النَسَب والمكواة

أحمد بيضون

ونحن صغارٌ، كنّا نريد البَكَ أن يكون جميلاً. وأنيقاً أيضاً. كان بهاءُ الطلعة ما أمكَنَ ومعه المكواة، قَبْلَ الحسَب والنسَب، ضرورةً ينْشُدها الصِبيةُ للبَكَويّة…
أذكر يوماً، في عين إبل (من أعمال الجنوب اللبناني) تدبّرْتُ فيه أمري للمشي وراءَ أحمد بك مباشرةً، وكنتُ دون العاشرة. كنّا جَمْعاً من كبارٍ وصغارٍ متّجهين إلى منزلٍ ما. وكان البكُ يلْبَس بذلةً فستقيّة اللون، وهو ما لم يكن شائعاً لملبوس الرجال. كنتُ في حيرةٍ من أمر اللون: هل هو خاصّ بالبكوات أم أن هذا البك ناقصُ الذوق أو غريبُ الأطوار؟ وَأَمَّا ما حَسَم المسألةَ فكانت غُضوناً رأيتُها في ظهر سترة البك تأتّت، على الأغلب، من طول الجلوس في السيّارة. لم يكن لي، بالغةً غيرتي ما بلغت، أن ألحق البك بالمكواة. ولكن كان عِظَم الخطب كافياً لأباشر الخروج من دائرة السحر البكوي…
في ذلك اليوم أو في غيره، شاهدتُ آثار بثورٍ في وجه البك قد تكون نَجَمت من إصابةٍ قديمة بالجدري. كانت تلك طامّةً كبرى. وكنتُ أسمع بعض أقاربنا يصِفُه بـ»الأنْقَر» حين يخاصمه والدي. ولكنه كان يبقى أحمد بك في الصلح وفي الخصومة.
كان الصلح والخصومة خاويين تقريباً. تسوّغهما بالكأد مقارنةٌ بين البيوت أو بين الأشخاص، تنقلب نتيجتُها رأساً على عَقِبٍ تبعاً لتقلّبات الأحلاف الانتخابية. فإذا انعقد الحلف بين عائلتنا والبك أصبح بيت البك كعبةَ الجبل. وإذا استأثَرَ العائلة المقابلة لنا برضا البك وحالفَت عائلتنا خصماً لهذا الأخير، نفَضْنا الغُبارَ عن صورة «الإقطاع» وشُرورِه. هذا مع العلم أن المآخذَ التفصيلية كانت تغني عن لفظ «الإقطاع» الخطِرِ هذا…
هذا الخَواء هو ما جعل طلْعةَ البك محلَّ اهتمامٍ عندي يُسْعف في التعلّق بشخصه أو لا يسعف. وهو ما اتّخذتُه مقياساً أوّل للمفاضلة بين بكواتٍ عرفتُهم في تلك الأيام. وهو ما مثّل إلى حينٍ أيضاً حبلَ سُرّةٍ سياسيّاً بيني وبين والدي. كانت هذه الفئة من الألقاب قد انقطعت عن كلّ مؤدّى عملي منذ أفول السلطنة العثمانية.. بل قبل ذلك. وفي العهد الهاشمي الأوّل، أمكن لـ»قبضاي» بيروتي أن يحظى بلقب الباشوية – على ما شاعَ – لقاءَ وليمةِ سخية…
وأمّا والدي فكان ينتمي إلى فئة «الوجهاء». وهذه تقع في موقعٍ حائر بين الأفندي والبك. فكان يخاطبه الغرباء، في الرسائل، تارةً بهذا اللقب وتارةً بذاك. وأما في بيئته، أي في البلدة وفي الجوار، فكان «أبا أحمد» والسلام.
وهو كان يقترب من الخامسة والأربعين حين كنت أقترب من العاشرة. وكان لا يزال يجمع، في تلك السنّ، قوّة البنية إلى وَسامةٍ ملحوظة. كانت قوّة بنيته تجعله سنداً موثوقاً للغلام الهزيل الذي كنْتُه، فضلاً عن العائلة كلّها. فالشجار لم يكن مستبعداً بين الحلفين العائليين في البلدة (بالحجارة وبالعصِيّ، في الغالب). وكانت الوفرة في رأس المال العضليّ مستحسنةً في الزعيم، وإن تكن حاجته إليه رمزيّةً بحتة. فقد كان له مَن يشاجر عنه. وأمّا الوسامة فكانت علامةَ تفوّقٍ حاسمٍ على الأنداد ناهيك بالخصوم…
وما من ريب أن اقتران المكانة بالوسامة كان ينتقل إلينا، نحن الصبية، من طريق النساء. فمن تعليقاتهن المتناثرة، حين يذكرن هذا الزعيم أو ذاك، كان يتسرّب إلينا ما علينا أن نتمثّل به في شخص الزعيم: عسى أن يعجبهنّ فينا بعض ما يعجبهنّ فيه.
لا عجب، والحالة هذه، أنه كان سهلاً على عبد الناصر، حين وصلت صورُه، أن ينشئَ معنا، نحن الصِبْية، ومع بعضِ الكبار أيضاً، علاقةً مباشِرةً وأن يعفينا من الحاجة إلى البكوات من أصلهم. فتوقّفنا عن حفر صورة فيصل الأوّل على الحجارة. كان الملك قد ماتَ قبل ولادتنا. فلم يفصل بيننا وبين عبد الناصر سوى صورةٍ يتيمة مشوّشة للملك كنّا نقع عليها هنا أو هناك وسرعان ما أزاحها «المارد الأسمر».
أيّام!
أمرٌ آخر خليقٌ بالذكر هو أنه كان في متناولي، إلى البكوات الكثيري التداول، بيكان آخران، في أدنى تقدير، يسعني نعْتُهما بـ»النادرَيْن».. أوّلهما حسن بك، ابن عمّ أحمد بك. وكان يعرّج على بيتنا، في أوقات متباعدة، قادماً من قريته البعيدة، لا في سيّارة، بل على حصان! وكان يعتمر كوفية وعقالاً ويلبس لباس الخيّالة. كانت علاقته بأحمد بك متقلّبة شأن علاقة والدي بالمذكور. ولكن كان صعباً أن يكون له حظٌّ في الزعامة، إذ كان أخوه الأكبر محمّد يتقدّمه في الاستحقاق، وكان بيتهما قد طال مكوثه في الهامش. فكان محمد بك هو الذي يعتمر طربوشاً شأن والدي وبعض من عرفتهم من البكوات والأفندية… فإن آخرين منهم (متّهمين بالحداثة!) كانوا قد أصبحوا حاسرين بعد تطَرْبُش. ولكن حسن بك كان في نظري، مع ذلك، صورة البك المثلى: شباب! كوفية حريرية سكّرية اللون، قامةٌ شامخةٌ متّسقة وطلعةٌ سمراء مشرقة… وحصان. فمن أولى من هذا بالبكوية وأيّ ظلمٍ حبسه في الهوامش ومنح المتن لـ«الأنقر»؟
كان والدي خيّالاً قديماً وتاجر خيولٍ في بعض أيّامه. وحين بلغتُ سنّ الإدراك، كان لا يزال يقتني فرساً أو يشترك في ملكية فرس. فهذه الشركة كانت واردة. ولكن نادراً ما رأيته يمتطي الفرس. وحين توسّطتُ العقد الثاني من عمري، بدأتُ «ألطُش» ما يعجبني من خزانة الوالد: ربطة عنق من هنا وحذاءً من هناك، على الخصوص. وكان هو لا يردعني ولا يقول ما يفيد الرضا عن هذه الأفاعيل أيضاً. كان يدعني أفعل وكنت أتحاشى الإفراط. وفي وقتٍ ما، استوليت على شيئين كان الوالد قد أهملهما طويلاً: الكوفية الحريرية مع العقال وجزمة الخيّال! وقد رحتُ ألبسهما أحياناً من غير فرس!
وما من ريب في أن خطّتي كانت التشبّه بحسن بك. ولكن كان صاحب الكوفية والجزمة، أي الوالد، ماثلاً في صورتي المتوخّاة أيضاً. وحين ألتمس اليوم معنىً لما كنتُ أفعلُ أرجّح ان الرجلين كانا وجهين لصورة واحدة هي صورة الوالد. كان لحسن بك امتياز الفتوّة إذ كان أصغر سنّاً من والدي. وكان له امتياز التجسيد التامّ، وإن يكن عابراً، لمثال الزعامة المستقرّ في مخيّلتي… إذ لم أكن رأيته إلا فارساً في لباس الفرسان… هذا فيما كانت صورة الوالد أغْزرَ ملامحَ بكثيرٍ وأقلّ قابليةً لهذا التجريد، بطبيعة الحال. كان حسن بك وسيطاً ممتازاً، قليل الكلفة، يجنّبني مغبّة الاقتداء المباشر بالوالد… فهذا الاقتداء لم يكن مرغوباً فيه في وقتٍ كان فيه التحرّر من سطوة الوالد ومن سلطانه هو المناسب للفتى الذي كنته. يبقى، بعد هذا، بك نادرٌ آخر وملاحظاتٌ أخرى ندّخرها للعجالة المقبلة.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

في الحاجة إلى موارد التعبير

أحمد بيضون

لا يجوز تصحيحُ أخطاء النحو في رسائل الغرام فهي بعضُ فتنتها. وقد يستحبّ للشاعر أو للأديب المتشاعر أن يسعى في المزاوجةٍ، على نحوٍ ما، بين عبارته، أبنيةً وألفاظاً، وما في الموضوع الذي يقاربه من نقصٍ وتعثّر.
وقد يكون المسرح بلا زيادةٍ أبرز «مسرحٍ» يدرِك فيه استلطاف الانحراف عن الجادّة اللغوية أقصى شرعيّته ويستطاب فيه ثأر الخطأ من الصواب. يصحّ هذا، على الخصوص، حيث يميل المخرج وكاتب النصّ إلى ما يعرف باسم الباروديا…
وأمّا حالة الناقد أو المحلّل فمختلفةٌ جدّاً. إذ هو محتاج إلى أقصى المستطاع من الإحكام والغنى في العبارة ليسبُرَ ما يسفر عنه التشابك بين عدّته النظرية والوقائع من صور اللَبْس والتردد، ومن العِيَ والإلغاز وليجلو أبعاد ذلك ودلالاته.
ولنُضف ههنا أن معرفة اللغة (ونقصد العربية، على التخصيص) أبعدُ شَيْءٍ عن أن تختَصر في معرفة الإعراب أو معرفة إملاء الكلمات. فمع أن الخطأ في علامة الإعراب، في القراءة أو في الكتابة، خطأٌ، لا ريب في ذلك، ما دام يسوق إلى الخلط في وظائف الألفاظ في الجملة، أي، مثلاً، إلى وضع الإبريق في موضع كاسر الإبريق… فإن هذا ليس أسوأ ما في نقص المعرفة باللغة. وقد أوصى لغويّون بالاستغناء عن الإعراب لأن ما يفيده الإعراب يدركه السامع أو القارئ بالحدس في أكثر الحالات. وهذه وجهة نظرٍ جديرة بالاعتبار وإن لم يكن سائغاً، على الأرجح، أن تعتمد برمتها بلا إمعان نظرٍ في الحالات.
لا يُرَدّ صلبُ المعرفة بالعربية أيضاً إلى القدرة على اجتناب الخلط، في الكتابة أو في النطق، ما بين السين والصاد ولا إلى إتقان القواعد المعلومة لكتابة الهمزة. لهذا ولِما كان من بابه اعتباره، بطبيعة الحال، ولكنه ينتمي إلى أوّليات المعرفة بالفصحى ومبادئها وليس إلى لُباب هذه المعرفة. وأما هذا اللباب فيتمثّل في أمور أخرى من قبيل نحو الجُمَل وما يتيحه التقديم والتأخير في عناصر الجملة من لَعِبٍ بموازين الدلالة وما توفّره عشرة المعاجم وكبار المنشئين من معرفةٍ بالفروق الدلالية بين المترادفات، وما تتيحه هذه المعرفة من إحكامٍ ومرونة في التعبير هما– لا التمحّل ولا «المحسّنات»، على اختلافها– ما يستحقّ اسم البلاغة. هذا وتزداد الحاجة إلى الغزارة في موارد التعبير والدقّة فيه كلّما كان المراد قوله أقرب إلى الاحتمال وتشابه الوجوه وإبطان الشكّ منه إلى اليقين الفجّ أو المباشر.
وإذ يبتكر أهل النظر مصطلحاً لهم ولا يزالون يزيدون فيه ويجهدون لإرهافه فلأن اللغة لا تكفيهم وليس لاستغنائهم عن تعلّم اللغة. فلا يستقيم تحليلٌ لمرحلةٍ تاريخية أو لحركةٍ اجتماعية أو لأْزمةٍ نفسية بعُدّة لغوية تقصّر عن وصف حذاءٍ بالٍ. وهذا مع أن الأزمة النفسية، مثلاً، قد تتّخذ مظهراً لها العجزَ عن الكلام!
هذه الحاجة إلى ثروةٍ لغويّة وإلى تمكّن من أصول التعبير شرطاً للإحكام في أداء المعارف، تجعل من الفصل بين ما يسمّى «أدباً»، على اختلاف الأنواع، وما يسمّى «تحليلاً سياسياً» أو «معرفةً اجتماعية» أو «روايةً تاريخية» أمراً يجب النظر في إمكانه، لا إلى صعيد متانة العبارة وجمالها، بل إلى ضوابط أخرى معتمدةٍ لكلّ نوع. فإن النظر عن كثب في أعمال المؤرّخين، مثلاً، يُظهر أن كبارهم، من ابن خلدون إلى فوكو، كانوا منشئين كباراً معتنين بنضارة عبارتهم وبألقها وحسن سبكها. وهذه أيضاً حالُ «نفسيين» و»اجتماعيين» نذكر من بينهم فرويد وليفي ستروس وحال فلاسفةٍ ليس أوّلهم ديكارت ولا آخرهم سارتر، الذي قرن البحث الفلسفي بالرواية والمسرحية، إلخ.
لذا كان مستهجناً أن يرمى الباحث في الفلسفة أو في علوم الإنسان والمجتمع بـ»البلاغة» كأنها تهمة وأن ينسب إلى «الأدب» لا لسبب إلا لجمال عبارته وأسلوبه، وأن تعدّ هذه النسبة حطّاً من موقع الباحث وشأنه في الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه. وهذا النوع من «المآخذ» شائع في ديارنا وهو يؤول إلى تخلّص «الناقد» من عبء التدبّر المتروّي لما يقرأ أو يسمع. وذاك أن البلاغة هي ضبطُ الكلام بالمقصود وهي بالتالي أبعدُ الأشياء عن الكلام الفارغ. هذا من جهة… ذاك أيضاً أن الأدب يستدعي التخيّل، في الأعمّ، ولكن ليمضي بتوسّطه شوطاً أبعد في استقصاء الحقائق. وهذا شوطٌ قد لا يفلح في قطعه الكلام الغريب عن الأدب ولو كان يُنسَب إلى العِلْم. الأدب عالَمٌ كلامي مغايرٌ جدّاً، بالتالي، لعالم الكلام الفارغ.
في هذا المعرض نفسه، يحسن التذكير بأن لفظ الأدب يستعار أيضاً لسموّ الخُلُق. فيقالُ فلانٌ مؤدّبٌ أو أديب. وهو ما يشير إلى أن الأدب، بعموم معناه، مشروطٌ بالبعد عن الكذب وعن السَفالة. لذا كان الاكتفاء من النقد بالقول «هذا أدبٌ وبلاغة» هو، لا غيره، الكلام الفارغ. إذ هو يقوم على جهلين: جهلِ معتمديه بما هما الأدب والبلاغة وجهلهم بكيفية الردّ المقنع (أي البليغ!) على رأيٍ لم يوافق رأيهم.
يستحسن التنبيه، أخيراً، إلى أن الكلام، أيّا كانت سويّته، يعبّر، تلقائياً، عن شيءٍ في قائله، ظاهرٍ أو خفيّ، يُدْرِكُ مباشرةً أو يستخلص بالتحليل. وهذا لا يحتاج، بصورته العامّة، إلى براعةٍ استثنائية من أيّ نوع. وأمّا التعبير المتعمّد بالكلام عن حقيقة ذاتية أو موضوعية فهو محتاج إلى دُرْبةٍ وتمكّن. فلا يزداد الكلام تعبيراً عن حقائق الأمور كلّما ازداد تلعثماً في الصياغة أو فقراً في الموارد اللغوية أو البيانية أو سوقيةً في الألفاظ: أي كلّما ازداد بعداً عن الأدب والبلاغة، بل إن هذين أفْعَلُ ما تدْرَكُ به تأتأة العالَم وأصْدَقُ ما تُتَرْجَم به. ليس على أحدٍ ـ إن صحَّ هذا ـ أن يعتذر عن بلاغته وأدبه، بل الأَوْلى تمنّي الازدياد من هذا ومن تلك وبذلُ الجهد في سبيله.
يبقى أن علينا التسليم بأن البلاغة والأدب ليسا واجبين على من لا يريدهما. فإن كلّاً من البشر حرٌّ في اعتماد «الأسلوب» الذي يلائمه أو ذاك الذي يقدر عليه: في الكلام وفي غيره من أشكال السلوك. ولكن ليس لأيّ كان أن يعتبر البلاغة والأدب سُبّةً لغيره من الناس ومطعناً يسفّه به، ولو متظاهراً بالمدح أحياناً، أيّ رأيٍ يراه هذا الغير. هذا بينما يغطّي المنتقد، بهذا الاعتبار، عجْزَه أو تكاسله عن جلاء مآخذه.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

شقّةٌ في رأس بيروت

أحمد بيضون

قبل ثلاثين سنة، أسبوعاً بأسبوع، انتقلنا إلى شقّتنا هذه في رأس بيروت. كنّا هاربين من «خطّ التماسّ» السيّئ الصيت الذي أقمنا على مقربة منه عشر سنواتٍ من عمر الحرب. في مقامنا الجديد، كانت السماء واسعة فوق رؤوسنا، في تلك الأيام، ومن شرفتنا كان يمتدّ في الفضاء، بين المباني القريبة والبعيدة، زقاق أفقي ينتهي إلى البحر. كنّا نحبّ أن نقول للزائر الجديد: خاطِرْ بالتواءٍ في عمودك الفقري تشاهِد البحرَ من هذه الشرفة!
اليوم، أصبح علينا أن نذهب إلى موضعٍ بعينه من الشقّة لنرى إن كانت السماءُ لا تزال حيث تركناها. ومن الشرفة، إذا خرجنا إليها، يظهر لنا مستنقعان سماويان ضيّقان، متكسّرا الحدود، هما كلّ ما تركته لنا المباني الجديدة الشاهقة من سماء. تلك سماء لا تكفي، في الشتاء، لتقدير احتمال الصحو واحتمال المطر. كثيراً ما نسيء التقدير فنترك المظلّة ونعود مبلّلين… أو نأخذ المظلّةَ بلا داعٍ فننساها حيث نذهب… ليس هذا، بطبيعة الحال، كلّ ما جرى لنا في ثلاثين سنة، بصفتنا من سكّان هذا الحيّ. هذا غيضٌ من فيض. أقول هذا مع أن ما سبق يشير إلى تغيير في المدينة يصحّ وصفه بالتاريخي. المدينة، في هذه السنوات الأخيرة، تنتقل من طراز عمارة إلى آخر. وقد يصحّ القول إن نقلة بهذا الاتساع والعمق لم تحصل من ستين سنة. انتقلت المدينة بين الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من عمارة تتراوح طبقاتها بين واحدةٍ وأربع إلى العمارة ذات الطبقات السبع. وهذه الأخيرة هي التي تنتمي إليها عمارتنا، وهي التي تُغلب على أمرها اليوم وتبدو صائرةً إلى الاضمحلال. يُغْلب الإسمنتُ المألوف المكحّل بالزجاج ومعه الحديد المشغول أو الألمنيوم الذي تعرضه الشرفات المفتوحة. يَغْلبه طغيان الزجاج الذي يشتمل على الشرفات ويضمّها إلى دواخل الشقق. ولكن ما لنا ولتحوّل المدينة بأسرها… ولنمكث لحظاتٍ في شارعنا الضيّق.
لعشر سنواتٍ خلت، كانت حركة الشارع لا تزالُ تخفّ كثيراً ابتداءً من بعد الظهر، فنمضي أوقات راحتنا… مرتاحين. اليوم أصبح الشارع وجواره لا ينام إلى ساعات الصباح الأولى. كان يغلب هنا محلّ التاجر ومحلّ الحرفي: بائع الثياب أو اللوازم الكهربائية، الحلاّق ووكالة السفر، متجر الأثاث… اليوم تكاد تطغى على هذا كله، في الشارع وفي الجوار، عشرات من المطاعم والبارات وما يسمّى الـ»بَبْز» وهو شيء هجين بين البار والمطعم لا يجد دليلاً على تفوّقه خيراً من اقتحام آذان الساهرين مع عوائلهم أو النائمين في أسرّتهم بأقبح الموسيقى. هذا والموسيقى ليست وحدها مصدر الإزعاج، بل إن هذه المرابع لا تتّسع دواخلها لروّادها فيتجمّع أكثرهم على أرض الشارع ويعلو هناك لغطهم مع الموسيقى.. وقد ينفرد من بينهم واحد يقف في الثانية صباحاً تحت نافذتك بالضبط ويهاتف من هناك واحداً آخر أو واحدة ملزماً إياك بسماع قصةٍ لعلاقةٍ مشتبكة بقصّةٍ لحياةٍ برمّتها. لا موجب للنوم هنا: لا للطفل ولا للمُسنّ، لا للعامل ولا للعاطل.
والحال أن مصادرة الروّاد لأرض الشارع أمرٌ تلقائي وقد يكون حقّاً من حقوق المواطن (ما أدراني؟)… ولكن المريب أن تكون هذه المرابع، بلا أبواب تغلق على ما يجري فيها وأن يكون بعضها بلا جدران أصلاً ما خلا ألواح زجاج لا تصدّ وحدة الحال بينها وبين الجوار.. وكأن أصحابها والروّاد منزّهون عن المعصية، فليس عليهم أن يستتروا. ذاك مريبٌ لأن بعض الجوار سكنيّ يفترض أن يكون محميّاً ممّا يسمّيه القانون «إقلاق الراحة».
وفي تفسير غفلة القانون عن الإقلاق الثابت وفي إتاحته رخصاً تعامت عن مواصفاتٍ هي والإقلاقُ واحدٌ يتداول الأهالي أقوالاً مختلفة. بعضهم يزعم أن الرشوة أُمّ العجائب. وبعضهم يؤكّد أن الحماية السياسية منشورة على هذه المرابع: من صاحب الرخص العديدة إلى الفاليه باركنغ. وبعضهم يردّ الاستباحة إلى جبن الجيران عن مواجهة الحُماة الأشاوس.. إذ هم يباشرون، بين حينٍ وآخر، مبادرة احتجاجٍ ثم ينكصون… وفي انتظار أن يأفل نجم هذه البقعة، بما هي مساحة للسهر، من تلقاء نفسه (وهو ما سبق أن حصل لشوارع أخرى في المدينة) يتّخذ القادرون لأبوابهم المطلّة على الشارع زجاجاً مضاعف السماكة وقد يزجّجون الشرفات أيضاً. الإجراء عالي الكلفة ومتفاوت الفاعلية، والاضطرار إليه ظلمٌ محضٌ فوق ذلك، ولكنه قصارى ما يرى القومُ أنهم يستطيعونه.
نعم هلّلنا مؤخّراً لإنذارٍ وجّهته المحافظة إلى بعض من هذه المرابع… إنذارٍ لم يتناول شرعية موقعها، حيث هي ولا غياب التجهيز العازل ـ بما فيه الجدران ـ لما ينبعث منها من ضجيج في كلّ وقت. وإنما اقتُصر على دعوتها إلى الالتزام بالمواقيت القانونية وإلى اجتناب «إقلاق الراحة» الذائع الصيت. هلّلنا مع ذلك، ولكن بقي الحذر حليفنا، فنحن لبنانيون نعرف ميل الأنظمة والقوانين في بلادنا إلى الغفوة الطويلة بعد كلّ يقظةٍ عابرة…
مهما يكن من أمرٍ، يبقى أن نوع العمارة الجديد والوجهات الجديدة الغالبة لاستعمال بعض منشآته، في الحي، تُغيّر كلّها من الانفعال بالأشياء والروائح والأصوات. ثمّة شعورٌ ينشأ بالإقامة في موضع عاد غيرَ معَدٍّ للإقامة، إذ أصبح مدرجاً في أرخبيل السياحة. وهو ما يوسوس للمقيمين ليل نهار هنا أنهم هم الغرباء وأن الطارئين في الهزيع الثاني من الليل هم مستحقّو المكان أو أصحابُه. في حالتِي بدأ هذا الشعور من منظر الأشجار.. حين قدومنا إلى الشارع، كان فيه أشجار معدودة مختلفة الأنواع والأشكال وخضرةٌ على شطرٍ من سياجٍ هنا أو هناك وزروع تُزهر على شرفات. كان الشارع يتميّز بهذا كلّه عن شوارع أخرى مجاورة. هذا كلّه كان لنا: كان منّا وفينا من حين وصولنا. المباني التي أنشئت حديثاً فرضت، بنمطها المعماري وبالبعض من طرق استعمالها، إزالة هذه المعالم أو إخفاءها. لم تبخل هذه المباني بالأشجار. غُرست أشجار على الرصيف أمام بعضٍ من المباني المنشأة مؤخّراً، ولكنّ هذه الأشجار التي يؤتى بها متماثلة وكبيرة تُشعرني بأنها شيء مصطنع أو طارِد. تُشعرني بأنها زينةٌ سياحية غيرُ مكينة، معدّةٌ، لا للمقيمين، بل لعابري الليل الذين لن تحظى منهم بالتفاتٍ أصلاً، تُشعرني بأن في تكوينها عنصراً بلاستيكياً خفيّاً. تشعرني بأننا، نحن المقيمين، ثقلاء فرَضَنا على الساهرين حظٌّ عاثر وأنه بات علينا الانصراف من هذا الحيّ… من هذه المدينة… من هذه الدنيا. ليس لي منفذٌ، والحالة هذه، غير أن أهزأ بهذا كلّه!

كاتب لبناني

أحمد بيضون

مساحةٌ بين قُسٍّ وجِحا

أحمد بيضون

Jan-06

■ هي الخاطرة إذن ما يستوقفني من بين الموادّ التي يستدرجنا إلى «إنتاجها» الفيسبوك وإلى نشرها على «الحائط» المتاح لنا من ثَمّ. التأمّل في الخاطرة يستبعد الصورة موضوعاً، بالدرجة الأولى. ولكنّه يستبعد أيضاً ـ بين ما يستبعد ـ ركامَ «الروابط». فهذه الأخيرة مفتوحة على الشبكة كلها ـ باستثناء ما أدرجه الفيسبوك في قائمة ممنوعاته ـ : على المقالة المنشورة وعلى الشريط، على القطعة الموسيقية وعلى المعرض الفنّي، إلخ. وهو ما يجرّ إلى تأمّل عامّ في محمولات الشبكة لا يقوى على الوصول به إلى الغاية أحد. الخاطرة شيء محدود جدّاً بين محمولات الشبكة وهو يزداد محدوديةً ـ إزاء أنواعٍ أخرى من الموادّ ـ بين محمولات الفيسبوك نفسه. وأزيد مساحته ضيقاً، من جهتي، حين أحصر همّي في قابلية الخاطرة الفيسبوكية لتحمّل «عمل الكتابة» وفي الخصائص التي تكسبها الخاطرة من انتمائها إلى نشاط «الفسبكة» بعد هذا التحمّل.
لمدّةٍ من الزمن أطلق الفيسبوك على المساحة التي يتيحها للنشر اسم «الحائط». وهو ما يوحي أنها متاحة لـ«الغرافيتي»: أي لأيّ نوعٍ من الكلام (الذي لا تستبعد منه المأثورات والبدائع) وللرسوم أيضاً… على حائطي هذا، حاولتُ أن أستعيد، أحياناً، نصوصاً لكتّاب ذوي شهرة، نصوصاُ وجدتها قريبة، من حيث الفئة الأدبية أو النوع، لما قد ينشره واحدنا من خواطر على حائطه، إذا اختار أن يزاول هناك غواية الكتابة. نشرت تباعاً تحت عنوان «فلانٌ لو فَسْبكَ» أقوالاً لأمثال بليز باسكال وفريدريش نيتشه ومارك توين وألبير كامو وأوكتافيو باث وأميل شيوران… وكنت أعرف أن في وسعي أن أبدأ الاستنساب من نصوصٍ ضاربة في القِدم: من «النُتَف» التي وصلت إلينا من أغارقة سابقين لسقراط: من هرقليطس مثلاً. وكنت أعرف أن في وسعي أن أواصل هذه التخيّرات بلا نهاية تقريباً. على أن باسكال كان أوّل من استوقفني. فإن كتابه «الأفكار» له مظهرُ كتاب الخواطر. فهو مكوّن من نصوص قصيرة متنوّعة الهموم لا يظهر لها للوهلة الأولى موضوع واحد، ولكن تفحّص هذه الحالة عن كثب يظهر أن باسكال، إن كان له أن يدْرَج في فئةٍ من الفسابكة، فهو أقرب إلى فئة «المناضلين» أو «الناشطين» الذين قد تتنوع الموضوعات الجزئية لما يتتالى من خواطرهم، ولكن ينتظمها موضوع عامّ أو همّ جامع واحد. وذاك أن كتاب باسكال كتاب غير منجز وأن هذا ـ وليس الافتقار إلى موضوعٍ واحد ـ هو السبب في التشتت الظاهر لفقراته. ويعرف محقّقو الكتاب هذا الأمر ويعرفون المدار العامّ للكتاب، فيختلف ترتيب «الأفكار» بين الطبعات وفقاً لتقدير كلّ محقّق للتصميم الذي كان باسكال سيعتمده لمؤلَّفه لو أتيح له أن يبلغ من تأليفه نهاية المطاف.
عليه رأيت أن ما جاء به مارك توين من خواطر متفرّقة، هجائية المنحى، هو، على الأرجح، أقرب ما يمكن اعتماده نموذجاً مثالياً لما يُنتظر من الكتّاب السابقين لعهد الفيسبوك لو أنهم «فَسْبكوا». ولا يعني هذا الاستقراب لتوين تنحية سواه. فإن «دفاتر» كامو التي لم يكن أعدّها للنشر ونُشرت بعد رحيله هي مدوّنات خواطر بالمعنى الأدقّ. يحمل صاحب القلم قلماً ودفتراً ويدوّن ما «يخطر» له لترجيحه أن الخاطرة ستتلاشى وتغور إذا هي لم تدوّن. وقد تستعاد الخاطرة في عملٍ لاحق وقد لا تستعاد. فوجودها في «الدفتر» وجود ذخيرة واحتياط… ذاك ما هي عليه خواطر كامو في «الدفاتر». فيها شيء من «فورية» المادّة الفيسبوكية، بل إن طابع «المسوّدة» الذي يطبع بعضها قد يجعلها أكثر فورية من خواطر يدفع بها كاتب لا ينسى «جمهوره» إلى جدار الفيسبوك بعد أن يوفّيها ما يجده حقّاً لها من العمل أي بعد أن يحيلها، على وجه التحديد، إلى «مبيّضة».
وتغري حالة كامو بتلمّس صلةٍ ما بين الخواطر واليوميّات. لا يلزمك الفيسبوك بالانتظام الذي يميل إليه من يقتني دفتراً لتدوين يوميّاته. ومع أن الفيسبوكي قريب جدّاً من الانفعال بالحوادث والتعليق عليها فإن الخواطر، من حيث الأساس، أقرب إلى السيرة الداخلية: إلى سيرة الخاطر السارح بين الأوقات والشواغل، على اختلافها، منها إلى القبض على الحدث الشخصي أو العام وحفظ معالمه ومعها الانفعال به في كلام مكتوب. الخاطرة لا تعالج، بالضرورة، ما يحدث وإن يكن هذا محتملاً جدّاً، تعالج ما يخطر، هي نفسها حدثٌ.
وإذ التمست في تراث العربية أشياءً تشبه ما أفترضه نموذجاً فيسبوكياً للخاطرة، وقعتُ على قطبين لا يطابق أيّ منهما هذا النموذج ولكن يمثّل حدّاً له. أوّل القطبين «الحكمة»، نثراً كانت أم شعراً: لقُسّ بن ساعدة كانت أم لعليّ بن أبي طالب، لأبي العلاء المعرّي أم لأبي العتاهية… وثاني القطبين «النادرة» وهذه قد تكون واحداً من أخبار نصر الدين خوجة المعروف بجحا وقد تكون من المنسوب إلى شعراء أو أدباء، إلى خلفاءٍ أو وزراء، إلى غلمانٍ أو إماء… من طريف الأقوال والأفعال، تضمّ معظمه تآليف مختصّة بهذا النوع. وأما الخاطرة الفيسبوكية فلا هي حكمة، على وجه الدقّة، ولا نادرة، بل يسعنا تخيّلها شاردةً في المساحة المعتبرة الممتدّة بين هذين النوعين: في المساحة بين جحا وقُسّ.
وما تكسبه الخاطرة من انتمائها إلى الفيسبوك وإلى وجوه التفلّت فيه ووجوه الإلزام عميمٌ وعميق. ما أشرنا إليه من علاقة ينشئها الفيسبوك بين الخاطر والزمن مؤدّاه أن ما يُعرض على الفيسبوك عابرٌ بلا إبطاء، محكوم بسرعة الزوال… وهذه صفة تلحق به إلى موقف صاحبه منه أيضاً. يتوجّه المفسبِك إلى جمهورٍ ضيّق أو واسع يعرف شيئاً من ملامحه ومطالبه. وهو ـ أي المفسبِك ـ لا يعطى، في العادة، مهلة بين جهوز المادة ونشرها. غير أنه لا يجد نفسه ملزماً بمتابعة حديث كان قد بدأه قبل ساعة ولا بالبقاء على سويّةٍ للتأمّل كان قد اتّخذها لنفسه أمس. ولا هو يشعر بحرج من التنقّل بين غثّ الموضوعات وسمينها، إلخ.
في هذا كلّه لعبٌ محتمل تغري به حرّية الحركة، وفيه أيضاً تواضعٌ تلزم به سرعة الزوال. على أن اللعب ههنا لا ينفعه أن تُزعم له تلقائية ليست له. التلقائية لا تعدو لحظة بزوغ الخاطرة. عليك بعدها الانكباب على العمل، فإذا استُعيدت، في آخر المطاف، تلقائيةٌ ما فلأن للعمل، بما هو اجتراحٌ لتكتيكٍ واعتمادٌ له، أن يدّعي لنفسه القدرة على استرداد التلقائية أو على تحصيلها في ما لا يسع التلقائية أن تزعم الاستغناء عنه.
وإذ عمَدتُ إلى جمع فيسبكاتي مرّتين تباعاً في كتاب، رغبتُ في إظهار هذا كلّه. وقد كنت أتكلّف لإظهاره خيانتين: خيانةَ العابر بغية إبرازه بالتضادّ، وذلك بإدراج الخواطر في شريط (هو الكتاب) يبدو ثابتاً… وخيانةَ الفيسبوك كلّه، بما هو لغطٌ كونيّ، لإظهاره بالتضادّ أيضاً مع نصيبٍ شخصي من اللغط أحاول إلزامَه، لا بالانتماء إلى الأدب بعمومه وحسب، بل أيضاً باقتراح نوعٍ أدبي ينشأ من الحوار بين عمل الخاطر وبيئة الفيسبوك. رغبتُ أخيراً في إظهار سياقٍ يبقى مترائياً خلف الشتات الظاهر للخواطر المشغولة هو سياق الأسلوب أو سياق الشخص نفسه، ألم يقل صاحبنا ذاك أن «الأسلوب هو الإنسان عينه»؟

٭ كاتب لبناني

مساحةٌ بين قُسٍّ وجِحا

أحمد بيضون

الخاطرة والفيسبوك

أحمد بيضون

ديسمبر 28, 2015

يفتح «الفيسبوك» صدرَه لأنواعٍ كثيرة من الموادّ. فهو يقترح عليك، أوّلَ ما يطالعك حائطك المألوف (الذي تتوجّه منه إلى متابعيك وقد يحاورونك عليه) أن تضيف مادّة من إحدى فئاتٍ ثلاث: فئة التصريح بكلامٍ وفئة الصورة التي يسعها أن تكون واحدة ثابتة أو تكون شريط فيديو بحاله وفئة «الحدث» وموضوعُه مناسبة تُسْتجدّ أو تستذكر في تاريخ بعينه وقد تكون موضوعاً لاحتفالٍ ما في عالم الواقع. ولكن شريطاً يعلو هذه المساحة الثلاثية يبرز احتواء «الحساب» الفيسبوكي على موادّ كثيرةٍ أخرى: على محفوظاتٍ من الصور والأشرطة، على روابط بصفحات «الأصدقاء»، على أغلفة كتبٍ أو ملصقات أفلام أو أعمالا موسيقية، هي من مفضّلات صاحب الحساب، على رموز لمفضّلاتٍ من دنيا الرياضة، على «نُبِذٍ» يسعك أن تحفظ فيها مقالاتٍ أو دراسات: أي نصوصاً أطول من نصوص التصريحات التي قد لا يتجاوز واحدها كلمات معدودة، إلخ. هذا فضلاً عن «صندوق» للرسائل وللتحادث يتيح محاورة «أصدقاء» بأعيانهم، وحداناً وزرافات، بمعزلٍ عن عيون سائر الجمهور.
ولا ريب في أن هذه الموادّ كلّها لا تتساوى فئاتها في الرواج على الفيسبوك: أي في جذب اهتمام المتصفّحين واستثارة ردّ منهم يتخذ صيغة «التلييك» (أي إبداء الرضا عن المادّة… مع أنها قد تكون نعياً لعزيزٍ، أحياناً!) أو صيغة «التعليق» أو صيغة «التشيير» (أي إعادة نشر المادّة على حائط المتصفّح)… ثمّة تراتبٌ في الرواج توحي الإحصاءات أنه تغيّر لمصلحة «الصورة»، الثابتة أو المتحركة، التي تقدّمت على الكلام شأنها، في زمنٍ سبق، في النزاع بين الراديو والتلفزيون.
مع ذلك بقي «التصريح» (الذي اقترحتُ مقابلاً لاسمه الإنكليزي كلمة «عَرْضحال» العثمانية الأصل، على الأرجح) أوّل ما يعرضه عليك الفيسبوك من صور «النشاط» المحتمل من جهتك. وذاك أن «الإنسان» الفيسبوكي (هومو فيسبوكوس!) بقي حيواناً ناطقاً وإن يكن أصبح أيضاً، مع اجتياح الكاميرات للجيوب، حيواناً لا يكفّ عن التعرّض للتصوير… أو عن أخذ الصور لنفسه مؤخّراً.
وأمّا ما نصرّح به من كلامٍ على الفيسبوك فيسعه أن يكون أيّ كلامٍ كان، بل يسعه أيضاً أن يقع في ما دون الكلام فيقتصر على ما يسمّيه الفيسبوك «اللّكْز»… أو على واحدٍ أو أكثر من هذه الرسوم التي تفيد انفعالاً ما: فرحاً أو أسفاً أو تأييداً، إلخ، أو يقتصر على صوتٍ مكتوب لا يرقى إلى مرتبة الكلام المثبت في المعاجم، ولكنه يعبّر عن انفعالٍ أيضاً. وأشيع الأصوات من هذا القبيل، على الفيسبوك، «هههههه» التي تفيد أن محدّثك يمزح أو يسخر أو يضحك أو يأمرك بالضحك! إي والله: تفيد «هههههه» هذا كلّه! ولكنْ… يسع الكلام المذكور أيضاً أن يكون مقطعاً من بديع الشعر!
غير أنه يبقى في وسعنا، بعد إثبات هذا التنوّع، أن ننوّه بغلبة «الشفوية» على عرضحالات الفسابكة. فالكلام المكتوب هنا نائب، في الأغلب، عن كلام منطوق. ولا مغامرة في القول أن الفيسبوكي يكتب وكأنه يحادث. وهو ما يورث حضوراً غامراً للعامّيات وقلّة اكتراثٍ بتصحيح أنواع مختلفة من الأخطاء قد تقع في ما يقال. هذا لا يمنع أن المقارنة (في حالة الناطقين بالعربية) بين ما يرِد في العرضحال وما يقال في الدردشة تثبت أن الميل إلى الفصحى أقوى في الحالة الأولى وأن التوجّه إلى جمهور له قدْرٌ من السعة وقدرٌ من الغفليّة يملي اعتماد ضوابط مختلفة الأصناف في صياغة الكلام يغلب ألّا يعتمدها الكلام الموجّه، على حدةٍ، إلى شخصٍ واحدٍ أو أشخاص بأعيانهم.
هل ثمّة محلٌّ، بعد هذا، لما يسمّى «عمل الكتابة»، أي لمَخاضٍ يبتغي الرفع من سويّة الكلام من وجهٍ أو وجوهٍ: يبتغي البلاغة بالمعنى الأعمّ: أي ما قد يكون ألمعية وقد يكون شدّة إيحاءٍ وقد يكون إحكاماً وقد يكون تمكّناً من الإقناع أو من إثارة انفعالٍ ما؟ هذا معنىً لا يقرن البلاغة بالتمحّل (مع بقاء هذا الأخير غير مستبعد) وإنما يقرّبها من معنى الجمال على اختلاف موارده. ولِمَ قد يختار واحدنا الفيسبوك لمعاطاة غواية الكتابة هذه؟ لِمَ لا يعتمد حواملَ أخرى أرفع كعباً في هذا المضمار: الكتاب، المجلّة، القراءة في مجلس، الصفحة الثقافية، في الأقلّ؟
عند هذا السؤال، يدخل تصوّر «الخاطرة». الخاطرة على أنها فنّ من فنون الكتابة سابقٌ للفيسبوك. والخاطرة على أنها، مع ذلك، فنّ يسع الفيسبوك أن يجدّده فيمدّه بألقٍ مستأنف ويعيد تعيين مكان له ومكانة في الأدب إذ يملي عليه علاقة بالزمن هي غير العلاقة التي يغري بها دفتر «الخواطر». يجعل الفيسبوك «الخواطر» أيضاً في حال توجّه فوري، أي مزامنٍ لصوغها، إلى جمهور، وهو ما يرجّح لها طلاوة المشافهة ولو انّها ناتج عملٍ وصناعة. يتيح الفيسبوك للخواطر، فوق ذلك، تنوّعاً مهولاً في الشواغل وفي سويّة الهموم: فيكون لها أن تتراوح بين استنطاق شعور بتوعّك طارئ مثلاً والإشارة إلى احتمالٍ يراه الفيسبوكي معتبراً لنشوب حربٍ عالمية، بين رأي في أغنية واستذكار حادثة قديمة… وغير ذلك كثيرٌ – طبعاً – فيتعذّر حصره. وهو ما قد يوحي، أوّل وهلة، بتشظّ مطلق لشريط الخواطر. ولكنه يجعل الخواطر مقتطفات نامّة بسيرة داخلية للشخص، أو بـ»سيرة للبال والخاطر» على ما اقترحتُ تسمية الحصيلة ذات مرّة… هذه وغيرها أبواب مفتوحة على مقارنة لما كانته الخاطرة، بما هي فنّ من فنون الكتابة، قبل الفيسبوك بما يسعها أن تكون معه. وهي مقارنة أعود إليها في عجالةٍ مقبلة.

كاتب لبناني

الخاطرة والفيسبوك

أحمد بيضون

خدعةٌ ما

أحمد بيضون

■ بغير قصدٍ أو – على الأرجح – بقصدٍ، أخذت المبادرة الآيلة إلى ترئيس سليمان فرنجية للجمهورية اللبنانية تبدو أشبه بالخدعة منها بالمبادرة. إذا صحّ هذا التقدير رجَح أن تكون الخدعة قد جاءت من موضع بعيد وسلكت إلى ضحاياها طريقاً متعرّجة.
أوقَعُ ما حصل – ما دامت المبادرة قد أصبحت مستبعدة النفاذ – هو أن «السقف» الرئاسي المفترض لجماعة 14 آذار قد ألصقه المسعى الحريري بالأرض، إذ سلّم بتسليم الرئاسة الأولى للجماعة الأخرى. وهو أمر يزلزل جماعة 14 آذار لنسفه المدار الرئيسي (أو الرئاسي) للعلاقة بين ركنيها السنّي والمسيحي. يزيد الأمرَ سوءاً أن هذا التسليم اقتُصر مقابله على تسلّم رئاسة الحكومة، أي على مطلب يخصّ الركن السنّي الذي بدا وكأنه «باع» بهذه الرئاسة حليفيه المسيحيين: القوّات اللبنانية والكتائب. نقول هذا مع العلم أن التحالف العريض قد يبقى قائماً شكلاً لأسباب شتى تملي ضرورته. ولكنه يخرج من هذه المبادرة وقد ازداد ـ مرّةً أخرى بعد مرّات ـ خلوّاً من روحه، أي من الطاقة التي انشأت له وحدة جمهوره عند قيامه.
في جهة 8 آذار، لا يبدو الأمر على هذا القدر من السوء. حصل هذا المعسكر مجّاناً على التسليم المبدئي له بالرئاسة. صحيحٌ أن الإجماع المعلن حول ميشال عون قد ضُرب. ولكن الضربة جاءت من جهة مسيحية ثانوية في الجماعة في ما بقي الطرف القائد، أي «حزب الله» غير متورّط علناً. يقابل ذلك تورّط كلّي للطرف القائد في المعسكر الآخر (أي تيّار المستقبل). صحيحٌ أيضاً أن جماعة 8 آذار لم تحصل على الرئاسة الأولى فعلاً، ولكن هل يريد الطرف الممسك بزمام الجماعة انتخاب رئيس للبلاد فعلاً؟ هذا سؤالٌ كان معلّقاً في الفضاء من وقتٍ غير قصير ولا يزال.
على أن الخسارة الكبرى من جرّاء الزعزعة الشديدة لـ14 آذار والمحدودة لـ8 آذار حصدها الجانب المسيحي في جملته. فبعد أن كان يبدو منقسماً بنوع من التعادل بين الجماعتين، ظهر بجلاء أنه مقسّمٌ إلى أربع جماعات يوشك ألا يجمع بينها جامع.
في مقابل تمثيلين طائفيين جامعين، على نحوٍ أو آخر، في الجهتين الشيعية والسنّية. هي إذن محطّة جديدة لمسار التضعضع الذي تسلكه المسيحية السياسية في البلاد. وهو تضعضع بات جليّاً أنه يتعدّى السياسة البحتة أصولاً ومفاعيل.
تبقى ملاحظتان، الأولى أن هذا النوع من المبادرات معتاد في أيّ بلاد تشهد حرباً أو تشهد أزمة متمادية. هو ينفع في مداراة اليأس أوّلاً وفي تلطيف ما يجرّ إليه اليأس المبتلين به من أفعالٍ مختلفة، غير مرغوب فيها من قبل ذوي السلطان: أفعالٍ يقدم عليها اليائسون زرافاتٍ ووحداناً. هذه المبادرات التي تنعش المسرح والنفوس، إذ تبدو مخالفة لوجهة التردّي السائدة، لا تلبث أن تتكشف كلّ منها عن خيبة جديدة وعن انتظار جديد لما يتراءى في غيب ينظر إليه المضطرّون على أنه غني باحتمالات شتّى.
الملاحظة الثانية، وهي معلومة إلى حدّ يغري بالاستغناء عنها، هي أن التفاعلات اللبنانية من الطراز الذي سبق وصفه لا حظّ لها، ما دام المجتمع السياسي اللبناني هو هو، بالتفلّت قليلاً أو كثيراً من بعض ما لا ينفكّ يعصف بالمشرق، الذي يقع فيه لبنان، من أعاصير عنيفة، كثيرة المهبّات، لا ينجو منها بشرٌ ولا حجر. وهو ما يجعل المضيّ قدماً في تسويةٍ غير عابرة لأزمة النظام اللبناني، أمراً لا يزال غير مرجّح. وذاك أن المساعي المبذولة، على الخصوص، في مساق الصراع على سورية لا يبدو حتى الساعة أنها اقتربت من منفذٍ ما، إلى الحدّ الذي يبيح التفاهم العامّ على الجانب اللبناني من الصفقة الكبيرة. ذاك لا يمنع أن اللعب الظرفي في الساحة اللبنانية، إذ تحصل فصوله المؤذية بوسائط لبنانية، يترك بعضه ندوباً وتقرّحات لبنانية تصبح المعالجة الآجلة لبعضها صعبة أو متعذّرة حين يراد لها الشفاء من الخارج أو من الداخل.
في المبادرة التي نحن بصددها، حصل أخذ وردّ دبلوماسيّان أغريا بحملها على محمل الجدّ. ولكنّهما بقيا محدودين ثم مالا إلى الخمول. من ساقَ خطى صاحب المبادرة، إذن، إلى هذا الفخّ الذي يستبعد كلّياً أن يكون سعد الحريري قد تحرّك نحوه من تلقاء نفسه؟ الأرجح أن العملية بدأت في خارج جمهورية لبنان المعذّبة. بدأت في مجرى التجاذب الإقليمي وما يفرضه مجرّد السعي إلى تحسين المواقع ـ ناهيك بالبحث عن منفذ ـ من أصناف المناورة. بدأت إذن بخدعةٍ من طرفٍ غير لبناني انطلت على طرفٍ آخر غير لبناني أيضاً.

٭ كاتب لبناني

أحمد بيضون

عصبية المذهب

أحمد بيضون

مايو 9, 2015

يتعرّض المذهب في حركته، بما هي مواجهة لخصومه وبما هي مواجهة بين أطرافه، إلى نوع من «التصنيع» بما هو جماعة اجتماعية اقتصادية واجتماعية سياسية. فهو لا يكون موجوداً بهذه الصفة في مستهلّ حركته بل تكون حركته، بالدرجة الأولى، حركةً نحو الانوجاد. ليس أهل السنّة أو أهل الشيعة، وهم الموزّعون في أطراف الأرض وبين دولها، جماعتين اجتماعيتين متمايزتين ولا مستتمتي الأوصاف. بل هما متداخلتان في كثير من المجتمعات توجدان فيها معاً وكلّ منهما شتات بين مجتمعات كثيرة… ولن يصبح أهل هذا المذهب ولا ذاك مماثلين بجماعتهم لما كانت عليه الجماعة القومية المسايرة للتعريف المدرسي. ولكن جماعة المذهب تبدو، وهي ماضية في نزوعها الجديد إلى التكوّن، مبطنةً طموحاً دون تحقيقه الأهوال إلى مزاحمة الجماعة القومية والتجمّع الأممي، بما هما مبدآن لاجتماع البشر السياسي، في آن معاً. بل إن هذه الجماعة تبدو صيغة راهنة للشبكة الأممية تتآزر أطرافها في الهمجية وفي غيرها.
غير أن ما لا يستغنى عنه لفهم المواجهة الجارية أن ثمّة مصالح يحدسها المنتمي إلى هذا أو ذاك من المذهبين، تتعلّق بمصائر المجابهة ويناله منها كثير أو قليل. وعلى غرار ما كانت الحال في الحروب الرهيبة بين القوميات، لا يختصر جواب المسألة المطروحة بالقول أن «الفقراء» لا شأن لهم بما يجري وأنهم ليسوا سوى اللحم الذي تستهلكه المدافع وأن أهل السلطة الاجتماعية السياسية من حلف الطبقات المسيطرة هم من يرث أرض الحرب الخراب ومن عليها.
وذاك أن المواجهة التي تحفز اتّجاه المذهب إلى التكوّن بما هو وحدةٌ سياسية أوّلاً تحدث تغييراً بالغاً في كلّ من مكوّناته المعرّفة بأوطانها أي الطوائف. فيتقدّم، على التعميم، ضعاف الشأن، على اختلاف المستويات والنِسب، ويبرز المتديّنون والمتظاهرون بالتديّن والمستجدّون فيه ويُختصر طريق التصدّر للجيل الفتيّ القادر على القتال وللقادرين على مساندته ويفسح في مجال البروز لمتطلّعين جدد إلى مزاولة السلطة، على اختلاف صورها، وللمستعدّين لطاعتها. وينتشر من المركز (أو المراكز) نحو الأطراف تيّارُ أعرافٍ وطقوس وأنواع سلوكٍ أخرى ومسلّماتٍ يعزّز التشابه والامتثال وينفُر من التفرّد، على أنواعه، ومن النقد. ويعزّز هذا التيّار تيّارٌ من المعونات والمنافع قد يسفر عن رفعٍ من إمكانات الجماعة غير مناسب لطاقاتها الأصلية قطعياً. فيكون من ذلك أن يزيدها تبعية وأن يجعل كلّ زوغان تبديه عن الخطّ المركزي محفوفاً بخطر الانكماش الصاعق.
هذا التغيير كلّه، إذ يقدّم قوماً في الجماعة، يؤخّر قوماً آخرين ويعيد شقّ الصفّ بحسب خطوط جديدة. ولكنّه يرجّح غلبة التيّار المركزي وينحو إلى طمس ما يخالفه أو قمعه. ولا تنفع الترسيمة الطبقية وحدها في فهم ما يواكب تكوّن المذهب بما هو جماعةٌ كبرى من تحوّل في أوضاع الجماعات الفرعية. بل الأَوْلى تصوّر ترسيمة تولي اهتماماً مركّباً للصراع في كلّ فئة أو قطاع من فئات الجماعة وقطاعاتها وللصراع بين الأجيال وللأفق الذي يرسم حدّه المجتمعُ الكلّي ونظامُه للجيل الناشئ ولمنظومات القيم المعتمدة في التربية على اختلافها. هذا فضلاً عن خطوطٍ تقليدية يجري عليها تَشَقّق الطائفة الأصلي من قبيل العشائر والعوائل والمناطق وما جرى هذا المجرى… في كلّ حال، يبقى التتبّع الحسيّ لمسار التحوّل هو الواجب الملاحظة من غير اختزالٍ جائر ولا افتراض لتوجّهٍ جامعٍ ما يخرج من مخيّلة المحلّل جاهزاً.
وأما الذي ينبغي أن يبقى ماثلاً للعيان فهو أن لعصبية المذهب قواماً مستتمّ الأبعاد وأن المنتمين إليه يسعهم أن يجدوا لأنفسهم، حينما يشتدّ وطيس المجابهة، أسباباً لا تقبل الإهمال ولا الإلحاق بغيرها للخوض في المجابهة مع الخائضين. وهذه أسباب تختلف باختلاف الفئات والشرائح، لا ريب في ذلك، ولكنها تقوّي العصب الجامع وترهف حسّ الانتماء إلى الجماعة المذهبية، بعمومها، والتضامن بين أجنحتها. وهي، أي الأسباب، لا تستثني نوعاً من المصالح. فتتجاور، في الحساب القريب، الحميّة الدينية والرغبة في النهب أو السبي مثلاً. ولا ننْسَى الاستيطان الذي ظهرت له بوادر قويّة (من إخلاء لجماعات ومن حلول محلّها في مواطنها) في الحروب الجارية تحيل إلى المثال الصهيوني وإلى ما كانت قد ارهصت ببعضه الحرب الأهلية اللبنانية أيضاً.
في الحساب البعيد، يتداخل ما تتيحه الغلبة المذهبية من استعلاءٍ يستشعره الغنيّ والفقير أو خذلان يحيق بالجماعة كلّها أيضاً وما يتوقّف على الخذلان أو الاستعلاء من منافع بعضها ماديّ جدّاً ومن فرص ترقٍّ متنوع الصور للجيل الخائض في الصراع ولأجيالٍ تليه. وهذا مع العلم أن البشر قد يقدّمون الاعتبار المتعلّق بعنفوان الجماعة أو ما جرى مجراه من اعتبارات معنوية على كلّ انتفاعٍ ذي طابع ماديّ حاصلٍ أو ممكن وقد يجدون أنفسهم في حال دفاعٍ عن النفس أيضاً. هذا كلّه يستدرج إقبالاً على التضحية لا تلمّ به الصيغ القاصرة من الفكر الماديّ ولا تكفي للاحتيال في تفسيره الصيغ الرهيفة منه.
هل نبقى، والحالة هذه، على القول الماديّ، بأن جمهور الحرب المذهبية جمهورٌ مخدوعٌ أو مضلّل يجرّه إلى حتفه «الاستقلال النسبي» للبنية الفوقية؟ نعم نبقى، بمعنى ما، على هذا القول… فإن التعبئة المذهبية تعمي عن التراتب المستمرّ في المذهب الواحد بين المراكز والأطراف وعن تفاوت المصائر الراهن أو المقبل بين أطراف مختلفة الموائل والقوّة وعن أفق القهر والقمع الذي تعد به سلطة مذهبية تخرج منتصرةً من حرب وعمّا يلي ذلك من تمييز وفساد شنيعين. وهي، أي التعبئة، تعمي عن سواد المصير العامّ لكلّ مجتمع تهدمه الحرب الأهلية فيخرج منها – أو يخرج ما بقي منه – عارضاً الديار الخربة التي يقيم فيها للاستتباع والبيع لقاء الحماية والإعمار. قلتم: تحرّر واستقلال؟ قلتم: نموّ وعدل؟ قلتم: كرامة أيضاً؟!!!
٭ (بعد هذه المقالة، أنقطع أشهرا معدودة عن إرسال مقالتي الأسبوعية إلى «القدس العربي». أشكر لإدارة الجريدة تفهمها رغبتي في التفرغ لإنجاز عمل آخر تأخر كثيرا. وأرجو أن أحظى من قراء هذه الزاوية برحابة صدر مماثلة. إلى اللقاء!).

عصبية المذهب

أحمد بيضون

المذهب ـ ليس رفّ كتب صفراء

أحمد بيضون
مايو 2، 2015

يأبى أهل الماديّة التاريخية وأقاربها أن يقرّوا للمذهب الديني بالقدرة على اجتراح الهول الذي يعصف بمجتمعات هذه المنطقة من العالم في الحال وفي الاستقبال. فهم يرون المذهب رفّاً من الكتب الصفراء ينفث أفكاراً وانفعالات أقلّ مطابقةً لمواصفات الوقود المناسب لعربة التاريخ من مآكل بعض المطاعم اللبنانية لمواصفات الوزير بو فاعور. فليس تاريخاً يستحق الاحترام، في نظرهم، ولا هو تاريخ أصلاً هذا الذي توجّهه أوهام متعلّقة بالحقّ في الخلافة في القرن الهجري الأوّل أو بالحقّ في تقديس القبور وتشفيع الأئمّة والأولياء.
في نظر أصحابنا هؤلاء، تستأهل مصائبنا الجارية والمستقبلة – وهي تاريخية بكلّ معنى الكلمة، لا شكّ في ذلك ولا ريب – أسباباً أوفر جدّيةً من تلك: أسباباً من قبيل الخلاص من الإمبريالية – بما هي أعلى مراحل الرأسمالية: يا رعاك الله! – أو ترشيد إنفاق العائدات النفطية، في أقلّ تقدير، بحيث يحوّل إلى الإنماء السويّ ورفع سويّة الخدمات الاجتماعية المهيّاة للفقراء ما يستهلكه اليوم بذخ سفيه ينصرف إليه الأمراء والشيوخ إذ يعمدون – مثلاً – إلى نثر أوراق المئة على راقصاتٍ تعوزهنّ الموهبة.
ولكن المذاهب ليست – مع الأسف! – رفوف كتب ولا هي «بنىً فوقية» (إن لم يكن بدّ من استهداء هذا المصطلح). وإنّما يرتكب أهل الماديّة التاريخية بصددها خطأً هو نفسه الذي ارتكبوه بصدد الأمم والقوميّات… فاضطرّت هذه الأخيرة (آسفةً) إلى تكذيبهم بإثبات قدرتها على إقناع عشرات الملايين من بنيها بالموت ذوداً عنها، في الحرب العالمية، وعلى تغيير وجه العالم، بعد ذلك، بإملاء نفسها عليه مبدأً عامّاً لتشكيله. وقد وصل الأمر، في بعض تلك الآونة، إلى حدّ حمل الدولة- المنارة التي كانت دولة الماديّة التاريخية على استنفار ما كان تحت يدها من طاقات الولاء القوميّ أحياناً (باسم الماديّة الجدلية، على الأرجح) وذلك للدفاع عن نفسها في وجه قوميّة أخرى هائجة. مع ذلك استمرّت معاملة المبدأ القومي بشيء من الإنكار أو التحقير ولو انّ التحقير كان قد أصبح مشوباً بشيء من التحوّط والحياء.
المذهب اليوم جماعةٌ بشريّة وليس رفّ كتبٍ صفراء. هو جماعةٌ اجتماعية اقتصادية واجتماعية سياسية أو هو ينزع إلى أن يصبح شيئاً من هذا القبيل، على غرار الأمّة أو منظومة الأمم. وهو لا يحتاج، من بعدُ، للوصول إلى هذه الغاية إلى اجتماع بنيه فوق أرض واحدة مسوّرة بحدود معلومة. والشبكة العالمية ومتعلّقاتها من تلفزة فضائية وهاتف خلوي وبريد إلكتروني وفيسبوك وما جرى هذا المجرى هي ما يبعد المذهب (أو يزيده بعداً) عن حال الرفّ المحمّل كتباً صفراء (وهذه لم تكن حال المذاهب في أيّ وقتٍ ولكن يصحّ الاهتداء بدرجة البعد المتغيرة عنها).
تلك العوامل الفائقة الحداثة، ومعها الدفق الكثيف للبشر والموادّ والخدمات، هي إذن ما استجدّته المذاهب في سعيها إلى الصيرورة جماعاتٍ اجتماعية- اقتصادية واجتماعية سياسية فائضة عن حدود الدول. وهي عوامل قد ينبغي النظر إليها لفهم «أعلى المراحل» التي تبتغي الجماعة المذهبية أن تصل إليها قبل النظر في «رسائل» ابن تيمية أو في «بحار الأنوار» للمجلسي. أو أن علينا، في الأقل، أن نعيّن لكلّ من هذين المركّبين موقعه الفعلي، لا تردعنا عن ذلك مسبقات مدرسية مهما تكن. فندرك إذ ذاك أن الطوسي وابن حنبل يقدّمان رسماً للسور المتخيّل الذي تعرَّف الجماعة بإقامتها في ظلّه وبمواجهتها، بالتالي، من هم في خارجه على أنحاء مختلفة تتّصف كلّها بأقدار من الغربة. وإنما تتباين هذه الأقدار قرباً من العداوة أو بعداً عنها بتباين الجماعات وظروف الزمان والمكان.
وذاك أن المذهب، بما هو جماعة اجتماعية اقتصادية واجتماعية سياسية، قائمةٌ قياماً مكبوحاً في الواقع، وماثلةٌ، بعد تلمّس الإمكان، في الطموح والسعي، لا يبقى ثابتاً ولا هو يرتدّ إلى صورةٍ لماضيه بلا سبب يسوّغ اختيارها من حاضره. هو يتحرّك، بإملاء من التزاوج المتحرّك ما بين المطامح والممكنات، بين أقطاب تصوّرية فيه: يهمل بعضاً منها ويعتمد بعضاً… وهو يتغيّر، في كلّ حال، طلباً للتحقّق وفي أثناء تحقّقه. والواقع أن المراحل المتّسمة بارتفاع الحرارة المصاحب للتغيير أو لطلبه (ومنها المرحلة التي نحن فيها) يميّزها اشتداد النضال ما بين الحدود التي ترسمها الأصول المقرّرة للمذهب (أي ما تبطنه الكتب الصفراء) واللوازم الفكرية (بل النفسية، على الأعمّ) للمواجهة الجارية. وهو ما يملي خيارات في نطاق القديم وتطويعاً له صريحاً أو مضمراً وهو ما لا يمكن أن يحصل بلا أخذٍ وردّ بين مراجع المذهب يتفاوت خطرهما على الحركة الجارية بين حالة وحالة.

كاتب لبناني

المذهب ـ ليس رفّ كتب صفراء

أحمد بيضون

مُثُلٌ ناقصة

أحمد بيضون

ثمّةَ شَبَهٌ بين مِثالِ الموضوعية في عُلوم الإنسانِ والمجتمعِ وبين التزامِ الديمقراطية في حُكْمِ المجتمعات. وكذلك بين هذين وبين الإنصافِ في أحكامِ القانون الدولي وفي تطبيقه. قد لا يبدو هذا الشبه جليّاً لأوّل وهلة ولكن بعض التمعّن يكفي لإظهاره من جهتين لا من جهة واحدة. فهذه المثل تفترض كلّها، من جهة أولى، درجةً من التجريد لموضوعها تحيل هذا الموضوع صناعةً عقلية. تستلهم هذه الصناعة طلباً واقعياً، ولا ريب، ولكنها تلبث مستقرّة في سماء الكلّيات فلا يقع الباحث على تجسيد لها يسعه ادعاء المطابقة للمثال في عالم الجزئيات أو الحسّيات.
من جهة ثانية، متّصلة بالأولى أشدّ الاتّصال، يقترن وجوب النقص في التجلّيات العيانية لهذه المثل بوجوب الاحتجاج الدائم عليه والدعوة إلى إصلاحه وتجاوزه وإلى اتّخاذ المثال قدوةً لا يصحّ الاستغناء عنها أو نسيانها. ولا يمنع هذا كلَّه ولا يسوّغ اليأسَ من مواصلته أن يلاحَظَ بقاءُ النقص الذي يحدثه التقصير أو التسويات الناجمة عن مصالح واعتبارات تقاوم الاستجابة التامّة للمثال. إذ يعود هذا النقص إلى الحصول ـ ولو تباينَتْ وتائرُ حصوله أو تفاوتَتْ درجاتُه ـ عند كلّ تجسيد حسّي لواحد من هذه المثل.
ويمكن إلقاء الحبل على الغارب شيئاً ما في اختيار أمثلة يستعان بها على إظهار هذا الشبه بين المثل الثلاثة بوجهيه: وجهِ النقص المتكرر في التحقق ووجهِ الاستمرار الواجب في السعي إلى تجاوزه.
في الكتاب الذي أراده ريمون آرون مدخلاً إلى فلسفة التاريخ وجعل همّه تعيين حدود الموضوعية التاريخية (وهو كتابٌ لا يزال يشاد بألمعيته من وقت صدوره سنة 1948 إلى اليوم) يرى المؤلّف ثلاث صيغ لمعاملة المؤرّخ موضوعه. فهو إما أن يعتبر التاريخ واقعاً موضوعياً فيجعل الإحاطة همّاً له ولكنه لا ينجو من الجزئية ولا من النسبية. وإما أن يريد، باعتباره هو نفسه ممثّلاً للروح الحيّ، تمثّلاً لأعمال الروح الماضية فتأتي استعادة الماضي الروحي متعلّقةً بتمثّل الفرد لمصيره التاريخي. وإمّا أن يتّخذ وجودَ الفرد البشري صورةً يقارن بها التاريخ فتبدو وجهة هذا الأخير رهناً بقرار متّجه نحو المستقبل ولا يُفْهَم الغيرُ إلا بتعيين موقعه من الذات. في كلّ حالٍ تبقى الذات حاضرةً، من خلال المؤرّخ وحمولته الوجودية، وهذا مع كون التاريخ يصبح موضوعاً بالضرورة بسعي المؤرّخ وبالنسبة إليه.
تلك حالاتٌ لا يصعب العثور على نظائر لها في أعمال الذين أرّخوا لهذه المنطقة من العالم من بين أهلها، على التخصيص. بل إن ما يشهد لطغيان هذه الحالات هو الطاغي على أعمال هؤلاء. فالسائد أن ينطلق المؤرّخ من غبن ما طاول جماعته في حاضر يرجى الخروج منه أو في ماضٍ تمادى واعتبار مهمة المؤرّخ جمع الأسانيد المفضية إلى ما يعدّه المؤرّخ إنصافاً للجماعة. هذا دليل للرواية لا يمكن أن ينجو من واحدة من العلل التي أحصاها آرون ولا يستقيم معه ما يسمّى الموضوعية.
في صدد الديمقراطية، اقترحنا قبل عقود تصوّراً جعلنا «عمل التجريد السياسي» اسماً له واعتبرناه العمل المهيئ للديمقراطية أو شرط الإفضاء إليها على صعيد الفرد-المواطن وعلى صعيد الأمّة سواءً بسواء. والمقصود بالتجريد السياسي تحييد الهويّات الموسومة بـ»الأوّلية» أو بـ»الجزئية» توصّلاً إلى إدراك الفرد نفسه بما هو مواطن أي فرد ذو وجود سياسي يتعين وجوده هذا بانتمائه المباشر إلى دولة ويعرّف بحقوقه وواجباته السياسية التي يعينها دستور يمثّل تصوّر المواطنة هذا، أي التصوّر الذي يحفظ ميزان العلاقة بين المواطن والأمة مستوياً، مرشد أحكامه. استواء الميزان هذا ما بين قطبي الوجود الديمقراطي أي المواطن والأمة هو غاية السعي الذي يفترض له حظّ معتبر من النجاح ليصحّ القول بوجود نظامٍ ديمقراطي. وفي أفق هذا السعي، يمثل تصوّر «الإنسان» بما هو الغاية القصوى للسياسة مقياساً لا تجوز الغفلة عنه.
هذا وينطوي «عمل التجريد السياسي» ذاك على نقد للنقد السائد للديمقراطية السياسية بما هي نظامٌ «حقوق صورية» يعوزه إحقاق الحقوق المادّية أو الإجتماعية ـ على الأعمّ ـ ولا يقدّم علاجاً للقهر والاستغلال الإجتماعيين ولا للتفاوت بين البشر. فإذ لا يمسّ هذا التصوّر، بأيّة صورة من الصور، شرعية النضال الإجتماعي ولا قيمه، يؤكّد وجود مستوىً حقوقي لا يستغنى عنه هو مستوى حقوق المواطنة أي مستوى «المساواة الصورية» بين المواطنين أمام القانون. وذاك أن هذا المستوى، إلى كونه قيمة تتعلّق بحرّيات ذات اعتبار، يمثّل نموّه وسلامته شرطاً للسعي المتّصل إلى إحقاق الحقوق الإجتماعية أو تلك التي تعدّ، على اختلافها، «حسيّةً» وتوضَع بإزاء تلك الموصوفة بـ»الصورية».
يفترض «عمل التجريد السياسي» قدراً من إمكان التحييد للهويّات الأوّلية أو الجزئية عندما تُرى في حال منازعةٍ لقيم المواطنة. أي إن هذه الأخيرة توجب من جانب المواطن ومن قبل جماعات المواطنين قدرةً ما على لجم نوازع مختلفة، عصبية أو أنانية، تعارض ما يتوجب اعتباره «مصلحةً عامّة» أو قيمة أو قاعدة للسلوك المواطني حاظية بتكريس شرعي. والحال أن هذا التحييد أو اللجم لا يبلغ تمامه، عادةً، في أي مضمار من مضامير التصرّف الفردي أو الجماعي، ولا هو يجد رعاية تامّة لموجباته من جانب الفاعل المقابل أي الدولة، بسائر هيئاتها. هذا كله يجعل الديمقراطية تبدو ناقصة التحقق دائماً معرّضة للمَطاعن من قبل الذي يريدون لها مزيداً من الفلاح ومن قبل الذين يريدون سقوطها سواءً بسواء.
وأما القانون الدولي، بأوضاع نصوصه وأحوال هيئاته وصيغ تطبيقه، فيلقى بين ظهرانينا من النقد اليومي ما يغني عن التبسط في الأمثلة. يكفي تاريخ القرارت المتعلّقة بحقوق الفلسطينيين أو بإسرائيل في مجلس الأمن دليلاً على ما في النظام الدولي من انحراف يتحكّم في ما يشترعه وما يقرّره وتصل مفاعيله إلى تعطيل القرارت أو الحدّ من تنفيذها إذا هي جاءت منصفة أو قريبة من الإنصاف. وما يتيح هذا الانحراف إنما هو بقاء القوّة محكّمة في مصير الحقوق وفي درجة الأخذ بما يحفظها في الشرائع وفي قرارت الهيئات المسؤولة. ويتيسّر للقوّة، حين تبلغ مداها، أن تسخّر الشرائع لحماية الحلفاء ولإضعاف الأعداء بقطع النظر عن موضع الحقّ في هذين المعسكرين. ويتيسّر لها، في هذا المساق، أن تملي على الهيئات الدولية ما اعتدنا تسميته سياسة المعايير المزدوجة. فما العمل حيال هذا النوع من الطغيان؟
تَسْتحقّ أحوالُ هذه المُثُل كلّها أشَدّ النقد ولا تتّجه أمورُها نحو شيءٍ من الاستقامة أصلاً إلا بالنقد وطَلَبِ التغيير. ولكن حين يتّجه النقد إلى محالفة أعدائها المعلومين ويوحي باستحسانٍ ما للاستغناء عنها يصبح النقدُ المزعوم تزكيةً للكذب في محلّ الموضوعية وللاستبداد في موضع الديمقراطية وللهمجية في تصريف العلاقات الدولية.
هذا مع العلم أن التسليم بالضرورة التي تتّصف بها هذه المثل لا يجوز أن يُجعل دليلاً على لزوم الاستسلام لنقائصها أو لمُراد الذين يسخّرونها لما يغاير روحها أو يحيلون الأخذ بها إلى ملهاة لا تفضي إلى إحقاق أي حقّ. وإنما هي تنفع ستاراً لتوظيف الزمن في تبديد الحقوق وفي توسيع نطاق المظالم. فإن هذه، في كلّ حالٍ، مُثُلٌ يلازِم النَقْصُ كلّ تجسيدٍ لها. ولا ريبَ أن السُكوت عن هذا النَقْصِ يُعْتَبَر خيانةً لها أو مجافاةً لروحها. ولكن هذا النقصَ – مهما يَبْلُغْ – لا يَسْتَقيم حُجّةً للإعراض عنها… دَعْ عنك مُعاداتَها. بل هو دافِعٌ لطَلَبِ المَزيدِ منها دائماً.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

بيروت عاصمة الإباحتَين

أحمد بيضون

أبريل 18, 2015

أصل بعد حديث غير اللبنانيين من أنصار بيروت (وهو ما أوجزته في مقالتي السابقة) إلى ما يلتقي عليه بصدد العاصمة اللبنانية مثقّفون لبنانيون لا يخلو صفّهم من اختلاف المشارب. هؤلاء ينتظمون في جوقة تترنّم بصوتٍ واحد، هي أيضاً، بما ينسبه غير اللبنانيين من فضائل لبيروت. هذا أوّلاً. على أنهم لا يخيّبون الأمل فيهم فيضيفون إلى أسباب التبجّح مواضيع من إبداعهم. ولا نستغني عن الإشارة، بادئ بدءٍ، إلى كونهم ينصبون جداراً صفيقاً ما بين المدينة التي تبقى عظيمةً في نظرهم والنظام السياسي الذي يشنّون عليه الغارات بلا تحفـّظ فينسبون إليه الموبقات كلّها بما فيها تلك التي تعصف بقبول البيروتيين ما تمليه إقامتهم سويّة وتعصف أيضاً بمقوّمات ما يريده أكثر هؤلاء المثقفين لأنفسهم من حياةٍ يومية رضيّة.
ولقد كان مني أن نوّهتُ، قبل سنوات عديدة، بمدارين للمدائح التي يزجيها هؤلاء المسبّحون بحمد بيروت لمدينتهم المحبوبة. فبيروت عندهم، من جهةٍ أولى، هي بيروتوس الرومان التي كان هؤلاء قد أنشأوا فيها مدرسة ذائعة الصيت للحقوق وأطلقوا عليها لقب «أمّ الشرائع». ويرى أعضاء جوقة بيروت من اللبنانيين أن المدينة يسعها أن تحمل أيضاً لقب عاصمة الحرّيات. غير أن في التزامن بين هاتين الصفتين أو في تساكنهما ـ إن جازت هذه العبارة ـ إشكالاً يبرز على الفور.
وذاك أننا إذا نظرنا في الأمر عن كثب ظهر لنا أن تعهّد الشرائع واقعة من وقائع التاريخ البيروتي القديم لم يبق منها في بيروت الزمن الحاضر كبير أثر. فإن المدينة، بما هي عاصمة للبنان، تبدو واجهة غير مناسبة لسلطة القانون إذ هي أقرب إلى أن تكون بيئة للتحلل منه. فإن القوانين التي تسود المدينة فعلاً لا تسودها بما هي قوانين الدولة أوّلاً. بل يسود منها ما يأذن للسلطة العامّة بسيادته هنا أو هناك سادةُ الموقع. ويسود، على الأخصّ، شرع لا يشترط فيه كمال التدوين هو شرع الجماعات المحليّة.
وما من ريب في أن حال القانون هذه تترك أثراً في حال المزيّة الأخرى التي يُنعم بها مثقّفونا على بيروت وهي مزيّة الحرّيات. فبالقياس إلى حجم البلاد، تضمّ العاصمة عدداً يعتبر ضخماً من دور الصحافة وقنوات التلفزة وإذاعات الـ»إف. إم». ولا ننسَ الجمعيات من ثقافية ومطلبية ومراكز الأبحاث وكذلك الجامعات. ولنُشرْ، ما دمنا في هذا المعرض، إلى كون النموّ الصاعق الذي يشهده القطاع الجامعي في اليلاد منذ نهاية الحرب اللبنانية (1975-1990) ظاهرة تبدو ملازمةً لإهدار ما كانت أقدم الجامعات قد راكمته من رأس مالٍ في مجال نوعية التعليم العالي. هذا وتشهد بيروت الكثير أيضاً من التظاهرات الثقافية المتنوعة على مدار السنة. ومع أن النشاط المسرحي يثير بتقطّعه قلقاً على ديمومة المؤسّسات المعنية به، فإن ما يحيي فصول السنوات البيروتية من عِجافٍ وسِمانٍ من العروض المسرحية وعروض الرقص لا يعدّ قليلاً فعلاً. وأما الحفلات الموسيقية والغنائية فهي أوفر نصيباً. ولنا أن نقول الشيء نفسه في معارض الفنون التشكيلية. وتجذب المهرجانات السينمائية جمهوراً وفيّاً لها. وأوفر عدداً من هذا كله ما ينظّم من ندوات ومحاضرات وما شاكل تقترحها المراكز ذات الاختصاص على جمهور المتردّدين عليها.
ويُتّخذ مناخ الحرّية تعليلاً لا ريب في وجاهته الظاهرة لهذا الفوران الثقافي الذي عرف صعوداً وهبوطاً، والحقّ يقال، ولكن المدينة أثبتت براعةً في بعثه كلّما تركت لها مراحل الاضطراب المتكرّر فسحة كافية من الزمن للعودة إليه. بل إنه يجوز القول أن الأنشطة الثقافية تفلح، إلى حدّ ما، في مزاولة نوع من التجاهل العجيب لما تشهده البلاد في معظم الأوقات من توتّر سياسي واجتماعي. وهذا توتّرٌ ينذر، إذا هو أسفر عن اضطراب في حبل الأمن، بردع المشاهدين الممكنين لمسرحية من المسرحيات أو الجمهور المحتمل لمهرجان موسيقي. يتواصل الإعداد على الرغم مما يجري. ويَصْلُح التمويل الخارجي الذي يسهم إسهاماً طاغياً في تغذية هذا النوع من النشاط تفسيراً لجانب من مثابرة أصحاب المشروعات الثقافية على تحدّي العقبات. ولكن الحاجة إلى البقاء في قيد الحياة، مهما يكن من شيء، هي ما يفسّر الباقي.
وأما السؤال المؤرّق هنا فيتعلّق بجواز الفصل في التحليل ما بين أشياء يضطرّ لبنانيون كثيرون إلى الفصل بينها نفسيّاً ليتمكنوا من مواصلة العمل والتنفّس. بيروت عاصمة يحضر فيها لبنان كلّه. وهي قد أفلحت، بحكم موازين التعدّد اللبناني، في تجنّب ما ساد بلاد الشرق الأدنى من مركزية تسلّطية. على أن هذا الإنجاز تحصّل لقاء ترك مكوّنات البلاد كلٍّ لشيطانه الطائفي. وهذا الأخير ضعيف المقاومة لإرادة العرّاب الخارجي الذي يخصّه بالعون والمساندة. وما يظهر من قبيل المجال العمومي، وقد حفظته المدينة واستبقت فيه تفكّكاً يشبه تفكّكها، لا ينجو من الضمور، بطبيعة الحال، في آونة التوتّر. فهو يجنح إلى الاختناق بمقدار ما ترتدّ المدينة إلى نسيج المتضادّات الأوّلية الذي هو نسيجها.
فهل حرّية الخلق البيروتية متميّزة حقّاً، لجهة اصلها وشروط إمكانها، عن إمكان القتل في بيروت دون التعرّض لإزعاج فعلي، وهذا على الرغم من ظواهر قد تشي بخلاف ذلك؟ والقتل هنا قتلُ سياسيٍّ أصبح لا يطاق أو صحافيٍّ أصبح لا يُعْجِب. وأمّا سعة الحيلة التي يبديها المثقّفون المغرمون ببيروت فلا تعدو حدود الفنّ البدائي المتمثّل في التظاهر بفصل ما لا يُفْصَل. هل تكفي حفلات الموسيقى التراثية (شرقيةً كانت أم غربية) لتمويه طوفان البغضاء والعنف الذي تنشره وسائط الإعلام وتصدي له شبكات التواصل؟ وهل يكفي العزل الذهني للحياة الثقافية عن آفات أصبحت غير قابلة للعلاج يشتكيها النظام السياسي وعن حال التضعضع المتقدّم التي تقيم فيها سلطة القانون لدحض وحدة الأصل الجامعة لهذا كلّه؟ وهل فقدان الضمانات الواقعية اللازمة للمضيّ قدماً في أيّ مشروع، وإن يكن قصير الأجل، وهل نُذُر العودة إلى العنف الأهلي غير التعبير الآخر عن «الحرّية» نفسها التي تتنفّسها المشروعات الإبداعية في بيروت؟
وإذا تبدّى، عند إمعان النظر، أن تلك الحرّية ذات الحدّين بعيدة كلّ البعد عن تلك التي تكفلها القوانين في بلاد ديمقراطية وأنها أقرب إلى أن تكون ثمرةً لمَواتٍ متقدّمٍ في القوانين فهل يستقيم الاستمرار في إطلاق اسم «الحرّية» عليها؟ لا مَراءَ في أن امرأةً تعود وحدها إلى مسكنها في وسط الليل وهي سكرى بما أصغت إليه من موسيقى رفيعة لا تخشى على سلامتها في بيروت ما تخشاه في نابولي أو في ديترويت. فبيروت، في التفاصيل، مدينةٌ يعوّل عادةً على الأمان فيها.
غير أن بيروت تستبدّ بها بلا انقطاع نوازع التدمير الذاتي الواسع النطاق ويبقى عليها أن تسهر باستمرار على لجم غريزة الموت المتوثّبة فيها.
أفلا يكون الأصحّ، والحالة هذه، أن نطلق اسم «الإباحة»، عوض اسم «الحرّية»، على هذه المَلَكة التي تتلازم فيها القدرة على القتل والقدرة على إنشاء الجمال… وأن نرى في بيروت عاصمةً لإباحتين؟
كاتب لبناني

أحمد بيضون