لبنان: حلقة الأنفاق المفرغة

أحمد بيضون

Nov 21, 2016

حتى الساعة، لم يطل العهد كثيراً بالمسعى الذي يبذله سعد الحريري لتأليف الحكومة الأولى في عهد ميشال عون. ولكن كلّ وقت مناسب للتأمّل في البلاء الذي يجعل اللبنانيين لا يخرجون من وضع غير مألوف في دولة سويّة التكوين المؤسسي إلا ليدخلوا في وضعٍ آخر لا يقلّ عنه خروجاً عن المألوف ناهيك بالمأمول.
بل إنه يمكن القول إن اللبنانيّين تبقى أيديهم على قلوبهم ولو خرجوا، مثلاً، من نفقين تباعاً في وقت مقبول، إذ سرعان ما يلوح لهم مدخل نفق ثالث يتوقعونه مظلماً وطويلاً. صحيح أن كلّ خروج إلى ضوء النهار يمنحهم مهلة للتنفّس وللبحث أيضاً في كيفية تحويل الطريق التي تسلكها بهم بلادهم عن النفق التالي، ولكن هذه المهلة لم تطل في أيّ مرّة من زمن بات طويلاً نسبيّاً: من سنة 2005، في أدنى تقدير، ما دامت حوادث تلك السنة قد باتت تعدّ، وهي جديرة، محطّة أو بداية يؤرّخ بها، كما كان يؤرّخ قبلها باتفاق الطائف ونهاية الحرب، وكان يؤرّخ قبل نهاية الحرب بعام نشوبها.
فقد شهدت البلاد في أحد عشر عاماً تقضّت على اغتيال رفيق الحريري وخروج القوّات السورية من البلاد حالات تشبه كلّ منها هذا أو ذاك من أمراض الآدميين: فبعضها يشبه الصرع (مثلاً حرب 2006) وبعضها يمتّ بنَسَبٍ إلى الشلل (مثلاً: الشغور الأخير في كرسي الرئاسة الأولى والتمديد لمجلس النواب) وبعضها إلى داء الكزاز أقرب (مثلاً: الغِلابُ الممتدّ من تأليف المحكمة الدولية واستقالة الوزراء الشيعة في سنة 2006 إلى مؤتمر الدوحة وانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في سنة 2008) إلخ. وقد طالت هذه المرحلة، بمحطّاتها المختلفة، إلى حدّ جعل البيّنة، خلافاً للقاعدة، لا على من ادّعى بل على من أنكر أنّنا في أزمة نظام مقيمة ولسنا في أزمة سياسية من القبيل الذي يؤمل أن يستوعبه النظام: يستوعبه ولو بعد صراعٍ يقصر أو يطول وبعد إجراءاتٍ موضعية تُتّخذ فتبدو كافية لإقلاعٍ جديد وإن أُخذ عليها دائماً نقصٌ هنا وعِوَجٌ هناك.
من ثلاثة أسابيع، انتُخب، بعد عامين ونصف عامٍ من شغور الكرسي، رئيسٌ للجمهورية. وكانت قد سبقت الشغور الأخير، بين عامَي 2007 و2008، حالة شغورٍ أخرى في الكرسيّ نفسه دامت أشهراً. ولكن رَحَلت الحكومة القائمة (حكومة تمّام سلام)، مع انتخاب الرئيس الأوّل، وهو أمرٌ نظاميّ جدّاً. ولكن نظاميّة الرحيل لا تعفي من تذكّر المدّة التي كان قد استغرقها تأليف تلك الحكومة: إذ هي كانت الأطول في تاريخ شرقنا المعاصر: فبلغَت 316 يوماً متفوّقةً في الطول على أقرب سابقةٍ عراقية إليها وغير مسبوقةٍ، على نطاق العالم، في ما أعلم، إلا بحالة وَاحِدَةٍ، بلجيكية الموطن. وكانت قد سبقتها، في المرحلة نفسها، حكوماتٌ أخرى، طعن في «ميثاقية» وَاحِدَةٍ منها (والصحيح القول في توازنها الطائفي) بعد انسحاب مكوّنها الشيعي وتضامن حلفائه معه في خارجها. وكان أن المعسكر الذي ائتلف في مواجهتها راح يعتبر، بعد أن قاطعها، أن كلّ ما اتخذته من قرارات (بما فيها مشروع الموازنة العامّة) لا شرعيّةَ له بسببٍ من مخالفته «ميثاق» الطوائف. فبقيت البلاد مُذ ذاك تنفق ما تنفق بلا موازنةٍ مقَرّة، وذلك لتعذّر قَطْعِ الحساب وفقاً للأصول. وحين تشكّلت لاحقاً حكومةٌ ارتضاها هذا المعسكر (وهي حكومة نجيب ميقاتي الثانية التي طالَ مخاض تأليفها أشهراً أيضاً) ساغ للمعسكر المقصى (وهو ذاك الذي طُعِن في «ميثاقية» حكمه سابقاً ويتصدّره التيّار الحريري) أن يطعن بدوره في «ميثاقية» الحكومة الجديدة، ولكن بسبب وهن التمثيل السنّي فيها، هذه المرّة. وكان منطلق هذا التحوّل أن المعسكر الذي لم يتمكن من إسقاط الحكومة، في سنة 2006، بسحب وزرائه منها، تمكّن، في سنة 2011، من بلوغ الغاية نفسها بالطريقة نفسها، فافتتح إذّاك أزمة «الميثاقية» الثانية التي ذكرنا للتوّ.
في المدّة نفسها، كان مجلس النوّاب يموت أو يتماوت كلّما نُكبت السلطة التنفيذية بواحدةٍ من عللها المتمادية تلك. فأبوابه تغلق حين يعلن المعسكرُ الذي ينتمي إليه رئيسُه أن الحكومة باتت فاقدة الشرعية. وأبوابه تغلق حين يطول عهد البلاد بفقدان الحكومة أصلاً، ما خلا تلك المستقيلة والمكلَّفة «تصريف الأعمال». وأبوابه تغلق حين يستحيل «هيئةً ناخبة» بسببٍ من شغور كرسيّ الرئاسة الأولى، فتتعذّر مواصلة التشريع باستثناء ما ارتُجلت له تسميةُ «تشريع الضرورة» وهو يشبه كثيراً مداراة الموت السريري بآلة التّنفّس. يتعذّر انعقاد الهيئة الناخبة أيضاً لعلّة الافتقار إلى الثلثين اللازمين لتأمين النصاب، في هذه الحالة، ما دام التسليم بالشخصية المتوقّع انتخابها غير حاصل. تلك حالٌ دامت أشهراً بين عامي 2007 و2008 ثم تمادت سنتين ونصف سنة قبل أن يتيسّر الانتخاب الرئاسي الأخير. على أن الموات التشريعي، بما فيه العجز عن وضع قانون جديد للانتخابات (مجمَعٍ، في ظاهر الحال، على ضرورة وضعه)، لم يحل قطّ دون تمديد مجلس النواب ولايته مرّتين بحيث قاربت الولاية الواحدة، اليومَ، أن تُصبح ولايتين تامّتين.
ولا موجب للتنويه بأن التشريع لا يتعطّل أو يضطرب وحده، في هذه الحالة، وإنما يتعطّل أو يضطرب التسيير المنتظم لمؤسّسات الدولة أيضاً، من مدنيّة وعسكرية، بما في ذلك التعيين الضروري لبدلاء ممّن يتقاعدون وحتى التمويل الدوري لأعمال جارية، إلخ. فإذا ألقينا نظرةً إجمالية على مرحلةٍ بدأت تزيد عن عقد من السنين، وجدنا أن تعطّل الرئاسة الأولى وغياب الحكومة التامّة الصلاحية أو استعصاء العمل المنتظم على حكومة قائمة وتجميد العمل في مجلس النوّاب لعلّة دستورية أو لأخرى سياسية قد تناوبت أو تراكبت كلّها لضرب الأداء المعتاد أو المفترض لآلة الحكم بأسرها. وذاك أن العطل في واحدٍ من هذه المستويات كافٍ لإدخال الخلل الجسيم على عمل الدولة كلّه وللإشعار حين يطول الأمر سنيناً كثيرةً إلى هذا الحدّ بأن العطل قد بلغ صلب النظام واستقرّ فيه وأنه لم يبق مفرّ من البحث عنه والسعي إلى معالجته في مستقرّه العميق ذاك.
والحال أن أصل العلّة واضحٌ جدّاً وقد دأبْتُ على إبرازه من يوم أن أصبح أمراً واقعاً وظهر ثباته أي من زمن الحرب اللبنانية المعلومة. وهو أن الطوائف الرئيسة في البلاد قد اتّخذت كلّ منها، بحكمٍ من الحرب ثمّ من التسوية التي أفضت إليها الحرب ومن أعوام إعادة الإعمار، تمثيلاً سياسيّاً ظاهر الغلبة، بحيث لا يستقيم بديل منه في أيّ صيغة للحكم ويصبح استبعاده مرادفاً، على نحوٍ ما، لاستبعاد الطائفة نفسها من حومة الدولة. هذا الاستبعاد، على ما هو معلوم، يطيح النظام الطائفي من أصله إذ هو ينافي منطقه كلّياً. وأما انتصاب من لا بديل منه لتمثيل طائفةٍ من الطوائف في الحكم فمؤدّاه أن يُمْنَحَ هذا الطرف بالتالي حقّ نقضٍ صارم حيال مطالب الأطراف الأخرى أو مقترحاتها وحقاً في الاستفاضة والشطط في مطالبه أيضاً: يستند في الأمرين إلى علْمه بتعذّر الاستغناء عنه أو، في الأقلّ، إلى قدرته على الطعن في شرعية الحكم كلّه إذا حصل هذا الاستغناء. والعارف بالماجريات اللبنانية، في السنوات الأخيرة، يعلم ان هذا الكلام ما هو بالتحسّب النظري وإنما هو ما تتوصّل إليه المعاينة الحسيّة لعمل آلة الحكم اللبنانية وعمل معارضتها (أو لتعطّل هذه وتلك أيضاً) في المرحلة التي نتناول.
أمّا الوضع المتحصّل من هذا الطور في سيرة النظام الطائفي فهو الاستعصاء الذي نرى أو حلقة الأنفاق التي لا مخرج من أحدها إلا في اتّجاه مدخل الآخر. وأمّا الكيفيات الحسّية التي يتجسّد فيها هذا الاستعصاء ويفرض نفسه فتستحقّ منّا وقفةً على حدة.
كاتب لبناني

 

أحمد بيضون

بين العلاقة الشخصية والاستبداد

أحمد بيضون

Nov 14, 2016

استوقفتنا إذن، في عجالة الأسبوع الماضي، ظاهرة «موتى المرافقة» بما لها من انتشار في مدى العصور ومن توزّعٍ بين القارّات. شدّدنا على الظاهرة الخام: على ما تبرزه القبور الجماعية «غير المتناظرة» من وجود نزلاء فيها قتلوا أو انتحروا ليكونوا في معيّة السيّد الذي هو صاحب القبر في الحياة الأخرى.
على أن الأهمّ، لجهة الدلالة، يبقى المعيار العامّ الذي يحكم اختيار هؤلاء «المرافقين» أنفسهم (إذ يتطوّع كثير منهم للانتحار عند موت السيّد) أو اختيار الغير إيّاهم. لا ريب أن الرقيق طليعة المرشّحين ومع هؤلاء (أو بينهم) النساء من زوجات ومحظيّات. ويلاحظ، في حالة الملوك وفي غيرها، أن أقرب الخدم والأتباع إلى قلب الراحل وجسده هم طليعة المرشحين لـ«مرافقته» في مثواه الأخير. ولا يمنع هذا أن بعض سيّئي السيرة والسلوك من العبيد قد يستفاد من موت سيّدهم للخلاص منهم. ولا يمنع أيضاً أن أطفالاً قد يقتلون إذا مات معيلهم للافتقار إلى من يخلفه في العناية بهم. ولا يمنع أن هذا السبب عينه، أي خسارة المعيل، يفسّر بعضاً من حالات إقدام «الراشدين» على اللحاق طوعاً (أي انتحاراً) بفقيدهم. وبين هؤلاء عبيدٌ هم مثال الوفاء والولاء، لا يتبيّن لهم إمكان حياة تستمرّ في غير ظلّ السيّد الراحل. ولا يمنع أخيراً أن من تضعهم أقدارهم في طريق الموكب الجنائزي قد يقتلون بلا سؤال ولا جواب وأن العمّال ممن يعرفون حكماً مداخل الضريح ومخابئه قد يقتلون خلف بابه أو يدفنون أحياءً فيه. ولكن هذا كلّه لا يفسّر الظاهرة بأسرها ولا معظمها… وإنما يبقى تفسيرها الفعليّ في موضعٍ آخر.
يستبعد الانثروبولوجي الفرنسي آلان تستار كلّ تفسير دينيّ لتقليد «موتى المرافقة» هذا. فهؤلاء الموتى ليسوا قرابين ولا أضاحي إذ لا يراد بموتهم إرضاء قوّة من قوى الغيب، أي نيل حظوةٍ أو غفرانٍ منها للفقيد العزيز. وقد كان من الأديان الكبرى أنها كافحت هذا التقليد وسَعَت في إخماده حيث وجدته. وإنما كان يراد منه الشهادة لمكانة الفقيد وللحرص على رضاه، بالتالي، ويراد حفظ مزايا له في حياته الأخرى كانت له في حياته الأولى. الجاه إذن والحظوة المستمرّة، بعد الموت، بمُتَع الحياة المعتادة: متعة البطن ومتعة الفَرْج وما جرى هذا المجرى، بطبيعة الحال. ولكن أيضاً مُتَعُ الزينة والثروة الظاهرة ومتع الفروسية والقتال وكثرة الحرّاس وما جرى هذا المجرى أيضاً في حالة الملوك والقادة، إلخ. لا شيء هنا يقدّم لإله ما إذن. وإنما هو الراحل يحتفظ بما عنده.
ذاك لا يمنع شعوراً يجافي دعوى تستار غياب الدين عن ممارسة «المرافقة». نقتنع بحجة تستار الآيلة إلى نفي صفة «القربان» عن قتل المرافقين او انتحارهم. ولكن لا نغفل عن افتراض الراحلين حياةً أخرى تلي الموت… وهو افتراض يقع في جوهر الدين (ويلاحظ قارئ تستار كم هو فائض عن حدود ديانات التوحيد… بخلاف ما يظنّ العوام – على الأقل – من أتباع هذه الديانات) وهو – أي هذا الافتراض – شرط لا يتماسك دونه منطق «المرافقة».
على أن المستوى الأعمق الذي يسع جهد التفسير أن يبلغه إنما يتمثّل في ما يسمّيه تستار «العلاقات الشخصية». هذا النوع من العلاقات هو المهيمن بين ما يمكن استطلاعه من روابط تجمع الميت «الرئيس» بـ»مرافقيه». وهو ما يفسّر كون الملك لا يتبعه إلى القبر وزراؤه أو كبار موظّفي دولته. وإنما تتبعه أقرب محظيّاته وطبّاخه وسائسه وندماؤه وآخرون ممّن خالطوه، على أنحاء مختلفة، في جسده وفي معيشه الخاص فكانوا مقرّبين إليه أعزّاء عنده بما هو شخصٌ – ملك لا بما هو ملكٌ وحسب.
في هذه الصفة الشخصية لعلاقة الميت بمرافقيه في الموت يكمن سرّ «المرافقة» بحسب تستار. وهو سرّ يجوز تلخيصه بكلمتين: التبعية والولاء. ففي ممارسة «المرافقة» من أوّلها إلى آخرها وفي ترتيب المدفن المهيّأ لضمّ رفات الفقيد الرئيس ومرافقيه، على التخصيص، تظهر التبعية، تبعيّة العبيد وتبعية الأحرار من «المرافقين»، ممثّلةً في «الإخراج» المادّي لفضاء القبر ومندرجاته. والتبعيّة من جهة التابع إنّما هي التجلّي لسلطة المتبوع… يبقى مع ذلك أن ما يسمّيه تستار «الولاء» هو، في نظره، البعد الأحرى بالتأمّل في هذه العلاقة الشخصيّة الماثلة وراء «المرافقة». وفي الكلمة الفرنسية الدالّة على الولاء (فيدليتي) وفي أصلها اللاتيني (فيدس) تَعَدّدُ أبعادٍ يظهر في مكوّنات الدلالة: من معنى الإيمان إلى معنى الإخلاص إلى معنى الأمانة إلى معنى الوفاء، إلى معنى الملازمة، إلخ. وهو ما يصل به إلى أقصاه اختيار البقاء مع الولي في الحياة وفي ما بعدها واختيار مصاحبته في موته وملازمته في قبره بالتالي.
يلاحظ تستار أن تقليد «المرافقة» هذا كان قائماً في مجتمعاتٍ اعتمدت صيغة الدولة وفي أخرى بقيت مقتصرة على جماعة النَسَب. ولكنّه يلاحظ أيضاً أن الدول المركّبة أو المتقدّمة في التبلّر، وهي التي توصّلت إلى اعتماد بنية بيرقراطية قريبة إلى هذا الحدّ أو ذاك من النموذج الفيبري، بما فيها الإمبراطوريات الكبرى، قد نحت نحو استبعاد «المرافقة» وسعى بعضها إلى اجتراح بدائل لها. ذاك ما يتبدّى، مثلاً، في الحالة الصينية. فالإمبراطور الأول «شين» (وهو الذي منح الصين اسمها) أنشأ لنفسه ضريحاً تبلغ مساحته 16 كلم2 (وما يزال استكشافه جارياً) ولم تصحبه إليه حاشية من المرافقين المقتولين بل وُضع فيه جيش وافر من الجنود الخزفيين حجم كلّ منهم مساوٍ لحجم الجندي الطبيعي. ذاك إذن «بديل» رمزيّ ضخم للمرافقة البشرية.
يبقى أن تقليد المرافقة، بأضخم صوره وأغناها دلالةً، قد ميّز الممالك المطلقة أي دول الاستبداد أو المونوقراطيات التي يحتكر فيها فردٌ واحد جملة السلطة. وفي عرف تستار أن ما يمثّله موتى المرافقة من ولاء يتجاوز جدار الموت إنما هو التجسيد الأمثل للاستبداد أو للسلطة المطلقة. وهو أيضاً أصل الدولة وشرطها في الصيغة التي ظهرت لها أوّلاً وهي صيغة الاستبداد. ففي هذه الصيغة يكون معنى الدولة استعداد الرعايا للموت في سبيل المتبوع وللحاق به إلى القبر. يفترض فيهم استبطان هذا الاستعداد وسدّ السبل امام أيّ شكّ فيه ويفترض صاحب السلطان من جهته حصول الاستعداد المذكور ويعوّل على تفعيله، لا في حياته المحدودة وحسب بل في ما يتعدّى هذه الحياة أيضاً.
يتبع هذا مأخذ نافذ على الأنثروبولوجيا الاجتماعية يعتمده تستار وهو طغيان علاقة القرابة على تناولها بنى المجتمعات. هذا بينما تنطوي الحياة الاجتماعية على أنواع غير قرابية من العلاقات بينها تلك «العلاقة الشخصية» التي يجدها تستار تحت ممارسة «المرافقة» قبل أن يباشر البحث عنها في «أصل الدولة». ولعلّنا نعود إلى نظريّة أصل الدولة هذه، وهي موضوع الجزء الثاني من كتاب تستار. وإنما قصرنا همّنا ههنا على وصف ما يفترضه المستبدّون، بحسب تستار، معنى أقصى لسلطانهم. وهو معنى بذلت البشرية ما لا يبذل للخروج عليه وللحدّ منه، أي لإخراج سلطة الدولة من دائرة «العلاقة الشخصية» بصاحب السلطة إلى دوائر أخرى ذات موضوعات غير شخصية من نُظُم الحياة الاجتماعية. ولكن المستبدّين ما يزالون كثراً هنا وهناك في أرجاء الكوكب، يستغني بعضهم عن الأقنعة ويلبس بعضٌ آخر أقنعة شتّى. وما يزال بعضهم بين ظهرانينا وما يزال كثير منّا يلبّون دعوتهم فيتبعونهم إلى قبورهم أو يسبقونهم إليها.

أحمد بيضون

“موتى المرافقة”

أحمد بيضون

Nov 07, 2016

لا أستبين منطق الصلة التي أنشأتُها، في مخيّلتي، ما بين «حقول القتل» التي حاصرَتْنا، وما تزال، طوال هذه السنوات الأخيرة، و»موتى المرافقة»، وإنما ساقني إلى هؤلاء أن الأنثروبولوجي الفرنسي الفذّ آلان تستار جعَلهم موضوعاً وعنواناً للجزء الأوّل من كتاب اختار لجزأيه معاً عنواناً هو «الرقّ الطوعي».
وهو قد استعار هذا العنوان الأخير من رسالة ذائعة الصيت لسلَفه أتيان دو لا بويسي ثم ارتأى «أصل الدولة» عنواناً للجزء الثاني من كتابه ذاك. وكان منه أنه أراد، على ما قد يبدو في هذا الرأي من إغرابٍ يجهد الكتاب كلّه في تذليله، أن يظهر مثول أولئك «الموتى» في موقع الركن من ذلك «الأصل».
تهيّأ لي إذن أن من قُتِل ويُقْتل من السوريين إنما يشبع رغبة حافظ الأسد، صاحب «الأبد» الشهير، في أن يوافيه الشعب السوري إلى العالم الآخر، ليواصل هو قيادته، وأن بشّار الأسد قد لا يكون سوى منفّذ لوصيّة والده في هذا الصدد. أقول «تهيّأ لي» لعلمي أن الأمر إنما ينتمي إلى دنيا التهيّؤات لا إلى الاستخلاص العقلي، ولكنّه تهيّؤ مكتنَف بانفعال ملحّ لا يستقيم إلا مع تصديق عميق (هو الذي يميّز الأحلامَ في كلّ حال، والكوابيسَ من بينها، على الأخصّ) وهو التصديق بحقيقة المتخيَّل.
ولم أستبعد، حين رحت أتأمّل الحالة السورية، أن تكون هذه أيضاً رغبة معمّر القذافي: أن يستقدم إليه الشعب الليبي إلى حيث انتهى به مطاف لم يحسب نهايته وشيكة إلى هذا الحدّ. ولم لا تكون الرغبة نفسها تساور علي عبد الله صالح وحسني مبارك، ولو ان هذين ما يزالان في قيد الحياة؟ وهو ما يقتضي تعديلاً في الرغبة يقضي بأن يسبق الشعبُ القائدَ إلى الحياة الأخرى، عوض أن يتبعه، على أن يلحق الأخيرُ بالأوّل حالما يتمّ نصْبُ كرسيّ الرئاسة هناك ويكتمل جمهورُ المبايعين بتِسْعاته كلّها.
ولكن من هم أو ما هم «موتى المرافقة» أولئك؟ رحل آلان تستار قبل ثلاث سنواتٍ تقريبا، ولم يصطحب أحداً إلى باطن قبره في تخميني، وكان كتابه الذي أتوقّف عنده قد صدر في سنة 2004.. وينكبّ الجزء الأوّل من الكتاب على ظاهرة ذكرُها قليل الشيوع في ثقافة عصرنا العامّة فيكاد يُقْتصر الإلمام بوجودها وماهيّتها على المختصّين. تلك ظاهرة إلحاق ميّت آخر أو موتى آخرين، ثانوي أو ثانويّين، بميّتٍ رئيس بحيث لا يذهب هذا الأخير وحده إلى عالم ما بعد الموت، بل تكون له معيّة. وبخلاف ما قد يظنّ بهذه الظاهرة من شذوذ أو ندرة، يوضح الكتاب انتشارَها الشاسع في الزمان والمكان والتنوّعَ المهول في صيغ تحصيلها وفي أبعادها وفئات الذين «أفادوا» منها أو كانوا من ضحاياها من البشر.
فأما ما يتعلّق بالزمان فإن كتاب تستار يبدأ بذكر ما يقوله الإغريقي هيرودوتس، المعروف بـ»أبي التاريخ»، في القرن الخامس قبل المسيح، بصدد السيثيّين، وهم قوم من الرحّل انتشروا في السهوب الممتدّة إلى الشمال من البحر الأسود وكانوا، إذا مات ملِكهم، عمدوا إلى خنق واحدة من محظيّاته ونفرٍ مختار من خدمه وحشمه وعدد من جياده، ودفنوا هذا كلّه مع الراحل، على نسق معيّن، فضلاً عن مقتنياتٍ وأوانٍ ثمينة خاصّة بالملك يفترض أنه يحتاج إليها في الحياة الأخرى. ليس هذا فحسب، بل إن هؤلاء القوم كانوا يعيدون الكرّة بعد سنة من وفاة الملك فيقتلون عدداً من أعزّ خدمه ومعاونيه عليه بينهم خمسون من خيرة الفتيان يُرْكبونهم جِيَف خمسين من أحسن جياد الملك متمّمين بذلك المراسم.
إذا كانت شهادة هيرودوتس أقدم ما بين أيدينا من وصف لهذه الممارسة الموسومة باسم «موتى المرافقة» فإن المعطيات التي تكشفها الحفريّات تبيّن أن في وسعنا أن نتجاوز السيثيّين رجوعاً مئاتٍ أو آلافاً من السنين ونظلّ نقع على مدافن «غير متناظرة» فيها ميّت رئيس وفيها (أو في محيطها) موتى آخرون قُتلوا أو انتحروا لمرافقة الراحل، بل إن المؤلّف لا يكتفي بجولة في الحضارات الرئيسة القديمة: مصر وما بين النهرين والصين، على الخصوص، وفيها يقع على الظاهرة عينها في مدافن ترقى إلى مراحل أولى من مسارات دولها. وإنما هو يوغل صعوداً حتى العصر الحجري للوقوف في مدافن المرحلة المتأخرة من ذلك العهد على آثار محتملة لموتى مرافَقة. ولكن ما يباغتنا قد لا يكون مثول هؤلاء الموتى في مدافن ما قبل التاريخ، بل استمرار هذه الممارسة في العالم الحديث، في بعض بقاع أفريقيا الغربية، على التحديد، حتى أوائل الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.
هذا عن الصمود الزمني لهذه الظاهرة وهو مهول. أمّا انتشارها الجغرافي فلا يقلّ عن ذاك مباغتة لنا. يعرض تستار ما هو معلوم عن هذه الظاهرة في عدد كبير جدّاً من المجتمعات، موزّع ما بين القارّات كلّها. ثم ينتهي إلى خريطة توضح حدود المناطق التي وجدت فيها آثار كثيفة لهذه الممارسة. فإذا هذه المناطق ثلاثٌ تمتدّ الأولى منها من شرق أوروبا إلى ساحل الصين عبر سهوب القفقاس ووسط آسيا وبعض سيبيريا ومنغوليا. وإذا الثانية تغطّي معظم أفريقيا من مصر في الشرق ومعظم السودان إلى الساحل الجنوبي الغربي بتمام طوله تقريباً… وإذا الثالثة تستغرق معظم الساحل الغربي للقارّة الأمريكية بأقسامها الثلاثة وتُوغِل من هناك في بعض نواحي البرّ الأمريكي. وهو ما لا يعني، على جسامته، أن مناطق أخرى من العالم كانت خالية من الظاهرة نفسها كلّياً. ولكن من هم الذين كان يجب أن يصحبهم آخرون في رحلتهم إلى العالم الآخر؟ لَم يكونوا الملوك وحدهم، ولو أن دفن هؤلاء كان يستوي في مجتمعات كثيرة مناسبة لمجازر مهولة يُفْتَك فيها بكثير من الناس ولا تعفّ عن الحيوانات من خيولٍ وكلاب، على الخصوص، ومن فِيَلة أيضاً حيث توجد في الجوار. على أن من هم أدنى شأناً من الملوك كانوا يَسْتصحبون في موتهم أيضاً موتى آخرين، يحدّد مقامُ الميت هويّاتِهم وعددَهم. فيتراوح الأمر ما بين الأرملة التي تنتحر على محرقة زوجها في الهند أو الساموراي الذي يقتل نفسه عند موت سيده في اليابان (وهذان أشيع الحالات ذكراً في «الثقافة العامّة» ولكنهما من بين أقلّها فتكاً) وبين «الوجيه» الآسيوي أو الأفريقي أو الأمريكي الذي يلتحق به عدد كبير أو صغير، بحسب ثروته ومقامه، من عبيده وأتباعه ومن نسائه أيضاً إلى مثواه الأخير. وفي هذا المساق، لا يستقيم لنا استيعاب الصور التي يرسمها تستار ما لم نكن نعلم أن الرقّ كان ضارباً أطنابه في أفريقيا وأمريكا، قبل وصول «البيض» إلى هاتين القارّتين بزمن مديد.
أما الطرق المتبّعة للقضاء على هؤلاء «التابعين»، وقد ذكرنا منها الخنق، وهو شائع، فكانت متنوّعة. تبقي قراءةُ كتاب تستار، من هذه الزاوية، شعرَ الرأس منتصباً، من بدايتها إلى نهايتها. فالكتاب ليس نزهة في جبّانات مألوفة المنظر، قد يخفّف من وحشتها العشب والشجر. وإنما هو جولاتٌ كثيرة، معزّزة بالرسوم والصور، في بواطن قبورٍ مركّبة متباينة الأبعاد والتصاميم. وهو وقوف تفصيلي على أحوال ما فيها من هياكل لجهات الجنس والعمر والوضع في المدفن وكيفية الوفاة. وهذه الأخيرة، في أحوال موتى المرافقة، غنيّة بأنواع ما نعدّه فظائع وبدرجاتها: فيسعها أن تكون دفْنَ «المرافقين» أحياءً ويسعها أن تكون دفعهم إلى المحرقة التي تنصب لجثمان السيد ويسعها أن تكون سحق جماجمهم أو قطع رؤوسهم ويسعها أن تكون شقّ جسد تلك المرأة بسكّين بعد أن تُسقى خمراً كثيرة وبعد أن يكون ضاجعها، في يوم قتلها، عدد وافر من الرجال إكراماً للسيّد الذي سيضاجعها في العالم الآخر… إلخ.
ما الذي جعل ظاهرة المرافقة تظهر هنا ولا تظهر هناك؟ ما شرط ظهورها أو شروطُه؟ وإذا كان الاستبداد ظاهراً للعيان في ممارستها فكيف تعرّف العلاقة بينها وبين الاستبداد بمعناه الأعمّ؟ نعود إلى هذه الأسئلة في عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

خمسون عاماً مضت: ما الذي كانته “الثورة الثقافية” في الصين؟

أحمد بيضون

Oct 31, 2016

أطلق ماو تسي تونغ ثورته الثقافية، إذن، (واسمها الكامل «الثورة الثقافية البروليتارية العظمى») في الربيع من سنة 1966، أي بعد سنوات قليلة كانت قد انقضت على فشل «الوثبة الكبرى إلى الأمام» وما خلّفته من خراب مهول في الاقتصاد الصيني، وعلى تراخي القبضة الماويّة، من جرّائها، على الحزب وعلى البلاد.
وعلى غرار ما هو مألوف من أحوال الأنظمة المُعْتمة التي تزعم تنوير العالم، لا يُعرف عدد الذين قضوا في «الوثبة الكبرى» التي تكشّفت عن وثبة نحو المجاعة، فيتراوح تقديره ما بين خمسة عشر مليوناً وخمسة وخمسين مليوناً. وكانت الغاية المعلنة من «الثورة الثقافية» ضرب البرجزة أو الانحراف الرأسمالي والتحريفية ذات المشرب السوفييتي والبيرقراطية في الحزب والدولة والقضاء أيضاً على «الأشياء الأربعة البالية» أي على الفنون والآداب التقليدية وعلى التراث الفكري القديم وعلى معالم تاريخية مختلفة أخصّها المعابد إلخ. وكان من الشعارات: «النار على القيادة العامّة». وكانت القوّة الضاربة بضعة ملايين من «الحرّاس الحمر» أكثرهم من الطلاب والتلامذة، رفعوا «الكتاب الأحمر» وفيه نصوص مختارةٌ من أعمال ماو وأطلقت أيديهم مدّة من الزمن في التشهير والمعاقبة والعزل والاستبدال، وفي القتل عند الاقتضاء وكانت القيادة مجسّدة في الرئيس ماو الذي بدأت تدركه الشيخوخة وفي من سُمّوا لاحقاً «عصابة الأربعة» من خلفه وأهمّ عناصر «العصابة» زوجته. وكان في الصدارة أيضاً لين بياو، وزير الدفاع المرشّح لاحقاً لخلافة ماو، وقد قُتل سنة 1971 (أي بعد الانقلاب على الثورة الثقافية) في حادث طائرة مشبوه. وقد كرّر الرئيس وأركان حربه الظهور على المنصّة في ساحة تيان آن من، يستعرضون طوابير الحرّاس الحمر عند مدخل «المدينة المحرّمة»، بيجنغ الأباطرة القدماء.
وفي رأس من طالهم العزل والعقاب ليو شاو شي، رئيس الجمهورية، الذي كان قد حلّ محلّ ماو في هذا المنصب مع تحوّل «الوثبة الكبرى» إلى كارثة عظمى. وقد عُزل ليو واعتُقل في حمّى الثورة الثقافية ولم يلبث أن قضى في المعتقل حيث كان يلقى أسوأ المعاملة. وفي وقتٍ ما، اهتزّت الأرض تحت قدمي رئيس مجلس الوزراء شو إن لاي، رفيق ماو القديم والمسؤول المخضرم الذي كانت الصين تستعير لسانه لمخاطبة المجتمع الدولي. ولكن شو إن لاي صمد. وفي ما دون هذه الدائرة العليا، عصفت الثورة الثقافية بأوضاع بشر لا يحصون على كلّ مستوى. حصل ما كان منتظراً فراح الابن يشي بأبيه والطالب برفيقه والموظّف بزميله إلخ. وفضلاً عن ضحايا المقاومة التي لقيها «الحرّاس الحمر» من خصومهم، لم تلبث الشيع المختلفة أن ظهرت بين صفوف الحرّاس أنفسهم ودبّ العنف بينهم ومال بعضهم إلى السلب والنهب فيما بدا أن الانتهازية وريث محتمل للبيرقراطية وأن البلاد كلّها – وهذا هو الأهمّ – وصلت إلى شفير الحرب الأهلية. ولعل المختصّ الفرنسي ميشال بونّان يحسن تقديم جوهر الماويّة حين يقول إنها تختلف عن الستالينية التي كان العنف والقمع فيها شأن أجهزة متخصّصة بِكَوْن العنف والقتل في الماويّة قد أصبحا «ديمقراطيين» يسع كلَّ من ينتحل دعوى الضرب بقبضة «الشعب» أن يُقْدم عليهما.
مع هذا كلّه، بقيت القيادة الضيّقة ممسكة بالزمام. فبعد أن أزاح «الحرّاس الحمر» خصومها في الحزب والدولة، أطلقت الجيشَ على «الحرّاس الحمر» ومع استمرار الإشادة بدورهم «الثوري»، انتهى أمر هؤلاء إلى الترحيل بالملايين من المدن التي كانوا منتشرين فيها إلى الأرياف التي شهدت نهايتهم بما هم قوّة سياسية. فيما كان المؤتمر التاسع للحزب يردّ لأجهزة هذا الأخير وظائفها ويثبّت القيادة الماويّة في سلطانها. وعلى غرار ما سبق ذكره بصدد «الوثبة الكبرى»، يتراوح العدد المقدّر لمن سقطوا في «الثورة الثقافية» ما بين بضع مئات من الألوف وبضعة ملايين وهؤلاء ضحايا ينبغي لحظُ توزّعهم ما بين «أعداء الشعب»، على اختلاف الأنواع، وبين الشيع الثورية التي دبّ بينها الشقاق.
ثبَّتت «الثورة الثقافية» الرئيس ماو وأعوانه في السلطة، إذن، ورفعت شخصه إلى مستوى من العبادة غير مسبوق. على أن هادم اللذّات وافاه سنة 1976.. وكان رئيس مجلس الوزراء شو إن لاي قد سبقه إلى الدار الآخرة بأشهر. فلم تصمد «عصابة الأربعة» بعد رحيل ماو سوى أسابيع أصبحت بعدها نزيلة السجن… حُمّلت «عصابة الأربعة» عبء المسؤولية عمّا اعتبرته السلطة الجديدة «كارثة وطنية كبرى» (وما هو غير «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى»). أمّا مسؤولية الرئيس ماو عن هذا الأمر الجلل فغلب ميلٌ إلى طمسها سبقت الإشارة إليه واستُبقيت صورة الرئيس عنواناً للصين الحمراء ولو ان البلاد سلكت بعده طريقاً ما كان ليرضى أن يضع فيها قدمه.
في كلّ حال، حيلَ دون دخول الصينيين في مراجعة جادّة لما جرى لهم. ولفّت العتمة أعوام الثورة الثقافية في الجامعات وفي إعلام الحزب والدولة وفي سائر المراكز ذات الصلاحية. فلم ينفذ من هذا الستار سوى أصواتٍ صينية نادرة وجدت سبيلاً إلى الساحات العامّة هنا أو هناك ، في الصين، أو نَشرت – وهذا هو الأهمّ – شهادات أو جردات بعضها مروّع تناولت الثورة الثقافية أو شخص ماو أو المرحلة الماوية كلّها. في الصين، لم يزل الصمت سائداً اليوم ولو ان أهل الخبرة يلاحظون عند الجيل الجديد من الحاكمين مَيْلاً مستجدّاً إلى نوع من ردّ الاعتبار للثورة الثقافية ويرون في هذا الميل وجهاً من وجوه مَيْلِ أوسع إلى مزيد من التضييق لهوامش الحرّية في البلاد.
أمّا ما جرى في الصين وللصين، بعد أعوام الثورة الثقافية، فقصّته طويلة ولها رواتُها. وفي القصّة عبرٌ وفيرة، لا شكّ، إذا هي رُوِيت في ضوء وقائع «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى» وحصائلها. وقد لا تقع هذه المهمّة على عاتق المؤرّخ العربي. ولكن الماويّ العربي – السابق أو الحالي – عليه حسابٌ نقدي يجب أن يؤدّيه. وهذا واجب لا تبطله المذابح أو المحارق الجارية بين ظهرانينا، بل هي قد تزيده إلحاحاً. ففي الثورة الثقافية نقع على جميع أبطالنا الذين نتداول ذكرهم في هذه الأيام: على الثورة نفسها وانحطاطها وتوزّعها شيعاً وعلى الجيش بما هو قوة احتياط للنظام وعلى الحزب واستحالاته وعلاقته بالدولة وعلى القيادة وسلطتها وطاقة التخريب التي ينطوي عليها جنوحها إلى الانتهازية وعلى كارزما القائد ووجودها في جهة وافتقادها في أخرى وعلى دورة العنف بين هذه الأطراف كلّها ومفاعيلها ودلالاتها إلخ.
نقف أيضاً أمام التباين الرهيب في تقدير أعداد الضحايا وبيان الوقائع، وهو مألوفٌ في المجتمعات الموصدة. وهو يشبه مثلاً (على ما بين الحالتين من تفاوت شاسع في الأبعاد) ما نعرفه من تراوح مستمرّ حتى يومنا في العدد المقدّر لضحايا مجزرة حماه سنة 1982: ما بين بضعة آلافٍ وبضع عشراتٍ من الآلاف. فوق ذلك، يحمل مصير الماويّة والثورة الثقافية على طرح السؤال الكبير عمّا يُسقِط من المخيّلة التاريخية الراهنة وجهاً وحركةً وفكراً ومصطلحاً كانت كلّها تتصدّر هذه المخيّلة في وقت غير بعيد. وما نصيب العناصر الساقطة من التسبّب بهذا السقوط وما نصيب الأطوار التي تقلّب فيها مذ ذاك أصحاب المخيّلة؟
واجب النقد هذا مستحقّ على الماويّين العرب وعلى ورثتهم من زمن طويل. والظاهر أن انهيار الحركة الشيوعية العالمية برمّتها لم يسهّل ركوب هذا المركب بل زاده عُسْراً. والنقد مستحقّ أيضاً على كلّ قادر عليه من كَتَبَتنا في هذه الأيّام أكثر ممّا كان قبلها. وقد كانت الذكرى الخمسون للثورة الثقافية مناسبة لوضعٍ الحاضر الذي هو لنا على محكّ ماضٍ هو لغيرنا. ولا يبدو أن هذه المناسبة حرّكت همماً. غير أن الأوان للقيام بهذا النوع من المهامّ لا يفوت أبداً وإن يكن تبدُّلُ السياق يبدّل كثيراً أو قليلاً من جداول الأعمال ومن التوجّهات.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

نحن و”الثورة الثقافية البروليتارية العظمى” بعد نصف قرن

أحمد بيضون

Oct 24, 2016

يكاد أن ينقضي العام الخمسون على اندلاع «الثورة الثقافية» في الصين من غير وقفة عربية تذكر عند وقائع هذه الثورة ودواعيها وما حلّ بذلك كلّه، في الأعوام والعقود اللاحقة، في الصين نفسها وفي العالم.
يعتبر التاريخ الرسمي لانطلاقة هذه الثورة اليوم السادس عشر من مايو سنة 1966. والحال أن هذا اليوم وما تلاه يخلو فيهما الإنترنت العربي من أيّ تناول تحليلي أو تقويمي لهذا الحدث في ذكراه الخمسين. فيبدو همّ الإعلام الناطق بالعربية شبه مقصور على التنويه بامتناع السلطات الصينية عن أيّ نوع من أنواع الاستذكار الرسمي للحدث، ثم باقتصار تناوله في الصين على مقالة في جريدة «الشعب» الرسمية تستبعد نشوب ثورة ثقافية جديدة. بعد التنويه في الإعلام العربي بهذا الاستنكاف الصيني ثم بالمقالة التي خرقته (وهو تنويه منقولٌ عن الوكالات العالمية) يَرِينُ ما يشبه السكوت عن أيّ كلام مباحٍ آخر يتناول الثورة الثقافية وذكراها. يرين السكوت في الإعلام العربي.. وفي الصين.
تلك إذن حالٌ استقرّت في مدى الأشهر المنقضية منذ مايو الفائت. وكانت مهلة هذه الأشهر كافيةً مبدئيّاً لعودة متأنية إلى الحدث الصيني وإلى ما كان له من تجلّياتٍ عربية وما قد يكون بقي من ذلك كلّه في أيّامنا العاصفة هذه. وما نقوله في الإعلام الناطق بالعربية لا يقال مثله في ذاك الناطق بلغات عالمية أخرى من قبيل الإنكليزية أو الفرنسية، وقد حظيت منه الذكرى بعناية أوفر بكثير (وإن لم تكن «فائضة» فعلاً) من تلك التي حظيت بها في الصين.
والحالُ أن الثورة الثقافية كان لها في ديارنا أنواع مختلفة من الأصداء. فهي إذ دفعت إلى مزيد من الاحتدام التنازعَ الصيني السوفييتي حملت بعض الماركسيين العرب على اللوذ بالماويّة سواءٌ أانتسبوا إلى جماعات منظّمة قالت بهذا الانتماء أو عبّروا عنه فرادى في ما كان لهم من إنتاج ثقافي. وفي أعقاب هزيمة 1967 العربية، على الأخص، اعتمد هؤلاء شعارات ماويّة كبرى أهمّها «حرب الشعب» أو «حرب التحرير الشعبية» و»خطّ الجماهير» و»الثورة الثقافية» نفسها بما هي نقد نظري-عملي للممارسة الثورية الجارية وتطهير مستمرّ لصفوف الثورة المستمرة يسترشد بتعيين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية وما يتبع ذلك من تعيين متحرّك للأصدقاء وللأعداء. إلخ. وقد لبث الماويّون العرب، على الإجمال، في هوامش المسارح السياسية لبلدانهم. ولعلّ مثقفين أفراداً من هذه الديار استرشدوا بالماوية، على أنحاء مختلفة، قبل أن يغادروها مع المغادرين، كان لهم من الأثر الباقي ما لم يكن لمنظمات أَلِفت هذا الفكر أو لغته مدّة من الزمن ثم انسلّت منه، هي أيضاً، بلا كلمة وداع. وفي وسط الشباب، العربي وغيره، أبدى وجه أرنستو تشي غيفارا صموداً على القمصان وعلى الجدران (وفي القلوب ايضاً، بلا ريب) لم يتسنّ مثله، في طول المدّة وفي نوعيّة الانفعال، لوجه الرئيس ماو… ولا – أيضاً – لوجه هوشي منه.
وما يجب التشديد عليه هو أن الحركات الثورية غير الماركسية في أقطار عربية مختلفة استلهمت النموذج الماوي، على وجه الإجمال، مدرجةً فيه مكوّناً فيتناميّاً في وقتٍ لاحق، من غير إعلان لتبنّيه باسمه إذ هي رغبت في الاحتفاظ بعنوان إسلامي أو قومي لم يكن ليأتلف وهذا الإعلان. فضلاً عن ذلك، كانت هذه الحركات من فلسطينية أو يمنية أو عراقية، إلخ، حريصةً على استبقاء «غطاء» سوفييتي لها أو غطاءٍ عربي لم يكن مستبعداً، في بعض الحالات، أن يكون، بمصطلح تلك الأيّام، «رجعي» الموئل والهوية. وهو ما كان يجعل تحويل المقترضات الماويّة إلى ماويّة معلنة أمراً مستبعداً.
ولعل أكثر النسخ العربية عظاميّة من النماذج الماويّة غير المقِرّة بأصلها كانت «جماهيرية» معمّر القذافي. فهي قد وضعت «الكتاب الأخضر» بإزاء «الكتاب الأحمر» وادّعت تسليم الشعب ممثّلاً بمؤتمراته ولجانه مقاليد السلطة كلّها بعد إلغاء المسمّيات التقليدية لأجهزة الدولة ومؤسّساتها. وهو ما أسفر عن وجهِ شَبَهٍ رئيس بما جرى في الصين (فضلاً عن تركّز السلطة الفعلية في يد شخص واحد) هو تعليق طلاب على مشانق نصبها رفاق لهم في الجامعة: رفاقٍ أخذوا على عاتقهم مهمّات المحاكمة والحكم والتنفيذ! حصل ذلك حين كان ماو تسي تونغ يرحل عن الدنيا ويلقى القبضُ، بُعيد رحيله على «عصابة الأربعة» وتحمّل «العصابة» – دون الراحل الفذّ – مسؤولية الخراب والإجرام اللذين جرّتهما في ركابها «الثورة الثقافية».
لا بدّ أن نذكر أخيراً من بين تناسخات الثورة الثقافية أن الثورة الخمينية في إيران أنشأت بُعيد سيطرتها على البلاد ما سمّته «المجلس الأعلى للثورة الثقافية»، وهو مؤسسة رسمية جدّاً، اعتنت، على الخصوص، بتطويع التعليم والقائمين به ومتلقّيه وبرامجه ومناهجه لمنطق الولاء الخميني. وهي لا تزال قائمة إلى اليوم، إشارةً بين إشارات إلى وجوه الشبه الكثيرة ما بين الثورة الإسلامية وأخواتها الشيوعيات.
ولكن ما الذي كانته، في الصين أوّلاً، هذه الثورة الثقافية التي استوت قدوةً لتنظيماتٍ ولأفراد في طول عالمنا وعرضه وفي ما يليه فغلب على تلك وعلى هؤلاء الميل الماويّ في الأعوام التي شهدت أطوارها، على وجه التحديد؟ تحتاج الإجابة ولو بأقصى السرعة عن هذا السؤال إلى وقفة خاصّة منّا نكرّس لها عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

بيْنَ اللبنانيّين: أيُّ ميثاق؟

أحمد بيضون

Oct 17, 2016

عاد «الميثاق الوطنيّ» وما يمليه وما لا يمليه من قواعد وتصرّفات يشغل ساحة السياسة في لبنان مع تمادي الفراغ في كرسيّ الرئاسة الأولى وتطوّر الصراع الدائر في أفق هذا الفراغ.
وكان قد حَمَلني الاشتغالُ بسيرة سياسية ضافية لرياض الصلح (نشرتُها قبلَ بضع سنوات) على التدقيق مليّاً في ما يسمّيه اللبنانيون «الميثاق الوطني». فإن هذا العهد المفترض الذي يقال إنه بقي غير مكتوب قد داخله، في ما يقارب ثلاثة أرباع القرن مضت على استقلال الجمهورية، كثير من التخليط في المضمون والتغيير في الفحوى من مرحلة إلى مرحلة وبين فريق وفريق.
ولا غرو أن يكون غياب النصّ المكتوب (أو زعْمُ هذا الغياب) قد أسعف في اختلاف الروايات وسهّل لكلّ فريق تحميل «الميثاق»، بما افترض له من جلال التأسيس، ما قد يحتمل من المنطويات وما قد لا يحتمل. وأمّا أن يوجبَ النظرُ في سيرة رياض الصلح السياسية إعادةَ نظر في حقيقة الميثاق فأمرٌ لا يحتاج إلى تسويغ. ذاك أن «الميثاق» الذي يفترض أنه اختَتَم، بمعنىً ما، مساقاً للعلاقة بين مسيحيي لبنان ومسلميه وافتتح مساقاً آخر، يُفترض أنه أبرم بين شخصيتين هما بشارة الخوري، الذي أصبح أوّل رئيس للجمهورية في عهد الاستقلال ورياض الصلح الذي ألّف أوّل حكومة في العهد نفسه. يفترض أيضاً أن «الميثاق» وحّد نسبيّاً جبهة المعركة التي خاضها الرجلان وأقرانٌ لهما وكثرةٌ من اللبنانيين معهما بُعَيد تولّيهما مقاليد الحكم وانتهت بهما إلى اعتقال قصير المدّة ثم انتهت بالبلاد إلى نيل الاستقلال.
عليه تبيّن لي من فحص ركامٍ من النصوص السياسية المعاصرة لولادة «الميثاق» المفترضة والمفروض فيها ذكره لو كان موجوداً أن هذه التسمية لم تشع (بل لم تعتمد أصلاً) لأيّ عهد من النوع الذي افتُرِض إبرامُه لا في سنة 1943 ولا في السنوات الثلاث او الأربع التي تلتها. وقعتُ على مقالة يتيمة في جريدة «النهار» علّقت على البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح الأولى لدى تقديمه إلى مجلس النوّاب فرأت فيه «عهداً أو ميثاقاً أخذَتْه البلادُ على نفسها بإجماع نوّابها على قبوله، لتُثْبِتَ وجودها كأمّةٍ مستقلّة تأخذ حقوقَها في الحكم الذاتيّ أخْذَ عزيزٍ مقتدِر».
ولقد كان على الباحث أن يجتاز ستة اشهرٍ أخرى تقريباً ليقع على ذكرٍ آخر (أو أوّل، بالأحرى)، لا يُستبعد أن يكون صدىً لسابقه، لـ»لميثاق الوطني» باسمه الكامل هذا، وذلك في خطبتين ألقى أولاهما المفتي محمّد توفيق خالد وردّ عليه بالثانية رئيس الجمهورية الذي كان قد حضر، ومعه رياض الصلح، للتهنئة بعيد المولد النبوي. وما سمّاه المفتي «الميثاق الوطني» ونال موافقة على التسمية من الرئيس لم يكن سوى البيان الوزاري (المكتوب والمنشور) لحكومة رياض الصلح، هذا البيان لم يكن مكتوباً وحسب، بل كانت شكواه من الصيغة الطائفية وتوجّهه إلى «معالجتـ»ها والقضاء على مساوئها» معلنَيْن فيه. وقد زادهما إعلاناً تصريح البيان بأن «الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظةٍ وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان». ولم يكن هذا الكلام لغواً، بل كان له ما بعده. ففي رواية فيرلونغ، ركنِ البعثة البريطانية القديم العهد ببيروت، أن الصلح «صرّح لنا مراراً بنيّته إعداد مشروعٍ لإلغاء الطائفية قبل انعقاد المجلس النيابي في اكتوبر 1944. ولكن الرئيس (الخوري) وسائر أعضاء الحكومة يرون جميعاً أن هذا الإصلاح، وإن يكن مرغوباً فيه، يفضي إلى اضطراب».
يسعنا إذن، بعد التنويه بأن ما سمّي «الميثاق الوطني» في حينه كان نصّاً مكتوباً، أن نؤكّد أن هذا الميثاق لم يكن يتعلّق من قريب ولا من بعيد بتمثيل الطوائف في مؤسّسات الدولة والحكم، على اختلافها، ولا بالقواعد التي ينبغي اتّباعها في هذا التمثيل. هذا التمثيل وقواعده كان له، في تلك الأيام، اسمٌ بسيط هو الطائفية وكان ينسب – إذا نُسب – إلى تقليد مستمرّ، من عهد القائمقاميّتين في وسط القرن التاسع عشر، ولم يكن أحد ينسبه إلى ميثاق من أيّ نوع. يشهد لذلك أن الرئيس الخوري الذي لم يكن يضمر عداءً مبدئيّاً للطائفية يسمّيها باسمها مراراً في خطبه ويسمّي منها نوعاً يرفضه هو «الطائفية العمياء» ولا يزعم قطعاً أنه كان طرفاً في «ميثاق» نظّم «المبصرة» أو «العمياء». كان بعض هذه الصيغة الطائفية قد أصبح منصوصاً على إنفاذه «بصورة مؤقّتة» في دستور 1926 وبعضٌ آخر قد أدرج في قانون الانتخاب، قبيل ذلك، اي منذ أنشئ للبنان الكبير مجلسٌ منتخب، وبعضٌ أخير (هو المتعلّق بالرئاسات الثلاث) قد تبينت ملامحه مع تكوين السلطات التي خاضت معركة الاستقلال، ولكنه لبث، بما هو «عرفٌ»، قابلاً للخرق وخُرِق فعلاً، ولو استثناءً… ولم يكن لهذا كلّه شأن بـ»ميثاقٍ» ما أبرمه الخوري والصلح في سنة 1943.
ما الذي جاء إذن في بيان حكومة الاستقلال الأولى واستحقّ أن يسميه معاصروها «ميثاقاً»؟ هو – بشهادة نصّ البيان وما أشرنا إليه من نصوص أخرى وبشهادات كثيرة لاحقة – ممكن الحصر في مقايضتين: الأولى هي مقايضة المسيحيين الحمايةَ الأوروبية (أو الفرنسيةَ بالأحرى) بوطنٍ منفتح «على الخيّر النافع من حضارة الغرب». والثانية مقايضة المسلمين الوحدةَ العربية (أو السوريةَ، بالأحرى) بوطن «ذي وجهٍ عربي» لا يكون للاستعمار «مَمَرّاً» ولا «مَقَرّاً». وأمّا محصّلة التوافق بين هاتين المقايضتين فهي أن يكون الوطن المذكور «وطناً عزيزاً مستقلّاً سيّداً حرّاً»، وهذا باعتراف الدول العربية وأطراف «التعاون الدولي». (كتابي: «رياض الصلح في زمانه»).
خلاصة هذا كلّه أن مدار «الميثاق» (إذا أصررنا على هذه التسمية!) ليس سوى الاستقلال نفسه. فلا شيء يضاف هنا إلى المعنى الأعمّ للاستقلال سوى الإيحاء بهويّة الطرفين «المتعاقدين» عليه (أي مسيحيي لبنان ومسلميه) وتعداد الأبعاد الخاصّة بالاستقلال اللبناني من عربية وغربية، في النطاق الحضاري، ومن عربية ودولية في النطاق السياسي. فأين تراه «الميثاق» الذي يقال اليوم أنه حدّد مبدأً لاختيار رئيس الجمهورية (أو أيّ رئيسٍ غيره) من بين أعيان طائفته؟ ومتى أبرم هذا الميثاق؟
تبقى إشارتان. أولاهما إيضاحٌ لما لمحنا إليه من أن توزيع الرئاسات الثلاث على الطوائف خُرِق مراراً بعد سنة 1943. حصل الخرق في حالتي الرئاستين الثانية والثالثة. وهو خرق يمكن نسبته إلى الظرف الاستثنائي في حالة الرئاسة الثالثة ولكنه حصل، غداةَ الاستقلال، في ظرفٍ عادي جدّاً في حالة الثانية. الإشارة الثانية هي أن تسمية «الميثاق الوطني»، على الرغم من حالات أحصيناها وبقيت عابرة، لم ترسخ، بالمعنى الذي حدّدناه، في الكلام الرسمي إلا بعد سنوات من الاستقلال وبيانه الوزاري.
كانت عبارة «الميثاق الوطني» مألوفة، من قَبْلُ، في المحيط السوري اللبناني. فهي قد أطلقت على عهد أبرمه قادة الثورة السورية الكبرى في سنة 1926 ثم أصبح مرجعاً لما عرف باسم «الكتلة الوطنية» في سورية. وفي الثلاثينيات، تكرّر في لبنان إطلاق اسم «الميثاق الوطني» على نصوص وضعها أصحاب أقلامٍ موزّعو الهمّ بين الصحافة والسياسة. وأما ميثاق 1943 فبقيت خطب رئيس الجمهورية والبيانات الوزارية المتعاقبة خالية من ذكره بالاسم (وإن لم تخلُ من فحواه) حتى سنة 1948. في تمّوز من تلك السنة، ألقى رياض الصلح بيان حكومته الجديدة في مجلس النوّاب جاعلاً فيه «الميثاق الوطني» مرجعاً صريحاً لسياسة الحكومة. وكانت التسمية قد وردت في كلام للصلح نفسه (في مجلس النوّاب أيضاً) في السنة السابقة. وكان رئيس الجمهورية قد عاد، بدوره، إلى حديث «الميثاق الوطني» للمرّة الأولى بعد فلتة عام 1944 التي ذكرنا مناسبتها. حصل ذلك في الخطبة التي ألقاها في مجلس النوّاب يوم 27 مايو 1948 لمناسبة انتخابه لولايةٍ رئاسية ثانية.
بعد ذلك (وليس قبله!)، أصبح ذكر «الميثاق» منتظماً في خطب الرئيس. وهو، إذ أصبح يجعل مرجعاً لهذا الميثاق خطبته يوم انتخابه في 21 سبتمبر 1943، لم يكن يجد، في معظم الحالات، حاجة إلى تعريفه إذ كان السياق واضح الدلالة على فحواه: ذاك إجماع الطائفتين على الاستقلال، بإعراضهما عمّا كان ماسّاً به في الماضي: أي عن الوحدة مع هؤلاء، من جهة، وعن وصاية أولئك من الجهة الأخرى. على هذه وعلى تلك، آثر اللبنانيون – في اعتبار الرئيس – توطيد الوحدة والسلام فيما بينهم. ولعلّ ما يرسّخ هذا المعنى الاستقلالي للميثاق اعتبار الرئيس (في خطبتين من خطبه) عاميّة انطلياس التي وحّدت ممثّلي الطوائف في وجه الاحتلال المصري سنة 1840 «ميثاقاً» هو نفسه الذي تكرر عقده بعد مئة سنة.
عليه يتبدّى أن جورج نقّاش، حين ندّد في افتتاحية مشهورة نشرها في 10 مارس 1949 بالـ»نَفْيين» اللذين «لا يصنعان أمّة»، إنّما كان يندّد بشيء عاد إلى التداول باسمه الجديد، «الميثاق الوطني»، قبل مدّة غير طويلة. وإذا كان للدارس أن يعيّن سبباً او أكثر لتلك العودة فإن نظره يجب أن يذهب – في ما أرى – نحو الانقسام الذي أخذ يستشري في البلاد مع تزوير الانتخابات النيابية في مايو 1947 ثم مع نشوب الحرب الفلسطينية وتجديد الولاية لبشارة الخوري (بعد شكري القوّتلي) في أوائلها ومع بدء تدفّق اللاجئين الفلسطينيين على لبنان وما صحبه من هواجس طائفية. كان في ذلك كلّه ما يستدعي تحصين «العهد» المضطرب الأركان بالعودة إلى «الميثاق الوطني» ولكن بالمعنى الاستقلالي الذي كان في يد الخوري والصلح أن يبرزاه في وجه المعارضة المتحفّزة.
«الميثاق الوطني» شيء إذن و»الصيغة الطائفية» شيء آخر. وكانت نية الأوّل، في سنة 1943، متّجهة إلى إطاحة الثانية! ذاك ما يصرّح به بيان حكومة الاستقلال من غير لَبْس! ولا عجب يبقى في هذا الأمر إذا انتبهنا إلى أن الطائفية كانت وما تزال رأس أمراض الاستقلال… يصحّ هذا المعنى الاستقلالي للميثاق (ولا يصحّ غيره) ما لم يكن جبران باسيل قد ارتأى أن يضع يده على ميراث كمال الصليبي بعد أن أبطأَتْ عليه تَرِكةٌ أخرى هي محطّ آماله!
كاتب لبناني

 

أحمد بيضون

لبنان وسوريّة: الغريبان الحميمان (حاشيةٌ نقديّة على كتاب)

http://www.alquds.co.uk/?p=61093

أحمد بيضون

Oct 10, 2016

بذلت وسعي، في عجالات سبق نشرها هنا، لإنصاف العمل النفيس الذي أهدته إلينا الباحثة الفرنسية أليزابيث بيكار في موضوع العلاقة السورية اللبنانية. فاجتهدت في تقديم خلاصات لما وجدته أهمّ مندرجات كتابها الصادر مؤخّراً بالفرنسية، وهو ما لا يغني عن قراءته قطعاً.
وإذا كان لي من نقد إجماليّ للكتاب يتجاوز عن مآخذ تفصيلية (نادرة في كلّ حال) فلعلّ هذا النقد يقبل الاختزال في نقطة واحدة. لا تجهل المؤلّفة أن «على المسيرة أن تساير الطريق» بل هي تذكّر بهذه الضرورة حيث يلزم التذكير. وهي تخصّ لبنان وسوريا بمقارنة عامّة، سبق أن وقفتُ عندها، تستغرق صفحات من الكتاب. تظهر هذه المقارنة ما بين البلادين من تفاوت جسيم، متعدّد الوجوه، يجعل الكفّة السورية راجحةً جدّاً عند المغالبة. على الرغم من عناصر تعويض ينطوي عليها المجتمع اللبناني بما تحصّل له من تقاليد تمنحه قدرة على مداورة التفاوت.
على أن المؤلّفة لا تفعّل ـ في تقديري ـ هذا التفاوت بمقدار حقّه من التفعيل في ما تعالجه من فصول المواجهة والتداخل بين البلادين. وهي لو فعلت لظهرت حصائل هذين، المواجهة والتداخل أقلّ فرادةً ممّا يبدو لقارئ الكتاب وأوثق ملازمة لقانون القوّة المألوف في الأخذ والردّ بين الدول المتجاورة، وبين المتفاوت القوّة منها على التخصيص. وهذا بالطبع إذا لم يكن في الموقع الإقليمي للدولتين المتجاورتين أو في النظام الدولي ما يحدّ كثيراً أو قليلاً من مفعول التفاوت.
ولا ريب أن ما نراه جديراً بالاعتبار، في هذا المساق، لا يختصر في مساحة كلّ من القطرين السوري واللبناني وعدد سكّانه وما جرى هذا المجرى من معطيات وصفية أولى. فإنّما تجزئة المجتمع اللبناني وما تنطوي عليه من عوامل التنازع، القائمة أو الممكنة الاستثارة، واقعة شديدة الوقع على مسار العلاقة اللبنانية السورية. ويقال الشيء نفسه في طبيعة النظام السياسي الذي فرض نفسه عقوداً مديدةً في سوريا وهو نظام مونوقراطي يسفر عن وحدة في القيادة تسجّلها المؤلّفة فيبدو مؤهلاً تلقائيّاً للسعي الدائم إلى وضع يدٍ متعدّد الصيغ على الدولة المجاورة.
لا ريب أن التقابل بين هاتين الحالين لا يستنفد صورة التفاعل غير المتكافئ بين سوريا ولبنان في نصف قرن مضى أو يزيد. فثمّة مطالب ومقتضيات للنظام الدولي في حركته الدائبة وثمّة قوىً أخرى في الإقليم يحسب لها القوي والضعيف في المواجهة حساباً يطمئنّ إليه أو يقلق له. هذا كلّه تعرفه المؤلّفة حقّ العلم. ولكن الأساس المتمثل في معطيات التقابل الذي أبرزناه للتوّ يبقى هو المستحقّ الظهور في تحليل مسار العلاقة ويبقى الكفيل بإظهار امتثال هذا المسار لعوامل «عاديّة» تبعد محلّله أو واصفه عن الإيغال المفرط في منطق «الخصوصية» ناهيك من «الفرادة».
ولقد كان يكفي المؤلّفة الالتفات إلى بعد الشقّة بين ما كان قد حصل حين جرى الانفصال الاقتصادي لسوريا عن لبنان في سنة 1950، بعد إجراءات مهّدت له، وما حصل حين دخلت القوّات السورية لبنان من باب الحرب الأهلية في سنة 1976. ففي الحالة الأولى، لم تفلح السلطات السورية في تفعيل واحد من امتيازاتها الإستراتيجية، وهو استئثارها بمنافذ التجارة البريّة اللبنانية، على نحوٍ يلزم السلطات اللبنانية بقبول شروطها. وذاك أن تكوين السلطة في سوريا لم يكن ليطلق يدها في اتخاذ ما ترتئيه من إجراءات. ولا كان السياق الإقليمي يبيح لها ذلك. هذا فيما كان تطويع المنظّمات الفلسطينية وتحمّل المسؤولية عن مسلكها من جانب دولة خاضعة للمساءلة يمنح النظام الأسدي فرصةً معتبرة، أمريكية وإسرائيلية على الخصوص، لوضع يد مشروطٍ على معظم لبنان. تحت هذا الفارق، كان التفاوت الأساسي بين البلادين معطىً ثابتاً لا يقبل الإبطال وإن يكن يقبل اللجم والإطلاق وفقاً لاتّجاه محصّلة تستعلي عليه بما لها من قوّة الإلزام.
مقارنة أخرى نرى لها وجاهة لا يستهان بها حين نريد الإفضاء إلى تقديرٍ لما هو مستمرّ الفاعلية (وإن لم يكن يتّصف بالخلود أبداً) في توجيه العلاقة السورية اللبنانية. تلك هي المقارنة ما بين مجرى هذه العلاقة، من جهة، ومجرى العلاقة السورية الأردنية، من الجهة الأخرى. ولا نجاوز هنا لفت النظر إلى هذا الإمكان. فنكتفي من ذلك بالتنويه بأن سوريا، على ما بينها وبين الأردن من تفاوت لصالحها قد لا يقلّ مقداره عن مقدار ما بينها وبين لبنان، ولو اختلفت العناصر، كانت في السنوات الأولى التي تلت استقلالها تخشى، على نحوٍ ما، أن «يَضُمّ»ـها الأردن فيما يُفترض حصول الخشية من جانب هذا الأخير.
وحين حاول نظام البعث، في زمن لاحق، إرسال دبّاباته إلى الأردن، في أثناء المواجهة بين السلطة هناك والمنظمات الفلسطينية، كان ذلك، في مطلع السبعينيات، نوعاً من التمرين على ما فعله النظام الأسدي، في وسط العقد نفسه، في لبنان. ولكن الحصيلة كانت مختلفة غاية الاختلاف. وهو ما يفسّره اختلاف الأردن التكويني، سلطةً ومجتمعاً، عن لبنان. ذاك اختلاف زوّد الأردن موقفاً عامّاً من التدخل السوري مختلفاً عن ذاك الذي لقيه التدخل نفسه في لبنان، حيث لم يكن يوجد موقف عامّ من أيّ أمر.
مرّةً أخرى، كان من شأن الإقدام على هذا النوع من المقارنة، لو عمدت إليه بيكار، أن يسعفنا في التوصّل إلى توزيع حسن للفاعلية بين ما هو ثابت لجهة قوامه المادّي، طويل الأجل، لجهة مفعوله، وما هو متغيّر، بهذا القدْر من السرعة أو ذاك، من معطيات العلاقة اللبنانية السورية…
بات رتيباً، في الختام، كلما عرضت كتاباً ذا قيمة، موضوعاً بغير العربية، أن أوصي بنقله إلى لغتنا. ولكن أجد سروراً في ارتكاب هذا الأمر الرتيب مرّة أخرى بصدد كتاب إليزابيث بيكار الذي نحن موضوعه.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

بين سورية ولبنان: ما تحتَ الوطني وما فوقَه

أحمد بيضون

Oct 04, 2016

تعتمد إليزابيث بيكار مداراً للقسم الثالث (الأخير) من كتابها الجديد مسألةَ «التمايز» ما بين طرفي «الثنائي» الذي يمثّله سوريا ولبنان. وهي تركّز هنا على ماجريات المرحلة التي بدأت نحو سنة 2000 وشهدت انقلاباً في مجرى العلاقة سنة 2005، في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، ثم شهدت انقلاباً آخر مع اندلاع الثورة السورية في سنة 2011.
وهي تنفذ إلى البحث في هذا «التمايز» من مدخلين أ- إشكال الديمقراطية التي فرضت نفسها، مع أفول القرن الماضي، على أنها الصورة الشرعية للعلاقة بين الحكّام والمحكومين. ب- وإشكال المنازعات الإقليمية واختراقها حدود الدول وما يسفر عنه ذلك من تغيير في صيغة العلاقة السورية اللبنانية.
ويستوقف المؤلفة ما شهدته هذه السنوات من أخذ وردّ بين مثقفين من البلادين. فترى في ذلك عبارة من العبارات عمّا تسمّيه «التذاوت» – وسبق أن أشرنا إليه – أي عن بلوغ التبادل حدّ التداخل أو التخالط بين «الذاتين» بخلاف ما يكون عليه الأمر في ما قد يعرض من حالات حوار أو تبادل يجري بين ذاتين ناجزتي الاستقلال. وهي تشير ههنا إلى ظواهر الانفعال في أوساط من المثقفين اللبنانيين بما أطلق عليه اسم «ربيع دمشق» وإلى استمرار هذا الانفعال (الذي أصبح تفاعلاً) بعد خروج القوّات السورية من لبنان في ربيع 2005 وتجسيده على الخصوص في نوع من التصوّر المشترك للعلاقة السورية اللبنانية جسّده «بيان بيروت دمشق – دمشق بيروت» الذي صدر في أيّار/مايو 2006 وانتهى إلى حمل مئات من التواقيع.
وإذ تتوقّف بيكار عند ما تسمّيه «التفارق الديمقراطي» بين النظامين اللبناني والسوري تنكر، متحدّية الشائع وبعض الظاهر، أن يكون النظام القائم في لبنان نظاماً ديمقراطيّاً، موضحة أن انتفاء هذه الصفة عنه تَعمّق في عهد الوصاية السورية واستمرّ بعد جلائها. وهي قد كانت اعتمدت لتعريف الديمقراطية سمتين أخذتهما عن راي هنبوش وهما «التنافس المفتوح» و»الاستيعاب». وهي تأخذ عن هنبوش أيضاً حصر الثقافة السياسية، بالمعنى الاجتماعي، في دور «المتغيّر المتدّخل» فتوضح أن أثر هذه الثقافة يكون مدرجاً على الدوام في أنظمة زمنية وسياقات تحوّل محمولاتها وتوجّهاتها بلا انقطاع. لذا كان من غير المناسب أن تعزى للتمثلات الدينية أو العائلية للسلطة ولما تبديه الولاءات ما دون الوطنية أو ما فوق الوطنية من مجافاةٍ لنظام الدولة فاعليةٌ مستقرّة من طور إلى طور. وأما ما يبدو للمؤلفة مفقوداً من شرائط الديمقراطية فهو ما يسمّيه ميشال كامو التكامل ما بين المجتمعين المدني والسياسي، إذ لا يستقيم بغيره الاستيعاب ولا التنافس المفتوح. وذاك أن «النخبة السياسية» في لبنان تنفذ إلى الهيمنة على الجمهور من البنى الأهلية. وهو ما يترك الباب مفتوحاً لتسلّط الحاكمين. وهو ما يترك أيضاً فراغاً ما بين الدفاع عن الخصوصيات والقبول بنظام سياسي مشترك.
هذه الخانة الفارغة ليست سوى الرابط المدني الذي ينشئ أساساً معنوياً لاحترام الأقلية في اختلافها وللاعتراف، في الآن نفسه، بحدود هذا الاحترام في الممارسة السياسية. عليه أمكن أن تنقل «لوموند» عن لبنانيين ما مفاده أنه ليس عندهم ديكتاتور واحد بل حوالي عشرين!
عليه أيضاً أمكن أن ينقلب الزعماء اللبنانيون بمنتهى السرعة على الحركة التي شهدها آذار/مارس من سنة 2005 ليتبادلوا، في انتخابات ذلك العام، تأمين بقائهم في مؤسسة السلطة. مع ذلك لا تغفل بيكار خصائص للحركة الشعبية في لبنان تفتح لها أفقاً ديمقراطيّاً. فإن كان لا يستقيم ادّعاءُ اللبنانيين أبوّةَ ما سمّي «ثورة الأرز» لما سمّي «الربيع العربي» فإنه يبقى أن مروحة المطالب التي تتسع لها الحركة اللبنانية (بما فيها، مثلاً، إقرار المثليين على حقوقهم) لا يوجد نظير لها في أيّ من المجتمعات العربية الأخرى.
وأما في سوريا فإن علمانيةً مزعومة تحجب نظام تفضيل واستبعاد أكثر حدّة من الطائفية المؤسّسية إذ هو بمنجاة من التنظيم الدستوري. ولا تعدو المؤسّسات السياسية أن تكون أدوات لتأبيد هذا النظام الذي يصحّ وصفه بـ»الشعبوي التسلّطي» إذ يبقى تعريفها القانوني أدنى أهمّيةً من سلوك المستأثرين بها في الممارسة. ولقد أمكن لـ»ربيع دمشق» الذي تخصّه المؤلّفة بتقدير رفيع أن يمثّل، بديناميّاته وبإخفاقاته أيضاً وبصموده «الدفين» طوال العقد الأوّل من القرن، منطلقاً لتعبئة مدنية مستعادة كان يصعب تخيلها بعد إبعاد السوريين مدّة عقدين عن السياسة شرطاً لاتّقاء دولتهم «اللاوثانية». قليل جدّاً أن يقال، والحالة هذه، أن التبادل السياسي بين دائرتي الحكم والمجتمع كان معطّلاً شأنه في الحالة اللبنانية.
لا يستقيم، بعد هذا، أن يعدّ التزامن ما بين التحرّك السيادي في لبنان والتعبئة من أجل الديمقراطية في سوريا محض اتّفاق، بل هو يدلّ على توافق في الأثر لتحوّلات مختلفة أهمّها الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وموت حافظ الأسد ومبادرات «التدمير الخلاق» الأمريكية. فضلاً عن تطوير الوسائط الجديدة للتواصل وهي قد رفعت نسب التلقي في كلّ من البلادين لما يجري في الآخر. وهذا في ظرف بات فيه التفاعل أكثر تسيّساً بالنظر إلى وحدة السلطة مما كانت عليه حال التأثّر العائلي أو الطائفي المألوف.
على أن أهمّ ما في هذا القسم الأخير من كتاب بيكار اختيارُها تفريدَ ما تراه حاصلاً من توتّر مباشر بين طرفَي الثنائي المتشكّل من «المحلّي»، أي ما دون الدولة، و»الإقليمي»، أي ما فوق الدولة، وجعلَ علاقة التوتّر هذه موضوعاً للتحليل تُنحّى منه الدولة نفسها وسلطتها. وهي تنتقي لهذه الغاية حالتين طرفيتين هما حالة مزارع شبعا وحالة وادي العاصي ومرتفعات القلمون. ويقتضي هذا البحث إعداد صفّين من الأدوات: أنثروبولوجي للنطاق المحلّي واستراتيجي للمستوى الإقليمي. فالحالة الأولى تنصب في مواجهة المثال الوستفالي وشرع الدول كسوراً في السيادة وفجوات في الوثائق وتناقضاً في تأويل الوقائع. وهي تنصب، وهذا هو الأهمّ، التعدّد في انتماء الجماعة وما في هذا الانتماء من سيولة تميّزه في هذا المشرق. وإلى الشمال، تنمّ حالة بلدة عرسال، مثلاً، بما في العلاقة السورية اللبنانية من اختلاط يُحصى بين مفاعيله التعدّد في تصوّر الحدود وتبعية هذا التصوّر للبعد الاجتماعي للنظرة. ذاك يشهد، في آن، لقوة الانتماءات الأوّلية وللمرونة الممكنة في معالجتها. ذاك يردّنا أيضاً إلى ما جرّته قسمة 1920 من لَبْس لا يزال يتجدد بصور شتى. وحين نضع بإزاء هذا النطاق المحلّي عمقَ الأفق الإقليمي يسعنا الافتراض، في ما ترى بيكار، أن دول الشرق الأوسط ومجتمعاته متّحدة في تشكيل إقليمي ذي صفة تنازعية. وهو ما يسوّغ القول أن الحرب الجارية في سوريا لم «تَفِض» على لبنان بل بدأت، بهذا المعنى، في البلادين معاً.
مع ذلك، تبقى بيكار بعيدة عن إنكار حقيقة «الدولة» في البلادين إذ أثمرت هذه في نحو من مئة سنة بنى ومرتكزات هي من الضخامة والتعقيد بحيث يتعذّر تخطّيها. وفي الراهن، لا تحول الدولة دون نموّ الشبكات الإسلامية، وهذه تقرن المحلّي بالإقليمي مباشرة. ولكن الدولة قد تسخّرها وقد تقاومها بمقادير من النجاح متباينة. هكذا خرقت الاستخباراتُ السورية شبكاتٍ سنّية لبنانية بينها التنظيم المنتسب إلى «الإخوان» ومن أُطلق عليهم اسم «الأحباش» وعَقدت صلاتٍ في المخيّمات الفلسطينية مع سلفيين منهم «عصبة الأنصار» و»جند الشام» واجهوا زعامة رفيق الحريري… إلخ.
في خاتمة الكتاب، تعود بيكار إلى الدولة ورسوخ مقامها في ما يتعدّى ما ذكرنا من صور اللَبْس والسيولة. فترى أن تعوّدَ الجماعات المحلّية نظامَ الدولة وتَدرُّبَ «النخب» على تدبيرها ليسا مساقاً تقانيّاً ومكتسباً مادياً وحسب، وإنما آلا إلى استدخالٍ أثمره الإكراه في كثير من الأحيان لصيغ من العلاقة بالآخر وللتصرّف في الفضاء العمومي ولتمثّل ما هو جماعي بما يعرّفه من حدود وقواعد ومراتب. ولا موجب، بعد ما سبق كلّه، للتذكير بأن هذا كلّه، في ما ترى بيكار، قد تعرّض، على ما له من رسوخ نسبي، وما يزال يتعرّض اليوم لتحدّياتٍ مزلزلة… وعلى ما يمليه الزلزال الجاري من توقّعاتٍ متشائمة أوضحُ أسبابها حركاتُ السكّان الحاصلة والمتوقعة في ظروف الحرب وما بعدها، فإن المؤلّفة تجد ما يكفي من العزيمة لصياغة مبدأ توصي برعايته وهو يترتب على تناولها للنظامين السوري واللبناني برمّته. ذاك هو جعلُ المحلّي بما يتمخّض عنه من تطلّعات ومبادرات بمثابة القاعدة لشرعية السلطة وإحلالُ المجتمع في قلب السياسة. وهو في نظر المؤلفة ما يمثّل ردعاً لاستئثار الحكّام وزبانيتهم ويعيد «من الأسفل» تأسيس «الجماعة السياسية»…
لم يبق بعد هذا سوى حاشية نقديّة نعلّقها على هذا الكتاب في عجالتنا المقبلة…
كاتب لبناني

أحمد بيضون

مَسارُ العلاقة السورية اللبنانية: الاقتصاد السياسي للسيطرة

أحمد بيضون

Sep 27, 2016

ما هو من بعدُ هذا «الاقتصاد السياسي للسيطرة السورية» على لبنان الذي تكرّس له اليزابيث بيكار ذاك الفصل الألمعيّ من كتابها الأخير؟
تقول المؤلّفة إنها لا تقصر المقاربة الاقتصادية على ما هو مادّي من وسائل وغايات، وإنما تلحظ المساق الاجتماعي والتجربة التاريخية في معاينتها تكوين الهويّات وتشكّل التصرّفات والمصالح. فهي تقتفي أثر كارل بولانيي في النظر إلى الاقتصاد على أنه بعدٌ من أبعاد الاجتماعي، بل هي تصل أيضاً إلى الاعتراف بقيمة معرفية لما يسمّيه جيمس ياسبرز وبرتراند بادي «البعد العاطفي» من الاقتصاد السياسي.
عليه تقرّر المؤلّفة أن السيطرة السورية على لبنان غادرت في الأعوام 1990 – 2005 حال الثمرة المباشرة للتدخل السوري في الحرب اللبنانية لتتخذ لها مرتكزاً شبكاتٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية فيها لبنانيون وسوريون وفيها فلسطينيون أيضاً.
كانت الحرب اللبنانية، على ما سبقت الإشارة إليه في عجالتنا الماضية، قد أسهمت في تحويل المعايير والممارسات الاقتصادية تحويلاً مرشّحاً للدوام عقوداً بعدها. فإذ فتّتت المشهد العام وعسكرَتْه خرّجت أيضاً مقاولين للسياسة من عداد السلك المقاتل مدخلةً العنف الصريح في الضبط الاجتماعي. والأهمّ أن الخروج من الحرب حكمه سياق سياسي ومؤسّسي كان أبرز معالمه الخروج السوري من اشتراكية الدولة ومغادرة سورية الخيار العسكري في مواجهة إسرائيل. كانت الساعة الأمريكية تدقّ في العراق وفلسطين فيما كان اتّفاق الطائف يتّخذ مساراً التبس فيه التطبيق بالتحوير. ويستوقف المؤلّفة «سَيْلُ» الاتفاقات التي تبعت «معاهدة الأخوة والتضامن والتنسيق» بين لبنان وسورية. وهذه اتفاقات تَصاحَب في صياغتها وإقرارها قدْرٌ من الاستعجال وقدْرٌ من قلّة الاكتراث. ولكن يستوقف المؤلّفة، على الأخصّ، ما نشأ من شبكات سورية لبنانية، في تلك المرحلة، مثّلت نسيجاً للمجال السوري اللبناني الجديد. داخلت هذه الشبكاتُ الهياكلَ المؤسّسية ولابس عملُها التشغيلَ البيرقراطي وعدّل إوالاته.
كانت الحرب قد مهّدت لهذا كلّه بإفقاد السلطات اللبنانية سيطرتها على الأرض وعلى الحدود. وهو ما أسفر في المنطقة المحاذية للحدود السورية عن مضاعفة زراعة الحشيش بين عامي 1975 و1984. وفي سنة 1984، أَحلّت القيادةُ السورية في جُرْد بعلبك مجموعاتٍ مسلّحة منها الفلسطيني (فتح المجلس الثوري لصاحبها أبو نضال) ومنها الأرمني (الجيش الأرمني السرّي-ASALA) ومنها الكردي (حزب العمّال الكردستاني) فبدأت، في المنطقة، زراعة الخشخاش. وموّل تصديرُ مشتقّاته شراءَ الأسلحة وأرضى شيئاً من جشع قادة الحرب وشركائهم من «المدنيين».
هكذا شهد أصحاب الثروات الموروثة الذين مالأوا المليشيات مضطرّين أو مختارين ظهورَ مقاولين جدد كثيراً ما كانوا ذوي اختصاص حقوقي أو هندسي وقد راكموا بعض الثروة من هجرات حديثة مختلفة الآفاق. وضع هؤلاء، على وجه السرعة، أيديهم على الفرص التي أتاحها تعطّل التموين العمومي (بالحبوب والمحروقات خصوصاً) وأفادوا بلا خوفٍ من حسابٍ من تلف السجلّات العقارية أو تعذّر الوصول إليها واستثمروا عجز الشرطة عن قمع الاستهلاك الهمجي للمياه والمقالع والرمول. في حمّى الاستعجال وفقدان الضوابط هذين، تكوّنت الثروات الجديدة بفعل أنشطة مضاربية وريعية غيّرت تكوينَ الرأسمالية اللبنانية ووجوهَ ممارستها. وفي جميع الطوائف، قَلَب ظهورُ الأغنياء الجدد ما كان معروفاً من تراتباتٍ اجتماعية منذ زوال الدولة العثمانية.
ذاك هو الوضع الذي انطلقت منه الوصاية السورية على لبنان بعد اتّفاق الطائف. فمذ ذاك استوى الاقتصاد اللبناني أرض «افتراس» سلّمت به أوساطٌ من المجتمع اللبناني أعرَضُ بكثير من تلك المؤيّدة أصلاً للنظام السوري. ومثّل تكوين «الشبكات» جواباً على قصور سلطة الدولة. فالشبكات، بتكثيرها فرص التفاعل، تُصرّف ما لا يسع المؤسسات استقطابَه من ولاءات الأفراد، ولكن هذا كان يقتضي، في الحالة التي نتناول، ما سمّاه جوزف مايلا انتقالاً لبنانيّاً «من الخضوع إلى الخنوع»…
في ختام هذا الاستعراض لجوانب السيطرة السورية على لبنان وصيغها، تتوقّف بيكار عند المعالجة الأسدية لأوضاع القوّات المسلّحة اللبنانية. وخلاصة الأمر ههنا أن الجيش اللبناني حُمِلَ على اعتماد النموذج الذي ميّز ما كان يسمّى «الجيوش الوطنية» في عددٍ من الدول العربية. وهذا في حينٍ كانت فيه الجيوش المذكورة في سبيلها إلى مجافاة هذا النموذج. والسمة الرئيسة لهذا النموذج هي شركة الجيوش الوثيقة في حماية الأنظمة السلطوية القائمة. وهذا يقتضي وفرةَ العديد ويقتضي الأفضليةَ الإجمالية في المعاملة على أسلاك الوظيفة المدنية إلى إخضاع العسكر، مع ذلك، لرقابة أجهزة أمنية مختلفة وجعل مهمّات الجيش شبه محصورة في النطاق المعتاد لعمل الشرطة. في هذا المساق، أعيد تنظيم ما كان يطلَق عليه اسم «المكتب الثاني» واختير قائد الجيش لرئاسة الجمهورية وتوالى اختيار وزراء الدفاع من بين المقرّبين إلى دمشق وأصبح ضابطٌ سوريّ رفيع الرتبة يحضر اجتماعات مجلس الدفاع اللبناني وبوشر السعي إلى «تطبيع» الضبّاط اللبنانيين في دورات مدفوعة البدل من 18 شهراً في المدارس الحربية السورية وأفاد هؤلاء أيضاً من إقامات في منتجعات مخصّصة للضبّاط على الشاطئ السوري. وتستذكر بيكار من بين أصناف النشاط «العسكري» أن رفعت الأسد الذي كانت مليشياه قد ضلعت في النهب والمصادرة منذ الثمانينيات، في أرجاء لبنانية مختلفة، قد بسط حمايته على فريق من رجال الأعمال وهذا قبل أن يتحول إلى الاستثمار المباشر شريكاً لبعض أسر الشمال اللبناني. وعلى الإجمال، أصبحت كلّ شبكة لبنانية تحظى برعاية ضابطٍ سوري يعاونه رديفٌ لبناني عند اللزوم. فيما بقيت الشبكات ذات الطابع الدولي كتلك المختصة بتهريب الهيرويين الأفغاني خاضعة حصراً لإشراف القادة الكبار، تعرف طريقها المباشر من البرّ السوري إلى المرافئ اللبنانية. كان تعدّد الرؤوس هذا في العلاقة اللبنانية السورية، كما في توزّع الأجهزة الاستخبارية في سورية نفسها، مناسباً لحافظ الأسد الذي كان غضُّ النظر عن الإثراء الشخصي لمعاونيه يضمن له ولاءهم ويمثّل، في الوقت نفسه، ذريعة لإزاحة من يظهر داعٍ لإزاحته بدعوى مكافحة الفساد! هذا يستوفي عناصرَ ما تطلق عليه بيكار اسم «التذاوت» أي إسفار علاقة التداخل الموضوعي عن نوعٍ من الامتزاج التفاعلي بين الذاتين السورية واللبنانية. على أن هذا «التذاوت» استبقى عناصر «تمايز» هي التي يصفها القسم الثالث (الأخير) من كتاب بيكار. وهو القسم الذي نكرّس له ولخلاصة الكتاب عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

الحربُ ضابطاً للعلاقة السورية اللبنانية

أحمد بيضون

Sep 20, 2016

لا تجد إليزابيت بيكار ما هو أولى من العنف بصدارة العوامل التي صاغت العلاقة اللبنانية السورية في نصف قرنٍ انقضى بين أواسط القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الجاري. كان العنف سيّداً، في هذه المدّة، بما هو أسلوب للعلاقة بين الدولتين وبما هو تغليب للقوّة على القانون وبما هو إرساء لاقتصادٍ افتراسي سيطر عليه حملة السلاح وبما هو ثمرة في العلاقات الاجتماعية لتأويلها بلغة العداء بين هويّات. ولم يكن مسارا البلادين متشابهين ولكنّهما تداخلا إلى حدّ الاستواء في نظام واحد والانخراط، وهما في حال التداخل ذاك، في النظام الإقليمي.
تنتظم هذا التحليل البيكاري ثلاثة تصوّرات هي «السيادة» و»الأمن» و»العنف». ولكن الأخير هو ما يقبع في قلب ديناميّات العلاقة الثنائية وهو ما يستوي «صَرْفاً ونحواً» للاجتماع هنا وهناك وكاشفاً للسياسة بما هي «مواصلة للحرب بوسائل أخرى» بخلاف عبارة كلاوسفيتس التي استوقفت ميشال فوكو بعد قلبها رأساً على عقِب. وليس أقلّ ما تفعله الحرب أنها تحوّل الاقتصاد بعمومه وعلاقات الإنتاج على الخصوص إذ تطلق العنان لنموّ القطاع غير النظامي وتبيح الفساد الكبير الذي يتحكّم فيه أهل السلاح أيضاً وتستدرج، في المواجهة، نشوء إستراتيجيات شعبية مدارها البقاء. تعبث الحرب بالمراتب الاجتماعية أيضاً فتخفض وترفع وتنشئ علاقة متفاوتة بالسلطة وبالعدالة تضع فَعَلة العنف في القمّة وتمكّنهم، إلى هذا الحدّ أو ذاك، من إلحاق الجهازين الديني والثقافي بركابهم. هذا التغيير العميق في المعايير الاجتماعية يأتي موعوداً ببقاء مديد وتصبح معه القطيعة مع دولة القانون عسيرة المعالجة ويسود لتبرير الممارسات المستجدّة خطابُ الذاكرة القائم على إبراز موقع الضحية التاريخي وطلب الثأر.
تباشر بيكار تتبعّها لوطأة الحرب هذه على العلاقة السورية اللبنانية بمقارنة بين البلادين تواجه ما بين المعالم الرئيسية لهذه ولتلك على أصعدة الأرض والسكّان والدخل والنموّ… ولا غرو أن تختتم هذه المقارنة بالمعطيات المتعلّقة هنا وهناك بالقوّات المسلّحة. ولا غرو أيضاً أن تظهر جليّة حدّة التفاوت في القوة بين الدولتين. ولكن هذا التفاوت تعوّضه شيئاً ما، في ما ترى المؤلّفة، فاعلية استثنائية للقوّة «الناعمة» في الحالة اللبنانية. تتمثّل هذه القوّة في ما يتمتّع به النموذج اللبناني من جاذبية ثقافية بالمعنى الأعمّ أي، على الخصوص، بما هو أسلوب حياة رخيّة لا يناظرها في الدنيا العربية لجهة مسايرة التنوّع ووفرة المبادلات الاجتماعية سوى مكانة التمتع في الحياة المغربية. وهو ما جعل قادة القوّات السورية التي طالت مرابطتها في لبنان يقلقون على عناصرهم لا من اعتياد التجاوز على الحقوق ومن الفساد بل من الرخاوة اللبنانية. وهو ما جعل القوّة السورية أيضاً تعمد إلى وضع حدّ قطعي لحالات لبنانية اكتسبت وهجاً غير متناسب ومقتضيات السيطرة السورية وأبرزها حالتا كمال جنبلاط ورفيق الحريري.
وأما السيادة بما هي مدار نزاع في العلاقة السورية اللبنانية فينبغي إدراج مصيرها، في العقود الأخيرة، في مسارٍ يتجاوز الدولتين. لا بدّ للسيادة من مقوّمات موضوعية أهمّها الحدود الثابتة والإدارة المستقرّة والهويّة المواطنية. ولكن تعاظمت الحاجة إلى احتساب الدلالات التي يسبغها الفاعلون الاجتماعيون على هذه المقوّمات في مبادلاتهم المختلفة. وهو ما يسوّغ للمؤلّفة اعتبار السيادة حالةً «ذاتية» أيضاً يتحوّل التعلق بها بما هي كذلك.
ولمقاربة إشكالية السيادة هذه تختار المؤلّفة ثلاثة تشكّلات تتقدّم فيها العلاقة السورية اللبنانية. الأوّل في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي وقد اندرجت هذه العلاقة في أثنائه في التجاذب الأمريكي المصري لموازين الشرق الأوسط وهذا في ظلال الحرب الباردة. والثاني في مطلع السبعينات أي بعد أن أصبحت الأرض اللبنانية محلا للتنازع بين الكفاح الوطني الفلسطيني والمطامح السورية. وهو ما أفضى بالعلاقة بين كلّ من هذين الطرفين ولبنان إلى علاقة أكثر نزاعية وأكثر حميمية في آن. وهذا في ظرف تنازع الدولتين العظميين للقواعد والموارد وتعاظم أهمّية الشرق الأوسط. وهو ما أفضى إلى توزّع إجماليّ للنخب، في الإقليم، ما بين نوعين من الأنظمة: «اشتراكية» و»محافظة». وأما التشكل الثالث فوافق نهاية حرب لبنان في آخر الثمانينات وذلك في مناخ دولي تبدّل تبدّلاً جذريّاً وأفضى تبدّله إلى فتح أفق لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية وإلى تهميش القوّة العراقية. وهو ما انتهى أيضاً إلى إرساء وصاية سورية على لبنان كان لها وجه السيطرة العسكرية الفجّة وكان لها أيضاً وجه تمثّل في مكاسب اقتصادية بقيت حتى ذلك الحين غير مأمولة.
تخصّ المؤلّفة كلا من هذه التشكّلات بصفحات تبدي تغيّراً حصل من حالة إلى حالة في «صيغة تأطير العلاقة الثنائية بالإطار الدولي». وهذه مقاربة تظهر ما لكلّ من هذه التشكّلات من فرادة وتوضح ملامح الأفق الذي دخل فيه. فبينما حُسمت أزمة 1958 اللبنانية على وجه السرعة في أعقاب الانقلاب العراقي بفعل التفاهم الأمريكي المصري، وذلك في ظرف الهيمنة الناصرية على سوريا، تفاعلت الأزمة اللبنانية أيضاً من عام 1973 إلى عام 1976 على نحو أنشأ علاقة «سلطانية» بين ساسة لبنان وحكّام دمشق. وقد أصبحت هذه العلاقة، بحكم تقبّلها الدولي، أشدّ وقعاً، في ما ترى المؤلّفة، على السيادة اللبنانية من الضربات الإسرائيلية ومن الاجتياح الإسرائيلي. ففي ما يتعدّى محو الحدود بين الدولتين السورية واللبنانية بالدبّابات أدّت مصادرة الحقّ اللبناني في تقرير المصير إلى إنشاء «مجالٍ تَذاوُتيّ» اختلطت فيه السيادتان على تفاوت وطّد خضوع إحداهما للأخرى. وأمّا تشكّل ما بعد الحرب اللبنانية فقد شهد تشدّداً سوريّاً أصبح «تلازم المسارين» عنواناً له وذلك بعد أن لم يبق في يد دمشق غير «الورقة» اللبنانية للضغط والمقايضة في موسم التفاوض.
وكان للتشدّد السوري، فضلاً عن وجه التعسّف السياسي، وجه اقتصادي تكرّس له بيكار فصلاً بالغ الأهمّية هو الخامس من كتابها. على أننا قبل الإفضاء إلى محتوى هذا الفصل، نرى فائدة في إبراز ملاحظات احتوتها الصفحات التي سبقته، وهي عيّنة من حصاد النظر الثاقب ومن القدرة على إجمال لوحة جامعة أو انعطاف كبير في كلام قليل. مثاله تعيين العام 1957 على أنه عام «انقلاب القوّة» الذي باشر نقل سوريا من حال «الموضوع» للصراع الدولي على الشرق الأوسط إلى حال «القوّة الإقليمية» الناشئة. هذا الانقلاب الذي كان الدور السوري في أزمة 1958 اللبنانية من «منجزاته» الأولى، لم يدرأ طفرات عنيفة نزلت بسوريا من الوحدة مع مصر إلى الانفصال فإلى سلطة البعث وما شهدته من صراعات قبل الإفضاء إلى العهد الأسدي. هذا الأخير اجتاز بدوره مرحلة اضطراب وقمع مهولين، فضلاً عن تدخّله في النزاع اللبناني وعن حرب تشرين 1973… قبل أن يستتمّ إطباق قبضته الحديدية على البلاد… بل على البلادين معاً. مثال ثانٍ ملاحظة المؤلّفة أن أيّ قياديّ لبناني من الصفّ الأوّل لم يثبت على ممالأة الدور السوري أو على معارضته مدة الأعوام الـ15 التي استغرقتها حرب لبنان.
مثالٌ ثالث أن تكوين المجتمع اللبناني ظلّ يستبعد وجود قائد يسعه أن يملي خطّاً استراتيجياً واحداً في السياسة وفي الحرب في حين كانت القوّات السورية ومعها وحدات جيش التحرير الفلسطيني منضوية تحت الإمرة الصارمة لقيادة تنتهي إلى الرئاسة السورية. إلخ.
ما قول بيكار بعد هذا في الاقتصاد السياسي للسيطرة السورية على لبنان بعد مرحلة الحرب، على الخصوص؟ نكرّس لهذا الجانب من علاقة السيطرة عجالتنا المقبلة.

٭ كاتب لبناني