«شَرْحُ النزاع السوري للغَشِيم»

أحمد بيضون

Jun 29, 2016

«شيءٌ معقّدٌ، سوريّا!»… لفرط ما تُسمع هذه العبارة في فرنسا ـ على ما يظهر ـ صَمّم نفرٌ من ذوات المعرفة بسوريا من فرنسيّات وسوريّات مقيمات في فرنسا أن يسهّلن فهم النزاع الجاري في سوريا على من يرغب في هذا الفهم مهما تكن مَلَكةُ فهمه ضعيفة. عليه اعتمدت صاحبات هذا العمل عنواناً لعملهن «شرحُ النزاع السوري للغشيم»….
وهذه حالةٌ من حالات يتبيّن فيها أن إفهام الغشيم يقتضي من جانب من يحاوله فهماً ومَلَكة فهمٍ رفيعين.
تتوزّع المؤلّفات ما بين صحافيّات وجامعيّات يشتركن في همّ المتابعة الدائبة لتطوّر الأحداث في سوريّا ومحيطها. وهنّ قد أنشأن لعملهن هذا موقعاً خاصّاً على الشبكة مبتغيات التمكّن من تحديثه كلّما لزم الأمر. وقد رتّبنه كأحسن ما يكون الترتيب في مقدّمة قصيرة وخمسة فصول وخاتمة وأوجزنَ فيه ما أمكن الإيجاز. ولم يخفين أن وصول ذيول العنف الجاري في سوريّا إلى فرنسا هو ما وَسَم بميسم الإلحاح حاجةَ الفرنسيين إلى صورة واضحة لما هو حاصلٌ في تلك البلاد. وهنّ صرّحن بأنهن غير محايدات بل هنّ منحازاتٌ إلى حقّ السوريين في الديمقراطية ولكنهن، مع ذلك، يُرِدْن تقديم الوقائع بموضوعية ويجهدن للنأي بما شئنَه عرضاً بسيطاً بمعنى السهولة عن التبسيط بمعنى الابتسار. ويقع القارئ مراراً في العرض كلّه على ما يدعم هذه الدعوى ويطمئنه إلى شمول الإلمام بالمواقف والوقائع وإلى صدقيّة المصادر المختارة.
بعد تعريف موجز جدّاً بالبلاد وبالمرحلة المعاصرة من تاريخها، يخلص الفصل الأوّل إلى تسجيل وجاهة الدواعي التي دعت السوريين إلى التظاهر في الشوارع، في «حمّى الربيع العربي»، وينوّه بالسلمية التي أقام عليها المتظاهرون أشهراً ويذكر مثابرة النظام، في هذه الأثناء، على مواجهة التظاهرات بالرصاص وبالاعتقال الواسع النطاق والتعذيب، وهذان لم يستثنيا الأطفال بل بدآ بهم. هذا كلّه يشهد به إحصاءُ الأمم المتحدة 5000 قتيل في سوريا مع انتهاء العام 2011.
ثم كان أن تسلّحت الانتفاضة. وهذا خيار لا يزال الخلاف قائماً في صواب الإقدام عليه، ولا يستثنى من الخلاف المعارضون، وإن يكن داعي الدفاع عن المتظاهرين وعن الأحياء والقرى الثائرة واضحاً في منطلقه. في 31 تمّوز/يوليو 2011، أعلنت أوّل دفعة من الضبّاط انشقاقها ولم يكن في حوزة هذا «الجيش السوري الحرّ» سوى السلاح الخفيف ولكن النظام ردّ على ظهوره باتّخاذ المدفع سلاحاً للقمع خَلَفاً للبندقية.
يفضي الجدال في صواب الخيار المسلّح إلى آخَرَ في طبيعة الحوادث الجارية بعده: هل هي «ثورة» (باعتبار توجّهها إلى إنهاء دكتاتورية طال العهد بها أزْيَدَ من 40 سنة؟) أم هي قد انقلبت إلى «انتفاضةٌ مسلّحة»؟ أم ان المواجهة بين قوى من أهل البلاد جعلت منها «حرباً أهلية»؟ أم ان عدم التناظر بين قوى النظام المسلّحة، بطيّاراته ودبّاباته ومدافعه، والقوى الثائرة عليه، بتسليحها المحدود، قد انتهى إلى جعل هذا النزاع «حرباً على المدنيين»؟
وعلى نحوِ ما يخيِّر العرضُ الذي نحن بصدده مستشيرَه بين سائر التسميات المتباينة للنزاع الجاري، وهي تحدّد له طبائع مختلفة، لا ينكِر البعدَ الطائفي لهذا النزاع. لا ينكره ولكن ينوّه بالحضور المفرط لطائفة الرئيس العلوية، والعلويون قرابة 10 ٪ من سكّان البلاد، في الجيش وفي شبكة الأجهزة الأمنية: أي في الآلة المستحوذة على لُباب السلطة.
بعد ذلك يؤرّخ العرض لفقدان النظام سيطرته على مناطق متزايدة الاتساع من البلاد وعلى مدن وأقسام من مدن. ويذكر إنشاءَ «المجالس» المكلّفة إدارة الشؤون اليومية للجهات المحرّرة. ويذكر وصولَ التمرّد إلى الحدود التركية وما أتاحه ذلك من تسهيل لإمداد الثوّار ولكن أيضاً لبدء وصول المقاتلين غير السوريين إلى البلاد. ويذكر كذلك قصف الطيران يوميّاً للمناطق الخارجة عليه وما تسبّب به ذلك من قتل ودمار ومن نزوح للسكّان بعشرات الألوف.
تغيّرت الحال كثيراً عمّا كانت عليه في سنة 2011. تراجعت اللغة الديمقراطية في معظم صفوف الفصائل المقاتلة أو انقلبت إلى نقيضها. وبقيت هيئات المجتمع المدني فاعلةً ولكنّ كثيرين من عناصرها استهدفهم القمع الضاري وأبعدهم أو قضى عليهم.
وفي ميدان القتال، يحصي العرض قوىً أربعاً تتواجه في الميدان: أولاها القوى النظامية وأحلافها من المليشيات غير السورية وفي يدها ما لا يتعدّى ثلث مساحة البلاد ولكن هذا الثلث يشتمل على معظم ما يسمّى «سوريا المفيدة». وهي تعوّل على الطيران وعلى الحوّامات وبراميلها المتفجّرة وتستهدف، بخلاف مزاعمها الدعاوية، مناطقَ المعارضة السورية المسلّحة أكثر بكثير ممّا تستهدف مواقع داعش. ثانيتها فصائل المعارضة المسلّحة وقد تراجع في صفوفها حضور الجيش الحرّ وقوي نفوذُ المجموعات ذات الصبغة الإسلامية بإملاءٍ من مصادر الدعم الخليجي المنشأ. تتركّز سيطرة هذه الفصائل في شمال البلاد القريب من الحدود التركية بما في ذلك ما يزيد عن نصف مدينة حلب. إلى ذلك، تهيمن الفصائل نفسها على الأحزمة الريفية لمدن رئيسية أخرى بما في ذلك غوطة دمشق. هذا كلّه يتعرّض لقصف أخذ يشترك فيه الطيران الروسي ابتداء من خريف 2015 وقد نزح من هذه الجهات جانبٌ ضخم من السكّان توزّع بين داخل البلاد وخارجها. ثالثة القوى «الدولة الإسلامية» المعروفة بـ»داعش» و80٪ من عناصرها ليسوا سوريين بل تقاطروا إلى سوريّا من أنحاء مختلفة من العالم. وهي ذات برنامج محوره إحياء الخلافة فيفيض كثيراً عن معارضة النظام الأسدي ويتّسم بوحشية وسائله. وهي قد غدت اليوم في موقع الدفاع بعدما تضافرت لضربها أسلحة طيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وقد انضمّ إليها سلاح الجوّ الروسي في خريف السنة الماضية. القوة الرابعة هي القوة المسلّحة الكردية وهي توالي حزب العمّال الكردستاني بزعامة أوجلان. ولا تعدّ هذه القوّة معارضة للنظام الأسدي ولا تعترف المعارضة السياسية بانتسابها إليها بل تعوّل على «المجلس الوطني الكردي» لتمثيل الأكراد. وأما القوة المسلّحة فتقصر همّها على السيطرة على المناطق الكردية وتحقيق الاستقلال الذاتي. غير أنها اضطلعت بدور بارز في مواجهة التوسع الداعشي وقاتلت مع فصائل من الجيش الحرّ لإخراج داعش من بلدة تلّ ابيض ومحيطها وأفادت من دعم التحالف الدولي لها بالقصف الجوّي وبالتسليح خلافاً للإرادة التركية.
من هذا التعداد لقوى الجبهات ينتقل العرض إلى تعريف للأطراف السياسية ولمواقعها في الصراع ومقاصدها منه. ويقتضي منّا الإلمام بهذا التعريف وقفةً أخرى مقبلة…

٭ كاتب لبناني

حرّية المخيّلة وتكوّنُ اللغة

أحمد بيضون

Jun 25, 2016

لنُشر بادئَ بدءٍ إلى أن كلام القدماء من لغويي العربية في «التوقيف» و«الاصطلاح» إنما ينتمي إلى البحث في «أصل الكلام». ويجوز ـ ولو بدرجة من الجزم أدنى ـ أن نُدرج في هذا الباب نفسه افتراضَهم معنىً مشتركاً للألفاظ المشتقّة من المادّة اللغوية الواحدة. وكانت «الجمعية اللغوية» في باريس قد حرّمت على أعضائها، سنة 1866، في المادّة الثانية من نظامها، نشْرَ الأبحاث في مسألة «الأصل» هذه موحيةً بإدراج الدفق السابق لهذا العهد من الأبحاث المشار إليها في باب اللغو العقيم. وكان هذا التحريم منسجماً تمام الانسجام والمناخ «العِلْمَوي» لتلك المرحلة…
حتى إذا عُدنا إلى قول فرديناند دو سوسور بـ«تحكّمية العلامة» اللغوية، وهو القول الذي اعتُبر مؤسّساً للألسنية الحديثة وللبنيوية، على الأعمّ، في آنٍ معاً، لم يسعنا أن لا نراه جارّاً ذيولَ هذا التحريم. وكان علينا، في كلّ حالٍ، أن نلاحظ فارقَين، على الأقلّ، بين طرحِ سوسور هذا، وهو يصرّح بتعذّر البحث في أصل الكلام، وطرح علماء العربية القدماء، وعلى الأخصّ منهم أصحابُ القول بالاصطلاح أساساً لتكوين اللغة.
الفارق الأوّل أن الهمّ اللاهوتي غائب عن الألسنية المعاصرة وأن الاصطلاح تحكمه الفوارق التي تنتظم بها الحقول الدلالية. والفارق الثاني أن المبدأ السوسوري يضع في الصدارة واقعةَ كثرة اللغات، وهذه واقعة تبقى هامشية، إلى هذا الحدّ أو ذاك، في طرح علماء العربيّة من القدماء الذين يجيز لهم نَفَسُهم الديني أن يفترضوا وجودَ أصلٍ واحد للّغات المختلفة أو لغةٍ لآدم..
وقد كان علينا حين عرضنا (في عملٍ قديمٍ أشرنا إليه سابقاً) لمُشْكل العلاقة بين مباني الألفاظ الصوتية ومعانيها، في حالة العربية، أن نواجه ما عرضه لغويّو العربية من وقائع لا يجوز الإعراض عنها، بلا إمعان نظر، كُرْمى للمبدأ السوسوري. وقد وجدنا مخرجاً لواقعة تعدّد اللغات لا يفرض إطـــــلاق القول بتحكّمية العلاقة، أي بغياب الشبه، بين الدالّ والمدلول. يتيح هذا المخرجَ إدخالُ المخيلة أو «القوّة الواهمة» طرفاً رئيساً في عقد الصلة بين بُعْدَي العلامة هذين. وذاك أننا لم نجد سبباً لاستثناء العلامة اللغوية من حكم الصلة التي تغلب على أنظمة علاماتٍ غير لغوية يجترحها البشر ويدرسها ما أطلق عليه المحْدَثون اسم «العلاميّات العامّة»، ويعتبر سوسور مؤسّساً له أيضاً.
فهل يصحّ مثلاً افتراضُ التحكّمية في العلاقة بين الضوء الأحمر، بما هو دالّ، وفرض الوقوف بما هو مدلول؟ أم أن نوعاً من الشبه قائمٌ بين تصوّرنا لونَ النار والدم، من جهة، وتصوّرنا الخطَرَ الذي ينطوي عليه خرقُ نظام السير، من الجهة الأخرى؟ وإذا قيل إن الصين الثورية جعلت الأحمر لوناً يجيز مواصلة السير فإن ذلك يؤكّد القاعدة مع التشديد على ما تبديه المخيلة من خصوبة في التزامها. وذاك أن الأحمر، في الصين، لون الثورة، وأنه، بهذه المثابة، قرين لا للخطر، بل للإقدام وللسلامة والحصانة.
عليه لا يكون علينا أن نعتبر العلامة اللغوية تحكّميّة، بمعنى الكلمة المطلق، لتفسير تعدّد اللغات، بل يكون علينا أن نفترض لا الشَبهَ بل ما سمّيناه «توهُّم شَبه» بين الدالّ والمدلول. والحال أن التوهّم، ومعه ما يترتّب عليه من تكثيرٍ للخيارات، لا بدّ له أن يعرو الشَبه حين يُطلب الشَبهُ ببن سلسلةٍ صوتية محدودة هي اللفظ وتصوّرٍ تسمّيه هذه السلسلة ولا يكون منتمياً إلى المسموع أو لا يكون منتسباً إلى عالم الحسّيات كلّها أصلاً. في هذه الحالات ـ بل في جميع الحالات، في الواقع ـ ينتمي الشَبه إلى دائرة المَجاز لا إلى دائرة الحقيقة. وهو ما حملنا على تسمية الدرس الذي يُفترض أن يتناول العلاقة بين الدالاّت والمدلولات، في هذا الإطار النظري الذي نقترح، «عِلْم المَجاز الصوتي».
ولنكرّر القول إنه حيث يدخل التوهّم تصبح الممكنات غير محدودة ويتيسّر لكلّ لغة أن تُدرج في نظامها ما تكتنزه من حالات التوهّم تلك ويغدو ممكناً تكاثرُ اللغات على قدْرِ ما تسع المحيّلة. يبقى صحيحاً أن «توهّم الشبه» الذي يبدو واضحاً في الألفاظ التي تسمّيها العربية «حكاية صوت»، مثلاً، لا تدركه الأذن، في غير هذه الفئة من الألفاظ، بدون عناءٍ في البحث، على الأغلب، ولا يتتبّعه السامع بلا حفرٍ وتنقيب. وذاك أن نموّ اللغة وتحوّلاتها تتحكّم فيها عواملُ متنوّعة ليس «توهّم الشَبه» سوى واحدِ منها وأن هذه العوامل تتغالب ويطغى بعضٌ منها على بعض. أيسر مثالٍ لذلك ما يسمّى «الاستثقال» وهو يفضي إلى إبدال صوت بصوت في الكلمة المنطوقة (وحرفٍ بحرف في المكتوبة، تبعاً لذلك) تيسيراً لنطقها. فمثل هذا لا يدخل تحت عنوان «الاصطلاح»، ناهيك بأن يدخل تحت عنوان «التحكّم». وإنما ينتمي إلى فئةٍ أخرى من فئات العلل التي تتحكّم في تطوّر اللغة. وهذه فئات عدّة يتشكّل من البحث فيها وتتبّع آثارها المتشابكة تاريخ اللغات.
بقي أن نشير أخيراً، ولو متعجّلين، إلى ما في هذا كلّه من سياسة. فإن فرضية «التوقيف»، مثلاً، مبطلة للحرية في العلاقة ما بين الناطقين باللغة ولغتهم. وكذلك شأن التقييد الذي يفترض لزومَ شبهٍ وحيد الوجه ما بين الدالّ والمدلول. وأما ما يردّ الحرية ويفتح أبواب الإبداع على مصاريعها، من غير معاندة لوقائع كثيرة تزكّي مبدأ «الشبه» سجّلها علماء العربية، فهو إيكال أمر العلاقة بين الدالّ والمدلول إلى المخيّلة. لا تنهض كثرة اللغات حجّةً في وجه هذا الخيار. فهو لا يبطل التحكّمية من أصلها وإنما يبدّل من معناها ومن طبيعتها إذ يبيح تقبّلها ما توحي السوسورية باعتباره نقيضاً لها: أي ضرباً غيرَ محدود المحتمَلات من الشبه بين الدالّ والمدلول آلتُه المحيّلة وعمادُه حرّيةُ التخيّل… أو أن هذا ما استقرّ عليه بحثنا المتواضع، في الأقلّ.

٭ كاتب لبناني

اللغة أيضاً: ما وراءَ «التوقيف» و«الاصطلاح»

أحمد بيضون

Jun 20, 2016

■ حين نفتح «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس على مادّة من الموادّ التي تتعاقب فيه معالجتها (أي على ما أصبحنا نسمّيه «جذراً» من جذور اللغة)، نقع فيه على شيء مختلفٍ عمّا اعتدنا الوقوع عليه في المعاجم القديمة الأخرى. فهو لا يبدأ معالجته المادّة بتعريف المصدر أو الفعل الوحيد أو الأشهر من بين الأفعال المأخوذة منها، أو الاسم أو غير ذلك من المشتقّات. وإنما يعمِد أوّلاً إلى تعريف المادّة نفسها مبتدئاً بتعداد حروفها الثلاثة (إن كانت ثلاثية) بدون إدراج هذه الحروف في لفظ بعينه ومتخلّصاً من هناك إلى تعيين معنىً عامّ واحد (أو معنيين اثنين في بعض الحالات) تعريفاً للمادّة يفترض أن يظهر له أثرٌ محقّق في مشتقّاتها كافّة.
ويشير عبد السلام هارون، محقّق «المقاييس»، في تقديمه لهذا المعجم إلى اعتماد ابن دريد (وهو معدود بين شيوخ ابن فارس) خطّة مشابهة لخطّة هذا الأخير وذلك في كتابه المشهور «الاشتقاق». ولكن كتاب «الاشتقاق» هذا مؤلّف في أعلام الرجال والقبائل وما متّ إليها بصلة، على التخصيص، يبتغي تأصيلها في العربية وليس مؤلّفاً في متن اللغة عموماً.
وفي زمن ابن فارس، ارتأى ابن جنّي (وهو من مجايليه) أن يوسّع نطاق البحث عن المعنى المشترك أو الأعمّ من المادّة الواحدة إلى جملة «التقاليب» التي تحتملها الحروف الثلاثة لهذه المادّة (إن كانت ثلاثية)… فخلص في كتابه «الخصائص» إلى وجود معنى مشترك للتقاليب الستّة التي تحتملها حروف الكاف واللام والميم مثلاً، يظهر أثره في معاني سائر الألفاظ التي تشتقّ من تلك التقاليب أي من «ك ل م» و»ك م ل» و»م ل ك» و»ل ك م»، إلخ. وقد أطلق اسم «الاشتقاق الأكبر» على هذا التوليد لألفاظ اللغة، لا من توالٍ بعينه لحروف المادّة أو الجذر، بل من كلّ توالٍ تحتمله هذه الحروف نفسها فتتشكّل منها، قبل الألفاظ المتحقّقة في الاستعمال، جملة محدودة من الموادّ المولّدة لتلك الألفاظ. على أن ابن جنّي الذي كان يتابع آخرين سبقوه فيبسط ما جاؤوا به موجزاً متناثراً وينظّمه، لم يفترض الاطّراد في وجود معنىً مشترك مجرّد ينتظم فيه كلّ مجموع من مجاميع الموادّ تلك، وإنما كان حَسْبه ان يكون ذلك كثيراً في اللغة.
ترامت هذه الأطوار في نظرية تكوّن اللغة على مدى القرن الرابع للهجرة: من كتاب «الاشتقاق» في أوائل القرن (أو في أواخر الثالث) إلى «معجم مقاييس اللغة» وكتاب «الخصائص» في أواخره… وفي عصرنا الحاضر، أقدم لغويّ مجدّد هو عبد الله العلايلي على تجاوز القول بوجود معنى مشترك بين مشتقّات المادّة الواحدة أو أيضاً بين الموادّ المتولّدة من تقليب الحروف المشكّلة لأيّ منها… تجاوز العلايلي هذين القولين إلى القول بوجود معنى يمكن تعرّفه لكلّ من حروف الجدول الهجائي بمفرده واستخرج بالفعل جدولاً لمعاني حروف العربية. ومع أن قـــــدماء اللغويين ألّفوا في «معاني الحروف» فإنهم كانوا يريدون «حروف المعاني» (العطف، الجرّ، إلخ…) فيرشدون إلى معانيها للتفادي من الخطأِ في استعمالها. ولم يكن مرادهم القول بمعنى مطّرد في اللغة لكلّ حرف من حروف الجدول الهجائي ولا القول بصلة ما بين هذا المعنى المفترض ومخرج الحرف في آلة النطق.
وما ينبغي التنبيه إليه ههنا هو أن عدم اطّراد الظاهرة، سواء أكانت معنىً قارّاً لحرفٍ منفرد أم معنى مشتركاً لمشتقّات مادّة أو لجملة موادّ، لا يُطعن في دلالتها إذا كثر التكرار بحيث يزكّيها. كذلك لا يعني إفراد الحرف الواحد بمعنىً مستقلّ أن إدراجه المنتظم في بنى الألفاظ المختلفة لا يعدّل من نصيبه في التشكيل الصوتيّ لكلّ منها، بل إن المعنى المفرد للحرف، في هذه الحالة الأخيرة، يُفترض أن يكون قد استُنبط بالتدريج من أمثلة كثيرة متنوّعة اختلف فيها موقعه وحركته وعناصر محيطه.
ليس هذا، في كلّ حالٍ، مقام الجدال في صواب المنحى الذي رسمته هذه المحاولات أو بطلانه. فهذا جدالٌ عويصٌ لا تسعه هذه العجالة. وإنما نبتغي التخلّص إلى ذكر مصبّات متعدّدة لهذا الجدال تتنافس في الخطورة.
وكان قد ظهر منها عند اللغويين القدماء، الذين لم يكن أيّ منهم، يخلو من عناية بالكلام وبالفقه، مصبّ كلامي. فإن هذا التأمّل في نظام العلاقة بين ألفاظ اللغة ومعانيها (أو بين الدالاّت والمدلولات، على ما أصبح يقال في أيّامنا) لا ينفكّ عند القدماء من علماء العربية عن جدالٍ آخر عاصره بين «أهل التوقيف» و«أهل الاصطلاح»، أي بين الذين قالوا بأن اللغة مخلوق أنشأه الذي «علّم آدم الأسماء كلّها» والذين قالوا بأنها تواضع واصطلاحٌ بين البشر.
وكان ابن فارس، مثلاً، من القائلين بالتوقيف فيما بقي ابن جنّي يصرّح بتردّده بين الموقفين. ولا غرو أن تكون مسألة «خلق القرآن» الذي قال به المعتزلة وقال خصومهم من الأشاعرة بخلافه في موقع القلب من هذه المناظرة. وقد كان ابن جنّي مثلاً ذا ميلٍ معتزلي. ويوحي ترجّحه بين موقفي «الاصطلاح» و»التوقيف» بأن المذهب الكلامي لا يحسم السؤال المتعلّق بأصل اللغة وإن يكن كلّ منهما مؤثّراً في الآخر.
لا يتخلّص البحث اللغوي هنا من البحث الكلامي إذن وإن لم يكن الأخير كليّ التحكّم في مآلات الأوّل. وقد كان علينا أن ننتظر قروناً لنرى الألسنية الحديثة تتأسّس على اعتبار اللغة معطىً يُدرس بحدّ نفسه فلا يحتاج درسه إلى البدء من أصلٍ يتأسّس فيه: «خَلْقاً» و»توقيفاً» كان هذا الأصل أم اصطلاحاً وتواضعاً بشريّاً. يسهّل حبسُ اللغة في نفسها، على هذه الشاكلة، تناولَ بناها وقواعدها.
ولكنه لا يبطل القلق الفلسفيّ المتعلّق بنشوئها ولا الأسئلة الاجتماعية المتعلّقة بأدوارها في «سياسة» العلاقات بين الناطقين بها وبين هؤلاء وعوالمهم. ذاك أفق نحاول استطلاع معالمه في وقفةٍ على حِدة…

٭ كاتب لبناني

الكلام بما هو تلحينٌ للوجود…

أحمد بيضون

Jun 11, 2016

مَغْناكِ مُلـتَهِبٌ وَكَأسُـكِ مُترَعَـهْ / فَاسْقي أَباكِ الخَمرَ وَاِضطَجِعي مَعَهْ
لَم تُبـقِ في شَفَتَيـكِ لــذّاتُ الدِمـا / ما تَذكُـرينَ بِـهِ حَـليـبَ المُـرْضِعه
قومي اِدخُلي يا بنتَ لوطَ عَلى الخَنى / وَاِزْني فَإِنَّ أَباكِ مهّـدَ مَضجَعَـه
إِن تُرجِعي دَمَـك الشَهِــيَّ لِنَبْعَــه / كَـمْ جَدوَلٍ في الأَرضِ راجَع مَنبَعَه
(إلخ، إلخ).
لا أَعرِفُ قوافيَ عربية تفوق شِدّتُها ما لقوافي قصيدة «سَدُوم» هذه لإلياس أبو شبكة. العَيْنُ والهاءُ مَخْرجاهما من الحَلْق. فيكاد يصحّ القول أنهما تخرجان من الأحشاء. العَيْنُ هنا مفتوحةٌ على أقصاها والهاءُ ساكنةٌ ينقطع بها النفس اللاهث بغتةً. هذا كلّه يناسب مناخَ هذه القصيدة المُلَعْلِعة أحسنَ مناسَبة.
في هذه القافية، لهفةٌ أو نباحٌ للرغبة تعبّر عنه العين المفتوحة والهاء الساكنة وتكرارهما بأشدّ ممّا تعبّر الواو الجوفاء والهاءُ الساكنة في «وَهْ وَهْ» المقطع المعتمد لمحاكاة النباح.
نأخذ بيتاً من قصيدة إلياس أبي شبكة هذه، بقافيتها: العين المفتوحة والهاء الساكنة (عَهْ، عَهْ، عَهْ…):
سَكِرَتْ بكِ الدنيا سَدومُ فكُلُّها / زُمَرٌ على طُرُقِ الحياة متعتَعَهْ
ونأخذ بيتاً من قصيدة مشهورة لابن زريق البغدادي قافيتها عَيْنٌ وهاءٌ مضمومتان (عُهُ، عُهُ، عُهُ…):
أَسْتَوْدِعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً / بالكَرْخِ من فَلَكِ الأزرارِ مَطْلَعُهُ
لا يفوت الأذنَ المدرّبة أننا انتقلنا ممّا يوحي باللهاث الشديد المتقطّع إلى ما يوحي بصوت العويل. حَصَل ذلك بفعل اختلاف الصوائت (أي ما يسمّى «الحركات») مع بقاء الصامِتَين (أي الحرفين «الصحيحين» العين والهاء) دون تغيير.
في هذا إظهارٌ لأهمّية الصوائت التي لا نعتبرها حروفاً، في العادة، ونستسهل الاستغناءَ عنها في الكتابة، وهي، في حقيقة الأمر، أهمّ الحروف في نظام العربية الصرفي، سواءٌ أكُنّا نرسم الكلام أم نلفظه. يبقى، مع ذلك، أن اقتران العين والهاء، بما لهما من عمق المخرج، هو العُمْدة في الإشعار بالحالتين: اللهاث والعويل. فلا يتيسّر ذلك لأيّ حرفين صامتين يعتمدهما شاعرٌ من الشعراء قافيةً لقصيدة…
ولأَذْكُر هنا، ما دمتُ قد عرّجتُ على قصيدة ابن زريق، أنني «عارضْتُها»، في ما مضى، بقصيدةٍ أصبَحَت قديمةً ومَطْلَعُها:
ساقي الحُمَيّا وهل تُحْصى مَصارِعُهُ / ثاوٍ على الرمْلِ تَرْثيهِ أَصابِعُهُ
ما كـان يُــمْسِــكُ أنـفـاساً مـروَّعــةً / لولا بقـيّةُ صَحْـبٍ لا تُشَيِّعُهُ
صَـحْـبِ الكؤوسِ إذا دارَت يقولُ لهمْ / نَفْسي فِـداءُ وَلِيٍّ لا أُشَفِّعُهُ
(إلخ.، إلخ).
تلك قصيدة كانت تباري في العويل قصيدة ابن زريق. ولا أشكّ أنه كان لقافيته نصيبٌ من سَوْقها إلى هذا المناخ. أي أن ثمّة ههنا تفاعلاً لا فعلاً من جهةٍ واحدة: لا يملي المناخُ النفسيّ، من جهته، قافيةَ القصيدة وسماتٍ أخرى لبنيتها الصوتية العامّة وحسب وإنما تستدرج القافية والسمات المشار إليها صوراً وتعابير نفسية تمليها على الشاعر. فيشترك «الشكل» (إذا أجزنا هذا التقابل) في تعيين «المضمون» بعد أن يكون قد استجاب لهذا الأخير.

٭ ٭ ٭

هذه الملاحظة الأخيرة تردّني إلى جدالٍ كبير يتعدّى نطاق الشعر إلى نطاق اللغة أو إلى ما قد تجوز تسميته الشاعرية اللغوية. نعرف بدايةً لهذا الجدال عند أفلاطون الذي تتواجه في حواره المسمّى «كراتيلوس» نظريتان في أصل اللغة، ترى الأولى منهما في الكلمات أشباحاً أو صوراً صوتية للموجودات وترى الثانية في الكلمات ثمرات اصطلاح وتواطؤ أو تواضع في الجماعة اللغوية بحيث يتحدّد لكلّ دالٍّ مدلوله من غير افتراض محاكاة للأخير من جهة الأوّل. وقد كان أفلاطون من أصحاب الرأي الأوّل إذ هو الرأي الموافق لنظرية «المُثُل» بافتراضه أن الكلمات إنما تلتمس الشبه، لا بالأشياء، بل بالماهيّات التي تجسّدها المُثُل في عالمها العلوي… وأما لغويّو العربية فقد ذهبوا بهذا الجدال نفسه مذهباً دينيّاً فقال فريق منهم بالاصطلاح والتواضع ورأى فريق آخر في اللغة «وحياً» و«توقيفاً» يهتدي بهما الناطقون بها إلى المواءمة المرغوب فيها ما بين الدالّات ومدلولاتها…
لم تكن بنت يومها، إذن، نظريّة السويسري فردينان دو سوسور الذي اعتُبر منطلقاً للمدرسة البنيوية كلّها، في ميدان اللغة وفي ميادين أخرى كثيرة، لإرسائه نظرية العلامة اللغوية على ما سمّاه «التحكّميّة» أي على استبعاد الشبه، إجمالاً، ما بين اللفظة، بما هي سلسلة صوتيّة، ومدلولها، بما هو تصوّر. ذاك مبدأ من اثنين ثانيهما ما سمّاه سوسّور «خطّية الدالّ» وهو لا ينطوى على نظيرٍ للشحنة الجدلية التي في الأوّل. وأمّا «التحكّمية» تلك فهي ما يبيح اعتبار متن اللغة ـ أي معجمها ـ «نظاماً» للفوارق يتحدّد كلّ من عناصره، لا بذاته، بل بموقعه فيه، أي بالحيّز الذي تفسح له فيه شبكة العلاقات ما بينه وبين عناصر أخرى تتوسّع دوائرها باطّراد حتّى تشتمل على اللغة كلّها. ذاك تصوّر لمتنِ اللغة نسجه سوسور على منوال النظام الذي رآه متمثّلاً في بنية أصوات اللغة. فهو قد وجد أن هذه الأصوات إنما يتحدّد كلّ منها بالفارق الذي يرسم له موقعه في فئته من بينها، أوّلاً، وفي جملتها، بما هي منظومةٌ، على الأعمّ.
كانت السوسورية حين فرضت نفسها نموذجاً احتذي، على أنحاءٍ مختلفة، في علوم الإنسان والمجتمع كلّها وفي الفلسفة، تجد الحجّة الأوثق التي تسند إليها مبدأ «تحكّمية العلامة» في واقعة تعدّد اللغات بما هو بديهة حسّية نطاقها عالم البشر كلّه… فيتعذّر نكرانها أو التجاوز عن البحث في دلالتها. فإذا كان الدالّ، بما هو سلسلة صوتيّة، «يحاكي» مدلوله (على ما افترض أفلاطون مثلاً) فكيف جاز أن تتكاثر الدالاّت للمدلول الواحد هذا التكاثر كلّه وأن تختلف هذا الاختلاف البيّن كلّه من لغةٍ إلى أخرى. فلا يظهر شبه، لجهة التشكيل الصوتي، ما بين أسماء البقرة، مثلاً، في كلّ من اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية؟
هذا السؤال بذلتُ محاولة منشورة للمجادلة فيه قبل نحوٍ من أربعين سنة. وقد أعود إلى فحوى هذه المحاولة في عجالةٍ أخرى. واليوم يعتبر المنحى البنيوي ذاوياً أو متروكاً بعد عزّ. فهو قد راح يفقد نفوذه بسرعة قبل أربعة عقود أو خمسة، وإن يكن لا يزال يجرّ هنا وهناك أذيالاً لما بناه من أمجادٍ متوسّلاً في ذلك صمودَ أعمالٍ كبرى للذين اعتمدوه أو استوحوه، لا في علوم اللغة على التخصيص، بل في الأنثروبولوجيا والتاريخ، على الأخصّ، وفي غيرهما من علوم الإنسان والمجتمع.
ذاك مجالٌ رحبٌ لا نجاوز هنا الرغبة في إثارة شهيّة القارئ للإلمام به إن كان من غير الملمّين. ولعلّنا نعود إلى بعض مسائل اضطربت بها جنباته في فُرصٍ أخرى تُواتي. وما ابتداء كلامنا هذا من الشعر وقوافيه وتخلّصنا من هناك إلى مسألة العلامة اللغوية إلا إشارة إلى توزّع المواقف في تلك المسائل، على تنوّعها، وفي النظمات المعرفية التي تتداولها، ما بين طرفَيْ إشكالٍ أصليّ واحد.

كاتب لبناني

“المسألة الشرقية”

أحمد بيضون

Jun 06, 2016

في دفْق الكتب التي لا تزال تواكب الذكرى المئوية لنشوب الحرب العالمية الأولى، وقعتُ، قبل مدّة، على واحدٍ أرى في قراءته «تغريبةً» نتعلّم منها، نحن الشرقيين، أشياء كثيرة عظيمة الأهمّية ممّا يتعلّق بتشكّل الموقع الذي نحتلّه اليوم من العالم، وقد ارتسمت معالمه الكبرى في مدى القرون الثلاثة الماضية.
ذاك كتاب المؤرّخ الفرنسي المعروف جاك فريمو «المسألة الشرقية» وقد صدر عن دار «فايار» الباريسية سنة 2014. وهو ـ على ما هو ظاهرٌ من عنوانه ـ لا يتّخذ الحرب العالمية الأولى موضوعاً رئيساً له ولكن هذه الحرب تقع موقع المفصل الرئيس من المرحلة المديدة التي يتناولها إذ تغيّر في غدواتها تشكيل المنطقة الشاسعة التي تمثّل مدار ما يسمّى «المسألة الشرقية» تغيّراً يعدّ فاصلاً وإن يكن غير مبتوت الصلة بموازين ما قبل الحرب.
يباشر فريمو رحلته الطويلة من مدخلٍ بعيد جدّاً، هو تحوّل معنى قسمة العالم القديم إلى شرق وغرب، بين عهدي هوميروس والإسكندر الأكبر. على أنه يعيّن منطلق ما يسمّيه «المسألة الشرقية» في أواسط القرن الثامن عشر أي، على التخصيص، في الحرب التي أعلنها السلطان العثماني مصطفى الثالث في سنة 1768 على صاحبة العرش الروسي كاترين الثانية. وهذه مرحلةٌ أولى تنتهي مع انهيار العهد النابليوني في أوروبا في سنة 1815. وإذا كانت أوائل هذه المرحلة قد شهدت هزيمةً عثمانية قاصمة، أمام الزحف الروسي، على الرغم من الدعم الفرنسي للعثمانيين، فإن آخرها أخرج فرنسا إلى حين من الصراع، وافتتح عهداً من التنازع الروسي البريطاني على الشرق الذي كان يبدأ في البلقان في تلك الأيام وترسم أهمّ معالمه الجغراسية طريق الهند وضرورات حمايتها في البرّ وفي البحر…
هذا الشرق الكبير الذي يجول في آفاقه كتاب فريمو لا تختصر «مسألته» الدولة العثمانية على ما قد يزيَّن للعربي الذي كانت بلاده ملحقةً بهذه الدولة أن يعتقد. وإنما هو مشكّل، عند تبلّر «المسألة الشرقية»، من ثلاث إمبراطوريات تاريخية متمايزة الملامح هي العثمانية والفارسية والمغولية (وقد زالت هذه الأخيرة في وسط القرن التاسع عشر). ولكن لا يبدو مجرى العلاقات بين هذه القوى موضوعاً متصدّراً للمسألة الشرقية. فهذه الأخيرة مسألة أوروبية تستدرج إلى الصراع هذه أو تلك من الدول الخمس التي كانت قد أصبحت غالبة على أوروبا في القرن التاسع عشر، خصوصاً منها روسيا ذات المطامح المتّصلة بالبلقان وبآسيا الصغرى والقوقاز ووسط آسيا وبالبحار الدافئة.
وبريطانيا ذات المصالح المواجهة لهذه الأطماع الروسية بحكم هيمنتها على الهند، بالدرجة الأولى، وعنايتها بأمن الطريق (أو الطرق) إليها.
هذا الصراع، بأفقه الجغراسي الشاسع، هو ما رسم، على الخصوص، معالم «اللعبة الكبرى»: وهذا هو الاسم الذي أطلق منذ سنة 1820 على تنازع روسيا وبريطانيا مناطق السيطرة في آسيا الوسطى وعلى تخوم الهند. وهو الصراع الذي بقيت الدولة العثمانية تتوسّطه مضطرّة وتستقبل على أراضيها بعضاً من أهمّ فصوله بحكم هيمنتها على شرق أوروبا وعلى الشرق العربي. ولعلّ أبرز هذه الفصول، في القرن التاسع عشر، حرب القرم وهي، بأطرافها وبأحجام ما ضلع فيها من قوىً، نوعٌ من الحرب العالمية، في الواقع، ولكنّها دارت في رقعة من الأرض محدودةٍ نسبياً لتنتهي إلى تأكيدٍ للتصدّر البريطاني بين قوى المرحلة وفي التنازع الذي راح يزداد احتداماً على ممتلكات الدولة العثمانية خصوصاً. وكانت الخشية بالغةً من أن يفضي زوال الدولة العثمانية إلى حربٍ بين الورثة الأوروبيين المحتملين لا تبقي ولا تذَر. وكان السلوك البريطاني، في هذه «المسألة» يضع الخشية المذكورة في حسبانه.
تلك هي المحطّات التي شهدت ترسّخ هذا المفهوم: مفهوم «المسألة الشرقية» وقرينه مفهوم «اللعبة الكبرى». وليس لنا، في هذه العجالة، أن نمضي قدماً في عرض الشريط الحدثي الذي ينسجه كتاب فريمو. فهذا الكتاب الضخم الذي يبدأ حيث أشرنا يصل بنا إلى سنوات «الربيع العربي» الذي لا نزال نعاين (أو نعاني) مخاضه. هو يصل إلى هنا ـ بعد ما ذكرنا ـ عبر أطوار الصراع الروسي البريطاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعبر أدوار أوروبية أخرى في «المسألة الشرقية» (فرنسية، ألمانية…) أخذت تتنامى أو عادت إلى التنامي، وعبر الحرب العالمية الأولى (التي يراها «حرب إمبراطوريات») وما جاء في ركابها من تغيير شرقي وغربي، ثم عبر الحرب العالمية الثانية وما تبعها من حرب باردة ومن تحوّل في أوضاع البلدان التابعة أو المستعمرة، فإلى انهيار القوّة السوفييتية مع حرب أفغانستان وإلى حروب الخليج التي أعقبت الثورة الإيرانية، إلخ.، إلخ.
في تناوله هذا كلّه، يوسّع فريمو كثيراً ما صدقَ «المسألة الشرقية»… ولكن ميزة هذا الكتاب ليست مَدَّه تاريخ هذه المسألة من وسط القرن الثامن عشر إلى أيّامنا. وإنما هي موسوعيّته وتمكّنه. فهو لا يخلّف وجهاً من وجوه هذه المسألة لا يرسم ملامحه بدقّة وجزالة معرفة. لا ريب أن الوجه الجغراسي يبقى الأهمّ. وهو وجه تعلن ملامحه تغليب الطرق والتضاريس والموارد الطبيعية، أي أوصاف البلدان والمناطق على أوصاف الشعوب. أي أن هذا «العلم»، في ظرف نشأته، «علم» مكرّس لحاجات الغزاة المتغلّبين. ولعلّ مردّ هذا المنحى، فيما يتصل بـ»المسألة الشرقية» إلى كون القوى الأوروبية التي وضعت تصوّر المسألة المذكورة كانت ترى، قبل كلّ شيءٍ، في هذه الأصقاع، طرقاً بحريّة وبريّة للتجارة وللعسكر ومؤنه وتضاريس وموارد متّصلة بالتجارة والحرب وموازين قوى متنوّعة النطاق، إلخ. لذا نحتاج إلى كثير من المعرفة الجغرافية: الطبيعية والبشرية والاقتصادية، لقراءة كتاب فريمو ونتعلّم منه كثيراً من هذا كلّه أيضاً.
ولكن السياسة والحرب والتجارة وما جرى هذا المجرى لا تستنفد عمل فريمو. فالرجل واسع الإلمام بالاستشراق، الذي هو وجه من وجوه المسألة: من أدب الرحلات إلى الأعمال الفنية والأدبية إلى الحصائل العلمية إلى عمل إدوارد سعيد ونقده. يبقى أمرٌ يصحّ أن يؤخذ على فريمو وهو ما يبدو من ضعف معرفته بما يقابل الاستشراق: أي بتعبير شعوب الشرق أو جماعاته عن معاناتها «المسألة الشرقية» ومواجهتها لأطرافها الأوروبيين. هذا الضعف يبرزه خلوّ لائحة المراجع في الكتاب من مصادر شرقية باستثناء القليل المترجم أو الموضوع بلغة أوروبية. معنى هذا، في نهاية المطاف، أن هذه «المسألة الشرقية»، حين يطرح سؤال «الذات» التي تعيّن لها هويّتها، إنما هي ـ مرةً أخرى ـ مسألةٌ أوروبية أصلاً وفصلاً.
يمتّ إلى هذه الهوية بصلةٍ ظهورُ الهويّات الضعيف في الكتاب. وهو ضعف قد يكون سببه (أو يعزّزه) المنظور الجغراسي الغالب. فمع أن موازين السكّان تبدو موضوع عناية ولا يخلو العرض من ذكر القبائل والطوائف والأعراق (وهي الوحدات التي يبدو الشرق البشري متشكّلاً منها) فإننا نتعلّم أن القوميّات الكبرى التي اعتدنا البحث عن أصولٍ تاريخية راسخة لها هي، في الواقع، تكاوين ملتبسة، تأخّر ظهورها على مسارح الصراع إلى زمن قريب إلينا ويبقى أثرها في المواجهات التاريخية، قبل ذلك، موضوعاً مشْكلاً. ذاك شيء لا يمكن قوله عن الهويّة الدينية التي يتناول فريمو أطرافاً من حديثها وهو حديثٌ طويل…
مهما يكن من شيءٍ، يستحقّ هذا الكتاب الصعب القراءة أن يقرأه من يعرف الفرنسية من «الشرقيين» ويستحقّ ـ لا ريبَ ـ أن يُنقل إلى العربية.

٭ كاتب لبناني

تاريخ العالَم العربي في مَعْهَده الباريسي: مُلْتَقَياتٌ وجائزة

على غرار «ملتقيات التاريخ» التي استضافتها مدينة بلوا الفرنسية كلّ سنة، ابتداءً من سنة 1998، أطلق معهد العالم العربي في باريس في ربيع السنة الماضية «ملتقيات تاريخ العالم العربي» ثم أحياها للمرّة الثانية من 20 إلى 22 أيّار/مايو الجاري.
ولمّا كان القوم في المعهد لا يعيدون اختراع العجلة كلّما احتاجوا إلى ركوب الدرّاجة فقد استعانوا بما اجتمع من خبرة لبلوا ودعوا المشرف على ملتقياتها فرنسيس شفرييه إلى مدّ يد العون.وقد زكّى هذا التعاون أن وزير الثقافة السابق جاك لانغ، وهو اليوم رئيس معهد العالم العربي، كان هو الذي أطلق ملتقيات بلوا أصلاً أيّام كان رئيساً لبلدية المدينة.
وفي كلّ دورة، تُفتتح ملتقيات المعهد بمنح «الجائزة الكبرى لتاريخ العالم العربي»، وتعطى لكتابٍ جديد موضوع بالفرنسية أو مترجمٍ إليها يعالج موضوعاً منتمياً، على نحوٍ ما، إلى تاريخ العالم العربي. نقول «على نحوٍ ما» لأن لائحة «الأنواع» التي يُحتمل انتماء الكتاب إليها مرنة إلى حدّ أن الرواية التاريخية، مثلاً، غير مستبعَدة من السباق، فضلاً عن كون الكتاب يسعه أن يختصّ بأي فرعٍ من فروع التاريخ أو أيّ مرحلة من مراحله. والجائزة متواضعةٌ نسبيّاً ولم يمكن مع ذلك دفعها للمؤلف الفائز في السنة الماضية ويضاف إليها تعهّدٌ (تدل الدلائل على أنه مبدئي أيضاً!) برعاية نقْل الكتاب الفائز إلى العربية.
وقد حظيتُ، في العامين الفائت والجاري، بشرف الانتساب إلى الهيئة المحكّمة في منح الجائزة المشار إليها. يرأس هذه الهيئة هنري لورنس صاحب كرسيّ التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكولّيج دو فرانس. وتضمّ الهيئة قُرابةَ عشرةِ أعضاء (هم أهلُ اختصاص عربٌ وأوروبيون وعربٌ- أوروبّيون)، وقد حصل تغيير طفيف في العدد وفي الأسماء بين الدورتين الماضية والجارية. يرشّح كلٌّ من الأعضاء كتاباً واحداً من بين إصدارات السنوات الثلاث السابقة للجارية يراه ذا أهلية لنيل الجائزة. وهذه طريقة تحدّ سلفاً من عدد الأعمال المرشّحة، بخلاف تلك التي تترك للمؤلّفين الحقّ في ترشيح كتبهم ولو بتزكيةٍ من جهاتٍ أخرى. ويتيح قِصَر اللائحة هذا لأعضاء الهيئة تفحّص الكتب المرشّحة بالعناية المفروضة بعد أن يُرسَل إلى كلّ منهم، في غضون شهور تسبق موعد «الملتقيات»، ما ليس في حوزته منها.
يلتئم عقد الهيئة عشيّة افتتاح «الملتقيات» إلى عشاء مداولة يجب أن ينتهي، بالتوافق أو بالتصويت، إلى اختيار الكتاب الفائز. وهو ما يعني أن كلّاً من الأعضاء ـ باستثناء واحدٍ ـ سيكون قد تخلّى في ختام السهرة عن مرشّحه أو سلّم بخسارته، في الأقلّ. والحالُ أن خضوع العضو لغواية كتابٍ غير الذي رشّحه ليس بالأمر المستبعَد أو النادر. وهذا خضوعٌ قد يكون للمداولة ضلعٌ فيه ولكنّه يحصل غالباً عند الاطّلاع على جملة الكتب المرشّحة، أي قبل المداولة بزمن.
تعتمد الهيئة معايير عامّة في اختيار الكتب وفي تعيين الفائز بالجائزة. غير أن تنوّع الأعمال المرشّحة، فضلاً عن جودتها، يتبدّى مبعثَ حيرةٍ للمحكّمين. فإن بعض هذه الكتب لا يقارن ببعضٍ إلا افتعالاً. فكيف تستقيم المفاضلة، مثلاً، بين قاموس تاريخي للدولة العثمانية وضعه نحو من مئتي مؤلّف وأصبح أداة عمل جزيلة النفع للدارسين ودراسة فردية ضخمة في تاريخ «النخب البغدادية أيّام السلاجقة» يبدو لك مؤكّداً أنها أكلت ردحاً جسيماً من عمر المؤلّفة وأنها، بجودة التوثيق والتأليف والتحقيق، ليست من الصنف الذي يؤمل الحصول على نظير له كلّ سنة او كلّ عقد؟ وهل تدخل، فضلاً عن الجودة، جدّة العمل المنجز والمتعة المتحقّقة بقراءته عاملين مقرّرين في الاختيار؟ أم تُغَلّب الندرة وجسامة الجهد المبذول، وإن يكن العمل صعباً جافياً مرشّحاً للانحصار في أيدي قلّة من الباحثين؟ ذاك نوع الأسئلة التي تترك الفرد متردّداً ولكن تسعف في التقريب من إجاباتٍ مقبولة عنها مداولة الجماعة…
يعلن رئيس الهيئة العنوان الفائز في مساء اليوم التالي للمداولة في أثناء الجلسة الافتتاحية للملتقيات. في السنة الماضية، فاز كتاب جوليان لوازو الرائع «المماليك» وفاز هذه السنة عمل فانيسا فان رنترغيم الذي سبقت الإشارة إليه «النخب البغدادية…» ولا نجاوز هنا الإشارة إلى العنوانين لأن حديث كلّ من الكتابين يطول…
ثم إن «الملتقيات» لا تختصرها الجائزة بطبيعة الحال. «الملتقيات» شيء شاسع! ثلاثة أيّامٍ من المحاضرات والندوات تتزامن في قاعاتٍ عدّة من المعهد أو تتوالى في ساعات النهار. وهي تأتي مصحوبة، إلى ذلك، بمعرض من تلك التي صنَعت للمعهد شهرةً عريضة أو بأكثر من معرض. وهي أيضاً فرص لقاءٍ لا تُحصر أنواعه إذ يكون المعهد في خلالها يغلي برواح زوّاره وغدوّهم في القاعات وفي الممرّات، في المكتبة أو المتحف وفي المقهى أو المطعم سواءً بسواء.
في السنة الماضية، كانت «المدينة» مداراً عامّاً للّقاءات. وبدا أن المسوّغ الأبرز لذلك رغبةٌ في دحض الصورة الشائعة التي تغلّب الصحراء والبداوة وسطاً وصيغة تاريخيين للوجود العربي. في هذه السنة، اختيرت «الأديان والسلطات» مداراً… ولا تحتاج الدواعي إلى هذا الاختيار إلى فضل بيان. وبين محاضرة يلقيها باحث وحوار بين مؤلّف وناقد وطاولة مستديرة… وبين ثورة لا تزال مفاعيلها جارية وجديد يتعلّق بالحرف العربي قبل الإسلام… وبين همومٍ متّصلة بتعليم تاريخ العالم العربي في المدارس الفرنسية وبإعداد معلميه وأخرى تتعلّق بشروط البحث في هذا التاريخ في مختلف أقطاره وأطره، إلخ.، إلخ.، تبدو مقاربة المدار العامّ المختار حرّةً ورحبة وتظهر على منابر القاعات وجوه كثيرة جدّاً (جاوز عددها المئتين هذه السنة) يعلن ظهورها تَجدّد الدراسات العربية في فرنسا وتهيئة جيلٍ لخلافة جيل مع بقاء الأسماء المعروفة قادرة على الإتيان إلى هذا الموسم وغيره بجديدها المعتبر.
هذان التنوّع والإحاطة، لجهة الموضوعات والفروع والأزمنة والأجيال، إلخ.، وقد ازدادا هذه السنة عمّا كانا في الدورة الأولى، هما ما أجاز لرئيس المعهد أن يصف هذه «الملتقيات» بـ»الجامعة الشعبية». هي جامعةٌ تدوم ثلاثة أيّامٍ كلّ سنة. وهي مفتوحة للعموم وأنشطتها مجانية.
وما دمنا قد ذكرنا «مجّانية» الأنشطة، فلنُشر إلى التقشّف الواضح الذي يطبع الموسم برمّته. يجنَّد جهاز المعهد لخدمة «الملتقيات» وتوضع مرافقه المختلفة بتصرّفها. أما المشاركون في الموسم من محاضرين ومحكّمين، فلا يتقاضون مالاً وينزل المستقدَمون من خارج المدينة منهم في فنادق غاية في التواضع ويعطون قسائم لطعام الغداء في يوم مشاركتهم فقط، إلخ. ولما كان معظم هؤلاء قد سبق لهم أن خبروا السفر في الدرجة الأولى إلى مناسبة خليجية ما، والفندقَ ذا النجوم الخمسة (وأزْيَد!) والمكافأةَ السخيّة للورقة المقدّمة (ودَعْكَ من قيمة الجائزة حين تُمْنَح!) فهم يحسنون ملاحظة الفوارق. الذين يحضرون للكلام في معهد العالم العربي يبدون مكتفين بفرصة للمشاركة في الموسم يعدّونها قيّمة… فلا يتطلّعون، على الأرجح، إلى جزاءٍ آخر.
في كلّ حالٍ، كان هذا المعهد الجليل ولا يزال، منذ نشأته، مؤسّسةً مُعْسِرة أو أن هذا ما لازم صيته. وهذه السنة زَفّت إلينا إدارةُ «الملتقيات» خبر تبرّع المجمع الملكي المغربي بقيمة الجائزة. وبدا أن عبئاً ثقيلاً قد انزاح عن كاهل الإدارة بعثورها على جهةٍ عربية نَفَحت «الملتقيات» بـآلاف معدودة من اليورو جنّبت معهد العالم العربي وملتقياته الرائعة حَرَج السنة الماضية حيال الفائز!

٭ كاتب لبناني

 

 

سايكس بيكو بين خرافةٍ وتاريخ

أحمد بيضون

May 14, 2016

في أيّامنا هذه، تزعم «داعش»، مثلاً، ويصدّقها معلّقون معادون لها، أنها أطاحت رسْمَ اتّفاق سايكس بيكو للحدود العراقية السورية. والأدنى إلى الواقع أنها قرّبت هذه الحدود ممّا كانت عليه في الاتّفاق! فإن ولاية الموصل العثمانية وصحراء الأنبار اللذين جمعت «داعش» ما بينهما وبين بعض الفرات السوري كان سايكس بيكو قد جعلهما في سوريا، إن صحّ أن نحصر هذا الاسم بمنطقة النفوذ الفرنسي من «الدولة العربية». وقد ضُمّت الولاية إلى العراق، أي إلى منطقة النفوذ البريطاني، خلافاً لمنطوق الاتفاق، بعد مخاضٍ طال إلى سنة 1926!.
وعلى الإجمال، لا تشبه الحدود الدولية الحالية بين العراق وسوريا ما يظهر في خريطة سايكس بيكو من خطّ فاصل في «الدولة العربية» بين منطقتيّ النفوذ المشار إليهما. ولا يظهر أثر في هذه الخريطة للدولة الأردنية ولا للدولة اللبنانية. وما يجوز اعتباره فيها «فلسطين» هو النصف الشمالي من فلسطين اللاحقة وهو موعود في الاتّفاق بـ»إدارة دولية»! ويجعل الاتّفاق معظم العراق الحالي أي ولايتي بغداد والبصرة العثمانيّتين منطقة حكم بريطاني مباشر ويُخرج من هذا العراق سامرّاء وكركوك (فضلاً عن الموصل والأنبار) ليدخلهما ومعهما شرق الأردن وجنوب فلسطين في المنطقة الجنوبية من الدولة العربية، وهي الخاضعة للنفوذ البريطاني لا للحكم البريطاني المباشر.
وأما سوريا الاتّفاق (وهي مختلفة اختلافاً جسيماً عن سوريا اليوم)، فمثّلت المنطقة الشمالية من الدولة العربية وجُعلت خاضعة للنفوذ الفرنسي وضمّت إليها، على ما سبق قوله، ولاية الموصل وصحراء الأنبار. وعلى غرار ما فَعَل بولايتي بغداد والبصرة، في الشرق، اقتطع الاتّفاق من الدولة العربية، في الغرب، منطقة الساحل الشامي، وهي أقضية ولاية بيروت العثمانية الموازية لـ»المدن السورية الأربع» (أي حلب وحماه وحمص ودمشق)، ومعها سنجق جبل لبنان، مستثنياً هذا كلّه ممّا سمّاه «الدولة العربية». هذا أيضاً لم يؤخذ به، في آخر الأمر. بل اختلفت صيغة «لبنان الكبير» والانتداب الفرنسي عليه عن صيغة الحكم الفرنسي لـ»بلاد العلويين»… وذلك قبل أن تتوحّد أوصالُ سوريا الحاليّة، المتقلّبة الأوضاع على تنافرٍ، في سنة 1936. هذا ولم تكن صيغة «الانتداب» واردةً من أصلها في سايكس بيكو، بل هي اخترعت عند إنشاء عصبة الأمم في سنة 1919 ثم جرى توزيع أنصبة الانتداب لاحقاً في مؤتمر سان ريمو.
ولا ننسَ هنا أن منطقة الحكم الفرنسي المباشر تلك كانت توغل شمالاً في آسيا الصغرى مشتملة على منطقة شاسعة من جنوب الأناضول تمثّل أركانَها مدن أضنة ومرسين في الغرب وسيواس في الشمال وديار بكر في الشرق. ولا يظهر في خريطة الاتّفاق من خطّ فاصلٍ بين هذه المنطقة وألوية الساحل السوري. ولنُشِر إلى أن غياب الحدّ هذا يلبّي مطالبة الحزب السوري القومي بكيليكيا ولكنه لا يحول، مع ذلك، دون بقاء هذا الحزب طليعة المندّدين بسايكس بيكو! في كلّ حال، لم يثبت شيءٌ من هذا على الأرض إذ بقيت تلك المنطقة، في نهاية المطاف، ضمن حدود الجمهورية التركية مع حرب الاستقلال التي قادها مصطفى كمال ومع تصحيح معاهدة سيفر (1920) بمعاهدة لوزان (1923).
ولا تَحَقّقَ أيضاً دخول أرمينيا في منطقة النفوذ الروسية، وفقاً للتفاهم المثلّث الذي توصّلت إليه مفاوضات موازية لمخاض الاتّفاق، ومنح روسيا إستانبول نفسها (أو «القسطنطينية»، بالأحرى، إذ كان يفترض أن تستردّ اسمها الأرثوذكسي!). وقد كانت روسيا تريد الاستيلاء على العاصمة العثمانية وعلى محيطها الأوروبي، فضلاً عن مكاسب أخرى. إلى ذلك، كانت قد لُحِظت لإيطاليا منطقة حكمٍ مباشر ومنطقة نفوذ في الجانب الجنوبي الغربي من آسيا الصغرى. أصبح هذا كلّه غير واردٍ: من جهةٍ أولى لأن روسيا البلشفية كانت قد خرجت من الحرب أصلاً ونقضت الاتّفاق في جانبه المتعلّق بها وكشفته للعالم… ومن جهةٍ أخرى، لأن المطامع المتعدّدة الأطراف في الأناضول سرعان ما واجهتها مقاومة تركية ضارية.
ولا نَنْسَ أيضاً ما أعقب نهاية الحرب من ضمٍّ لأقضية من ولاية سوريا العثمانية إلى لبنان وهو ما كان مخالفاً لرسم الحدود في سايكس بيكو ما بين «الدولة العربية» ومنطقة «الحكم الفرنسي المباشر». ولا ننس تعديل الحدود بين لبنان وفلسطين في أواسط العشرينات من القرن الماضي. ولا ننْسَ ما هو أجسم من ذلك بكثير ممّا شهده العقدان اللاحقان: أي منح لواء الإسكندرون لتركيا في سنة 1939 ثم نشوء دولة إسرائيل في فلسطين سنة 1948… هذا كلّه لا يوحي بحصوله نصّ سايكس بيكو ولا خريطته.
بل إنه يجوز القول أن «وعد بلفور» كان فيه نوعٌ من المخالفة لروحية سايكس بيكو. وذاك أن الاتّفاق كان يحدوه، بصدد فلسطين، منطق يستوحي مفهوم «الأرض المقدّسة» المسيحي فيلحظ إشرافاً دوليّاً على هذه الأخيرة ترجمةً لعناية الكنائس المختلفة والدول المتباينة المذاهب. ولكن الاتّفاق يبقى غير غافلٍ عن المواصلات التجارية والعسكرية وحاجة بريطانيا وفرنسا إلى ميناءي حيفا وعكّا وتوزيع الحقوق في السكك الحديدية بين الدولتين… وهذا منطق مختلف برعايته تعدّد الأطراف ذات المصالح في فلسطين عن منطق «الوطن القومي» الذي قال به «الوعد» المعلوم.
أين هي إذن دول سايكس بيكو التي توشك اليوم أن تقسّم أو تزول؟ وأين هي حدود خريطته التي يقال أنها تخرق أو تطمس هنا أو هناك؟ لا وجود لهذه ولا لتلك إلا في إنشاء صحافة الاستعجال وخطابة قومية الغبن المحتاجة، على الدوام، إلى عدوّ لا ينفكّ يتناسل معيداً، في كلّ جيلٍ وحالةٍ، سيرته الأولى. سايكس بيكو هو الخرافة التي تسدّ حاجة المستعجل وتجدّد غضبة المغبون.
قد يقال أن هذا الاتّفاق رمز لتفاهمٍ استعماريّ على اقتسام منطقة المشرق هذه وتوزّع مناطق النفوذ فيها. هذا سبب مقبول لاستذكاره طبعاً، مع الانتباه إلى كونه، في الأصل، وجهاً من تفاهمٍ مثلّث كانت روسيا طرفاً رئيساً فيه قبل الثورة، أي قبل «التصويت بالأرجل» (والعبارة للينين) لصالح الخروج من الحرب. ولكن هذه الأطراف الثلاثة، على وجه التحديد، أي بريطانيا وفرنسا وروسيا، كانت هي الساهرة، من قَبْل سايكس بيكو بعشرات السنين حول سرير «الرجل المريض» العثماني تنتظر أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وقد انضمّ إليها الطرفان الألماني والإيطالي، على الأخصّ، بعد استتباب وحدتيهما القوميتين، ومعهما إمبراطورية النمسا-المجر، بعد نشوئها، في هذا السهر الطويل. وكان البريطانيون قد حموا المريض وعارضوا الإجهاز عليه ردحاً غير قصير من القرن التاسع عشر لتوقّعهم حرباً أوروبية لا تبقي ولا تذر يتنازع أطرافُها أسلابه إذا هو أسلم الروح. وفي العقدين الأخيرين اللذين سبقا الحرب العالمية، دخل الألمان بقوّة في المنافسة على الودّ العثماني وأصبح لهم في الدولة العليّة نفوذ متعدّد الوجوه مهّد لانضمام نظام «جمعية الاتّحاد والترقّي» إلى صفّ إمبراطوريات الوسط الأوروبي في الحرب…
ليس سايكس بيكو إذن سوى محطّة في مسيرة الاقتسام الاستعماري للأسلاب العثمانية، وللعربي منها، على الخصوص. وإذا كانت صراحة إلهامه الاستعماري، من جهة، وإبقاؤه سرّياً، من الجهة الأخرى، يجعلانه وثيق النســــب بما نسمّيه «المؤامرة الاستعمارية»، فإن عصف الأحداث بنصّه وبخريطته وحلولَ صيغٍ أخرى محــلّ الصيغ التي وقع اختياره عليها كافيان للطعن في أهمّيته التاريخية بما هو اتفاق موعودٌ بالتنفيذ. ومهما يكن من أمرٍ، فإن استذكاره بما هو رمزٌ لمطامع مرفوضة شيء والهذيان بــ»دول سايكس بيكو» و»حدود سايكس بيكو» على أنها وقائع قائمة في أيّامنا شيءٌ آخر…
٭ كاتب لبناني

مئوية سايكس بيكو

أحمد بيضون

May 07, 2016

■ اختلّت الثقة في السنوات الأخيرة بصمود وحدة الدولة السورية القائمة، التي زعزعتها تحوّلات الثورة على النظام الأسدي وأودت بها إلى تقاسمٍ متحرّك ما بين هذا النظام وأطراف أخرى، لا يبدو التفاهم بينها محتملاً، لا على اقتسامٍ للبلاد ولا على صيغة مشتركة لحكمها. وكان صمود الوحدة العراقية قد اختلّ كثيراً في العقدين السابقين وتحوّل نظام العراق نحو صيغة فدرالية غير مستقرّة لا يستبعد تطوّرها، بدورها، نحو نوع من التقسيم.
وكانت الحرب اللبنانية قد اجتازت قبل ذلك حقبةً راج فيها شعار التقسيم في جهة من جهتيها ثم عادت الدولة اللبنانية، بعد عقدين انصرما على صيغة الطائف، لتعاني ذواءً وتفتّتاً يتزايدان من سنة إلى سنة… ولا ننسى الإشارة إلى الوحدة المصرية السورية في سنة 1958 ولا إلى القرار الدولي القاضي بتقسيم فلسطين في سنة 1947، وقد استعيد مبدأه في «حلّ الدولتين» الذي يبدو متهالكاً في يومنا هذا. ولا ننْسى، أخيراً لا آخراً، إنشاء دولة إسرائيل في سنة 1948 وما كان من أمرها مع حدود الدول المحيطة بها.
على هذه الخلفية المتشابكة المسارح، يكاد لا يمرّ يومٌ لا يذكر فيه اتّفاق سايكس بيكو في المقالات والخطب، وينسب إليه ما فيه وما ليس فيه، ويزعم له تارة دورُ تأسيسِ الدول القائمة في المشرق ورسمِ حدود لها تعدّ أصلاً للبلاء تارةً ويعلن طوراً أنها تضعضعت من جرّاء الأحداث الجارية أو هي توشك أن تتضعضع.
وفي هذا الشهر الجاري يكون قد مضى قرنٌ بتمامه على توقيع هذا الاتّفاق، وهو قد أصبح أوفر حظوةً عند المعلّقين من «وعد بلفور» الذي حصل بعده بسنة وأشهر، ناهيك بمفاوضات ومعاهداتٍ أخرى هي التي أسّست دول المشرق فعلاً ورسمت حدودها ووزّعت مهامّ الانتداب عليها، وبوقائع من قبيل معركة ميسلون، وما تبعها في سوريا ولبنان، وتنصيب فيصل الأوّل ملكاً على العراق في السنة التالية، ومعه تأسيس إمارة شرق الأردن وتسليمها لأخيه عبد الله، وإبقاء فلسطين منطقة انتدابٍ بلا دولة… ولا تَفُتنا المحطّة التاريخية الكبرى التي هي زوال الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب الكبرى وإلغاء مؤسسة «الخلافة» الإسلامية في سنة 1924… من بين أحداث ونصوص هذا شأنها وخطرها، يصطفي خطباؤنا ومعلّقونا اتّفاقاً كنَسَت نتائج الحرب معظم بنوده، فلم يطبّق قطّ ولا تشبه الحدود التي رسمها حدود الدول القائمة في شيء، ولا هو لحظ هذه الدول القائمة أصلاً… فما قصّته؟
في الشهر نفسه الذي أرسل فيه المفوّض السامي البريطاني في مصر آرثر هنري مكماهون رسالته الأخيرة إلى شريف مكّة حسين بن علي (مارس/آذار 1916) كان يقرّ تفاهم بريطانيّ – فرنسيّ حول مصير سوريا الطبيعيّة وما بين النهرين (العراق).
وكان هذا التفاهم قد تمّ بين مارك سايكس عن بريطانيا وفرنسوا جورج- بيكو عن فرنسا، ثم صدّقه في 15 و16 أيّار/مايو من تلك السنة تبادلُ رسائل بين وزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي وسفير فرنسا في لندن بول كامبون. وكانت روسيا معنيّة بمصير المناطق العثمانية المتاخمة لحدودها فمثـّلها وزير الخارجية سيرغي سازُنوف خلال العام السابق في مفاوضات مثلّثة.
قضى التفاهم بشأن سوريا والعراق بإنشاء دولة عربيّة (أو اتّحاد دول) في سوريا «الداخليّة» التي جعلها مشتملة على شطرٍ من عراق اليوم وأملى تقسيم هذه الدولة إلى منطقتين: «أ» و «ب». وقضى بمنح فرنسا أفضلية في ما ينشأ من مشاريع وما تحتاج إليه الدولة من خبراء وموظّفين في المنطقة «أ» وهي الشماليّة وتشتمل على الموصل وحلب وحماه وحمص ودمشق. وقضى بمنح الأفضليّة نفسها لبريطانيا في المنطقة «ب» وهي الجنوبيّة وتشتمل على كركوك وشرق الأردنّ حتى العقبة.
من جهةٍ أخرى، قضى التفاهم بخضوع الساحل من الإسكندرون إلى صور، وهو المنطقة الزرقاء، لحكم فرنسيّ مباشر. وقضى، على الغرار نفسه، بحكم بريطانيّ مباشر للمنطقة الحمراء وهي ولايتا بغداد والبصرة. وجُعلت فلسطين أخيرا منطقة رصاصية تخضع لإدارة دوليّة يتفق عليها الحلفاء والشريف حسين.
كان هذا الاتّفاق مخالفاً لموقف الشريف حسين المتحفّظ عن إدخال فرنسا في المسألة السوريّة أصلا. وكان الاتّفاق يؤوّل الترتيبات الخاصّة بمصالح بريطانيا في ولايتي البصرة وبغداد (وهي ما وافق عليه الشريف) على أنها حكم بريطانيّ مباشر للولايتين. وكان يفرض لفلسطين مصيراً لم يكن قد ذكر أصلاً في مراسلات الحسين – مكماهون…
لم يطبّق اتّفاق سايكس- بيكو الذي بقي سريّاً إلى أن كشفه ليون تروتسكي مفوّض الخارجيّة في حكومة البلاشفة، بُعَيد الثورة البلشفية، في خريف 1917، وانسحاب روسيا من الحرب. ولكن ما طبّق قد يصحّ اعتباره أبعد من الاتّفاق الذي بقي مدّةً من الزمن يعتبر، على نحوٍ ما، قاعدة انطلاق لما تلاه من صيغ تفاهم جديدة بين بريطانيا وفرنسا. ما حصل فعلاً كان إخضاع سوريا ولبنان بتمامهما للانتداب الفرنسيّ وإلغاء التمييز بين منطقتين شرقيّة وغربيّة مع سحق الدولة «الشريفية» في ميسلون ثمّ إنشاء دولة لبنان الكبير. وضمّت ولاية الموصل لاحقاً إلى ولايتي بغداد والبصرة فنشأ من ثلاثتها العراق المعاصر ووضع كلّه تحت الانتداب البريطانيّ. وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطانيّ أيضاً من غير منحها وضع الدولة.
وكان وعْدُ وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور للّورد ليونيل والتر روتشيلد (في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917) قد أباح لليهود أن ينشئوا فيها وطناً قوميّاً، وكانوا إذ ذاك نحو 11٪ من سكّانها. وتأسّست في شرق الأردنّ وحده من بين مناطق سوريا الطبيعيّة، إمارة تولاها الأمير عبد الله بن الشريف حسين، بعد أن أخرجها ونستون تشرشل، وزير المستعمرات البريطاني، من دائرة وعد بلفور، في مارس 1921.
وفي حزيران/يونيو من السنة نفسها أصبح فيصل، ملك سوريا في العام السابق، ملكاً على العراق، بعد موافقته على الانتداب البريطانيّ.
ما هي دلالات هذه الفوارق الجسيمة بين نصّ الاتّفاق وما صار إليه الواقع التاريخي؟ وما الصورة الإجمالية التي تفضي إليها المقارنة بين هذا وذاك؟ وما الذي يحفز الميل المفرط إلى استدعاء هذا الاتّفاق كلّما اختلّ ميزانٌ في دولةٍ من دول هذه المنطقة؟ نحاول تلمّساً لأجوبةٍ عن هذه الأسئلة في عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني

نَعْيُ الذات والنقدُ الزيتي

Source: نَعْيُ الذات والنقدُ الزيتي

فيما يتعدّى عواقبها البيئية والصحّية (وهي فادحة)، وجّهت أزْمةُ النفايات التي استحكمت في صيف العام الماضي ولا تزال تجرّ ذيولها إلى الآن ضربة شديدة إلى معنويّات اللبنانيين. فتحت هذه الأزمة في الأنا الجماعية اللبنانية جرحاً نرجسيّاً فاغراً وزلزلت صورة اللبنانيين الغالبة على مخيّلتهم عن مجتمعهم وبلادهم. وهي قد تجاوزت لهذه الجهة أزماتٍ أخرى سبقتها ثم رافقتها من قبيل أزمة الطاقة والأزمة المتفاقمة التي تأسّست على وقع اللجوء السوري ناهيك بتخبّط المؤسّسات الدستورية في شلل متباين الدرجات، متنوّع الصيغ، وهو متّصل بالحرب السورية أيضاً وبدخول حزب الله المسلّح في هذه الحرب وما انطوى عليه هذا الدخول من استفزاز لقطاعات عريضة من طوائف كبيرة ولهيئات سياسية ترى في هذه الحرب رأياً آخر ولها من النظام الأسدي موقفٌ آخر… إلخ. ولا نذكر الآن ما هو أبعد عهداً: من بطالة مستشرية وهجرة متعثّرة ومن تضخّم باتَ خرافيّاً بالقياس إلى دخولٍ لا تتبع حركته ومن انحطاط في نظام التعليم وتجميد لحركة السياحة، إلخ…
تجاوزت أزمة النفايات، في وقعها المعنوي، هذا كلّه على فداحته وشدّة وقعه. والسبب، على الأرجح، رمزيّة النفايات والنفور الذي يستثيره مثولها بمناظرها وروائحها، حيث يجب ألاّ تكون من العاصمة خصوصاً ومن محيطها. وذاك أن هذا المثول للنفايات يُشعر بنوعٍ من العجز الأقصى ومن انعدام الحيلة يشبه، في حالة الفرد المريض أو الموغل في الشيخوخة، عجز الإنسان عن ضبط فضلاته الطبيعية وعن تدبّر الخلاص منها، وبقاؤها، عوض ذلك، في ثيابه لصيقةً بجسمه. ذاك هو الشعور الساحق الذي استولى على المجتمع اللبناني وهو يعاين عجز السلطة العامّة، بسبب ما سبق من تشظّيها وفسادها المديدين، عن أداء مهمّةٍ مغرقة في أوّليتها وبديهيتها ولكنها موضوع لحاجةٍ جدّ ماسّة هي الحاجة إلى تدبّر ما ينتجه هذا المجتمع من نفاياتٍ كلّ يوم.
ولا ريب أن هذه الصفة الخاصّة لأزمة النفايات هي ما منح الحراك الشعبي الذي انطلق منها قوّة واتساعاً استثنائيين، لجهة الحشد والتعاطف العامّ، فتجاوز ما كان مأمولاً في مناخ الاستقطاب السياسي ذي الصفة الطائفية ووضع على محكّ رفضٍ شعبيّ يتعذّر تجاهله جملة القوى الضالعة في ذاك الاستقطاب. وقد ردّ هذا الحراك إلى اللبنانيين، طالما لبث صامداً، ثقة عامّة بالنفس بعثها الاعتزاز بطاقة الاحتجاج الشعبي: الشبابي على الأخص. ولكن الحراك الذي واجهه قمعٌ أطلقه وحدّ منه في آن ذعر السلطة المتهالكة، شهد صعوداً وهبوطاً معتادين لمثله وتكاثراً للجهات المؤطّرة معتاداً أيضاً. هذا التكاثر أورث تنافساً ثم تورّطاً سوّغه التنافس والرغبة في توكيد التميّز والأسبقية ومعهما الحيرة أمام السؤال المتعلّق بما يجب أن يلي في مسالك وخطوات سيئة العاقبة. ولم يلبث سوء العاقبة هذا أن تجسّم في واقعة فرضت نفسها بغتةً على الحراك برمّته: وهي أن مواصلته بصيغته الرئيسة، وهي صيغة التظاهر الدالّة على صفته الشعبية، قد أصبحت متعذّرة… وهذا على الرغم من الشعور الواسع بقصور الخطّة التي وضعتها الحكومة لتدارك كارثة النفايات. وكانت الكارثة قد ازدادت فداحة في الخريف عمّا كانته في الصيف.
واقعة تعطّل الحراك هذه لم تزدها بعض الطفرات اللاحقة التي اجتهدت في إنعاشه إلاّ وضوحاً. فكان منها أن أعادت فتح الجرح النرجسي الذي كان الحراك نفسه قد باشر لأْمَه. وقد كان منتظراً أن يلقى الحراك من الذين واكبوا تفاصيله وكانوا منه في مواقع تتيح الرصد والمتابعة الحسّيين عناية بعيدة عن عصبية «الحملة» وشخصنة «القيادة» باستخلاص صورته وديناميته بما في ذلك قواه وأطواره ودواعي تعطّله. هذه العناية لا يمكن القول إنّ المطالبين بها قد بذلوها. والحراك مستحقّ هذه العناية النقدية لمكانته المميّزة بما هو مرقبٌ متحرّك لتشكّل قوى جديدة تستشعر اختناق المجتمع بسياسات طوائفه ولتلمّس موائل هذه القوى وآفاق نموّها وتضامنها ولتلمّس حدودها أيضاً وما تواجهه من مقاومة مختلفة المصادر والأشكال. كان من شأن هذه العناية أيضاً أن تحدث ما يحدثه الفهم والاستيعاب من تصريف لمشاعر الخيبة بما هي انفعال عقيم، بل مدمّر وتحويلٍ لها إلى اعتراضٍ يستبقي الانفعال ولكنه يدرجه في تصوّر عملي…
وأمّا ما هو منتشر اليوم فعلاً فهو غلبة الميل إلى اليأس ونفض اليد وما يواكب ذلك من تمتمة عدمية فاقعة البدائية والتهافت. فأهونُ ما نسمعه (بل ما نقوله أيضاً بين حينٍ وآخر) أن النظام السياسي متداعٍ، فضلاً عن اعتلاله الأصلي يوم كان في حال التماسك، وأن المجتمع نفسه خَرِبٌ باتت تَستبعد تكاوينُه المريضة بالتبعية والفساد أيّ تماسك فيه على مصالح البلاد العمومية… وأن الوضع في المحيط موصدُ الأفق أو منذرٌ بويلات لبنانية لا تنتظر إلا من يطلقها… وأن البلاد نفسها بما هي وحدةٌ سياسية قد تكون تقترب من نهاية شوطها التاريخي…
يجب الاعتراف بأن طوفان التشاؤم هذا ناجمٌ من طوفان شؤمٍ فعلي. فلا دليل على أن في الشعور العامّ بالحالة العامّة ميلاً إلى المبالغة في تقدير سوئها… لا دليل على أن هذا الميل إلى نعي الذات لا موضوع له. ولكن لا دليل أيضاً على أن اللبنانيين، ما داموا هم أصحاب الشأن، لا يسعهم فعل شيء للإمساك بهذا أو بذاك من مقاليد مصيرهم الكثيرة. ومن زوايا مغايرة لزاوية النظام السياسي ولأجهزة الطوائف السياسية، يبدو المجتمع اللبناني مزدحماً بقوىً حيّة لا يني يصدّر بعضاً من أفضل أفواجها. على الأخصّ، يبدو عالم الثقافة زاخراً بالجديد: بالسينما وبالمسرح الشابين إجمالاً وبمعارض وإصدارات شتى وبنشاط غامر للمنابر ولمراكز الأبحاث وبمنشآت للتعليم العالي لا تني تتكاثر. حتى الصحافة التي يقال إنّها تختنق شهدت وتشهد نشوء مواقع كثيرة على الشبكة تعادل أو تفوق حجماً ما هو مهدّد بالزوال من جرائد ورقية يرجّح أن تستبقي هي الأخرى مواقع لها على الشبكة. لا جرم أن في هذا كلّه ما هو غثّ وما هو سمين: أن التعليم العالي يتهاوى مستواه – وهذا مثلٌ – فيما تتكاثر منشآته… وأن في الإصدارات وفي الندوات ما لا يقدّم ولا يؤخّر، إلخ. غير أننا، مع ذلك، لا ننفكّ نكتشف أو نواكب مبدعين يتكاثرون أيضاً في كلّ مجال ومنشآتٍ يدافع عنها مستوى خرّيجيها أو نوعيّة منتجاتها… ليس لهذا كلّه شأن مباشر بما يواجهه لبنان من أزمة عامّة متشعّبة. ولكن هذا كلّه يثمر قوىً يعوّل عليها في العمل العامّ إذا استطاعت نفاذاً إليه. وهي تقع هنا وهناك أو بين حين وآخر على منافذ جزئية. تعطّل الحراك الشعبي أمس. حلّت معركة الانتخابات البلدية اليوم، وهي فرصةٌ أخرى مختلفة لاستنفار القوى ولتعارفها.
يبقى أن تجاربنا تبدَّد، على نحوٍ ما، حين لا تخضع للمراجعة النقدية التي تستحقّ. تبقى جثثها في دواخلنا تستحثّ النعي الذاتي. والنعي الذاتيّ مزدهرٌ اليوم ولا يلجم الميلَ إليه نقدٌ ذاتيّ متوجّب. عوض النقد الذاتي يوجَدُ شيءٌ يَسَعُنا أن نُسَمّيه «النقد الزَيْتي»… ومُؤَدّاه أن ناقدَ ذاتِه يَرُوحُ يَزْلَق فوقَ الوقائع من واقعةٍ إلى أخرى معتبراً كَسْرَ عُنُقِه هنا أو هناك أقَلَّ خَطَراً من الصراحة.
مارسنا «النقد الزيتيّ» بصدد الحرب اللبنانية، قبل الحراك الأخير بزمن طويل. هذا حديثٌ آخر قد أعود إليه في فرصةٍ تسنح.

كاتب لبناني

لبنان: الدولة الضحلة

Source: لبنان: الدولة الضحلة

تفيد مصادر متقاطعة بأن مصطلح «الدولة العميقة» ولد في تركيا. وكان يراد به في الربع الأخير من القرن العشرين أرخبيلٌ من مواقع النفوذ غير المرئية، تتوزّع بين أجهزة المخابرات وقيادات الجيش وبيروقراطية الدولة، إلخ. وتُملي على القوى السياسية ومن ثمّ على المؤسّسات الدستورية مواقفها من مسائل حيوية مطروحة على الدولة.
معنى هذا أن «الــدولة العميقة» التي يسعى أطرافها إلى أن يكونوا متنازعين أو مؤتلفين في ما بينهم، تبعاً للظرف أو للمسألة المطروحة، إنما هي كتلةٌ ذات سلطان كابحةٌ لعمل النظام الديمقراطي. فأطرافها قادرة على إملاء إرادتها من وراء ظهر الرأي العام وعلى تزييف المناظرة العمــــومية الـــتي يفـــترض أن تتداول المسائل المطروحة تداولاً علنياً وأن توجّه قــــرار السلطات المختصّة بصدد كلّ منها.
فإن كانت هذه هي «الدولة العميقة» أصبح لزاماً علينا أن نعتبر ما يقابلها في لبنان «دولةً ضحلة». صحيحٌ أن الأجهزة التي يفترض أن تستوي مراكز عسكريةً أو مدنيةً لنفوذ «الدولة المذكورة»، ماثلة كلّها في الساحة العامّة أو في كواليسها، بل هي قد تبدو عندنا أكثر عدداً وتشعّباً ممّا ينبغي، وهي قد بدت، في الستينيات من القرن الماضي، أجهزةً ذات عصبية، مستقلّةً شيئاً ما عن «المجتمع السياسي» المعروف في البلاد، بل مؤثّرة بشدّة في تكوينه وفي موازين القوّة المرعية بين أطرافه، ولكن هذه الحال تغيّرت في الحرب اللبنانية، خصوصاً، وبعدها.
ذاك أن سنّة استتباع «مراكز القوى» أو «مواقع النفوذ» من هيئاتٍ عسكرية وأجهزةٍ مختلفة وإدارات ذات تأثير بعد تقاسمها من جانب القيادات الطائفية الظاهرة سنّةٌ عرفت قدراً مرموقاً من التعميم في سنوات الحرب، ثمّ جرى «تنظيمها» بعد ذلك. فأصبح يعتبر «طبيعيّاً» أن تحتسب مديرية الأمن العامّ لطائفة وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي لأخرى ومديرية المخابرات في الجيش لثالثة، وأن يتعذّر التفاهم، عند المفترق، على الميزانية المناسبة وعلى الصلاحيات المقرّرة لرأس مديرية أمن الدولة، فتنبري طائفة المدير العام للدفاع عن «حقوق» الجهاز ورأسه باعتبارهما نصيبها وخاصّتها. إلخ. وإذا كان كلّ من هذه الأجهزة، وهي ذات وظائف متقاطعة، يستمرّ، بمسلكه الظاهر إجمالاً، في تقديم البراهين، كلّما لاحت له فرصة، على عنايته بمصالح البلاد العامّة ومصالح المواطنين بلا تمييز، فإن ذلك لا يمنع من تعرّض كلّ منها لحملاتٍ دؤوبة من جانب القوى السياسية غير المجانسة لانتماء واجهتها الطائفي.
وفي ما وراء الحملات، تتغلغل خشية شبه خرساء من أن تفضي شدّة الاستقطاب الطائفي التي لا تزال تتنامى في البلاد إلى توظيف كلّ من أجهزة الدولة هذه في مواجهة الآخر وإلى حمله على محاباة مواطنين والتنكيل بآخرين بحسب انتمائهم الطائفي. وهو ما يضبطه، إلى حدّ ما، إمكان تشظّي الجهاز إذا زاد انحيازه الطائفي عن حدّه. ولكن هذه ضمانةٌ أبرزت سنوات الحرب الماضية حدود صمودها…
في كلّ حال، تسهم التبعية الطائفية لهذه الأجهزة وما يتبع ذلك من استحلال الحملة عليها أو استسهالها (وهذا نوعٌ من الحملات يضلع فيه رسميّون ويحظى بتيسيرٍ وحمايةٍ طائفيين أيضاً) في الحكم بالضحالة على ما يفترض أنه الدولة العميقة في لبنان. فعند اللزوم، تخرج إلى العلن أخبار ما يجري طبخه في كلّ جهاز ويعرض على الملأ ما قد يكون حاصلاً فيه من تجاذب ترعاه القيادات السياسية للطوائف. ولا يقتصر هذا الاحتمال على الأجهزة الأمنية أو العسكرية. فإن وزارات للخدمات المدنية (الطاقة، الاتّصالات) شهدت صراعاً بين أركانها أفضى إلى تعطيل مشروعات أو تعطيل صفقات.
ما الذي يعنيه هذا التهالك الذي تتّسم به «الدولة العميقة» في لبنان؟ ما الذي تعنيه ضحالة مياهها وانكشافها للرعاة وللخصوم من ساسة القوى الطائفية ولعموم اللبنانيين بين حينٍ وآخر؟ يعني ذلك أنها غير متمكنة – ولو شاءت – من الانقلاب على رعاةٍ تحتمي بهم. ذاك أمرٌ معلوم وهو ما يشار إليه حين يقال إن الانقلاب العسكري في لبنان كان ولا يزال أمراً مستبعداً. ذاك استبعادٌ حسنٌ بطبيعة الحال. ولكنّ له ثمناً باهظاً في الحالة اللبنانية. وهو أن عمومية السلطة العامّة موضوع لشبهةٍ عنيدة. تسطع هذه الشبهة أو تخفت تبعاً للظرف وللموقع. ولكن استحالتها إلى واقع صريح يبقى يلوح في أفق غير بعيد هو أفق النزاع الأهلي. ولا نحتاج إلى القول إن ضمور العمومية المفترضة للسلطة العامّة، مجسّدةً بأذرعها المختلفة، هو نفسه ضمور دولة القانون أو تخرّق نسيجها. فبحسب الحالات والمواقع، يخشى اللبناني الغبن من جهة القانون أو يعوّل على المحاباة، ولا يكون له، في الكثرة الكاثرة من الحالات، أن يعوّل على إنفاذٍ تلقائي لمبدأ المساواة أمام القانون، على أن أظهرَ ما في الحالة اللبنانية أن الفساد السياسي وحده يبقى ممتّعاً بإجماعٍ طائفي يبعده عن طائلة القانون. لا يحتسب التمويل الأجنبيّ للأحزاب وللجمعيّات ولوسائل الإعلام اللبنانية (وهو معروضٌ على رؤوس الأشهاد) فساداً أصلاً. فلا يستوي موضوعاً لإخبارٍ ولا تلقي عليه نظرةً أيّ نيابة عامّة. ويتداول اللبنانيون في ما بينهم أخبار سطو المسؤولين على مشاريع خاصّة يفرضون لأنفسهم نسباً من ملكيتها لقاء تسهيلاتٍ يتيحها نفوذهم أو يعمدون، في حال التمنّع، إلى قطع السبل دون تنفيذها. ويتداول اللبنانيون، بعد ذلك، أرقاماً فلكية تشي بتطوّر الثروات الشخصية لأهل السلطة. وتنفجر، بين حينٍ وآخر، فضيحةٌ من قبيل فضيحة معالجة النفايات، في السنة الماضية، أو فضائح وزارة الطاقة المتناسلة قبلها. ولكن «دولة القانون» تظهر هنا حامية لفساد ظهرت عواقبه الفادحة وبقيت رازحةً على البشر. فتنذر هذه «الدولة» بملاحقة من يجرؤ على التسمية بالاسم وتبقى مستنكفةً، من جهتها، عن المبادرة إلى الكشف والمحاسبة.
هذه الحماية، بما فيها حماية القانون، للفساد يتعذّر تفسيرها بغير إجماع القوى الطائفية على ترك باب المحاسبة مغلقاً والمضيّ قُدُماً في تقاسم الثمرات خلف الباب المغلق. وهو ما يدقّ إسفيناً آخر في نعش الحقّ ودولته ويُظهر، من بابٍ آخر، أن ضحالة الدولة وانكشاف قيعانها ليست، بأيّ حالٍ، داعياً إلى تنظيف القيعان. وهذا بعد أن ظهر أن الأجهزة التي يفترض فيها إجراء عمومية السلطة تتوزّعها جهاتٌ سياسية طائفية بينها – أو بين ما بينها – تهمٌ متعلّقة بجرائم اغتيالٍ كبرى أنشئت لها محكمةٌ دولية خاصّة.

٭ كاتب لبناني