عن مسوّغات غير سابقة الاستيلاء لضمّ طرابلس وغيرها في دولة واحدة هي الدولة اللبنانية. السابقة تبدو منتهى البحث وأقصى المراد.
يضمّ أحمد زكي باشا إلى بلاده مخطوطاً وجده في إستانبول. هذا مع أنه لا يعرف عن أصل النسخة سوى أن ذلك الحلبي قد قرأها. وهو يلجأ في هذا الضمّ إلى السلطان فلا يضيمه، بعد ذلك، أن يكون القارئ المشار إليه غير مصري: لا هو ولا ابن المقفّع ولا الجاحظ بطبيعة الحال. السلطان (الذي يبدو إثبات مصريته صعباً أيضاً) قام بما يلزم: استتبع حلباً وهذه غاية المراد.
ثمة شيء فاقع نقرأ ملامحه في حالتي الباشا المحقق والدحداح المؤرّخ. الاستيلاء هو أساس الشرعية ولا بحث بعد الاستيلاء في واقع الاندماج ودرجته ولا في عدمه. يحتاج المحقق إلى استيلاء السلطان على حلب في أواخر القرن التاسع الهجري (والخامس عشر الميلادي) مسوّغاً لحيازة صورة لمخطوط حصلت قبل مائة سنة من يومنا هذا. ويكتفي المؤرّخ بسابقة الاستيلاء على مدينة (هي طرابلس) مدّة بضع سنين من القرن السابع عشر دليلاً على شرعية تابعيتها للدولة المعلنة سنة 1920. وهو ما يستبعد مسائل مقلقة من قبيل تاريخ المدينة بسائر معطياته والدروس المستفادة منه ووظائف المدينة وتكوينها الاجتماعي وتوزّع أهلها الطائفي وعلاقة ذلك كله بما فيها من أهواء سياسية.
نحن في حصن حصين من كل ما قد ينغّص مزاجنا وذلك بفضل السابقة: سابقة حكم السلطان قايتباي لحلب وسابقة استيلاء فخر الدين على طرابلس. السابقة – سابقة الاستيلاء والسلطة – هي كلّ ما يلزم. والمحقق والمؤرّخ يجلسان مطمئنين مع غيرهما من «أصحاب السوابق» وقد نسيا أن صحبة أصحاب السوابق لا تجلب الطمأنينة إلى القلوب!

كاتب لبناني

أحمد بيضون

نجاةُ الفَشَل والقَدَر

أحمد بيضون

قبل عامين كتبتُ مقالةً قصيرة خرجتُ فيها من زحمة السير في بيروت بدعوةٍ إلى التأمّل في معنى الحياة. كنت أسأل إن كان يبقى للحياة معنىً حين يضطر واحدنا إلى قضاء هذا المقدار الجسيم منها محتجزاً في سيّارة، ممنوعاً من صنع أيّ شيء يرغب في صنعه بوقتٍ طويلٍ يُقْتَطَع عَنْوةً من أعمارنا القصيرة…
اليوم أعود إلى موضوع السير والسيارات في بيروت وفي لبنان، على الأعمّ، من زاويةٍ أخرى هي اعتبار أزمة السير والمنظومة الاجتماعية- السياسية التي تندرج فيها نطاقاً للمسؤولية العامّة عن جرائم قَتْلٍ وجرْحٍ يقع ضحاياها مارّة وركّابٌ وسائقون… وهي مسؤولية قلّما يلحظها أحدٌ بما في ذلك الضحايا الذين يبقون على قيد الحياة، إذ ينحو هؤلاء إلى النظر في الحوادث واحداً واحداً وإلى حصر المسؤليات في الأفراد وفي اللحظة التي يقع فيها الحادث والموضع الذي يشهده.
لا ريب أن هذا الحصر ضروري حين تراد معالجة النتائج ويعوَّل على الأصول المتبّعة لهذه الغاية من فنّيةٍ وقانونية. ولكن تبقى، في ما يتعدّى هذا الهمّ، نظرةٌ أخرى ممكنة – بل واجبة – يسع المرءَ أن يجيلها في موضوع حوادث السير هذا من زاوية السياسة والاجتماع ومن زاوية الفلسفة التي يستدعيها هذان أيضاً. وإذ أفعل هذا أدرك أن قرّاءً غير لبنانيين سيلحظون شَبَهاً بين ما أصفه وأقوله وبين ما يلقونه وما قد يخطر لهم حيث يقيمون…
إذا كنتَ مقيماً في بيروت واجتزتَ بين حين وآخر كيلومتراً واحداً أو اثنين سيراً على قدميك أو اجتزت ستة كيلومترات أو ثمانية للانتقال من حيّ إلى آخر في المدينة في سيارة تقودها أنت أو يقودها غيرك قاصداً، مثلاً، أن تذهب إلى محلّ عملك وأن تعود، بعد ساعات، إلى محلّ سكنك…
… أو أقدَمْتَ طوعاً أو كرهاً على اجتياز مائة كيلومتر – مثلاً – في سيارة تقودها أنت أو يقودها غيرك للانتقال إلى موضع ما من هذه البلاد الصغيرة وللعودة بعد ذلك إلى مقامك…
إذا فعلتَ واحداً من هذه الأشياء حصَلَ لك، على الأرجح، أمرٌ أو أمورٌ تستحقّ الذكرَ استحقاقاً تامّاً، عند إمعان النظر، ولكنّك قلّما تذكرها. من ذلك أن تكون ماشياً على رصيف فيثب عليك درّاجٌ ناريّ استحسن أن يترك أرض الشارع بداعي العجلة ويفرض عليك أن تنزاح متراً أو نصفَ مترٍ في اللحظة المناسبة ليتمكّن من المضيّ في سبيله بين مارّةٍ آخرين. من جهتي أعزّي النفس كلذما تعرّضتُ لوثبةٍ من هذا القبيل بأنني أزداد علماً بما قصده الشيوعيون العراقيون حين أطلقوا اسم «الوثبة» على حركةٍ تولّوا قيادتها في سنة 1948…
يدخل في هذا الباب أيضاً أن يقتحم الضوء الأحمر أمامك، بعد احمراره بعشرِ ثوان، سائق قرّر أن إقلاعك في اتّجاه الضوء الأخضر الذي حسبتَه فرجاً لكربتك إنما هو أمرٌ في غير محلّه إذ هو يلزمه بالانتظار دقيقة أو نحوها خلافاً لرغبته… من ذلك أيضاً أن يتجاوزك من جهة اليمين على الطريق السريع سائق قرّر أن يستفيد من خط الطوارئ متجاهلاً لزومك، أنت أيضاً، خطّ اليمين وضيقَ الممرّ الذي شاء أن يباغتك (مشكوراً) بسلوكه مشعراً إيّاك بأن انعطافك المباغت أيضاً نحو اليسار هو شرط نجاتك ونجاته ومن معكما جميعاً إذا هو حصل في الثانية المناسبة أي إذا كان برج كليكما برج سعدٍ في تلك اللحظة المشهودة…
لا طمع لي في حصر الحالات التي «ينجو» فيها اللبنانيّ أو المقيم في لبنان يوميّاً من الموت أو من الإصابة في بدنه، على اختلاف الدرجات والأنواع. ولأذكر لك، أيها القارئ الشاهد، بعض ما خبرته بنفسي، أي في بدني، في الأشهر الأخيرة… لا أذكر هذا إثقالاً عليك بالشكوى بل دليلاً على عجزي عن الإحاطة بما يعرض لنا أو يلمّ بنا من مخاطر بالغة التنوّع، متعلّقة بالانتقال، متأتية من رفضنا التسليم بالامتناع المطلق عن التنقّل في المدينة وفي البلاد…
قبل أسابيع، كنت أمشي على رصيف من أرصفة المدينة قاصداً منزلَ قريبٍ لي دعيت إلى غداءٍ فيه. ولم تكن متعتي قد طالت بالسير الآمن على ذاك الرصيف حين اضطررت إلى مغادرته بسبب سورٍ لورشةٍ صادَرَه بتمامه. نزلتُ إلى أرض الشارع مكرهاً إذن… ولم أكن مشيتُ أمتاراً وأنا متسلّحٌ بحقّ العودة إلى الرصيف قبل أقرب الأجلين، حتى شعرت بحلول واحد من هذين: اختار سائق قادمٌ من الخلف أن يميل إلى أقصى اليسار أي نحوي… فما كان من مرآة سيارته إلا أن لطمت ذراعي مخلّفة فيه رضّة لا يعتدّ بها كثيراً وجرحاً لا يعتدّ به ابداً. تابع السائق الذي لم يبلغه احتجاجي الأخرس سيره ولم تلبث متعة الطعام ان أنستني الحادثة كلّها بما فيها بعض الثقل الي كنت لا أزال اشعر به في ذراعي. فنحن قد أصبحنا، لفرط ما ننجو، نكاد لا ننتبه إلى نجاتنا. كنت قد «نجوت» إذن… وعلى غرار اللبنانيين وغيرهم، على التعميم، في هذا النوع من المواقف «رضيتُ من الغنيمة بالإياب»!
قبلَ ذلك بأشهر، كنت أجتاز شارعاً مجاوراً لمنزلي بعد أن استوثقتُ بالنظر إلى الجهة التي تأتي منها السيارات أنني آمن! ولكن السائق الذين كان قد توقّف أمامي، خلف سيّارات أخرى، اختار في لحظة عبوري، أن يقلع بسيارته القهقرى وذلك لسببٍ لم يوصله إلى علمي من قبلُ ولا من بعدُ. عليه لطمَتْني مؤخّرة السيارة المتراجعة مضطرّةً إيّاي إلى قفزة عريضة جاءت غير ملحوظةٍ في برنامجي ورميتُ منها (رميةً من غير رامٍ) إلى تجنّب السقوط تحت عجلات السيّارة. نزل السائق من سيارته قاصداً الاطّلاع على جليّة الأمر والاعتذار فشتمتُه بأنفاسٍ مبهورة وصرفتُه راشداً… كنت قد «نجوتُ» هذه المرّة ايضاً.
وأمّا ما يحصلُ لي وأنا أقود سيّارتي فأغضي عن ذكره خَفَراً إذ هو قسمةٌ عامّة لكلّ السائقين في بلادنا هذه. وقد أشرتُ أعلاه إلى حالة واحدة من حالات «النجاة» التي يحظى بها كلّ جالس على طرقنا خلف مقود… ولا أرى في الزيادة إفادة. أنا سائق مشهودٌ لي بالاتّزان وخبرتي في السياقة تزيد عن خمسين سنة وقد أورثتني حذقاً يطمئنّ إليه الراكبون معي. ولا نتوقّف عن النجاة، أنا ومن معي، حين أقود السيارة. لا يتوقّف عن النجاة أي مواطن أو مقيم في هذه البلاد طالما بقي غدر الزمان يلزمه بالتنقّل. ينجو واحدنا من الموت أو من الإصابة في بدنه مرّة كلّ يومٍ، مثلاً، أو مرّتين في الأسبوع تبعاً لمتغيّراتٍ عديدة أهمّها، بطبيعة الحال، وتيرة تنقّله.
وأما السؤال الاجتماعيّ في موضوع النجاة هذا فيتعلّق بفشل نظامٍ برمّته هو النظام الاجتماعي السياسي المعتمد هنا في إنجائنا من هذا النوع من النجاة: إذ هذا نوعٌ تشهد الخبرات المكتسبة من مجتمعات ودولٍ أخرى بإمكان النجاة منه. فإن من المؤكّد أن هذا النظام هو من يعدّ المسرح ومن يصمّم المَشاهد ومن يدرّب الممثّلين. وهو يتّبع في هذا كلّه أصولاً عامّة يمليها عجزه عن اتّباع الأصول المفترضة. لذا لا تكفي نسبة حالات النجاة التي تحصل ولا حالات عدم النجاة، بالتأكيد، إلى جناةٍ وضحايا أفراد.
في الأمر شيء من منسوب العداوة في العلاقات بين البشر في المجال العامّ وفيه شيء من نسبة العجز عن إعمال القانون وفيه شيء من التسيب في مقتضيات السلامة ومن الاستخفاف بالحياة ناجم عن استبعاد المسؤولية عن النفس واستبعاد المحاسبة. في النجاة المتكرّرة وفي عدمها الذي قد لا يحتاج إلى تكرار منفذ إلى التأمّل في فشل نظام مشتملٍ على المجتمع والدولة من أقصاه إلى أقصاه… وهذا بالضرورة تأمّل في ما ينبغي أن يكون عليه الموقف من هذا النظام إذا نحن صمّمنا على الخروج من نظام النجاة المتكرّرة.
وأما السؤال الفلسفي فتطرحه، مثلاً، واقعة امتناع عجلات السيارة التي صدَمَتْني وهي تتراجع عن الدوران دورةً أخرى… وتطرحه أيضاً واقعة امتناع المرآة في السيارة الأخرى عن زيادة عرض اللطمة التي أنزلتها بذراعي عشرة سنتيمترات أخرى… فإن هذه السنتيمترات وتلك الدورة هي عرض الفارق وطوله بين «النجاة» وعدمها. أي إننا نحظى ههنا، بعد فرصة التأمّل في مسألة الفشل، بفرصةٍ لا تفوّت للتأمّل في مسألة القضاء والقدر.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

متى وُجِد الاقتصاد؟

أحمد بيضون

يَعْرِض لك أحياناً كلامٌ يحلو إلقاؤه على عواهنه. تعلم أنه ذو خطر وأنه قد لا يصحّ أن يُعتدّ به بعد التمحيص إذ قد يتبين أنه «ليس بشيء» على ما كانت تقول العرب حين تقع على قولٍ لا يقوم على صحّته دليل بل تقوم الأدلّة على بطلانه.
من ذلك ما كانت قد أوحت به إليّ قراءة قديمة لكتابٍ معترفٍ بمكانته في حقله وقد عدت إليه في هذه الأيام الأخيرة. ذاك هو كتاب الاقتصادي النمساوي (المجري الأصل) كارل بولانيي «التحوّل الكبير» وقد صدر سنة 1944 أي في العام الأخير من أعوام الحرب العالمية الثانية، وكان مؤلّفه قد أصبح، منذ انتصار الهتلرية في ألمانيا، مقيماً في لندن.
لا يمثّل ما أريد استخراجه من كتاب بولانيي موضوع كتابه المتصدّر وإنما هو أسانيد لنظرة يمكن استنباطها من الكتاب. موضوع الكتاب هو الأزمة العالمية التي عاناها الاقتصاد الرأسمالي بين أواخر العشرينيات من القرن الفائت ونهاية الحرب العالمية الثانية. وهو ما واكب هذه الأزمة من تحوّل سياسي مهول مثّل نشوء الهتلرية وطغيان مفاعيلها صُلْبَه وأبْلَغَ ظواهره. هذه الأزمة يرى فيها بولانيي تعبيراً عن موت النظام الاقتصادي الليبرالي الذي كانت أوروبا قد شهدت ولادته قبل ذلك بقرنٍ من الزمان. ولنشر ههنا إلى أن هذا النظام هو نفسه الذي أعلن فرنسيس فوكوياما، بعد أقلّ من نصف قرن كان قد مضى على صدور كتاب بولانيي، سيادته المؤبّدة على العالم: على ذاك العالم الذي كان ينفض عنه غبار جدار برلين المهدوم!..
على أن بولانيي لا يصل إلى إعلان الوفاة هذا إلا بعد تأريخ يجهد في ضبطه لنشأة الاقتصاد الليبرالي وما اجتازه من أطوار. وما يميّز طريقة بولانيي في وضع هذا التاريخ (وما يجعل روايته ذات أهمّية قصوى للمجتمعات الواقعة في خارج مسرحه الأوروبي) إنما هو وضعه مسار النظام المؤرّخ له بإزاء الأنظمة غير الرأسمالية التي كان على النظام الناشئ أن يجاذبها ويسعى في تدميرها: سواءٌ أتعلّقَ الأمر ببنى وشبكات كانت تحمي الأفراد في المجتمعات الأوروبية من التذرية (التي هي شرط علاقة العمل المناسبة لرأس المال) أم تعلّقَ بالجماعات الأصلية في البلدان المستعمرة… وهذه الأخيرة جماعات فرض استتباب السيادة عليها لرأس المال أن تُنْزَلَ بها بليّةُ الجوع الذي كانت صيغ التضامن التقليدية فيها تقي منه الأفراد وقايةً تامّة.
سعى النظام الجديد في تدمير هذا كلّه وأنشأ عوضاً عنه قوّة العمل «الحرّة» (أي المجرّدة من كلّ حماية والمعرّضة للموت إذا لم تَعْرِضْ نفسها للبيع وتَجِدْ من يشتريها) وسعى، في المساق نفسه، إلى نشر منطق السوق إلى كلّ تبادلٍ لخدمةٍ أو لسلعةٍ يحصُل في المجتمع.
وأما أهمّ ما أثمره هذا التدمير فلا تدلّ عليه بالدقّة المتوخّاة ـ إذا نحن أحْسَنّا قراءةَ بولانيي ـ تسمية الاقتصاد الرأسمالي أو تسمية النظام الليبرالي. وذاك أن ما حصل كان اختراعاً للاقتصاد من أصله باعتباره قطاعاً لإنتاج معاش البشر قائماً برأسه أي مستقلّاً عن المجتمع وإملاءاته المختلفة وخاضعاً لقوانينه الخاصة به ولقواعد عمله ومتّجهاً إلى إبطال ما قد يعترض هيمنته على المجتمع بوجوه نشاطه كلّها ومؤسّساته وبنى العلاقات فيه.
وذاك أن ما يتبدّى من ترسّم بولانيي لتاريخ الرأسمالية هو أن الاقتصاد لا يعدو أن يكون صنيعةً للنظام الرأسمالي لم يكن لها وجود قبل استتباب الأمر لهذا الأخير. الاقتصاد: لا بصفته فرعاً من معرفة المجتمعات البشرية بنفسها وحسب بل بصفته نظاماً مادياً مستقلاً أيضاً يملي استقلالُه تكريسَ فرعٍ خاصّ به من فروع المعارف.
يشير بولانيي إلى أن أرسطو، وهو الموسوعي الذي رأى فيه فلاسفة الإسلام معلّمهم «الأوّل» في كل باب، قد أدرج الكلام في الاقتصاد، لا في تأليف من تآليفه على حدةٍ، بل في كتاب «السياسة». وهو قد ميّز في كلامه على الاقتصاد، في حَدْسٍ يراه بولانيي عبقرياً، بين «تدبير المنزل» أي تحصيل المعاش (وهذا هو معنى اللفظ اليوناني الدالّ على «الاقتصاد») وبين كسب المال أو إنماء الثروة الذي هو شيءٌ آخر.
لم يبلُغ استقلالُ الاقتصاد، بهذا المعنى الثاني، مداه إلا في النظام الراسمالي. حتى أن بولانيي يرى أن آدم سميث الذي يُنْسَب إليه تأسيسُ علم الاقتصاد السياسي الحديث لم يكن قد بلغ الغاية من هذا التأسيس. فهو لم يتوصّل، في زمانه، أي في أواخر القرن الثامن عشر، إلى إبراز الانفصال المنشود لمنطق رأس المال عن المجتمع بمؤسساته وبناه الموجَّهة إلى حماية الجماعات والأفراد. وأما الذي بلغ هذه الغاية، بعد كتاب سميث بعقود قليلة، فهو ريكاردو الذي يلاحظ بولانيي ما بينه وبين نظرية ماركس من قُرْبى وثيقة. ولا بدّ ههنا من الإشارة إلى أن بولانيي الذي يُسَخّف التصوّرَ الاقتصادي للطبقة ولصراع الطبقات (وكذلك حصرَ صيغ الصراع الاجتماعي في هذا الأخير) ينحو نحو تبرئة ماركس من هذا كلّه. ولكن ماركس الذي يبرّئه ليس ماركس الريكاردي أو ماركس الأعمال المتأخرة، أي «رأس المال» على التخصيص. بل هو ماركس الشاب المتفلسف، الحَفِيّ بالمجتمع والإنسان بسائر أبعادهما. معنى هذا أن بولانيي (الذي كان اشتراكياً ولم يكن ماركسياً) يتّخذ لتقويم النظرية الماركسية مقياساً معاكساً كلّياً لذاك الذي اعتمده لويس ألتوسير وتلاميذه بعد كتاب بولانيي بعقدين من الزمن.
ما يعنينا من هذا كلّه هنا هو أن الاقتصاد، علماً وموضوعاً، إنما هو ـ في ما رآه هذا المؤلف ـ حصيلةُ تجريدٍ مهولٍ أجراه نظامٌ مؤرَّخُ الميلاد في الزمان ومعروفٌ مكانُ ولادته أيضاً وإن يكن لم يَبْقَ بمنجاةٍ من أفاعيله صقعٌ من أصقاع الأرض. فبأيّ منطقٍ يراد للاقتصاد أن يكون المحرّك الأوّل للتاريخ إن لم يكن له وجود مستقلّ في التاريخ قبل هذا العهد القريب؟ وبأيّ منطقٍ يراد له أن يكون ذا فاعلية منفصلة عن فاعلية سواه من مُقَوّمات الوجود الاجتماعي حيث بقي متّحداً، في الواقع، وهذه العناصر أي في كثيرٍ من مجتمعات الأرض؟ أعلم أن ملجأ «اللاشعور» الفرويدي (وقد وجده ألتوسير، مثلاً، في متناوله) يبقى متاحاً لمن احتاج إليه. فيُقال أن الاقتصاد كان يفعل فِعْلَه الحاسم من غير أن يكون ماثلاً، بما هو فاعلٌ مستقل، في شعور الخاضعين لفعله ذاك. ولكن وجاهةَ هذا الكلام تبقى محتاجة إلى إثبات. يبقى الآخذون به محتاجين إلى ما يثبت أنه ليس مجرّد مهربٍ من الحَرَج يفتعلونَه.
فإذا نحن اسْتَجَبْنا لما في كتاب بولانيي من دعوةٍ إلى تَرْكِ عادةٍ فكرية رسّخها فينا قرن ونيّف من سيادة النظام الرأسمالي الغربي وسيادة الرؤيا الموهمة بأبدية تلك السيادة… وإذا نحن لبّينا الدعوة إلى الخروج من سيادة الماركسية أيضاً بما هي نظام فكري مأسور في النطاق الذي فرضه نقده للاقتصاد الرأسمالي الغربي أيضاً… أمكن أن نباشر ببصيرةٍ جديدة نظرَنا في الكلّ الاجتماعي الذي نحن فيه غير مندهشين من فاعليةِ عواملَ تبدو غالبةً عليه لا تنتمي إلى الاقتصاد: من قبيل الرغبة في تحصيل الحرية وفي تحصيل الكرامة أي الاعتراف الاجتماعي ومن قبيل استنفار الدين أيضاً ومعه (أو ضدّه) سائرُ مقوّمات الثقافة الأوّلية من نُظُمِ قرابةٍ وقِيَمٍ أخرى…
لا ننطلق إذن من تلقائية التمييز بين البنيتين المشهورتين أيّاً يكن المجتمع. بل ننطلق من تنوّع المجتمعات ومن تنوّع علاقاتها بالرأسمالية. ننظر في المجتمع بما هو كلٌّ مبدئيّ مدركين أن ما نفرِده من مقوّماته قد يكون أصبح ممتّعاً بقسطٍ من الاستقلال الفعلي يجب التوصل إلى تعيينه وقد لا يكون سوى ثمرة عقلية لما نجريه من عمل التحليل. ونتعلّم أن الحالين (أي حالَ معاينة التميّز وحالَ افتراض التمييز) لا تستويان وأن علينا أن نقوّم فاعلية كلّ فاعلٍ بحسب ما تبيّنها لنا المعاينة لا بحسب ما تسرّب إلى عقولنا من مسبقات. لا نفعل هذا إزراءً بالاقتصاد (الذي تتعلّق به حياةُ البشر، في نهاية المطاف) بل حفاوةً واقعية بالتكاوين الحسّية وبأنظمة الأفكار والقِيَم التي قد لا يكون الاقتصادُ غيرَ ركنٍ من أركان تشكيلها يشيل الكلّ الاجتماعي بمكانته أو يحطّ.
سبق القول أن هذا كلامٌ ملقىً على عواهنه. هو ملقىً بين يَدَيْ من يرغب في تدبّره أو تدبّر موضوعه.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

العلمانيّون وخصومُهم

أحمد بيضون

أعود من حيث انتهيت في عُجالتي الأخيرة.
في غداة ثورة 25 يناير/كانون الثاني2011، اقتضت المناقشات المتعلّقة بطبيعة النظام المصري الجديد تجديد البحث في مبدأ «الدولة المدنية». ونجد بين أيدينا محاولة إسلامية للاستيلاء على هذا المبدأ تستحقّ أن نقف عندها. تلك محاولة أحمد سالم الذي وقّع باسم «أبو فهر السلفي» كتيّباً جعل موضوعه «الحكم المدني». وهو يوضح فيه مستعيناً على ذلك ابن تيمية وآخرين من أعلام الفقه أن من يَلُون الأحكامَ في الدولة الإسلامية عليهم أن يعتمدوا شرع الله مرجعاً وحيداً لهم. ولكنه يضيف أن هؤلاء الأفراد الذين يعيّنهم أناس آخرون ولا يحصُل تعيينهم بأمرٍ ربّاني لا يُعَدّون، بأيّ معنىً، بشراً معصومين. وعليه يبقى تفسيرهم الشرع وكذلك اتبّاعهم إيّاه قابلَين للأخذ والردّ. ويصحّ أن تطلق على حكمهم صفة المدني لجهة أنه لا يسعه الاعتداد بمصدرٍ إلهيّ فلا يعتبر حكماً ثيوقراطياً.
هذه السلطة تبقى، في اتّباعها الشرع، أسيرة حدود بشرية كلّياً تحدّ عقول متولّيها وإراداتهم. عليه لا تكون الدولة المسايرة لهذا التصوّر دولة دينية في عُرْفِ أبي فهر. فإنما هي دولةٌ مدنية وليس لهذه الصفة أن تمنع، بأيّ حالٍ، وصفها بأنها دولةٌ إسلامية. ندرك إذن أن الدولة الإسلامية شيء والدولة الدينية شيء آخر مختلف ٌ عنها جدّاً. هذا ولا ينسى أبو فهرٍ تذكيرنا بأن هذه الدولة التي يمثّل التزامُها الشريعة ضمانَ شرعيتها الوحيد ليست بالدولة العلمانية.
ما الذي تفقده هذه الدولة بافتقادها الصفة العلمانية؟ لا يصعب علينا أن ندرك أن المساواة بين المواطنين هي رأس ما يضحّى به ههنا. فإن المؤمنين (أي المسلمين) يعدّون ذوي امتيازٍ تلقائيّ على سواهم من الأهلين. وتتعرّض حرّياتٌ مختلفة للامتهان ويصبح غير المسلمين هم الضحايا المعرّضين بالأوّلية للتضرّر من امتهانها بحكم استضعافهم. على أن الحرّية التي يبدو غيابها ساطعاً عن عالم أبي فهر الذهني إنما هي تلك التي تحتلّ موقع الركيزة من تصوّر العلمانية وهي حرّية الضمير. ويعاني المسلمون الذين يحال بينهم وبين تغيير معتقدهم من غيابها فوق ما يعانيه أولئك الذين يتعيّن عليهم القبول بموقعهم الدونيّ لقاءَ ما يسلَّم لهم به من هذه الحرّية. وأمّا العلمانية فإن ما يسبق رعايتَها توزّعَ المعتقدات الجماعية في المجتمع إنما هو، في عُرْفها، حقّ كلّ من المواطنين في اعتناق الاعتقاد الذي يرضيه وحقّه، إذا لزم الأمر، في تغييره مستجيباً لما تدعوه إليه خبرته.
فهل يجدي أنصارَ العلمانية في مجتمعاتنا التي يغلب عليها الإسلام شيئاً أن يقدّموا تضحيات تتناول المضمون أو أخرى تُقْتصَر على الشكل وحسب فيرفعوا مثلاً راية الحكم المدني عوضاً عن راية اخرى يرونها أشدّ استنفاراً للخصومة هي راية العلمانية؟ وألى أيّ مدىً يمكنهم المضيّ في تكييف العلمانية أو في تلطيفها إذا هم شاؤوا الإبقاء على الجوهر؟ هل يجدي رشّ بعض السكّر على اللقمة المرّة وكأنما يراد تهريب نظامٍ للحكم برمّته يرفضه المستهدفون به؟ وهل يصحّ، من الجهة الأخرى، أن يضحّى بمبدأ السيادة الشعبية وهو الضامن لحرية المواطنين وللمساواة بينهم؟ وهل يستقيم أن ينكر على هذه السيادة موقعها بما هي مصدر التشريع؟
وهل ينكر أن حرّية الضمير، وهي المقدّمة بين الحرّيات، مورثة لصنوف شتّى من التنوّع سواء أوجد التعدّد المذهبي في المجتمع أم لم يوجد؟ وإذا كان يتعيّن على الدولة العلمانية أن تحمي المذاهب الدينية وأن تضمن لها حرّية الشعائر في حدود النظام العامّ فهل يعتبر مشروعاً أن يجاز للطوائف ضمّ الأفراد ضمّاً حكميّاً، على ما هي الحال في لبنان، إلى جماعات لا يرغبون في الانتماء إليها؟ أليست هذه القاعدة، وهي داخلة في جوهر النظام القانوني والسياسي في لبنان، منافيةً لحرّياتٍ أساسية يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ وهل يفعل شيئاً سوى الإفراط في الهزل، من جهةٍ أخرى، من يطلقُ صفة العلمانية على النظامين البعثيين في سوريا والعراق؟ لا نشير هنا إلى اتّخاذهما العنوان العلماني قناعاً لطائفية معلومة في الحالتين. وإنما نرى أولى بالإشارة ضراوة الحرب التي شنّاها دائماً على حريّة الضمير حيث وجد لها أثر. ونشير للمساق نفسه أن التصدّي بالعنف لحركات أو طواقم ذات صفةٍ دينية لا يسبغ صفة العلمانية على الفاعل تلقائياً. فإنما يقبع جذر هذه الأخيرة في تربة أخرى بعيدة كلّ البعد عن هذه.
من جهتها، تعتمد الدولة الدينية أو المذهبية منطلقاً لها التعيينَ الرمزي لمن لهم مقام السادة ورسمَ نطاق المجال الذي هو مجالهم ومجال الجماعة التي ينتمي إليها أتباعهم. هكذا تحجّب هذه الدولة النساء وتفرض عليهن نظاماً سلوكياً مغالياً في دقّة أحكامه وذلك لإبلاغ سلطانها عمقَ الأجساد والبيوت. والحال أن أجسادَ النساء ودواخلَ البيوت يمْثُل فيها شرفُ الرجال أيضاً. عليه يبسط أصحابُ السلطة الدينية سيطرتهم على الرجال حين يجعلون شرف هؤلاء تحت رقابتهم عبر تحكّمهم بسلوك النساء. ويصبح في وسعهم مذّاك أن يزيدوا في كثافة الشعائر بحيث تتّخذ صفة الوسواس وأن يميلوا بهذه الشعائر نحو الأداء الجمعي. ذاك ما يفضي، في اعتبارهم، إلى القضاء على كلّ مقاومة، مباشرةٍ أو غير مباشرة، لهيمنتهم.
ما يزال المشروع الكلّي للدولة الدينية مشتّتا نسبيّاً، في المجال العربي الراهن، متباين درجات التحقّق. ولكنه يتوفّر على موارد مهولةٍ من كلّ نوعٍ في المجال المذكور. فهو يفيد من أساليب عملٍ مجرّبة وهذه أساليبُ ليس في ترسيماتها العامّة شيءٌ إسلامي سوى جانب من مصطلحها. وأما السلطة التي تفرزها هذه الأساليب فليست إلهية الصفة بأيّ حال. وإنما هي سلطة فئةِ من الناس تضرب فروعها في كلّ اتّجاه أو تملك إمكان التفرّع في الأقلّ.
لا يجزي التيّار العلماني أن يواجه مارد السلطة الدينية مواجهةً طويلة النفَس بما يقْرُب أن يكون لَعِباً بالألفاظ ولا يجزيه أن يواجهها بتنزّلاتٍ جوهرية وتسويات إستراتيجية في كلّ حال. بل إن على المقاومة العلمانية أن تستبقي لنفسها درجة الشمول المكافئة لتلك التي يتميّز بها الخصم. يبقى أن أولى مهمّات التيّار العلماني هي تقديم البرهان على وجوده. فالواقع الذي لا بدّ من التصريح به أن التيار العلماني العربي مردودٌ في الوقت الحاضر أسفلَ سافلين. ولا يبدو منظره مثيراً لغير الشجن إذا ما هو قيس بمنظر مخاصميه.
ومن ذلك أن بعضاً من أقرب الجماعات إلى الاضطلاع بعبْ المقاومة العلمانية تؤثر إخفاء رأسها في حضنٍ لا يحمي هو حضن المنطق الأقلّي. هي خائفة على حرّياتها وهذا خوف ممتّعٌ بالشرعية وبالواقعية معاً. ولكن أين لخطّ الدفاع الأقلّي، وهو الساعي إلى تعميم التمييز والمُدافع أيضاً عن الطغاة، أن يأمَلَ الصمودَ فيما هو يسهم في طمس الفوارق في صفوف الأكثرية إذ لا يجد ما يعرّف به نفْسَه غير مجابهتها؟ أليس أقربَ إلى الحكمة وأبعدَ، في الوقت نفسه، عن المذلّة أن يتّجه السعي نحو نبذ التمييز بصوره جميعاً عوضَ المثابرة، بقوّة العادة وحدها، على البحث عن ملجأ في تمييزٍ تؤمل منه الحماية ولكنه يزداد قرباً كلّ يومٍ من دنيا الوهم؟

كاتب لبناني

أحمد بيضون