سورية ولبنان: مفاعيلُ الانفصال

أحمد بيضون

Sep 08, 2016

لعل «التردد» أو «امتناع القطع» أو «اللايقين» هي الألفاظ الدالّة، مجتمعة أو منفردة، على ما تراه اليزابيث بيكار، في الكتاب الذي كرّسَته للعلاقة السورية اللبنانية، سمةً عامة لهذه الأخيرة بما هي مسارٌ تواصَل منذ انهيار الدولة العثمانية وأيلولة البلادين معاً، بعد مرحلةٍ من السعي المحموم هنا والمقاومة هناك، إلى حجر الانتداب الفرنسي.
فقد ظلّ التوق إلى وحدة بلاد الشام وإلى تحصيل نوع من الاستقلال لها من جهة، والسعي إلى نوع من الانفصال اللبناني من الجهة الأخرى، يتجاذبان مواقف الجماعات في الردح الأخير من القرن التاسع عشر، وفي العقدين الأوّلين من القرن العشرين، أي في مرحلةٍ شهدت أيضاً «اختراع الأمة العربية» على أيدي مثقفين وسياسيين وتشابك هذا المنطلق مع الخيارين الآخرين على نحو أدخل على الساحة نسبة مضافة من اللبس والتردد، فبدا القرار الفرنسي الذي باشر رسم الخرائط الجديدة، بعد ميسلون، ترجيحاً لوجهةٍ على أخرى: ترجيحاً كان التنبّؤ به قد ظلّ إلى عهدٍ غير بعيد مطبوعاً بالمجازفة.
لم يكن القرار الفرنسي، حين اتُّخذ، يعوزه المؤيّدون بين كتل الأهالي. وهو ما كانت أشارت إلى شيء منه (وإلى شيء من خلافه أيضاً) بعثة كينغ كرين الأمريكية في سنة 1919. ولكن القرار، أيّ قرار، لم يكن له أن يفرض على التاريخ الجديد وجهة وحيدة متخلصة من ميراث العهد السابق ومن وَقْع ما كان محمولاً عليه من بنىً ونوازع وحدةٍ وانقسام. يحمل هذا الحدّ المرسوم لفاعلية القرار الذي اتّخذته قوّةٌ أجنبية محتلّة مؤلّفةَ الكتاب على استدعاء تصوّر «العثمانية». وهي توضح أن ما تريده بـ»العثمانية» مفهومها الأنثروبولوجي لا مفهومها التاريخي ولا مفهومها الأيدلوجي، أي أن عثمانيّتها ليست استعادة لمساقٍ طويل المدّة، متقلّب الوجوه والمفاعيل، ولا هي دعوة ذات عبارة سياسية، وإنما هي جملة أعراف تنتظم علاقات التضامن والتنازع في مجتمعات تؤلّف العشيرة والعائلة والطائفة وحداتها الرئيسة وتمثّل العصبية «صَرْفها ونحوها» الإجماليان.
لم تجهل الدولتان الناشئتان أهمّية العصبيّات. ولكن الصورة المستخلصة من جملة تاريخهما المعاصر تفيد بأن الدولة اللبنانية اعتمدت العصبيات قاعدة صريحة، وإن لبثت موضوع شكوى، لنظامها فيما نَحَت الدولة السورية نحو الجمع ما بين إنكارها، في المبدأ، وتسخيرها، في الواقع، لحماية السلطة القائمة. ههنا تنبّه بيكار إلى بُعد هذا التشخيص عن المنزع الثقافوي الذي يعوّل على فاعلية ثابتة لما يسمّيه «البنى التقليدية». فتشدّد على أن هذه البنى إنما تفعل بتوسّط التمثّلات المتغيرة التي تتّخذها مرجعاً. وهي قد بقيت ذات امتياز فعليّ، من هذا الباب، يعاد النظر في دلالاتها وأدوارها ولكنها تفلح في استيعاب المصالح الاقتصادية والمطامح الفردية، مثلاً، حائلة بينها وبين الاستقلال والاستقرار.
وإذا كانت الطائفة هي التي بدت متصدّرة بين الجماعات العصبية حين طرح موضوع النظام السياسي في نطاق الدولة، فإنها بدت أيضاً في وضع منافسة وخلخلة لهذا النظام. هي من جهة سور حماية للأفراد المنتمين إليها، وخصوصاً للفئات الدنيا منهم، وهي بابُ تراكُمٍ للسلك المذهبي وللأعيان، على اختلاف المنابت الفئوية، حيث يفلح هؤلاء في فرض توسّطهم ما بين الطائفة والدولة. ولكن الطائفة، حيث تتخذ قيافة «الجماعة المتراصّة»، على الخصوص، تميل بأتباعها إلى تجاهل الحدود بين الدولتين. وإنما يحدّ من هذا الميل أو يطوّعه، في الحالة التي نعرض لها، وجود استقطاب طائفي أيضاً ما بين الساحل والداخل منح لبنان، في معظم تاريخه المعاصر، مُسْكة مسيحية واجهت المسكة الإسلامية الغالبة على سورية. بل إن التضامن الطائفي نفسه يمكن أن يتراخى – في ما ترى بيكار – بفعل تباين المواقع التي تتوزّع كتل الطائفة في الجغرافيا الإقليمية وتنابذ الزعامات في كلّ طائفة.
في المساق نفسه، لا بدّ من الالتفات إلى عصبية العشيرة أيضاً. وهو ما يملي ملاحظة التآكل الذي أصاب البداوة الشامية في قرن من الزمان بأثر من الحدود السياسية الجديدة ومن تقدّم النقل الذي أتاح جلب العلف إلى الماشية عوض الرحيل بها إليه. على أن ما بقي يخبو وينبعث من عصبية العشيرة زكّى مقاومة بعيدة الغور لسلطة القانون الحديث وبيرقراطية الدولة أساسها اعتياد سلطة الشيخ والعرف. وهو ما تَمثّل في إباء التشكّلات العصبية أن تعتمد في تحرّكاتها المنطق الطبقي أو المصلحة القطاعية وأن تتقبّل إرساء التراتب في مؤسّسات الدولة والمجتمع على مبدأ الكفاءة الذي تعتمده البيرقراطية الحديثة.
مع هذا تبقى إليزابيت بيكار بعيدة عن الاستهانة بالقطع الذي مثّله إنشاء الدولتين. هي ترى أن نظام الدولة الجديد هذا لم يبطل القديم بمثلّثه العصبي. تداخل النظامان وبقي تنافرهما دون عتبة التنافي، إذ لم يكن لهما أن يتنافيا. وقد أورثت هذه الحال نوعاً من اللايقين ذكرناه بقي مخالطاً صفات الدولة حين يدور الحديث على سورية ولبنان، بعد قرن تقريباً مضى على تقسيم الدولة العثمانية. ومع أن العصبيات أعادت تأويل نفسها في ضوء نظام الدولة الجديدة، فإن موقف هذه الأخيرة منها بقي غير مستقرّ. مثلاً، ظلّت الدولـــة تترجّح بين الاعتراف بهذه العصبية أو تلك وبين منازعتها تمثيل المنتمين إليها.. لداعٍ قد يكون أيدلوجيّاً وقد يتعلّق بتقدير كلفة الاعتراف.
من الجهة اللبنانية تتابعت، من غير أن تنسخ كلّ منها الأخريين، ثلاث روايات لتاريخ البلاد كان لكلّ منها وقع خاصّ بها على تمثّل العلاقة اللبنانية السورية. فإن تصوّر «الوطن المسيحي في الشرق الإسلامي» كان يرسم موقعاً من سورية غير ذاك الذي رسمه التوازن الميثاقي اللاحق بين التطلّعات المتعارضة للجماعتين المسيحية والإسلامية. وكان تصوّر النظام التعدّدي القائم على الطائفية السياسية (وهو الأخير) يفتح بدوره منافذ أخرى مغايرة للتفاعل وللتغالب بين النظامين.
ومن الجهة السورية، تواكب في العقود الأخيرة حماسٌ سوري لاجتثاث الطائفية في لبنان ودأبٌ سوريّ أيضاً لتطييف ممارسة السلطة في سورية. وكان مسار العلاقة اللبنانية السورية في أثناء حرب لبنان وفي غدواتها دليلاً على تقصير الميثاق اللبناني عن احتواء تحرّكاتٍ وهويّات بدا لها من التعقيد ما لا تتسع له الثنائية المسيحية الإسلامية. فكان أن تمخّضت التعدّدية الطائفية عن تهميش للرابط الوطني الوليد لمصلحة رابط عمودي يشدّ كلّاً من الكتل الطائفية إلى سيّد وحيد هو النظام السوري. في نطاق أعمّ، كان الخطاب الوحدوي العربي – بين ما كان – تشريعاً للتدخّل السوري في لبنان. وفي ما يتعدّى الفشل الذي لازم تجارب الوحدة العــربية، بقيت وحدة بلاد الشام أفقاً يتطلّع إليه أصحاب السلطة في دمشق ويسهم في رســم إستراتيجيتهم وإملاء ممارستهم السياسية.
تلك هي اللوحة التي اندرج فيها سعي حافظ الأسد، ابتداء من سنة 1970، من جهة أولى إلى تكوين شبكات علوية يسعه التعويل عليها لحماية سلطته وإلى تمكين مواقع لأقاربه وأتباعه تتيح لهم تحكّماً في قطاعات نامية من الاقتصاد السوري، ومن جهةٍ أخرى إلى الاستحواذ على ما بات يسمّى «الورقتين» اللبنانية والفلسطينية. وإذا كان الاحتلال المباشر هو ما أمّن لدمشق سيطرة حاسمة على لبنان إذ جعل معظم مناطقه ومرافقه في متناول قوّاتها وأجهزتها، فإن الولوج إلى دواخل المجتمع اللبناني لم يحصل إلا بتوسط «نُخَب» لبنانية من وسط الأعمال خصوصاً نسّقت أنشطتها مع سلسلة الإمرة العابرة للحدود. وبخلاف ما قد يُظن، ترى إليزابيت بيكار أن هذه المنظومة التي اشتملت على البلادين لم يكن لها مفعولٌ توحيدي هنا أو هناك. لم يمارس حافظ الأسد سلطته على «شعب واحد في دولتين»، بل توسّط التفــتيت الاجتماعي والتنافس بين الشبكات الجزئية فأصبح لبنان وسوريا، في ظلّ هذه السلطة «السلطانية»، قطرين «متشظّيين».
وراء هذا التردّد بين حدّي التوحيد والتجزئة دونما لزوم للحدود الدولية في الحالتين، ترى بيكار نوعاً من الاستمرار لما تسمّيه بالاصطلاح الغرامشي «كتلة تاريخية» اجتازت عهدي الانتداب والاستقلال إلى اليوم بما شهداه من تحوّلات لا تجوز الغفلة عنها. كانت السلطة الانتدابية التي أرست كياني الدولتين الجديدتين، بعد مخاض، قد حفظت الوحدة الاقتصادية بينهما واستبقت في يد أجهزتها صلاحيّات حاسمة في كثير من الحقول. بل إنها استبقت ما سمّته «موازنة عامّة» لسورية ولبنان بجانب الموازنة الخاصّة بكلّ من الدولتين. غير أن هذا كلّه لم يثمر مفاعيل توحيدية إذ بقيت مصالح الدولة المنتدبة، لا مصالح الكتلة المؤلّفة من الدولتين، هي الموجِّهة والمتغلّبة.
وحين سلّمت «الكتلة الوطنية» السورية في سنة 1936 باستقلال لبنان في حدوده القائمة شرطاً فرنسياً لإبرام معاهدة سورية فرنسية تضع حدّاً للانتداب، جاء أركانها إلى لبنان لإقناع شركاء لهم فيه بهذا الخيار. وقد وجد الشركاء المذكورون تعويضاً عن هذه التضحية في المناداة مذ ذاك بـ»عروبة لبنان» بما هي داع إلى استمرار الحضور السوري في صفّهم بين ظهراني دولتهم. وهو ما مثّل لاحقاً، في صعوده وهبوطه، تعبيراً عن وجود تلك الكتلة التاريخية المزاحمة للدولتين والهازئة، بمعنى ما، بسيادتهما. هذا الاستهزاء لم يكن له أن يدوم من غير عقاب. وكان العقاب هو الحرب بما هي مهندس أكبر لم يلبث أن فرض نفسه من لبنان أوّلاً للعلاقة اللبنانية السورية. لأطوار هذه الهندسة الجديدة وتقلّباتها، تكرّس بيكار القسم الثاني من كتابها. وهو ما نعرض له في عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني

أحمد بيضون

سورية ولبنان: حدود الافتراق حدود الوحدة

أحمد بيضون

Aug 31, 2016

أبيح لنفسي القول أن العلاقات السورية اللبنانية حظيت أخيراً بالكتاب الذي يكافئ أهمّيتها في مصائر الشعبين وغناها بدروس لا يستغنى عنها لفهم التاريخ المعاصر للشرق الأدنى كلّه بل أيضاً لما هو أوسع وأبعد. أشير إلى كتاب أليزابيت بيكار «لبنان وسوريا: الغريبان الحميمان. قرنٌ من التفاعل الاجتماعي السياسي». صدر هذا الكتاب مؤخّراً (بالفرنسية) عن سلسلة «سندباد» في دار «آكت سود» ليحتل مكانه الشرعي بين أعمالٍ كبيرة موضوعة ومترجمة أصبحت تضمّها هذه السلسلة الجسر بين ثقافتين وعالمين. المؤلّفة لا هي سورية إذن ولا هي لبنانية. ولكنها تبذل لقرّائها، في هذا الكتاب، زاد خبرة كسبتها في عقود عدّة من تدريس شؤون المشرق في معاهد العلوم السياسية في فرنسا ومن التأليف في هذه الشؤون والإشراف على البحوث فيها ومن الإقامات المديدة في ديار المشرق وتعرّفها بشراً وعمراناً، اجتماعاً وسياسة، ومن المتابعة المثابرة لما ينشر فيها وعنها.
أقول إن الموضوع حاز أخيراً كتابه المرجع هذا، معوّلاً لا على جودة التأليف وحدها، بسائر نواحيها، بل على افتقادنا الفعلي حتى صدور هذا الكتاب عملاً جامعاً في موضوعه، بالعربية أو بغيرها. يتبدى ذلك من اقتصار ما نتداوله بالعربية على مجاميع وثائقية وعلى أعمال تغطّي هذا الجانب أو ذاك أو هذه المرحلة أو تلك من العلاقات بين البلدين. يثبت ذلك، لا بشهادة البحث الشخصي وحدها، بل أيضاً بشهادة ثَبْت المراجع الضافي الذي ألحقته بيكار بكتابها. فإن هذه اللائحة، وهي ثمرة استقصاءٍ دؤوب، توضح أن معظم المتاح من المراجع إنما يخصّ واحدة من البلدين ويعرّج بحكم الضرورة على الأخرى وأن القليل منه يتخذهما معاً موضوعاً له ولكنه يبقى، على ما سبقت الإشارة إليه، عاكفاً على مرحلة محدودة أو أسيراً لزاوية مختارة أو قانعاً بجمع الوثائق، إلخ.
هذا مع أننا لا نريد القول أن كتاب أليزابيت بيكار يمثّل تاريخاً شاملاً، بمعنى العرض المتصل للوقائع، لهذا القرن الذي يوشك أن يكتمل على نشوء الدولتين المنفصلتين السورية واللبنانية. فإن المؤلفة نفسها تنفي أن يكون هذا مرادها. هي تصدّر كتابها بإشكالٍ عامّ تنسجه من خيوط ثلاثة: السيادة بما لها من تآويل عديدة متعارضة والحدود التي راحت فاعليّتها تذوي بعد الخروج من الحرب الباردة بما حمله من تدفّق متنوّع تعاظمت كثافته عبرها والتقابل ما بين التسليم الاجتماعي الصريح بتحوّلات السيادة وبين تشكّل الدولة بما هو مساق تاريخي متناقض وذو بعد لاشعوري يجد عبارته في التفاعل ما بين المجتمع والطبقة الحاكمة.
يفرض هذا الإشكال المثلّث استعاضة عن التتبع الزمني لوقائع العلاقة السورية اللبنانية باصطفاء مدارات منتشرة لا على المرحلة المنقضية من سنة 1920 إلى اليوم وحسب بل أيضاً على مستويات من الواقع التاريخي تستدعي مقاربات معرفية مختلفة، ولو ان المقاربة السياسية من بينها تبقى غالبة الحضور. ولنا أن نحصي، مع المؤلّفة، هذه المدارات، وهي سبعة واضحة العناوين: التشكّل غير المكتمل لدولتين-أمّتين، جدل المنطق الثقافي والتشكيل السياسي، افتراق المسارين في مضمار الاقتصاد السياسي، البناء الوطني وسيادة الدولتين على محك الرهانات الاستراتيجية في النطاق الإقليمي، فرض الوصاية ومنطق الافتراس في إبّان سيطرة النظام السوري على لبنان، ثورة في لبنان وحركة اعتراض في سوريا في السنوات الأولى من القرن الجديد… والختام سؤالٌ عمّا إذا كانت الحرب الجارية في سوريا قد أحالت الدولتين إلى ميدان قتالٍ واحد…
هذه المدارات لا تُستكشف تباعاً بدورها بل يحضر كلّ منها بنسبةِ ما لحضوره من وجاهة في كلّ من الأقسام الثلاثة الكبرى التي تتوزّع فصول الكتاب. هكذا يتّخذ القسم الأوّل عنواناً له «الانفصال»، ولكنه يدور في الحقيقة على نسبية الانفصال الذي مثّله تأسيس الدول التي كانت كثرة في الحالة السورية واحتاج إفضاؤها إلى الوحدة معظم مدّة الانتداب وكانت واحدة، من البدء، في الحالة اللبنانية ولكن تحصيلها ما يكفي من الإجماع الداخلي اخترق مساقُه مرحلتي الانتداب والاستقلال إلى الحرب الأهلية، في الأقلّ. فالحقّ أن ما يوجّه نظر المؤلّفة إدراكها مثولَ التردّد بين الخيارات عند كلّ محطّة إذ لم يكن الممكن وحيداً حاسم الوحدة، حيث احتاج الأمر إلى قرار، ولا كانت الدوافع مؤتلفة الوجهة… وكانت تترتّب على كلّ خيار تضحيات لا يستهان بها وكانت في كلّ خيار وجوه افتعال تقبل المقارنة بما في غيره.
عليه اقتضى «التمييز» بين البلدين (وهذا عنوان القسم الأخير من الكتاب)، عملية معقّدة جاء الاستقلال، بمعناه الحقوقي، ليجدها غير مكتملة وبقي منها إلى اليوم وجوه غير ناجزة الرسم. هذه العمليّة تكرّس لها المؤلّفة القسم الثاني من كتابها وتسمّيها «المواجهة»، متخيرة لدراستها ثلاثة منعطفات أوّلها نهاية الخمسينيات بما حملته من اختلال في السلم الأهلي في لبنان وثانيها الأحداث التي أفضت إلى حرب السنتين في لبنان أيضاً وإلى دخول القوّات السورية أراضيه وثالثها خروج لبنان من حربه المديدة في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي والتسليم الدولي للنظام السوري بالوصاية عليه. وما يميّز هذه المنعطفات عن مراحل أخرى من العلاقة اللبنانية السورية، في نظر المؤلّفة، إنما هو نوع التأطير الذي فرض نفسه على النزاع الموضعي من جانب تحوّلٍ إقليمي دولي كانت له مسارح رئيسية أخرى. وقد أشرنا توّاً إلى أن القسم الأوّل من الكتاب، وعنوانه «الانفصال»، مداره تأسيس الدولتين (أو الدول، بالأحرى، لأن سوريا، على ما سبقت الإشارة إليه أيضاً، لم تصبح دولة واحدة على الفور في مرحلة الانتداب) وما افترضه هذا التأسيس من كسر للتواصل «العثماني» ومن ثمّ الديناميّات التي أوصلت الانفصال، في غدوات الاستقلال، إلى تصفية ما كان يسمّى «المصالح المشتركة» وإبطال الوحدة الاقتصادية التي كانت السلطة المنتدبة قد استَبْقَتها بين الدولتين. حصل هذا في إثر تطوّر متغاير بين البلادين لتوظيف «صيغ التضامن الأوّلية» أو العصبيات في بنى الدولة والمجتمع، على اختلافها.
وعلى عزوف المؤلّفة عن اعتماد التعاقب الزمني مرشداً لتعاقب أقسام الكتاب وفصوله، فإن هذا التصميم يبقى واضحاً تبسطه مقدّمة الكتاب وتعود إليه المؤلّفة في كلّ فصل بدوره معيّنة موقع الفصل من العمل كلّه وموجزة تصميمه الخاص. وهذا من غير أن تهمل الإشارة إلى تغيّر الإطار المرجعي أو الانتساب العلمي الأبرز من فصلٍ إلى فصلٍ ولا إلى تضافر المقاربات المختلفة الانتماء في الفصل الواحد، منوّهة، عند كلّ محطّة، بمصادر وحيها النظري.
هذا التنظيم يسهّل علينا الإلمام تباعاً بما تبذله لنا أقسام الكتاب الثلاثة من إضاءة لوجوه العلاقة السورية اللبنانية وتحوّلاتها. وهو ما سنحاوله في عجالات مقبلة نجهد فيها لأداء بعضٍ ممّا لهذا العمل الجليل من حقّ علينا… غيرَ مدّخرين، مع ذلك، ما قد يعرض لنا من ملاحظات، إيجابيةً كانت أم سلبيةً، حيث تعرض.

٭ كاتب لبناني

لبنان: نقدُ الحرب واستبقاءُ خطّ التماسّ

أحمد بيضون

Aug 24, 2016

صرّح لبنانيون كثيرون، في العقود الأخيرة، أن التسليمَ بانتشار المنظَّمات الفلسطينية المسلّحة على الأراضي اللبنانية، ابتداءً من أواخر ستّينات القرن الفائت، وبمباشرتها «الكفاحَ المسلّح» عبْرَ حدود لبنان الجنوبية كان سبباً رئيسياً لنشوب الحرب المدمّرة في البلاد، ابتداءً من سنة 1975، ولما تخلّلها من احتلالٍ واجتياحٍ إسرائيليين ما يزال لبنان ينوء بتَبِعاتِهما المختلفة إلى اليوم. بعضُ قائلي هذا القول كانوا قد أيَّدوا، في الحرب وقبْلَها، ما يرَوْنه اليومَ ضلالاً مَهولَ الضرر. وهم، بالتالي، يَرَوْن في ما يقولونه اليوم نوعاً من النقد الذاتي يُفترض أن الانتماء الإسلامي يغلب عليه وإن يكن لا يستغرقه…
في الجهة المقابلة من الحرب، يقول بعضٌ آخر (ضئيل العدد والنفوذ، في تقديري) أن التفريطَ بالسلْم الأهلي وبالوحدة الوطنية، في تلك الآونة، للحفاظ على أرجحيّةٍ طائفية كان يهدّدها الإصلاحُ السياسي، إنَّما كان ضلالاً مُبِيناً أيضاً قابَلَ الضلالَ الآخر ليُفْضِيا معاً إلى الحرب الكارثةِ وإلى ما تلاها من كوارث. هؤلاء أيضاً يُنْزلون قولَهم هذا في خانة النقد الذاتي إذ هو لم يكن قولَهم قَبْلَ الحرب ولا في خلالها. ويفترض أن الانتماء المسيحي يغلب على مزاولي هذا النقد وإن يكن لا يستغرقهم.
ولكن هذا النقد الذي يخطّئُ الموقف الإجمالي لمعسكر أصحابه، في الحرب وفي عشاياها، لا يصلُ أبداً، في أيّةٍ من الجهتين، إلى تبرئة المعسكرِ الخصمِ ولا إلى التخفيف من جُرْمِه في الأقلّ. لا يجتاز النقد ما كان يسمّى «خطّ التماسّ»، فتبقى كلُّ جهةٍ مصمّمةً على أن الجهةَ المقابلة كانت جهةَ خونةٍ عملاء! المعسكر الذي أصبح، مع الوقت، إسلامي العنوان (وكان يضيف إلى نفسه الصفتين الوطنية والتقدمية في سنيّه الأولى) يُفترض أنه نقّل عمالته ما بين المنظمات الفلسطينية وأنظمةٍ عربية مختلفة في مقدّمها النظام السوري… والمعسكر الذي لازمه العنوان المسيحي (وكان يوصف بالمحافظ أحياناً) نقّل عمالته ما بين إسرائيل والنظام السوري أيضاً، في مرحلةٍ أولى، وانتهى جناح رئيسي منه، في آخر مطافه، إلى استدرار الدعم من نظام البعث العراقي في وجه نظام البعث السوري.
وعلى الرغم من التعقيد الظاهر في شبكة العلاقات التي نسجها كلّ من المعسكرين أو فُرضت عليه وعلى الرغم من التحوّلات المتناقضة التي شهدتها كلّ من الشبكتين… على الرغم أيضاً من التمزّقات الصارخة العنف التي عاناها كلّ من المعسكرين وطبعت، على الخصوص، النصف الثاني من مرحلة الحرب، لبث المعسكر المسيحي العنوان يُنسب إلى الولاء الغربي (الموسوم في الجهة الأخرى بالميسم الاستعماري) ولبث المعسكر الإسلامي العنوان ينسب إلى الولاء «الشرقي»، السوفياتي في هزيعه الأخير، (الموسوم عند الجهة الأخرى بميسم العداء للحرّية ولاستقرار المجتمعات).
لا يميل أيّ من ورثة المعسكرين اليوم (ولا هم مالوا قبل اليوم)، حين يزعمون مزاولة النقد الذاتي، إلى إعادة النظر في شبكة الأحلاف التي تقلّب بينها معسكرهم ذاك، لجهة وقع الأحلاف وتقلّبها على تماسك البلاد بعمومه. وهم، إذا لامسوا هذا الموضوع، لم يبلغوا منه المساواة لجهة القيمة ما بين مسلك معسكرهم في التحالف وفي استدراج الأدوار الخارجية إلى البلاد أو في منحها قواعد وأبعاداً لم تكن لها، ومسلك المعسكر المقابل. ومن هذا الباب، على الأخص، أن صاحبَ النقد الذاتي لا يخطُرُ له ببالٍ البتّةَ أن جهة «الخونة العملاء» قد تكون الجهةَ التي كان يقف فيها، هو نفسه، ويقولُ قولها. هذه الجهة يبقى مضمراً أو معلناً، في مساق النقد، أنها الجهة الأخرى حصراً وتبقى لكل من المعسكرين الممثلين بورثتهما في نظر نفسه حصانة أصليّة تجنّبه كأس «العمالة» هذا.
وهذا مع العلم أن التصريح المتبادل بتجنيب الآخر هذا الكأس أو التصريح المشترك بتذوق الطرفين معاً مرارة طعمه مليّاً إنما هو الشرط الواجب لإرساء مصالحة وطنية غير هوائية إذ هو الشرط الواجب لاعتراف جهتيّ الحرب معاً بتقدّم البلاد-الوطن إلى مقام القلب من سياستهما وبإزاحة البلاد-الساحة أو البلاد-الورقة من هذا المقام.
لا نزال حتى اليوم إذن حيالَ نوعٍ عجيبٍ من النقد الذاتي مؤدّاه أننا خرَبْنا بلادَنا عن حُسْنِ نيّةٍ وطِيبِ خاطِرٍ وأن الوطنيَّ المقدامَ لا يزال، بعْدَ النقد الذاتيّ، وطنيّاً مقداماً والعميلَ الخائنَ لا يزال، وحده، العميلَ الخائنَ، وهذا على الرُغْم من شَرِكَتِهما المؤكدة في زَهْقِ الأرواح وتدميرِ العمران والنفوس. هذا أيضاً على الرغم من تناسلهما، في ما يتعدّى تحوّلات كبرى شهدها ربع قرن مضى على انتهاء الحرب، على نحوٍ استبقى الشروط العامّة للنزاع الأهلي. فإن رأس هذه الشروط إنما هو استقطاب المجتمع السياسي الوطني بين معسكرين خارجيين، إقليميين ودوليين، أمكن لطلاب الاستقواء من اللبنانيين، تدبّرهما، على الدوام، واللوذ بهما من غير حاجةٍ إلى حرب باردة.
وما يفيده هذا النوعُ من «النقد الذاتي» الذي يستبقي خطّ تماسّ متمثّلاً في القول بـ»عمالة» الآخر أي في النبذ المتبادل بين شقيّ البلاد من الانتماء الوطني (ناهيك بما يفيده استبعادُ النقد الذاتي أصلاً) هو أن المعسكَرَيْن ما زالا على تَواجُهِهما وأن الحربَ الجديدة محتملةٌ حالما يقتضيها ويتيحها ظرفٌ جديدٌ مشؤوم: ظرفٌ من ذاك النوع الذي عوّدنا الزمان أن لا يطولَ بُخْلُه به علينا.
وأمّا ما يمنع العبور إلى نقد ذاتيّ أوفر نصيباً من الفاعلية الوطنية فهو استمرار العمالة قائمة واضحةً للعيان يتوزّعها ويتواجه على ضفّتيها معسكران: معسكران لا يمنع تهالكهما ولا حركة بعض القوى بينهما أن يكون كلّ منهما ملتزماً، في النطاقين الإقليمي والدولي، «بيت طاعة» لا يبدو قادراً على استنشاق الهواء في خارجه ناهيك بأن يقوى على مغادرته وإلقاء تحية الوداع عليه. مع ذلك، يواصل هؤلاء وأولئك الإصرار على أن البلاد تستردّ وحدتها إذا هي انحازت برمّتها إلى قولهم وإلى ما ومن يمثّلون. وذاك أن كلّ جهة، في نظر نفسها، ليست تشكيل مصالح يتكتّل فيه جانب من البلاد وإنما هي حقيقة البلاد الأصيلة وجوهرها الذي لا بدّ من ردّها إليه.
ومعلوم أن دعاوى وحدة الجوهر هذه وتجسّده في طرف من طرفي (أو أطراف) المواجهة إنما تزدهر أكثر ما تزدهر في زمن الحرب الأهلية. إذ ذاك يكون كلّ من الطرفين مصرّاً على القول أن وحدة البلاد قائمة لا عيب فيها ولا يطعن فيها واقع الحرب ما دام هذا الطرف هو البلاد كلّها أو جوهرها، في الأقلّ، وأن الطرف الآخر كميّة يصحّ إهمالهاّ أو هو منحرفٌ عَرَضيّاً عن الجوهر الواحد ولا بدّ من ردّه إلى سواء السبيل. هذا فيما تكون شقوق البلاد غير مقتصرة، في الواقع، على خطّ الفصل الذي ترسمه الحرب بين الطرفين بل يكون كلّ منهما متصدّعاً كثيراً أو قليلاً… أي أن البلاد تبدو منقسمة على مستوىً بعينه ومهشّمةً على مستوىً أبعد غوراً.
عِشْتُم (إلى متى؟) وعاشَ نقْدُكم الذاتيّ (المولودُ ميّتاً)، أَيُّهَا الإخوة المواطنون!

٭ كاتب لبناني

رحلة حنّا دياب الماروني الحلبي إلى بلاط لويس الرابع عشر

أحمد بيضون

Aug-18

ليس انسياقاً مع عصبيةٍ ما بل لزوماً لطبيعة الأمور أن نعتبر نشر ترجمة فرنسية رائعة الصنع لمخطوط عربي نفيس محفوظٍ في الفاتيكان قبل نشر المخطوط بلغته الأصلية أمراً مؤسفاً… وليس صرفاً للنظر عمّا يكشفه هذا الأمر من خلل في حركتي البحث والنشر العربيتين أن نشيد بروعة الترجمة الفرنسية وبجهد التحقيق الجليل الذي ترك بصماتٍ ظاهرة جدّاً في النصّ وفي الحواشي فضلاً عن التقديم.
الكتاب الذي لا يزال أصله العربي ينتظر من ينشره كتاب رحلة. هو يروي الرحلة التي قام بها شابّ يدعى حنّا دياب من موارنة حلب إلى باريس ابتداء من أوائل عام 1707 وكان معظمها بحرياً، ولكن تخلّلتها مراحل برّية. وهو يروي، بعد أخبار إقامته الطويلة نسبياً في باريس، تفاصيل رحلة العودة إلى حلب أيضاً، وهي لا تقلّ ازدحاماً بالمشقّات وبالأخطار عن رحلة الذهاب. وقد طالت الرحلتان وما بينهما ثلاث سنوات وأشهراً فلم يحطّ هذا الشاب رحاله مجدّداً في مسقط رأسه الحلبي، حيث سيتزوّج ويمتهن تجارة الأقمشة، إلا في تموز/يوليو من سنة 1710…
وهو قد باشر هذه الرحلة بعد عزوفه، وهو المؤمن التقي، عن اختبار قصير للحياة الرهبانية في دير من أديرة الشمال اللبناني. رحل مخالفاً إرادة أخيه الأكبر بصحبة «مسافر ملكي» معروف من فرنسا هو بول لوكا، وكان الأخير قد أنهى رحلته الثانية إلى سوريا. هذا «المسافر» المنتدب بموجب مرسوم ملكي («فَرَمان» من «سلطان بلاد فرنسا» بلغة حنّا دياب) كان مكلّفاً أن يجوب البلاد ويشتري مخطوطاتٍ قديمة وعملات ومجوهرات وحجارةً كريمة لخزانة الكتب الملكية ولخزانة الملك الأخرى. وهو معروفٌ جدّاً لتدوينه وقائع رحلاته الثلاث وصدور كتب ثلاثة أوصلتها إلينا. وهو بهذه المثابة حالةٌ تمهيدية لحركة الاستشراق الفرنسية. ويغطّي ثاني الكتب المشار إليها – في ما يغطّيه – وقائع رحلة الذهاب التي يقصّها علينا مخطوط حنّا دياب. ولكنّ ناشري الترجمة ينوّهون بكثرة الفوارق بين الروايتين.
يوحي ختام المخطوط الذي نحن بصدده أنه وُضع بعد نيّفٍ وخمسين سنة من عودة صاحبه إلى حلب، وكان الرجل قد بلغ الخامسة والسبعين عند وضعه. ويميل محقّق الكتاب برنار هيبيرجيه إلى التعويل على قوّة الذاكرة الشرقية ودُرْبتها، في ذلك الزمان وبعده، لتفسير الدقّة المذهلة التي يتّسم بها وصف حنّا دياب لمشاهداته وروايته لوقائع عامّة وخاصّة َخِبَرها أو وصل إليه خبرُها في أثناء رحلته. ويخيّل إلينا أن من المحال أن يكون هذا الكتاب الذي تصف مقدّمة الترجمة لغته بالعربية المتوسّطة بين العاميّة والفصحى ثمرة الذاكرة وحدها أنتجته بعد هذه المدّة المديدة من انصرام الوقائع. ولا يبدو لنا ممكناً استبعاد الاعتماد في وضعه على مادّة دوّنت أوّلاً بأوّل بانتظامٍ أو بغير انتظام في خلال الرحلة، وهو ما كان يفعله بول لوكا، «معلّم» حنّا دياب، إذ كان يدوّن كلّ ليلة – بشهادة حنّا – وقائع يومه ومشاهداته… ولكنّه لم يكن، في نهاية المطاف، «مؤلّف» الكتب المطبوعة التي أوصلت إلينا أخبار رحلاته. وليس يستبعد أن يكون حنّا دياب قد أشار إلى مادّته الأولى تلك – إن كانت قد وُجدت – في الأوراق القليلة المفقودة من مخطوطته، وهي الأوراق الأولى. وفي كلّ حالٍ، تنوّه مقدّمة الترجمة ببعد هذا الراوية الذي «لا يشقّ له غبار» عن الحذلقة البلاغية التي أضرّت كثيراً بكتبِ رحلاتٍ أخرى إذ ضربت حجاباً بين النصّ وما يروي أو يصف.
انطوت رحلة حنّا دياب الشاقّة في الذهاب والإياب على مراحل ومحطّات وفيرة العدد جدّاً. محطّات قبرصية ومصرية، ليبية وتونسية، إيطالية وفرنسية… في طريق الذهاب. ومحطّات فرنسية وأناضولية وسورية فضلاً عن التعريج غير المتوقّع على إسطنبول عند الإياب إلى حلب. وفضلاً عن الإقامة الطويلة في باريس وكانت هذه مقصد رحلة الذهاب وقد مثل خلالها حنّا في حضرة «الملك الشمس» ونجا من صقيع عام 1709 القاتل ومن الوباء وشاهد في أثنائها ما شاهد وسمع ما سمع… وفضلاً عن الإقامة في إسطنبول وقد حظي فيها الشابّ، مثلاً، بمشاهدة السلطان يدشّن سفن بحريّته الجديدة… وفضلاً عمّا تخلّل هاتين الإقامتين من حوادث متنوّعة أخرى يرويها حنّا بتفصيل مغرق أحياناً، لم تكن أيّ من المحطّات الأخرى ولا من المراحل البحرية أو البرّية تعبر بلا مشاهدات أو حوادث يعدّها حنّا مستأهلةً التسجيل. فقد كانت ضرورات السفر البرّي وكذلك انتظار الإبحار يستكثران من المحطّات ويطيلان الإقامة في كلّ منها، إن لم يكن لشيء فلانتظار الريح المواتية أو احتمال خلوّ الطريق البريّة من قطّاعها أو البحرية من القراصنة، إلخ.
ولا تتّسع هذه العجالة لتلخيص ما يعرضه حنّا دياب في 400 صفحة مطبوعة. وكيف تتّسع وهو يوشك أن يفصّل ما تناوله من وجبات مميّزة واحدةً واحدة ويصف أزياء أصنافٍ كثيرة من الناس بتفاصيلها ويتوقّف مليّاً عند معالم المدن وتصميم البيوت والقصور ورياشها ويقصّ وقائع الإقامة في هذا النزل أو ذاك ويذكر أوصافه ويستعيد حوارات لا تحصى جرت بينه وبين أناس كثيرين، إلخ. وهو يذكر نشاط معلّمه بول لوكا خبيراً في الكتب والمجوهرات والعملات وطبيباً أيضاً ويذكر ما آلت إليه علاقته به بعدما تعلّم منه ما تعلّم ومن ذلك أوّليات طبّية انتفع بها (بإلهامٍ متكرّر لا ينسى ذكره من الله والسيّدة العذراء ومن ملاكه الحارس…) عندما عمد إلى انتحال صفة «الطبيب الإفرنجي» أثناء رحلة الإياب. ويطلعنا حنّا على حياة البحر وأوصاف السفن وظروف السفر عليها في أيّامه وعلى كيفيات مواجهة القراصنة والحظوظ في التملّص منهم. ويطلعنا على تنظيم السفر البريّ ولوازمه وأخطاره، إلخ. ولا ننس وصوله إلى قصر لويس الرابع عشر وروايته ما اتّصل إلى علمه من أخبار الملك وحواشيه وإقدامه على أخذ الشمعدان من يد الملك، بدعوى حَمْلِه عنه، وهو ما لم يكن يجرؤ وزير على الإقدام عليه بلا أمرٍ من صاحب الجلالة الذي قبل بادرة حنّا ولم يأمر له بعقوبة. ولا ننس دخول حنّا قصر الملك في فرساي مرّة أخرى متمنطقاً بخنجر، وهو ما أطار لبّ «المعلّم» لوكا العارف بما يمكن أن تجرّه هذه الحماقة إلخ.
يبقى أن نذكر أنطوان غالان و»ألف ليلة وليلة». التقى حنّا دياب في باريس هذا الرجل الذي يصفه بـ»العجوز» وكان يعمل في ترجمة قيّض لها أن تدخل التاريخ لكتاب «ألف ليلة وليلة». يقول حنّا بإيجاز شديد ما مفاده أن الرجل كانت تعوزه بعض «الليالي» وكان حنّا يعرفها فحكاها له. على أن التحقيق في الأمر يظهر أن هذه «الليالي» كانت لا تقلّ عن 16 من الحكايات أثبت غالان 12 من بينها في ترجمته. ومن بين ما أخذه المترجم عن الشابّ الحلبي بعض من أشهر حكايات الكتاب ومنها حكاية علاء الدين وحكاية علي بابا. وما يجعل الأمر أشدّ إثارةً أننا لا نقع على أثر لهذه الحكايات في مخطوطات «الليالي» التي ترقى إلى عهد سابق لنشر ترجمة غالان. عليه، ذهب غير واحد من دارسي «الليالي» إلى الفرضية القائلة بأن غالان هو من أضاف هذه الحكايات كلّها على الكتاب وأنها إنما نقلت إلى العربية عن ترجمته.
غالان أي حنّا دياب! ذاك ما يتبيّن من الكتاب الذي بين أيدينا. ويذهب برنار هيبيرجيه إلى أن في حكايّة علاء الدين، مثلاً، عناصر قد تكون مستقاةً من سيرة حنّا نفسه، ذاك ما لم يعترف به غالان الذي لا يذكر حنّا إلا في كتاب مذكّرات لم يكن معدّاً للنشر. وهو قد حاول أن يتدبّر للشاب وظيفة «مسافر ملكي» مماثلة لوظيفة معلّمه لوكا، وذلك ليبعده عن القسم العربي من خزانة الكتب الملكية وهو الذي كان لوكا قد وعده بوظيفة فيه. ولكنّ هذا الأخير الذي رأى وظيفته مهدّدة من جهة خادمه أحبط مسعى غالان للحصول على فرمان لحنّا وهذا بعد أن كان الشابّ قد أصبح في مرسيليا جاهزاً للإبحار… هكذا وقع حنّا ضحيّة مؤامرتين متقاطعتين ألزمتاه بالعودة إلى بلاده.
أصبح غير مستحسن، من بعدُ، ولا جائز أن ينشر الأصل العربي لرحلة حنّا دياب من غير إفادة شاملة من جهد التحقيق الضخم الذي صحب الترجمة الفرنسية. فقد أضاف ثلاثي الترجمة والتحقيق باولا فهمي تييري وبرنار هيبيرجيه وجيروم لنتان إلى علمهم وكفاءتهم الضافيين معرفة آخرين كثيرين استفتوهم في نقاط كثيرة بعينها وشكروا لهم إمدادهم بما أصبح مادّة لهذه الحاشية أو تلك. وقد صحّحت الحواشي والمقدّمة هفواتٍ كثيرة وقع فيها حنّا نفسه وفسّرت ما غمض من عباراته ودقّقت في هويّات أشخاصٍ ذكَرَهم عرَضاً وفي وقائع أشار إليها. لا بدّ إذن من نشر الأصل العربي لرحلة حنّا دياب ولا بدّ أيضاً من الاتّفاق مع أصحاب الترجمة الفرنسية ومع ناشرهم (سندباد-آكت سود) على صيغة تأذن للأصل أن يفيد من مزايا الترجمة. وهو ما يبدو أنه حصل في ما مضى لكتاب «ألف ليلة وليلة» نفسه بفضل حنّا دياب وأنطوان غالان.

٭ كاتب لبناني

في السلام اللبناني واللاجئين السوريين

أحمد بيضون

Aug 10, 2016

… وأمّا السرّ الأكبر في الاستثناء النسبي للبنان من الحريق الجاري في المحيط فيبقى، في اعتقادنا، كامناً في مسألة اللاجئين. في الداخل اللبنانيّ، توزّعت الأفواج اللاجئة في ثنايا بلاد ترزح المرافق الأساسية والخدمات العامّة فيها تحت وطأة قصورٍ فادح يزيده الفساد ثقلاً.
هبطت هذه الأفواج أيضاً على ظرف تراجع في النموّ اللبنانيّ مظهره الأبرز ازدياد نِسَب الفقر والبطالة وهجرة الشباب. وقد كان لأزمة النظام السياسي نصيبٌ معتبر من المسؤولية عن هذا التراجع. على أن الأصابع اللبنانية استسهلت الإشارة إلى اللاجئين على أنهم منافسون ذوو خطر لطالبي العمل من اللبنانيين… وهذا فضلاً عن رزوح الكتلة اللاجئة الثقيل بالضرورة على خدمات ومرافق أشرنا إلى تهالكها. والحال أن المنافسة السورية (ومعها الفلسطينية وغير اللبنانية الأخرى، على اختلاف المصادر) قائمة من زمن بعيد، في القطاعات التي يُسمح لغير اللبنانيين بالعمل فيها. وهي منافسةٌ مفتوحة على الدوام لأن البلاد مفتوحة، فلا حدّ لها سوى حجم الطلب ولا تحتاج إلى موجات اللجوء لتبلغ مداها.
مع ذلك كلّه، كان لا بدّ من مواضعَ في سوريا وفي محيطها يتجمّع فيها ضحايا النكبة السورية ويتيسّر منها صدّ موجاتهم عن بلاد أخرى بعيدة تخشى تدفّق جحافلهم عليها. وهو ما يكفي ليحظى السلام اللبناني، أسوة بسواه ممّا يشبهه، بعناية الدول الغربية كلّها ومعها دول موالية لها في الجوار وضالعة في المقتلة السورية وقادرة على التأثير في الموازين اللبنانية. ومعها أيضاً أطرافٌ طائفية لبنانية تدين بولاء مباشر أو غير مباشر لهذه او تلك من دول الفئتين. على أن الطرف المواجه في الحرب السورية، أي الدولة الإيرانية وحليفها النظام الأسدي، على الخصوص، يرجّح، حتى إشعارٍ آخر، إحجامُه عن السعي إلى إشعال حربٍ أهلية عامّة في لبنان وسعيُه هو أيضاً إلى استبعادها. وهذا مع حرصه على إبقاء مؤسّسات الدولة السياسية تتخبّط في تهالكها الحالي. فإن القوة اللبنانية الرئيسية لهذا الطرف، أي حزب الله، مستغرقة بما بات يفوق طاقتها، على الأرجح، في الحرب السورية ولا تزال الحاجة قائمة إليها هناك… بل هي تتزايد شدّةً، على ما يظهر.
فضلاً عن ذلك، تؤدّي الحرب الأهلية، بالضرورة، إن هي وقعَت، إلى زلزلة قوى الدولة اللبنانية وأجهزتها من عسكرية وأمنية، وهي التي لا يزال يعوّل عليها هذا الطرف المساند للنظام الأسدي في ضبط الأخطار التي يزكّي دوره السوري تعرّض من يواليه من الكتل الطائفية لها في لبنان. وهي أخطارٌ ستكون الكتلة اللاجئة الضخمة مصدراً لبعضها حتماً إذا حلّ منطق النزاع الأهلي محلّ منطق الضبط الأمني وأصبحت هذه الكتلة، أو بعض أوساطها، في الأقلّ، بما يميّزها من سمات الهشاشة، غرضاً للاستقطاب المثابر ولإغراء الضلوع في النزاع.
هذا الحذر من حربٍ لبنانية لا يسري، بطبيعة الحال، على أطراف في الصراع السوري هي أكثر أطرافه شراسة وتوحّشاً وهي الأطراف الجهادية. فهذه لها حسابات تخصّها هي ما يعيّن اختيارها الأهداف لضرباتها. وهي لم تستثن الساحة اللبنانية من هذه الضربات وقد تزيد، تحت وطأة الضغط المتزايد عليها في سوريا، من وتيرة الضربات المسدّدة إلى بلاد أخرى أقربها لبنان، إذا هي وجدت سبلاً إلى الزيادة. وهو ما يبقي الأمن اللبناني هشّاَ ويعرّض اللاجئين السوريين، من جهتهم، لتصرّفاتٍ وردودٍ لبنانية تنكيلية التوجّه، منحطّة الأساليب، لا تعدو، في الواقع، أن تُوَسّع من مسارب المنطق الجهادي إلى صفوفهم. ولكن لا يتجاوز ما تثمره هذه الشبكة من العوامل، حتى تاريخه، حدَّ الضربات الموضعية التي يراد لأذاها أن يكون فادحاً… ولكن لا توحي وتيرتها وخريطة مواقعها ببلوغ المواجهة حدّ النزاع الواسع الانتشار.
لا يقرّ معظم السياسيين اللبنانيين بهذا الفضل للاجئين السوريين، لا هُم ولا أبواقهم على اختلاف الفئات. ولا يقرّون لهم بأفضالٍ أخرى منها أنهم لا يقيمون جميعاً في تجمّعات عشوائية بل يقيم الميسورون منهم، وهم غير قلائل، في شقق استأجروها أو اشتروها ممتصّين جانباً من الكساد في القطاع العقاري ومن عطالة السياحة ومنعشين تجارات خاملة. لا يقرّ السياسيون ولا الأبواق أيضاً بمصائر ما يصل من معونات دولية للاجئين ولا يُعرف ما يصل منها إلى هؤلاء فعلاً وما يقطع عليه الطريق فسادٌ لبناني متمرّس، بعضُه سياسي وبعضه غير سياسي…
على هذا الإقرار بالفضل، يؤثر هؤلاء الساسة والأبواق مجاراةَ حاجة اللبنانيين العاجزين عن ردّ الضربات إلى أكباش محرقة: أكباشٍ يستسهلون الوقوع عليها في صفوف اللاجئين. يتملّق الساسة هذه الحاجة التي تموّه مسؤوليّتهم عن الأمن اللبناني ومسؤولية بعضهم في القتال السوري وفي ذيوله اللبنانية. هذا التملّق يستثير، على الضفّة الأخرى من الهوّة الطائفية، إنكاراً مفرطاً لوجود جانب متعلّق بالأمن في عبء اللجوء الضخم. ولا يعالِج هذا الإنكارَ ـ بل يعزّزه في الواقع ـ ما تجنح إليه أجهزة الأمن اللبنانية من أساليب الإيذاء والإهانة عند مداهمتها تجمّعاً للاجئين أو تعقّبها المخالفين المفترضين من بينهم. ولا تسهم في درء مخاطر الجنوح الجهادي ظروفُ توقيفٍ واعتقالٍ لألوفٍ باتت مشهورة الرداءة، موصومةً بالتعسّف، وتأجيلٌ متمادٍ للمحاكمات يحصى بين ضحاياه لبنانيون وسوريون وفلسطينيون…
أي أن ما يُفترض أن يكون مدعاة تقاربٍ واسع النطاق، بما هو إرهاب تغلب الخشية منه ما عداها، يستوي، بفعل ضعف الزعامة والمسؤولية، وقوداً لنار طائفية قد يعود وقودها الناس والحجارة. وما يُفترض أن يكون قمعاً للجنوح إلى الإرهاب يستوي توسيعاً لحواضنه المحتملة وإغراء لبعض من لم يكونوا في وارده بالانضمام إلى بؤره.
وكان النظام الأسدي قد دأب، طوال سنين، على تعزيز الجهاديين والبطش بالمعتدلين من معارضيه، مبتغياً وصم كلّ معارضةٍ له بالإرهاب وتأليب العالم على مناوئيه لا معهم. وفي لبنان تتضافر عوامل مختلفة لإضعاف المعتدلين السنّة القابعين في السلطة لا في المعارضة. ولا تردّ هذه العوامل إلى إرادةٍ واحدة على ما هي عليه الحال في سوريّا. وذاك أن «وحدة الإرادة» صفةٌ يصعب تحقّقها في النظام اللبناني وتبقى بعيدةً عن منطق عمله.
عليه فإن بعض هذه العوامل مرجعه إلى سيرة أولئك «المعتدلين» أنفسهم في الحكم وبعضها إلى سياسة الوصيّ السعودي عليهم ومسلكه معهم. ولكن رأس العوامل ما يفرضه من شعور بالتفاوت في القوة بين الطائفتين سلاحُ حزب الله وتفلّته، بدعم مثابر من إيران وبلا إمكان داخلي لمقابلته بالمثل، من موجبات التوازن اللبناني وممّا يفرضه هذا التوازن من قيودٍ نسبية على كلّ من أطرافه. ينتهي هذا، من بابٍ آخر، إلى خلخلة التمثيل السياسي اللبناني للسنّة فينذر بطمس النطاق الوطني لهذا التمثيل وبتعزيز التداخل على الأرض، تحت الراية الجهادية، ما بين أوساط سنيّة لبنانية وسورية وفلسطينية يجمع بينها الشعور بالمهانة ورفض ما هو لاحق بها من استضعاف.
هذا والمساق الذي يفرضه الظلم والاستضعاف من جنوح المضطهدين أو المغبونين من المسالمة إلى العنف معلوم الأوصاف والتفاصيل. فهو معروفٌ من أيّام الجزائر وفيتنام بل من قبلهما، على الأرجح. ولكن لا أحد يتعلّم من أحد! أم أن ثمّة ما يبرز كلّ مرّةٍ هنا أو هناك ليجعل التعلّم غير ممكنٍ أصلاً؟…

٭ كاتب لبناني

أسبابٌ وأثمانٌ لسلامة اللبنانيّين

أحمد بيضون

Aug 03, 2016

يدرك لبنانيون كثيرون أن ما يحظون به من سلامة نسبية في خضمّ الحروب الدائرة على أبوابهم أو غيرَ بعيد عن بلادهم له أثمانٌ وشروط. بين أثمانه (على ما في الأمر من مفارقة) أن يبقى هيكل الدولة المؤسّسي متهالكاً فتبقى السلطة التشريعية شبه عاطلة عن العمل وتبقى السلطة التنفيذية ندوةَ زجل: يتبادل أطراف الحكومة الهجاء ولكنهم يعاودون اللقاء عند الحاجة الماسّة. يلتزمون حصر أبحاثهم في أمور محدودة لا يغادرونها ويتركون أموراً أخرى قد تفوقها أهمّية ولكن الدخول فيها منبوذٌ سلفاً من جدول أعمال الحكومة: منبوذٌ تحت طائلة انفراط العقد الحكومي من الجولة الأولى أو قبلها.
وقد وصلت البلاد في سنتين أو ثلاث إلى استكمال هذا «الثمن» لسلامتها النسبية: بقيت سدّة الرئاسة خالية، وأصبح مجلس النواب ملزماً، ما خلا الحال التي تطلق عليها صفة «الضرورة»، بالامتناع عن الاجتماع ما لم يكن غرضه انتخاب رئيس للجمهورية… وهذا بعد أن انتُقِصت شرعية المجلس أو أُبطلت بالتمديد… وبات على مجلس الوزراء، بصفته البديل الاضطراري من رئيس الجمهورية، أن يتوخّى الإجماع في ما يتخذه من قرار ما دام يحلّ محلّ الرئيس المفقود «مجتمعاً» وليس بأكثرية أعضائه.
ولا مراءَ أن الضرورة، بما لها من أحكام، هي ما أملى على أهل الحكم هذا الذي أطلقوا عليه اسم «تشريع الضرورة» وأوجدت منافذ بقيت ضيقة من ضرورة الإجماع الحكومي أيضاً. ولكن وجود الضرورة وعدمه ومعهما إمكان اتّخاذ القرارات بالأكثرية الحكومية وعدمها بقيت كلّها مواضيع مفتوح فيها باب الاجتهاد على مصراعيه ومفتوح، قبل الاجتهاد وبعده، باب تعطيل المؤسسة من أصلها إذا بدا الاجتهاد موضعَ معاندةٍ جادّة تجعله غير مرجّح النفاذ.
بلادٌ هذه حالها يخوض جيشها ما يشبه الحرب على الحدود اللبنانية السورية وتضع أجهزتها الأمنية يدها على الخلية الإرهابية تلو الخلية. فلا يظهر اختلاف من هذه الجهة بين حال تضعضع السلطة الذي آلت إليه البلاد وحال الفاعلية العادية التي كانت في ما مضى حال مؤسسات السلطة السياسية. بل إنه قد يجوز اعتبار يومنا العسكري-الاستخباري أحسنَ من أمسنا، فيبدو كأن هذا الجانب شبه الحربي من حياة البلاد مجمَعٌ على بقائه سليماً نسبياً ومرعيّ من قوىً بعيدة غير منظورة… أو هي منظورةٌ، في الواقع، لمن شاء أن يمعن النظر.
تُواصل قطاعاتٌ أخرى ذات أهميّة، في البلاد، سيرتها المعتادة وكأنها غير محتاجة فعلاً إلى السلطة السياسية: القطاع المصرفي جمُّ النشاط يقوده مصرف لبنان ويقود به ومعه نموّ المديونية العامّة. ولم يُفْضِ إلى نقص ظاهر في نشاطه ما أملاه عليه القانون الأمريكي من مجابهة مع حزب الله ولا التفجير الذي تعرّض له أحد المصارف الكبيرة، قبل أسابيع، وبدا عقوبة على الاستجابة لهذا الإملاء. المطار والمرافئ على عهد مستخدميها بها وعلى سنّة ما هي معروفةٌ به من صفقاتٍ وعمولات… والاستيراد والتصدير يجدان سبلاً للإبقاء على وتائرهما المعهودة أو قريباً منها، إلخ.، إلخ. وهذا، بطبيعة الحال، فضلاً عن قطاعات ووجوه نشاط مختلفة: اقتصادية أو اجتماعية، إعلامية أو ثقافية، هي أصلاً أَوْهَنُ صلةً بأجهزة الدولة وسلطتها.
ليس كلّ شيء على ما يرام بطبيعة الحال. ثمّة خدماتٌ هي في عهدة الدولة أصلاً تهاوت أو ازدادت تهاوياً. أزمة النفايات أصبحت، من سنةٍ وبعض سنة، أبرزَ أنموذجٍ لهذا التهاوي. ولكن أزمة النفايات لا تحجب أزمة الطاقة ولا أزمة المياه ولا التخريب المتواصل للبيئة ولا ما يلي هذا وغيره من تردّ لشروط العيش في المدن خصوصاً. ولا يحجب هذا كلّه (بل هو يبرز) الاستشراءَ الفادح للفساد، في ظلّ تحلّل السلطات، ولا التضخّمَ المهولَ الذي ينهش ميزانيات العوائل…
يبقى، مهما يكن من شيءٍ، أن ثمّة ثمناً مضافاً تؤدّيه الدولة من تماسك مؤسساتها السياسية ومن سلطتها وقدرتها على الحكم، أي من سيادتها المثغورة أصلاً، في نهاية المطاف… تؤدّي هذا الثمن فداءً لتلك السلامة النسبية التي ما يزال ينعم بها اللبنانيون وهم أوّل المندهشين من استمرارها. لكن ثمّة حدوداً مرعية لهذا الثمن نفسه تأذن ببقاء ما هو باقٍ من سلطة الدولة وباستمرار ما هو مستمرّ في العمل من مرافق وقطاعات.
ما الذي ظلّ يجعل هذا الثمن مقبولاً، على وجه الإجمال، بحدوده، ويبقي السلامة المشار إليها متاحة، حتّى اليوم؟ يجب الالتفات، طلباً لجواب متماسك، إلى الوظيفة التي يضطلع بها لبنان، بسياسته واقتصاده وإعلامه، بتجهيزه العسكري والأمني وبمجتمعه «المدني» في الحروب الدائرة في محيطه وخصوصاً في الحرب السورية. والخدمات المشار إليها متنوّعة. فيها ما هو قتاليّ وهو يتمثّل في مشاركة حزب الله في الحرب السورية مشاركةً تستحدث في العلاقة بين السوريّين واللبنانيّين أزْمةً مذهبيّةً لم يكن لها وجودٌ من قبل، وهي باتت موعودة بمستقبلٍ مديد.
تلك مشاركة قدّمت لها قيادة الحزب مسوّغاتٍ كان كلّ منها يُظهر خواءَ سابقه. ولم يبق منها اليوم، بعد أن وصل مقاتلو الحزب إلى حلب وأريافها، سوى خدمة الطموح الإيراني إلى الهيمنة الإقليمية وهو المسوّغ الأصلي.
وتضع هذه المشاركة لبنان كلّه بما هو دولة في وضعٍ نادر المثال. وذاك أن طرفاَ طائفيّاً من أطراف الحكم في البلاد يمضي في حربٍ أخذت مدّتها تقاس بالسنوات بمعزلٍ عن الأطراف الأخرى، بل بخلاف الموقف السياسي الذي يعتمده في النزاع السوري، بعضٌ من أهمّها. وتتحمّل إيران الكلفة الماديّة المباشرة لهذه المشاركة. ولكن لبنان يتحمّل كلفتها البشرية، وهي الأفدح، ويتحمّل كلفاتٍ غير مباشرة لها: بينها جانبٌ معتبر من ثقل الكتلة اللاجئة التي تقع على الدور الحزب اللهي في القتال مسؤوليةٌ مباشرةً في تهجيرها من المناطق القريبة إلى الحدود بين الدولتين.
وفي الخدمات التي يتيحها لبنان المتهالك المؤسّسات ما هو استخباريّ يتجاوز حاجة البلاد نفسها في هذا المضمار.
إذ لبنان اليوم ساحة تجسّس للأطراف الضالعة في الحرب السورية من قريبٍ أو من بعيدٍ، بعضها على بعض. ويبدو التعاون جليّاً، على سبيل المثال، بين أجهزة الأمن اللبنانية وأجهزة دولٍ أخرى يهمّها التفادي من أحداث بعينها. فيجوز التخمين أن الأجهزة اللبنانية تدين لهذا التعاون وللمعونة الخارجية عموماً، على اختلاف أصنافها، بجانب من فاعليّتها المستمرّة على الرغم من تداعي القيادة السياسية…
من الخدمات المشار إليها أيضاً ما هو ماليّ تبقى له، مشروعاً كان أم غير مشروع، منافذُ في النظام المصرفي اللبناني على الرغم من أي تشدّد في المراقبة… وهذا على نحوِ ما يستمرّ، أيّةً تكُنْ شدّةُ القمع، غسلُ الأموال والهربُ من الضرائب، مثلاً، في سائر أقطار العالم.
ومن الخدمات ما هو إعلاميّ… إذ لا تخفي الأزمة التي تضرب الصحافة الورقية وبعضاً من قنوات التلفزة الفضائية وجود جمهرة كثيفةٍ من ذوي الخبرة الإعلامية أو الصحافية ينفع استقطابهم، مع بقائهم في قواعدهم البيروتية، مؤسّساتٍ إعلاميّةً وصحافيّةً مختلفة يتّخذ بعضها لبنان مركزاً له ويقيم بعضها في أقطارٍ أخرى. وقد انضمّ إلى اللبنانيين من بين هؤلاء آخرون هجّرتهم الحرب من سوريّا أو من العراق…
تلك كلّها كُلفاتٌ يؤدّيها اللبنانيون، مجتمعاً ودولة، ثمناً لحفظ سلامتهم الشبحية. على أن مسألة اللجوء السوري، وقد أصبحت متقدّمة بين كبريات المسائل المطروحة على البلاد، توجب علينا وقفة خاصة بها… فنكرّس لها عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني

أَضْرِحةٌ رقميّة…

أحمد بيضون

july 30, 2016

قبلَ أربعة أشهر تقريباً، أنشأتُ مدوّنة جديدة احتفظتُ لها باسم القديمة المتوفّاة التي ذكرتها في عجالتي الماضية. وفي أربعة أشهر أصبح في المدوّنة الوليدة نحوٌ من 140 عنواناً كثرتهُا الكاثرة عناوين لمقالات وبينها نيّفٌ وعشرة كتب، وهذا كلّه موعودٌ بالزيادة… ما الذي حملني على هذه الردّة التي لم يلبث أن واكبها تقليص صارم جدّاً لنشاطي الفيسبوكي؟ أعتقد أن الأمر الأهمّ هو عودة صمدَت إلى انتظامٍ أسبوعي في الكتابة. مضى على هذه العودة ثلاث سنوات وبضعة أشهر ولكن تخلّلتها عطلتان شاسعتان مجموعهما أقلّ من نصف هذه المدّة بقليل.
ومن اعتمر قبّعة المعلّق الصحافي لا يلبث أن يلاحظ أمرين. الأوّل أن المقالات يتكاثر عددها بسرعة وتروح تبدو شتاتاً يستحسن جمعه وتنظيمه. وثانيها أن المدوّنات تبدو (بسبب الأمر الأوّل) وكأنّما أنشئت لكتّاب المقالة الصحافية. وذاك أن خمسة كتبٍ أو عشرين كتاباً لا تستلزم مدوّنة ولا تستحقّها. وأمّا مئة مقالة صحافية أو مائتان (ناهيك بألفٍ أو بضعة آلافٍ في حالة الصحافيّ المخضرم) فتستدعي المدوّنةَ بل توشك أن تفرضها فرضاً. وذاك أن المدوّنة، بخلاف الفيسبوك وتويتر وغيرهما، تتيح، فضلاً عن مزيّة البحث وعن التتابع وفقاً لتاريخ النشر، مداخل متعدّدة للتبويب يعيّنها المدوّن نفسه ويسعها الوصول بالنصوص إلى ما يشبه الفهرسة. وفي هذا علاج سائغ لآفة الكثرة في العناوين والتشتّت في الموضوعات.
وأمّا آفة المدوّنة، لمن جرّب الفيسبوك مثلاً، فهي العزلة، لذا استبقيتُ، متّبعاً سُنّةَ آخرين، جداري الفيسبوكي متاحاً للإعلان عمّا أنشره في الصحيفة وأنقله إلى المدوّنة. وأمّا الفيسبوك بسائر ما زاولتُه لسنواتٍ من وظائفه، وعلى الأخصّ كتابة الخاطرة، فقد ضجرتُ منه وتنحّيت عنه للمرّة الخامسة أو العاشرة: لا أعرف. ومن يبحث عن أسباب للضجر من الفيسبوك لا يعدمها، فهي كثيرة… كثيرةٌ كثرة المغريات بالإقبال عليه. وأمّا أنا فأملّ المكثَ في أيّ موضع أو نوع إذا طال بي المكث. عليه أمنح نفسي حرّية التنزّه بين ما أظنّ أنني أُحْسنه من أعمال جانحاً نحو ما أشعر بجاذب إليه، في وقتٍ بعينه من الأوقات. وهذا بمقدار ما تعطى هذه الحرّية لواحدنا… فهي نعمة تحدّ منها أو تُبْطِلها ضروراتٌ عملية شتّى ولا يضمن دوامها ولا مجرّد وجودها شيء.
أيّاً يكن الأمر، قد لا يرى المدوّن في عزلة مدوّنته أمراً ينتقص من الحاجة إليها أو، على الأعمّ، من شرعية الإبقاء على هذه الصيغة من صيغ الظهور الشخصي في الشبكة. وهذا حقّ محفوظ لصاحبه. على نحو ما ينبغي أن يبقى محفوظاً الحق في الندوة المغلقة التي يُقْتصر حضورها على عشرة أشخاصٍ، مثلاً، ومعه الحقّ في المناظرة المتلفزة التي يشاهدها ملايين يُمْنحون مبدئيّاً الحقّ في طرح الأسئلة على المتناظرين! الحقّ في إنشاء مدوّنة لعشرين متصفّحاً، على غرار ما صنع صديقي الذي نوّهتُ بأريحيّته في عجالتي الماضية، ينبغي أن يبقى محفوظاً ومعه الحقّ في عرض النفس على جماهير الفيسبوك ليلَ نهارَ إلى حدّ إلغاء الحياة الحميمة (أو الإيحاء بإلغائها بالأحرى) وإغراق المتصفّحين بتوافه الحركات والسكنات. هذا حقّ وذاك حقّ ويبقى في سماء المُثُل الحقوقية متّسع للحقّ في نقد هذا وذاك أيضاً!
أدرجت مقالاتي الأسبوعية في المدوّنة إذن ومعها الكتب. وأُزْمع استعادةَ نصوصي القديمة (أو ما أتمكّن من تحصيله منها)، بما فيها تلك السابقة للعهد الرقمي ما دام «المسح» قد أصبح يتيح إخراج صيغ رقمية لها. ولكن جمعها وترتيبها يقتضيان وقتاً… سأنشر المقابلات أيضاً، بأنواعها، وقد أعلنت الصيام عن الجديد منها من سنوات. وقد أنشر ما في حوزتي من مراجعات لأعمالي كتبها آخرون. وقد أجد غير هذه كلّها ما أستنسب نشره أيضاً.
وما دامت مقالتي الأسبوعية تنشر في وقتها، أي ما دام الصحافيّ حاضراً في سيرتي العملية، ستبقى المدوّنة حيّةً أيضاً تنتعش بهذا المدد الذي لا يخطئ ميعاده. ولكن لا يوجد ما هو أضعف احتمالاً من استمرار الحضور المذكور. فأنا لا أفلح في اعتياده ولا أنفكّ أحلم بوقفه. فإذا انقطع هذا الحضور ستخبو حركة المدوّنة وتوشك أن تنغلق، شأن القوقعة، على عناوينها الكثيرة المتزاحمة وقد تموت أو تكاد: شأنَ مدوّنة صديقي الظريف الذي كفّ من زمن غير قصير عن النشر في مدوّنته وعن إرسال الرابط إلى حواريّيه العشرين.
وحين يكون المرء قارئاً لعبّاس بيضون (ودعكَ من صلة القربى) لا يُستغرب، مع الوصول إلى حديث المدوّنة الميّتة، أن يحضر لناظرَيْه عنوانٌ بعينه لمجموعة من مجموعات عبّاس الشعرية: «مدافن زجاجية». وذاك أن المدوّنات، إذا هي ماتت بعد اكتمال، تستوي لأصحابها ما هو خلاف «المدافن الزجاجية». تستوي «أضرحةً رقميّةً» لهم. فإذا كان العنوان «العبّاسيّ» يستدعي صورةً صاعقةَ المادّية هي صورة الجثّة الآخذة في التحلّل، يشفّ عنها الزجاج، فإن الجَدَث الرقميّ، بما هو مركّبٌ لا مادّي، يحيل ساكنه إلى فقيد أثيري مادّته كلمات قد أصبحَت ـ بخلاف ما كان مألوفاً في الكلمات ـ في غنىً عن الحبر وعن الصوت معاً. على الرغم من هذا، قد يبدو الضريح الرقمي، لمن يشفع النظر فيه بالقهقهة المناسبة، شبيهاً بمزار شيعيّ كثير البهارج وقد يبدو أشبه بجدثٍ وهّابيّ مستجيب للسُنّة القائلة «إن خير القبور الدوارس». ولا تحول تلك الحال ولا هذه دون أن يغرق الضريح في رمال وحشته قبل أن يلحق به منشئه. ولا تحول أيّ من الحالين أيضاً دون أن يبقى للضريح ـ بخلاف ذلك ـ زوّار يحضرون لقراءة نصّ ما، مستودَعٍ فيه، أو يحضرون مستغفرين لساكن الكلمات ذاك ذنوباً لا تحصى بقيت مقيمةً معه في أثير ضريحه.

٭ كاتب وأكاديمي لبناني

المدوّنة

أحمد بيضون

Jul 23, 2016

قبلَ عشر سنواتٍ أو نحوها، أنشأَ لي صديقٌ خبيرٌ في حقل الاتّصالات «مدوّنةً» جعلْنا عنوانَ آخِر كتابٍ كان قد صدر لي اسماً لها. كان الصديق، مهندسُ الاتّصالات، صحافيّاً أيضاً أمضى ردحاً من حياته العملية محرّراً في وكالة من وكالات الصحافة العالَمية. وكان قد أنشأ لنفسه مدوّنة ظلّت، من بين المدوّنات، الوحيدة التي نشأت بيني وبينها أُلْفة. وكان قد تخيّر من قائمة العناوين في بريده الإلكتروني لا أكثرَ من عشرين اسماً راح يرسل إليهم الرابط كلّما نشر مقالةً في مدوّنته. عمليّاً كان قد عاد، وهو المتقاعد، يزاول مهنة المعلّق الصحافيّ لحسابنا وحدنا، نحن أصدقاءه العشرين. فلم يظهر من عَدّاد المتصفّحين في المدوّنة أنها تشهد حركة تصفّح يعتدّ بها تتجاوز نطاقنا نحن إخوان الصفا المنتخبين.
كان صاحبنا يمدّنا، بانتظام مدهش، بمقالة قصيرة، هي تعليق سياسي في الغالب، يبدو بجرْسِه العالي وسخريته القارصة، وكأنّه يثأر من حياد اللهجة الباردة التي كانت نصوص الرجل ملزمةً بها، ولا ريب، في سنوات عمله في الوكالة. وكان في هذا ما يشعِرُ كلّاً منّاً بمودّة واعتبارٍ خاصّين جدّاً يبذلهما له صاحب المدوّنة. فليس قليلاً أن تكون عضواً في جماعة ضئيلة العدد إلى هذا الحدّ يحصُر بها معلّقٌ محترف خلاصة رأيه كلّما استوقفه جديد في السياسة. وفي ما عدا السياسة، كان صديقنا، وهو ذوّاقة موسيقى وسينما أيضاً، يتحفنا، بين الحين والآخر، برابطٍ لعملٍ أوبرالي سامي المقام أو لفيلم من الروائع المخبّأة في الدهاليز من تاريخ السينما العالمية.
علّمني صديقي كيف أنشر نصوصي على مدوّنتي الجديدة ونشرت عليها فعلاً من المقالات ما قد لا يفوق أصابع اليد الواحدة عدداً. على أنني لم ألبث، لسببٍ ما قد يكون الاستغراق في عملٍ طويل النفَس، أن جَنَحتُ إلى نسيان المدوّنة. وقد راحَ نسياني إيّاها يطولُ إلى حدٍّ جعَلَ تفقّدها، حين كنتُ أتذكّر وجودها، بين سنة وأخرى، يقتضي منّي بعض التجوال، على غير هدىً تقريباً، في أدغال الشبكة وفَيافيها إذ كنت أكتشف أنني نسيتُ الرابط! كنت قد نسيتُ أيضاً كيف يُنقل مقالٌ بنصّه إلى المدوّنة!
والراجح أن هذا النسيان كانت علّته ضعف إقبالي، في تلك المرحلة وقبلها، على المقالة القصيرة: المقالة المشابهة، بانتسابها إلى حرفة التعليق الصحافي، لما كان مرشدي المذكور إلى عالم التدوين ينشره في مدوّنته. كنتُ أكتبُ مقالاتٍ يغلب من بينها النوع الطويل ذو الطابع الجامعي أو النَسَب البحثي ولا أزور الصحافة اليومية ولا الأسبوعية بمقالةٍ إلا لماماً. وهذا مع أنني كتبت، قبل دهرٍ، لأسبوعية تنظيم سياسي كنت في عداد أعضائه وطال ذلك سنتين وبعض سنة، ابتداءً من بزوغ سبعينيات القرن الماضي أو من عشيّتها، ولكن بلا انتظام. ثمّ كتبتُ لأسبوعية أخرى (مقالتين كلّ أسبوع!) بانتظامٍ كلّي مدّة سبعة أشهرٍ أو ثمانية بدأت مع شبوب الحرب اللبنانية وصاحبت استتباب الأمر لتلك الحرب في بيروت… إلى أن وضع حدّاً لتيّار حماستي هذا سكوتُ المجلّة إلى أبدٍ لا يزال مستمرّاً. ذاك زمن كان قد مضى وانقضى وفقدت بعدَه استعداد الصحافيّ المزاجيّ، المزكّي للانتظام الدوري في توليد المقالة. وهو استعداد لا أزالُ غير واثقٍ من تأصّلي فيه أو تأصّله فيّ حتى هذا اليوم.
فما أنا متأصّلٌ فيه، في الواقع، إنما هو المُهل الطويلة التي أقتطف منها أوقاتاً للكتابة ليست هي الأوقات المتاحة موضوعيّاً، على التعميم، بل هي الأوقات الموافقة لإقبالي النفسي، أي، على الأخصّ، لنضوج علاقتي بالموضوع… لذا أهملتُ مدوّنتي الأولى تلك. كان معظم مقالاتي، طويلها وقصيرها، قد أصبح مجموعاً في كتب. ولم يكن شاع نشر الكتب على الشبكة ولا بدت الكتب وحدها ملائمة لنوع «المدوّنة» هذا ولو صحبتها «أوراق» أو «مقالات» من الأنواع التي كنت أُعدّ معظمها إسهاماً في ندوةٍ أو في كتابٍ جماعيّ أو في عدد خاصّ من مجلّة شهرية… كان من شأن هذا كلّه أن يثمر عدداً محدوداً نسبيّاً من العناوين يتوزّع عدداً ضخماً من الصفحات. وهو ما كان من شأنه أن يكسب ظهور المدوّنة صورة الهجمة الكاسحة ثم لا تلبث أن يبدو عليها العياء إذ تصبح مضطرّة إلى انتظار يطول أسابيع أو أشهراً قبل أن يظهر فيها عنوانٌ جديد.
بديل آخر من المقالة القصيرة لم يخطر لي، في حينه، أن أعتمده مادّةً لمدوّنتي، وهو الخاطرة. وهذا مع أن المدوّنات قد تكون وُجدَت، في الأصل، لاستقبال الخواطر… أو قد يكون هذا النوع من النصوص أكثر الأنواع ملاءمةً لها، في الأقلّ. ولا أحاول تفسيراً لهذا الإهمال الذي عوّضته لاحقاً في الفيسبوك أيّما تعويض. فالواقع أن الفيسبوك أغراني، لمزيّةٍ خاصّةٍ به، بمزاولة ما سمّيته «سيرة للخاطر» أو باستيقاف «نُتَفٍ» من هذه «السيرة» بالأحرى. ومزيّة الفيسبوك، لهذه الجهة، هي أن ما قد نبذله فيه من جهد «الكتابة»، بمعنى الكتابة الاحترافي، لاستيقاف الخاطرة وإخراجها يلتقي جمهور قرّاءٍ فوريّاً. وهذا مختلف عمّا يحصل في المدوّنة التي يبدو نشر الخواطر فيها قريب الشبه بتدوينها في دفتر يوميّاتٍ سرّي أو شبه سرّي. بل إن النشر في الفيسبوك يبقى مختلفاً جدّاً حتى عن النشر في صحيفة وهذا أيضاً لجهة التأثير الذي تحدثه في النصّ فوريّة تلقّيه المنتظر من جانب جمهورٍ لا ينام!
أنشأتُ مدوّنةً إذن. فما الذي يرجوه صحافيّ متردّد (هو أنا) من اعتماد هذا الوسيط بينه وبين جمهور مفترض يبقى محتاجاُ إلى تعريف؟ وما مصير هذا الوسيط إذا انتكسَت صحافية الصحافي؟ أعود إلى هذا القبيل من الأسئلة في عجالتي المقبلة.

٭ كاتب لبناني

سوريّا: أرقامٌ لوصف ما لا يوصف

أحمد بيضون

Jul 13, 2016

أبقى مع الموقع الفرنسيّ الذي اقترَحْتُ ترجمةً لاسمه «شَرْح النزاع السوريّ للغشيم» وقد أوجزتُ، في عُجالتين سابقتين، عَرْضَه صورةَ المواجهة الجارية في سوريا أو شريطها وتعريفه أطرافَها في الميدان العسكري وفي المضمار السياسي. على أن ما هو أوقعُ من هذه التعريفات للعناوين من عسكرية وسياسية جملةُ أرقامٍ يقدّمها العرض يمنحها ما سبق سياقاً ولكنها تخلع حياد الأرقام البارد لتقول بأفصح لسان حقيقة ما حصل ويحصل لسوريّا وللسوريين.

250 ألفاً إلى 400 ألف سقطوا قتلى. بينهم 185 ألف مدني قتل النظام الأسدي 95٪ منهم ورُبْعهم من النساء والأطفال. 11000 معتقل وثّق تقرير سيزار المشهور موتهم تحت التعذيب، وقال المدّعي العامّ السابق للمحكمة الدولية الخاصّة بسيراليون إن صورهم «لم يشاهَد ما يناظرها منذ أوشفيتس». وكان مصدر هذه الصور ثلاثة مراكز اعتقالٍ لا غير من أصل خمسين منتشرة في أرجاء البلاد. 60000 مفقود ومليونٌ ونصف مليون من الجرحى. تركيزٌ في الفتك على الجسم الطبّي الذي فقد 654 من عناصره قتل النظام الأسدي 93٪ منهم فيما غادر البلاد 15000 آخرون.

26٪ من المشافي أصبحت عاجزة عن العمل و33٪ أصبح عملها متعثّراً جدّاً. هذا في بلاد يحتاج فيها 11 مليون نسمة إلى العناية الطبيّة و13 مليوناً إلى المعونة الإنسانية وقد عاودت الظهور فيها أمراض خطيرة كانت قد اختفت منها شلل الأطفال وحتى الكوليرا. أعمّ من هذا أن معدّل الولادات قد هبط بمقدار 50٪… وهو ما يفاقم ما بات مشهوراً من أن 4,8 مليون من السوريين قد غادروا البلاد وأن 7 إلى 8 ملايين منهم قد نزحوا في داخل البلاد فأصبح واحدٌ من كلّ اثنين من السوريين يقيم في غير مسكنه. هذا ويقدّر عدد المساكن المدمّرة بـمليونين ومائة ألف ويزيد عدد المدارس المدمّرة عن 7000. وقد باتت الكلفة المقدّرة لإعادة الإعمار تبلغ 300 مليار دولار.

وفي الاقتصاد، هبط الناتج الداخلي بمقدار النصف وتراجع إنتاج التيّار بمقدار 70٪ والإنتاج الزراعي بأزيد من 40٪ وبلغ معدّل البطالة 50٪ ومعدّل التضخّم السنوي 50٪. وارتفع سعر الدولار في السوق السوداء من 47 ليرة سورية تقريباً في مطلع سنة 2011 إلى 220 ليرة في ربيع 2015 ونحوٍ من 300 ليرة في السوق السوداء. وقد دان الاقتصاد السوري بنجاته من الانهيار الكلّي للدعم الإيراني الضخم بالدرجة الأولى… من جهة أخرى، تناوب النظام وداعش على ثروة سوريّا التراثية تدميراً وسرقةً لتمويل الحرب.

وأمّا تدبير السوريين معاشهم فلا يزال قريباً، في بعض وجوهه، من حاله المألوفة في المناطق التي يسيطر عليها النظام: إذ هم فيها بمنجاةٍ من القصف إجمالاُ ويفيدون من الخدمات العامّة من إدارية وتعليمية وصحّية ولكن يشكون تقطّع التيّار وقلّة المياه وندرة محروقات التدفئة وغلاء السلع الضرورية الفاحش. وأمّا في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة فتتبدّى ضراوة الحرب بصورها كلّها. فبعض هذه المناطق محاصر حصاراً مطبقاً وهي عرضة للقصف الذي بات الطيران الروسي طرفاً فيه.

وقد بقي فيها من لا سبيل له إلى الرحيل. وتُوزَّع مقوّمات الحياة اليومية وتنظَّم الخدمات الأساسية محلّياً وتمارَس نشاطات تجارية مشروعةٌ وغير مشروعة. وأشدّ ما تبلغه قسوة العيش حاصلٌ في المناطق التي تهيمن عليها داعش حيث تعاني النساء من العزل وتطبّق عقوبات التعذيب والإعدام بلا رويّة ويهيمن الجهاديون غير السوريين على مرافق الخدمة والسلطة.

ولا يوصف بغير القسوة ما يلقاه اللاجئون السوريون في المخيمات التي أنشئت لهم في الأقطار المحيطة. فها هنا ترزح على الوافدين شروط سكن وعيش مريرة وإن يكونوا يحظون بعناية منظّماتٍ مختلفة في ميادين الصحّة وتعليم الأطفال وعمل النساء. وهو ما لا يمنع النشاط المافيوي والاتّجار بالممنوعات والدعارة. هذا ويعدّ اللاجئون السوريّون ـ على ما سبق بيانه ـ بالملايين ويصل بعضهم إلى مقاصدهم الأوروبية (أو لا يصلون) بعد رحلات مروّعة. وتفيد الاستطلاعات أن أكثرهم يحلم بالعودة إلى سوريّا بلا نظامٍ أسدي ولا دواعش.

يتوجّه العرض في صفحاته الأخيرة إلى الفرنسيين مجدّداً موضحاً تعذّر الفصل ما بين الخلاص من نظام الأسد والخلاص من داعش إذ كلّ منهما يعوّل في «صموده» على الآخر. وأمّا المخرج من هذه النكبة الكبرى فيرى منشئو هذا الموقع بصيص أملٍ فيه متمثّلاً في اجتماع فيينا الذي انعقد في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 وقد خلا من السوريين وانتهى إلى خريطة طريق اعتمدتها أطرافه السبعة عشر ومعهم الاتّحاد الأوروبي والأمم المتّحدة… وهي قد نصّت على مساق يقوده السوريون بعد وقف النار ينتهي، في غضون ستّة أشهر، إلى جدول أعمال يؤول بدوره إلى وضع دستورٍ جديد. تبع هذا الاجتماعَ قرار من مجلس الأمن تقدّم بنصّه الأمريكيون والروس معاً وقضى بفتح محادثات في مطلع السنة الجارية بين الحكومة السورية والمعارضة ترسم مساقاً للانتقال السياسي حدّد القرار محطّاته: من الحكومة الانتقالية إلى الدستور فإلى الانتخابات الحرّة في غضون 18 شهراً.

على أن هذا القرار لم يفتتح مرحلة هدوء بل أجّج القتال في ما بدا تسابقاً إلى تحسين المواقع الميدانية تمهيداً للتفاوض. ذاك ما عمدت إليه، على الخصوص، قوّات النظام يدعمها سلاح الجوّ الروسي. وهو ما يعزّز الخشية من أن يكون أفق السلام قد أخذ ينأى عن المتناول مرّةً أخرى. هذا الأفق يتعذر إدراكه، في كلّ حال، إن لم يحمل، في ما يتعدّى مساومات لا بدّ منها، إنصافاً لشعب أراد الحريّة والكرامة والعدل.

ذاك ما تراه منشئات هذا الموقع وقد جهدنا في تقديم اللُباب من مضمونه وما زلنا نرى، مع ذلك، فائدة في وضع نسخة عربية تامّة منه في تصرّف المتصفّحين تجاور النسختين الفرنسية والإنكليزية. وذاك أن «الغَشامة» ليست حكراً على الناطقين بلغتي موليير وشكسبير بل هي واسعة الانتشار بين الناطقين بلغة أدونيس…

لم يبق علينا، من بعدُ، غير أن نشكر على هذا الإنجاز، موقّعاته وهنّ إيزابيل هوسر وهالة قضماني وآنييس لوفالوا وماري كلود سليك ومانون نور طنّوس. جميعهنّ نساء وقد يكنّ أَوْلى، بصفتهنّ هذه، بالتحسّس المستتمّ الأبعاد لنكبة السوريين.

٭ كاتب لبناني

2

سوريا الحرب والثورة: أطرافٌ وذيول

أحمد بيضون

Jul 05, 2016

أعود إلى الموقع الفرنسيّ http://www.leconflitsyrienpourlesnuls.org أي «شرح النزاع السوري للغَشيم» وأتوقّف عند عرضه الأطراف السياسية الضالعة في الحرب السورية. يبدأ العرض من النظام فيقابل ما بين الصور الغربية المتعارضة لبشّار الأسد وما في «حداثته» و«علمانيته» و«حمايته للأقلّيات» من غشّ جسيم. ثم يستطلع غاية النظام من الحرب وعوامل صموده وإمكان استعادته نوعاً من الشرعية… ولا يفوته، في هذا المساق، أن يختم التعريف بالنظام برسمٍ بياني يوضح أن 9025 مدنيّاً قتلوا في سوريّا في النصف الأوّل من سنة 2015 وأن نصيب النظام من هذه المقتلة كان 87,5% فيما تولّت داعش بقيّتها أي 12,5% لا غير. هذا تنبيه يفترض أن يكون له وقع خاصّ على أوروبيين باتوا نزّاعين، بعد الضربات التي تلقّوها من داعش، إلى المفاضلة بين هذه الأخيرة والنظام الأسدي والسؤال عمّا إذا لم يكن سائغاً لهم التعويل على النظام في مواجهتهم إرهاب «الدولة»…
وأمّا المعارضة السياسية في سوريّا فيسجّل العرض عجزها عن الاستواء بديلاً للنظام والوقع الثقيل لهذا العجز على أفق الصراع كلّه. يذكر الاستعراض أسباباً لهذا العجز: من طول إقامة السوريين خارج كلّ مراسٍ سياسي إلى ما يقابل ذلك من تعقيد في الصراع يوجب تمرّس الخائضين… فإلى ما هو معلومٌ من تشرذمٍ ومن خضوع للتجاذب الخارجي… أهمّ من ذلك أن العرض لا يفوته، ههنا أيضاً، ما يفوت كثيرين: وهو أن كثرةً من السوريين قد طلبت الخلاص من نظام الأسد وأن حَمَلة هذا الطلب بقي منهم، على الرغم من الثقل الساحق للقمع ولسائر المعوّقات، قوىً معتبرة تشهد بتضحياتها وبمواقفها لاستمراره. من هذه القوى يذكر العرض منظّمات المجتمع المدني الكثيرة الصامدة، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وعناصر الدفاع المدني الشجعان والمجالس المحليّة التي تدير حياة الجماعات اليومية والمثقفين على اختلاف فروع الحرفة… هذه الحلقة يختمها الاستعراض بعودةٍ إلى داعش توضح ضعف ما لقيه انتشارها من مقاومة من جانب النظام وحلفائه بالقياس إلى ما لقيته من قمع قوىً سلمية وأخرى مسلّحة أبدت ولاءً للخيار الديمقراطي.
هذا الضعف لم يباشر تعويضه سوى انتقال الصراع الإقليمي الدولي على سوريّا إلى داخل البلاد واتّخاذه وجهاً عسكريّاً مباشراً على أرضها. وهو ما جعل التصدّي لداعش والتنافس فيه مدخلاً من مداخل اعتمدها كلّ من الأطراف الخارجية لتسويغ وجوده في الميدان السوري ورسم موقعه في الصراع. وهذا مع العلم أن زيادة الخشية الدولية المباشرة من داعش، بعد ما نفّذته هذه الأخيرة من ضرباتٍ في بلادٍ بعيدةٍ عن سوريّا والعراق، هي وحدها ما رفع حدّة التصدّي لها إلى درجة أصبحت مرجّحة التأثير في صمودها.
وإذ يستكمل العرض بهذا عناصر الصورة الداخلية يعكف تباعاً على النطاقين المتبقّيين من الصراع: الإقليمي والدُولي، وهما ظاهرا التشابك. يذكر وقع اللجوء السوري على أقطار المحيط: على تركيا التي تستقبل مليونين ومائتي ألف، على لبنان الذي يستقبل مليوناً ونصف مليون، على الأردن الذي يستقبل 800 ألف، على العراق الذي يستقبل 245 ألفاً، على مصر التي تستقبل 137 ألفاً… هذا الوقع يشخّص العرض بإيجاز كليّ تغايره بين كلّ من هذه الدول والأخريات، وذلك تبعاً لتغايرها من وجوه عدّة.
بعد ذلك، يأتي السؤال: مَن يدعم مَن في سوريّا؟ ولا مفاجأة في الأجوبة: إيران تدعم النظام الأسدي دعماً متعدّد الوجوه وحزب الله اللبناني الموالي لها (فضلاً عن ميليشياتٍ أخرى مشابهة) ضالع في القتال بجانب قوّات النظام. تريد إيران حفظ التواصل الاستراتيجي في الخطّ الممتدّ من طهران إلى بغداد فإلى دمشق وبيروت. وتريد منع نظام سنّي ينضمّ إلى المحور المناوئ لها في المحيط من الاستقرار في دمشق. وأما دول النفط الخليجية فأخذت علماً بكون واشنطن لا ترى أولوية، في ما يتعدّى التصريحات، لدعم قوى الثورة السورية وهو ما عرفته تركيا أيضاً. وكانت السعودية وقطر قد بادرتا سريعاً إلى دعم مقاومي النظام، وبغيتهما الحدّ من توسّع النفوذ الإيراني. ولكن هذا الدعم رزحت عليه قيود وأفضى استقلال كلّ من طرفيه بأهدافه إلى زيادة الانقسام في صفوف المدعومين. وهذا تنافس تراجع وقعه بالتدريج لصالح الدور السعودي وهو ما جعل اجتماع المعارضة السورية في الرياض، في كانون الأوّل 2015، تمهيداً لاستئناف محادثات التسوية في نيويورك، أمراً ممكناً.
يبقى، في النطاق الإقليمي، موقف إسرائيل. يسترجع العرض ما وجّهته الأخيرة من ضربات إلى مراكز أبحاث عسكرية سورية وإلى قوافل لحزب الله مستدلا بذلك على المتابعة الدقيقة لمجريات النزاع ولكن من غير تأثيرٍ ذي أهمّيةٍ في مجراه. ذاك مظهر من مظاهر الخلاف القائم في إسرائيل بين مفضّل لبقاء النظام الأسدي الذي كان قد اثبت مدّة عشرات من السنين حرصه على هدوء الحدود مع إسرائيل ومحبّذ لنشوء نظام للجهاديين السنّة في دمشق يعزل حزب الله ومن ورائه إيران.
في المضمار الدولي، ينوّه العرض برغبة بوتين في استعادة ماضي النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط وبحرصه على بشّار الأسد حليفاً وحيداً باقياً له في هذا المقلب وزبوناً أوّل. وهو ما تعزّزه الخشية الروسية الداخلية من تنامي قوّة الإسلاميين. ذاك ما ظهر، على الخصوص، في دعم النظام الأسدي بالفيتو الروسي تكراراً في مجلس الأمن ثم نقل الدعم الروسي، ابتداءً من أيلول 2015، إلى مرحلة الدخول المباشر في حربٍ جوّية تذرّعت بمقاتلة الإرهاب ولكنّها شملت سائر الفصائل المعارضة للنظام وانتشلت هذا الأخير من ضائقة عسكرية وسياسية كانت تزداد شدةً.
يلي هذا استذكارٌ لأطوار الموقف الأمريكي: من التراجع، في آب 2013، عن اعتبار واقعة القتل الجماعي لـ 1700 مدني بالسلاح الكيماوي خطّاً أحمر إلى إعلان أوباما، في أواخر العام التالي، افتقار الولايات المتحّدة إلى إستراتيجية سورية. وهو ما استوى إجازة بالقتل للنظام الأسدي لم يستثن من بين أدواتها البراميل المتفجّرة المشحونة بغاز الكلور. هذا الاستنكاف الأمريكي لم يكن له أن يشمل الظاهرة الجهادية. فكان أن أطلق إقدام داعش على الإعدام الوحشي لمواطنٍ أمريكي حملة قصف جوّي لهذا التنظيم صحبها تراخٍ متدرّج في واشنطن لمعارضة التصوّر الروسي للحلّ السياسي المقبول في سوريّا…
يعرّج العرض بعد ذلك على الانقسام الأوروبي بصدد الأزمة السورية وينوّه بما تولّته فرنسا من متابعةٍ إيجابية لمحطّات النزاع انتهت إلى الرفض المزدوج للأسدية والداعشية باعتبارهما لا يضمنان سلاماً في سوريّا. على أن تصريحاً من الأمين العامّ للأمم المتحدة، في خريف 2015، استثنى فرنسا من لائحة دولٍ (عددها خمسٌ) اعتبرها ممسكة بمقاليد النزاع السوري…
يبقى، في نهاية المطاف، أن مثابرة النظام الأسدي على موقفه الاستئثاري لا تزكّي حلا قريباً للأزمة. فما تزال المبادرات المتتابعة تخبو وتتبدّد. وما يزال المندوب الثالث للأمم المتّحدة يعدّ جولة محادثات جديدة (لا تستثنى منها إيران هذه المرّة) من غير ظهور تغييرٍ يزكّي الأمل في تثبيت سكّةٍ لحلّ سياسي.
ولكن ما الذي حصل للسوريّين ولسوريّا فيما لا يني أفق الحلّ يبتعد أو يأبى أن يقترب؟ ذاك هو السؤال الأَوْلى بالعناية… ونستطلع، في عجالتنا المقبلة، ما يقترحه الموقع الفرنسيّ جواباً عن هذا السؤال إذا طرحه «غَشيم»…

٭ كاتب لبناني