صِيَغٌ آلية وحدودٌ للفرادة

أحمد بيضون

حيال ما نعاينه من تداعي الأوطان فوق رؤوس أهلها في هذه المنطقة من العالم، يذهب فكر المتأمّلين، على نحوٍ شبه آليّ، إلى اقتراح صيغةٍ ما تُعتمد للدولة من الصيغ المجرّبة التي تَسْتبعد، مبدئياً، شبحَ التقسيم الناجز. تلك مسألة أبرزنا بعض جوانبها في كلامٍ سابق وننظر اليوم في بعضٍ آخر. فمن ذاك أن التقسيم متعذّر أصلاً في حالة رئيسة هي الحالة المصرية وضخم الكلفة في الحالات الأخرى. عليه تتُّخذ الصيغة الفدرالية، خصوصاً، موضوعاً للتأمّل، وهي تبدو وكأنها قد فرضت نفسها على الأرض في الحالتين العراقية والليبية. على أن استقرار هذه الصيغة افترض، في الحالات المعروفة لها، في العالم الحديث، نشوء سلطة مركزية قوية (بخلاف ما يحسب بعضنا). فتبقى في يد هذه السلطة أمور رئيسة أهمّها الدفاع والسياسة الخارجية والنقد والمياه والطاقة ومرافق المواصلات والاتصالات ذات الصفة الوطنية أو الدولية. وقد يضاف إلى هذه غيرها ممّا يعدّ ذا مساس بالجماعة الوطنية جملةً.
فإذا تأمّلنا في هذه اللائحة ظهر لنا أنها تشتمل على ما يعتبر مواضيع التنازع الرئيسة بين مكوّنات البلاد التي تشهد تنازعاً في المجال العربي. فبعضها (وهي السياسات) موضوعُ توجّهاتٍ متعارضة وبعضها، وهو الموارد أو الثروات، موضوع نزوع واضح إلى الاستئثار.
عند آخرين، نرى الطبيعة العصبية للأطراف المتنازعة وتخالطها أو تجاورها في العواصم وسائر المدن، خصوصاً، يميلان بالبحث في الحلول نحو ما يسمّى «الصيغ التوافقية». ويحظى بحماسة هؤلاء، على التخصيص، نظام «الحصص» المضمونة في السلطة ويُمْنَح أرجحيةً على صيغة الفدرالية الترابية. هذا النظام هو ما تمثّل الحالة اللبنانية نموذجاً له في المشرق. وهو ما يمثّل الفشل التاريخي الواضح للصيغة اللبنانية أيضاً نموذجاً لمستقبله: أي لاعتياد العنف الأهلي والبقاء عرضةً للحروب الخارجية ومعهما توزّع الجماعات بين حالات استبداد ضئيلة الأحجام وتهالك سلطة القانون واستتباب الفساد الهيكلي وهذا فضلاً عن مقايضة الاستقلال الوطني بتوزّع التبعيات لقوى الخارج المتخالفة. ذاك هو، في الواقع، ما توعد به الأوطان المتجهة إلى اعتماد ما يسمّى «التوافقية» أو تقاسم السلطة المسبق حصصاً وأنصبةً تتوزّعها الجماعات في المجال العربي.
في صدد آخر ولكنه وثيق الصلة بالسابق، يشدّد الذين يهوون مخادعة أنفسهم، بلا كلل، على خصوصية الحالة التي يمثّلها كل واحد من المجتمعات التي نتناول هنا وعلى فرادة الحركة الجارية فيه وعلى لزوم الواقعية السياسية في النظر إليها. هذا التشديد الذي يبدو في منطلقه تحصيلَ حاصل يصبح خَطِراً وغيرَ مقبولٍ حين يستحيل إلى تقبّلٍ لأمور واقعة لا تقلّ سوءاً (بل هي قد تزيد سوءاً) عمّا قامت الحركة لتغييره: أي حين يوحي القائلون به أن حركات التغيير تبقى عظيمة بعد أن تتخلّى عن جميع الأهداف العظيمة التي قامت في سبيل تحقيقها وتجنح إلى نقائضها.
توجد معانٍ للـ»حرية» وللـ»ديمقراطية» وللـ»مواطنة» و»الكرامة» ويوجد معنى للـ»خبز» أيضاً. وليس خطأً القول أن الطرُقَ نحو الأخذ بهذه المعاني تختلف. ولكن الخطأ (أو ما هو أسوأ من الخطأ) هو نشر ضباب الفرادة الأسود حول هذه المعاني والتعلل (الساخر أحياناً) بالبعد العبقري عن النماذج الجاهزة: لا لشيءٍ إلا لدعوة أصحاب تلك الأهداف إلى المضي قدماً، باسم الفرادة وتنوّع االصيغ، في سبلٍ توصلهم إلى نقيض ما كانوا يأملون. هذا ما اعتدنا على سماعه ردحاً طويلاً من الزمن في وجه كلّ كلامٍ نقديّ يتناول الثورة السورية مثلاً. وقد بقيت من هذا المزاج بقية إلى الآن على الرغم من الظلمة الواحدة التي باتت تلفّ سورية والعراق معاً. لغة الفرادة هذه، في الواقع، قريبة الشبه مما كنا نسمع به في ماض أصبح بعيداً من «اشتراكية نابعة» من واقعنا و»أصالة قومية» كان أصحابُهما، على وجه التحديد، أسلافَ طغاتنا الحاضرين.
لا تغني عنّا المداورة شيئاً. لا مفرَّ من تحرّر الجماعات التي تتقدّم على أنها أوطانٌ بديلة أو مكوّناتٌ «طبيعية» للأوطان من افتراضها نفسَها وحداتٍ سياسيةً مُصْمَتةً تعْلِن أو تضْمِر رفضاً أصلياً للتعدّد السياسي. لا مفرّ من قبول التعدّد الذي تمليه إرادة المواطنين الحرّة في كلّ جماعة وفي ما يتعدّى الجماعات العصبية إلى المجتمع الوطني. لا مفرّ من تغليب قِيَم المواطنة في السياسة على كلّ انتماء آخر يبقى له أن يتسيّد في مجاله. لا مفرّ من الديمقراطية بأعمّ معانيها المألوفة في العالم.
هذا وقد لا يكون عند التاريخ غير السخرية يردّ بها على ما يبدو له شروطاً تملى عليه. ولكن ما نطلبه ههنا لا نستمدّه من فراغٍ من التاريخ. فقد كان هو فحوى الكلام الذي تجاوبت به لأشهرٍ ساحاتٌ وشوارع كثيرة بين المحيط والخليج. كان هذا قبل نحوٍ من ثلاث سنوات ثم غارَ الكلامُ في عواء المدافع وصرير الثورة المضادّة. مع ذلك لا يضمن شيءٌ أن يعود في مدىً منظور ما بدا صورةً مرغوبة لغد هذه الشعوب. لا تصلُحُ عبارات من قبيل «إرادة الشعوب» و»منطق العصر» و»اتّجاه التاريخ» تمائم تقصّر أمد الكارثة وتضمن عودة قريبة إلى صورة مقبولة للمستقبل. بل يجب النظر في عوامل أخرى: في طبيعة الصدع الذي بات يشقّ المجتمعات وفي السلوك المحتمل للقوى الدولية التي تتحكم في الصراع ولتلك التي تبدو عاجزة عن التحكم الفعلي فيه… فمن قال أنه لا يزال يسعنا أن نصدّق الوعد المغشوش بـ»الغدوات التي تغنّي»؟
كاتب لبناني

أحمد بيضون

في المأزق العصبي

أحمد بيضون

سجّلنا في عجالة سابقة أن اتّخاذ الوحدة الطبيعية الصغرى أو الوحدة العصبية قاعدةً لتفكيك الأوطان القائمة، باسم إرساء السلم الأهليّ، لا تختلف حظوظه في إدراك الغاية المرجوّة منه، من حيث الأساس، عن اتّخاذ الوحدة الطبيعية الكبرى قاعدة لدمج الأوطان القائمة باسم القوّة القومية. فعند التأمّل يتضح أنه لا وجود لوحدة صغرى بل توجد، على الدوام وحدات أصغر من الصغرى محتملة الظهور. أي أنك إذا هبطت من القومي إلى الطائفي، على سبيل المثال، بقيت العصبية القبلية أو الجهوية محتملة النزوع إلى تقسيم الطائفة.
وإذ يسلّم ذو الصفة للطبيعة أو للتقليد الذي هو بمثابتها، حين يكون دينياً على التخصيص، بالقدرة على تعيين الوحدة السياسية المثلى، يُشرع الأبواب أمام الاستبداد في هذه الوحدة. فليس اتّفاقاً أن الحميّة القومية، حين تضطرم، لا تتولّد منها دولة ديمقراطية. وذاك أن الأمّة، في مفهوميها التقليدي والديني، وحدة صوفية نزّاعة إلى التجسّد في فرد أو في هيئة من الطراز الذي لا يقبل مثيلاً في مواجهته ولا يقرّ بشرعية للتعدد إلا عرضاً أو اضطراراً. وهذا هو أيضاً حال المذهب وحال النسب بما هما عصبية مستعلية، نبذية الوجهة، توّاقة إلى الهيمنة.
فهذا النوع من الوحدات يختلف بطبيعته، إذ يرى لنفسه صفة الكلّية المكتملة الوظائف، عن الوحدات الوظيفية التي يتشكّل منها المجتمع: من قبيل الطبقات الاجتماعية أو القطاعات الاقتصادية أو الهيئات المهنية، إلخ. هذه يمكن أن تتصارع ولكنها تستبقي إدراك جزئيتها وحاجتها إلى سائر ما يجانسها من مكوّنات. وهو ما يلجم الصراع أو يسعه لجمه فلا يصل عنفه إلا شذوذاً إلى السوية الرهيبة التي يبلغها عنف النزاع الإثني أو الطائفي، ناهيك بالقومي. نقول هذا مع علمنا أن الصراع الطبقي حين يغادر ميدان الحقوق الاجتماعية الاقتصادية ليتّخذ قيافة سياسية وليصبح موضوعه السلطة بأسرها يسعه أن يصل بالتصعيد إلى حدّ يتعيّن معه «القضاء على العدو الطبقي» على أنه الهدف الأخير للمواجهة. وهو ما ينذر بفتح أبواب العنف على مصراعيها وبنشر منطق التصفية نشراً متسلسلاً في أرجاء المجتمع بطبقاته وفئاته كافّةً.
فإذا عدنا إلى شاغلنا الذي يفرضه علينا ما يشهده محيطنا من مواجهات وما تثمره المواجهات من مدارات للمجادلة وجب أن نبرز واقعة تستذكر النفَس الديمقراطي الذي وسم المراحل الأولى من هذه المواجهات أو من معظمها. وهي أن بين العواقب التي تترتّب على اتّخاذ الجماعة الإثنية أو الطائفية وحدة سياسية وهويّة لوطن جديد تسليم رقاب الأقليات المعارضة لتفكيك الوطن القائم إلى السلطة المقبلة على خيول الإنجاز المتمثّل في مطابقة الهوية الطبيعية والدولة. سيحصل في هذه الحالة «تطهير» عنصري أو هو بمثابة العنصري (هبّت رياحه في الآونة الأخيرة ولم تُبْقِ حاجة للاستدلال النظري) يقصي من كانوا منتمين إلى جماعات طبيعية أو عرقية أخرى أحلّها التاريخ في النطاق الجغرافي نفسه. ولن يكفي استعداد هؤلاء للخضوع ضماناً لسلامتهم في ظل الهيمنة الجديدة. وسيذوق الويل أيضاً من كانوا أقلّية سياسية في الجماعة المهيمنة نفسها يَظهر إيثارها، بحكم الرأي أو المصلحة، للوضع السابق ويسعها أن تشكّل أو أن تقود معارضة للسلطة الجديدة.
تنزع دواخل الأوطان المقترحة، إذن، إلى اعتماد سلام القبور مثلاً أعلى وغاية يتعذّر نيلها بغير الاستبداد. ويبقى التنازع عبر الحدود الجديدة، على اختلاف صوره، مرجّحاً أيضاً ولا يُستبعد اتّخاذه صيغة الحرب الصريحة إذا آنس طرفٌ من الأطراف في نفسه قدرةً على الغلبة. يزكّي هذا الاحتمال أن الأوطان الجديدة ستكون، في الحالات المطروحة على آهلي هذا الشرق العربي، دولاً صغيرة، مختلّة الموازين من جهاتٍ مختلفة، عاجزةً عن تغليب نازعها الاستقلالي، جانحةً، بالتالي، إلى تبعيةٍ تميل بها العداوة نحو التوزّع بين أقطابٍ كبيرة متناحرة.
في كلام سابق، أشرنا أيضاً إلى صيغ تقع دون التقسيم القطعي يتداولها المحللون على أنها مخارج متاحة من هذه أو تلك من المواجهات الدموية المدمّرة التي انتهت إليها حركات التغيير في أقطارٌ عدّة من حولنا. على أننا لم نتوقّف عند الشروط التي يفترضها استقرار هذه الصيغ ولا عند حظوظ هذه الشروط في التحقّق عند وضعها بإزاء طبيعة النزاع الجاري في هذه البلاد أو تلك ومداراته. أمرٌ آخر سيكون علينا أن نقول فيه كلمة هو دعوى «الفرادة» التي يزعمها ناشطون أو محلّلون للحركة التي نشأت في بلادهم وأورثت نزاعاً لا يبدو مشْرفاً على نهايته. واجهت هذه الدعوى ولا تزال تواجه أحياناً كلَّ محاولة للتنبيه إلى خروج الحركة عن السكّة المفضية إلى أهدافها المعلنة ابتداءً وهي أهدافٌ كبرى مشتركة بين حركات التغيير الديمقراطية. فكان يقال للنقّاد أن ما يرونه خروجاً عن الجادّة إنما هو الجادّة المميّزة للحركة في مجتمعهم هذا… نحاول عودة إلى المسألة الأولى وتعريجاً على الأخيرة في عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

التحرّر من الدولة أو الحرب الأهلية العالمية

أحمد بيضون

تفيد إجالة النظر السريعة في أمر هذا العالم الذي ودّع المجتمعات المتجانسة الهوية وبات مسكوناً بالفوارق من أقصاه إلى أقصاه أن الدول القديمة نسبياً والوفيرة الموارد كانت الأقرب إلى استبقاء قدْرٍ من الاستقرار السياسي أتاح لها، في الأقلّ، اجتناب الحروب الأهلية (أو اجتناب تجدّدها) وحفظ وحدتها السياسية. وعلى التعميم، اتّسمت الأنظمة السياسية في هذه الدول، وبعضها دول هجرة ذات مجتمعات كثيرة الكسور، باستبقاء سلطةٍ مركزية قويّة وبرفض الاعتراف بالمكوّنات الدينية أو الإثنية أو اللغوية على أنها مكوّناتٌ سياسية للبلاد يستقلّ كلّ منها، بصفته هذه، بتمثيله في الدولة. صحيح أن هذا الضرب من التنوّع روعي، في كثير من الحالات، باعتماد الفدرالية أو الكنفدرالية، وهذان نظامان يقومان على الاعتراف بحدودٍ إقليمية تستوي ضمن كلّ منها هذه الجماعة أو تلك أكثرية. ولكن الحقوق المترتّبة على الاستقلال الذاتي للإقليم تُمنح للأكثرية وللأقلية معاً دونما تمييز. وحين نصل إلى حقوق المواطن لا يعدّ الانتماء الإثني أو الديني أو الجنسي، إلخ.، لهذا الأخير موجباً لحقٍّ ولا يعدّ حاجباً لحقٍّ بطبيعة الحال. في هاتين القاعدتين المتعلقة إحداهما بالجماعة والأخرى بأفرادها ما يمثّل الفارق بين هذا النوع من الأنظمة وبين الأنظمة الموصوفة بالـ»تعدّدية» حصراً.
ذاك فارق ليس بالهيّن. فهو أساس أوّل (وإن لم يكن وحيداً) للحؤول دون التبلّر السياسي المفرط للجماعات «الثقافية»، كلّاً على حدة، ودون تمهيد الأرض للتنازع الأهليّ بالتالي… وفي نطاق الخيار «المواطنيّ» هذا تُستبعد «المحاصّة» ضماناً لحقوق الأفراد والجماعات ويستعاض عنها بهياكل مؤسّسية متكاملة الأنواع والتخصّصات تردع التمييز. وبقطع النظر عن درجة الاختيار أو الاضطرار في استبعاد الخيار المواطني واعتماد نظام «اقتسام السلطة» صيغةً لإدارة التعدّد وتغليب «التوافق» آليةً لعمل النظام، فإن معظم الدول التي اعتُمد فيها المبدأ التوافقي سجّلت فشلاً إستراتيجياً في حفظ تماسكها واجتناب العنف بين مكوّناتها وتحقيق قدر من الفاعلية والاستقلال في حكم نفسها وإدارة شؤونها.
ومن البدء، شدّدت الأبحاث الجادّة التي تناولت هذه الفئة من الأنظمة على أن التوافقية يجب أن تعتبر محطّة انتقال للنظام نحو بناء متدرّج للأمّة. فقد كان الخوف ماثلاً من التصلّب الاجتماعي السياسي لكلّ من المكوّنات إلى حدّ يؤول إلى تفاقم أسباب النزاع بينها وإلى إطاحة الوحدة. وكان التفاوت في الحقوق وفي المكانة بين المكوّنات أوّل ما يرجّح هذا التوجّه. وكان بين أسبابه، في بعض الحالات، وجود أقطاب في الخارج توجد لها أو ترتجل لنفسها عواملَ مجانَسةٍ لهذا أو ذاك من المكوّنات فتأخذه تحت جناحها وتنحو إلى مضاعفة ثقله في موازين بلاده الداخلية إلى حدّ يفوق بكثير ما تؤهله له إمكاناته وحجمه وتُدخله من ثمّ في منازعات شتّى يساندها فيها أو يخوضها بالنيابة عنها.
على أن العنف بين أطراف الداخل، حين يغلب الجنوح إليه، يضطلع بالدور الحاسم في ما نسمّيه «غصب الفوارق». أي في تحويل الاختلاف إلى عداوة. فالعنف يبدأ عادةً من قلّة مصمّمة في الجماعة ويفرض نفسه على كثرة ترفضه فيها ثم يروح يستمدّ وقوده من نفسه: من تصعيده ومن تصعيد الردّ عليه. هذا العمق الجديد الذي يمدّ به العنف حدود الجماعة، مستفيداً ممّا يلقاه من حوافز داخلية وخارجية، ينتهي إلى إجهاض مشروع الأمّة أو إلى شلّه. ولنُشِر ههنا إلى أن ما يتعين فهمه بلفظ «الأمّة» بات، مع استشراء التنوّع في المجتمعات، بعيداً كلّياً عن معاني «التجانس» بوجوهه المختلفة: من عرقية ودينية وثقافية وغيرها. بل إنه يمكن القول أن مصطلح «الدولة-الأمّة»، حين يفهم بمعناه الأصلي، قد أصبح، في عالم اليوم، اسماً لغير مسمّى يبقيه في الاستعمال ما للمصطلحات الكبرى من نوعه من قابلية للاستمرار بعد تغيّر مسمّياتها. وإنّما يفهم بالأمّة في عالم اليوم، على التغليب، جماعة المواطنين الخاضعين لنظام الدولة الحقوقي والممتّعين بحمايتها والساعين في مشروع بناء مجتمعي متعدّد الوجوه والتوجّهات في نطاق الدولة شعباً وتراباً.
وأمّا أهمّ ما يمهّد للعنف، في الداخل، أو يثمره العنف متى اشتدّ وانتشر فهو مصادرة الجماعات لوظائف اجتماعية مختلفة هي الرافعات التي يفترض أن تسعف الدولة في ما يقع على عاتقها من عمل التوحيد وبناء الأمّة. هذه المصادرة تدفع الجماعات في اتّجاه تبلّر يزكّي التباعد ولكن لا يخفّف من أسباب التنازع. وفي العقود القريبة الماضية، زكّى هذه المصادرة ظرفٌ عالمي هو ظرف النزوع إلى اعتبار ما يسمّى «دولة الرعاية» آفةً يجب الخلاص منها. والحال أن «دولة الرعاية» هذه هي أفعل ما يواصل حمل وحدة المجتمع في أقطارٍ خرجت من مرحلة الاتّحاد المفروض أو المفترض في وجه السيطرة الاستعمارية. هي تتولّى ذلك إذ تتولّى أدواراً قيادية في التعليم وفي الصحة وفي الإسكان وفي التشغيل، إلخ. وهي تتخلّى عن ذلك حين تنتزع منها هذه الأدوار أو تنحو، هي نفسها، نحو التخلّي عنها. الحال أيضاً أن دولة الرعاية كانت منخورة، في كثرةٍ من مواطنها ومرافقها، بالفساد والهدر. ولكن هذا المريض الغالي لم يحظَ بعلاج جادّ بل تُرك للطامعين في وظائفه يعاقبونه على مرضه بإعدامه.
والحاصل أنه بعد أن يستتبّ «التحرير» أو «اللبرلة» يعود العَلَم والنشيد الوطني وأجهزة القمع المختلفة غير كافية لحفظ ما سبق إرساؤه من الوحدة ناهيك بالرقيّ بهذه الأخيرة إلى الطور المأمول. عند إدراك هذا الواقع يغدو غير مباغتٍ أن يوافق التوحيدُ العولمي سيادةَ الهويّات الفئويّة مع رسمٍ جديد لحدود السيادة العَقَدية مختلفٍ جدّاً عن رسم العولمة لحدود السيادة الاقتصادية ولكنه لا يقلّ عنه فتكاً بسيادة الدول. يثمر ذلك تفكّكَ المجتمعات إلى مكوّناتها «الأوّلية» بعد أن يكون عمل التسييس قد منحَ هذه المكوّنات قيافةً جديدةً تَضافَر في تشكيلها الداخل والخارج.
وأمّا الاسم العامّ لهذا الذي تتضافر في تحصيله «دواخل» و»خوارج» كثيرة، متراتبةٌ ومتراكبة، فليس سوى مشروع «الحرب الأهلية العالمية». والظاهر أننا حصّلنا لبلادنا نصيباً غير قليل من ماجَرَياته. والظاهر أيضاً أنّه لا يزال في مراحله الأولى. وأمّا دول المواطنة فتحتاج إلى قوى تحمل همّها وإلى ظروف تواتي تكوّنها. فما هذه؟ وأين تلك؟
كاتب لبناني

أحمد بيضون

مجتمعاتنا «التعدّدية»: لا فراقَ بإحسان

أحمد بيضون

حين يصبح الفراق بين المكوّنات الرئيسة لمجتمعٍ متعدّد أمراً مقضياً، تبرز بين أَوْلى العواقب بالاعتبار أرجحيةُ القضاء على المدن أو، في الأقلّ، على مدينية المدن، وأخصّها العواصم. فإنما تصبح المدن مدناً باستدراجها التخالط وتجاوزها انفراد الوحدة الطبيعية أو التقليدية بديرتها. وتزداد المدينية مدينية كلّما اتّسع صدرها لا لتَخالط وحدات من الصنف نفسه وحسب بل لتَخالط أصنافٍ متغايرة من الوحدات. وإذا كانت المدن العربية قد استبْقَت نسبة من تعمّد التجاور بين أبناء الطائفة الواحدة أو الجهة أو العشيرة، وهو ما يجسّده نظام الحارات، أرفع من النسبة التي نجدها في المدن الأوروبية، مثلاً، فإن ذلك لا يعني البتّة أن فقدان المدينة واحدة من هذه المكوّنات أو أكثر من واحدة لا يمثّل انحطاطاً أو نكوصاً منها عن السوية المدينية. وهذا فضلاً عن النكبة التي يمثّلها، بطبيعة الحال، للفئة المستهدفة قلعها من موطن عيشـها ومعاشها الأصلي أو المتبنّى. يصحب هذا عنفٌ لا يُعرف مداه، ونشاهد في هذه الأيّام بعض عيّناته، يحتاج إليه فرض هذه النكبة على ضحاياها. فالحال أنه لا يلوح، في الحالات المعروضة على مرأىً منّا، أسلوبٌ «نظيف» لإعادة التشكيل الإثنيّ أو الطائفي لعاصمةٍ أو لمدينةٍ كبرى أو لوحدةٍ إقليمية أخرى. ولا تستغني الدعوة إلى مثل هذا عن التسليم بالمذبحة وبالدمار اللذين يقتضيهما تنفيذه.
إلى ذلك، لا يحتمل أن يوافق تقسيم الأرض تقسيماً منصفاً للموارد. بل إن كلّ واحد من الأوطان الجديدة المرتجلة سيضع يده على ما يجده تحت يده من خيرات البلاد ومرافقها ولو لم يكن في هذا وجه حقّ واضح. ويفيد النظر في حالات النزاع القائمة في محيطنا أن النجاة بالثروة أو الانفراد بالموقع لن يكونا غائبين عن المخيلة الانفصالية. وهو ما يجعل استمرار النزاع عبر الحدود الجديدة مرجّحاً ويستبعد لأمدٍ طويل، على الأرجح، خلافة حسن الجوار للصراع الجاري.
إلى هذا ترتسم علامات استفهام تتعلّق بالأنظمة السياسية التي يحتمل أن يفضي إليها التقسيم أو الانفصال وبما يمكن أن يضمره كل من الأنظمة الجديدة للجماعة التي يظلّها وما يرجّح أن تتمخّض عنه هذه الأنظمة من حالةٍ إقليمية.
وذاك أن البحث السياسي في ما يسمّى «المجتمعات التعدّدية» يبدو متخلّفاً عن وقائع التاريخ حين يواصَل التحدّثُ عن هذه المجتمعات وكأنها لا تزال استثناءً من قاعدة الدول-الأمم في عالم اليوم… وكأن البحث في الأنظمة السياسية المناسبة لها، هو الآخر، مغادرةٌ لجادّة الديمقراطية العريضة القائمة على مبدأ المواطنة حصراً أي على مقت الاعتراف بـ»هيئاتٍ وسيطة» تفصل ما بين المواطن والأمّة حين تتّخذ لنفسها صفة المجاميع السياسية أيضاً لا «الأوّلية» (بمعنى الدينية أو اللغوية أو الإثنية، إلخ…) وحسب.
والحال أن افتراض الاستثناء هذا يرقى إلى عهدٍ شهد خروج الأقطار المتتابع من حال الاستعمار وتحوّلها إلى دول منظورة بدورها. إذ ذاك بدا التكوين الأوّلي لأكثرها يستدعي ابتعاداً، اختلفت أشكاله، عن أنظمة الدول القديمة، القليلة العدد، التي كانت قد تألّفت منها – مثلاً – عصبة الأمم غداة الحرب العالمية الأولى. كان هذا الابتعاد لازماً لتجنيب هذه البلاد تمزّقاً عصف ببعضها فعلاً وبدا محتملاً في بعضها الآخر.
وفي كثير من الحالات، مثّلت السلطوية مخرجاً تباينت مدّته من حال التمزّق هذه. وفي بعضها أذِنَ تمتّعُ الجماعات بقواعد إقليمية بالذهاب إلى التقسيم العاجل أو الآجل بعد محنة دامية. وفي البعض الآخر، استقرّت الحال على اعتماد الصيغة الفدرالية أو الصيغة الكنفدرالية، وهما كانتا معروفتين في بعض الدول القديمة. وفي بعضها الأخير، انتهى الأمر إلى اعتماد ما يسمّى «النظام التوافقي» وهو يفترض اعترافاً، في نطاق الدولة المركزية الواحدة، بمكوّنات سياسية وسيطة للمجتمع هي نفسها الجماعات التي أنشأها التاريخ وجعل الانتماء إليها عرفياً لا طوعيّاً. تلك كانت الحال في قبرص ولبنان، مثلاً، وقد اعتُبرت أنظمتها شبيهة بأنظمة دول أوروبية صغيرة، أقدم منها عهداً، أبرزها بلجيكا وهولندا. وهذا مع الإقرار بأن هذه الفئة من الأنظمة يختلف بعضها عن الآخر كثيراً وتمتّ بصلات قربى متباينة إلى الفئات الأخرى.
هذا العالم الذي ارتسمت معالمه في أواسط القرن الماضي شهد مذّاك تحوّلات عميقة بدّلت تصنيف المجتمعات لجهة تكوينها السياسي وأحالت إلى قاعدة ما بقي ينظر إليه حيناً من الزمن على أنه استثناء. فسواءٌ أتعلّق الأمر بمجتمعاتٍ أنشأَتها الهجرة أساساً، كما في العالم الجديد، أم بمجتمعات أخرى حمل إليها ماضيها الاستعماري وحاجاتها العملية كتلاً كبيرةً من المهاجرين، راحت المعاداة المتصاعدة للتمييز وتقدّم المساواة الحقوقية يفرضان الاعتراف بالخصوصيات الثقافية ويزيدان من منظورية الحدود بين الجماعات. وهو ما فعلته أيضاً أزمات ما بعد الاستعمار في الأقطار الجديدة التي أخفقت السلطوية في كبت الفوارق الإثنية أو القبلية أو الطائفية أو اللغوية فيها. وهو، أخيراً، ما أبرزته ظروف تفكيك الاتّحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية في جوار اتّحاد أوروبي مستعدّ لاستقبال قطع المنظومة المنهارة ونظام دولي أصبح تماسكه وإجماعه على معالجة حالات النزاع التي طرحت ورعاية المسار الانتقالي يبدوان اليوم أثراً بعد عين.
مهما يكن من أمر، تبدو مسألة سياسة الفوارق مطروحةً اليوم، ولو على أنحاءٍ متباينة، على جميع دول الكرة ومجتمعاتها تقريباً. وأمّا الاختلاف بين الحالات فيتأتى من طبيعة المكوّنات ومن عددها والنسب الحجمية بينها ومن نسيج العلاقات بينها، بما فيه توزيع الموارد، ومن النفوذ الخارجي الفاعل فيها، إلخ. فما الذي تأدّى، على وجه الإجمال، عن اعتماد صيغة «التوافق» بديلاً جاء به الاضطرار أو الاختيار من مبدأ «المواطنة» لسياسة الفوارق المشار إليها؟ نحاول في العجالة المقبلة تأمّلاً في هذه المسألة يحفزه التلويح المتكرّر بـ»التوافق» وريثاً لأنظمة كانت قد طمست تعدّد المكوّنات وجبَهَتْه بالإنكار في الأوطان التي تضربها، على مقربة منّا، رياح التمزّق والنزاع الأهليّين.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

في «الطبيعي» أو «التقليدي» وفساد خلافته للـ «مصطنَع»

أحمد بيضون

هذه أيامٌ ينساق فيها محللون أفراد إلى ممالأة مزاجٍ منتشر، كتابةً أو مشافهة، فينتهون إلى دعوةٍ أو خلاصة يبدو منطقها غاية في الإحكام: إن تعذّرت المعاشرة بالمعروف فليكن فراق بإحسان. والمعنى الواضح لهذا المبدأ ههنا أنه ما دام وجود الأطراف على أرض ذات وحدة سياسية يفضي إلى تذابحهم… ما داموا غير قادرين على الوصول إلى صيغة تستبعد إخضاع جهةٍ لجهة وتنشئ حالة من الرضا المتبادل… فليتوزّعوا الأرض نفسها فيما بينهم لتصبح الدولةُ دولاً. على أن ينظر لاحقاً في أمر العلاقة الفضلى التي قد يتيسّر إنشاؤها بين الأوطان الجديدة. يظهر إذن أن العنف قد نقلنا من الحلم بأنواع من الوحدة كانت صيغها تختلف باختلاف الحالمين إلى الحلم بانواع من الفرقة أو التقسيم لا بدّ أن يظهر تنوّعها أيضاً حين يأخذ هذا الحلم مداه ويروح ينمو ويتفرّع بحرّية.
على أن التفكّر في ما يقال حتى الآن من كلام هذه وجهته لا يلبث أن يخرجنا، في الواقع، من الشعور بإحكام هذا الطرح إلى الشعور بعكسه. والسؤال الذي يجمل أسئلةً كثيرة تتّصل بهذا الموضوع هو التالي: «ما الذي نحصل عليه بتفكيك الأوطان القائمة وفقاً لخطوط الصراع الذي يعصف بها؟ هل هو شيء مختلف في الاتّجاه المناسب عمّا نحن فيه أم هو شيء من القبيل نفسه لا يخرج الأوطان الجديدة من العنف المتحفّز أو المنفجر إذ لا يبعدها عن أسبابه ويرجّح أن يفضي بها إلى ألوان منه أشدّ هولاً وإلى مشكلاتٍ هيكلية متنوّعة شبيهة، على وجه الإجمال، بتلك التي أنشأته؟». هذا ولنا أن ننزل إلى مستوىً أبعد غوراً لنسأل: «هل الوَحَدات التي تتقدّم الآن على أن كلّاً منها إرهاص بدولة وحداتٌ موعودة بالاستقرار في حال استقلالها أم أن ما يبدو اليوم وَحْدةً «طبيعية» أو «عرفية» مرشّح بدوره للتفسّخ إذا استقلّ… فلا نمعن النظر في واحدة من الوحدات إلا وتبدو وحدتها خلّبية ويظهر لنا ما تحت الوحدة من وحدات؟».
لسنوات قليلة خلت، كنّا نردّ على القائلين لنا إن دولنا كياناتٌ مصطنعة بالقول إن الدول كلّها مصطنعة ولو تفاوتت بينها نسب الاصطناع. وكان من نردّ عليهم بهذا الكلام عادةً من طلاب الوحدات الكبرى أنصار القوميات الجامعة. وكان من بين ما نقوله لهم إن الوحدات التي يقولون باسترجاعها لم توجد قطّ في الواقع وإن ما وجد من وحدات كبرى أُدرجت بلادنا في خرائطها إنما كان، في الواقع، غير ما يقولون. اليوم يقال لنا إن مكوّنات أوطاننا أو دولنا أثبتت في السنوات الأخيرة أو قبلها إنها لا تريد العيش سوية أو لا تستطيعه. والمكوّنات المشار إليها ليست أمماً أي جماعات قومية «تامّة»، على ما كان أنطون سعادة يصف السوريين، وإنما هي أجزاء من جماعات قومية تتوزّع الواحدةَ منها أوطانٌ عدّة أو هي عصبياتٌ جهوية أو هي طوائف أي كسور من دين أو من مذهب.
يقال لنا إذن أن علينا النظر في تفكيك الأوطان القائمة باعتباره مخرجاً من مذابح أهلية جارية أو ممكنة. وفي هذا ما فيه من مصادرة تفرض، بادئ بدءٍ، أن يكون الذبّاحون أو المتذابحون، في الحالات المطروحة، ممثّلين شرعيين للجماعات التي ينسبون لأنفسهم أو ينسب إليهم تمثيلها. في الدعوة المشار إليها شيء آخر هو القول إن وحدات طبيعية أو تقليدية مدّعاة أصغر من الأمم يجب أن يجاز لها ما لم نكن نجيزه للأمم، بما هي وحدات طبيعية أو تقليدية مدّعاة، أي شطب الأوطان القائمة. كان يراد للوحدات الكبرى أن تخرج إلى الوجود السياسي الناجز بدمج أوطان تضيق عنها متفرّقة واليوم يراد للوحدات الصغرى ان تخرج إلى الوجود السياسي الناجز أيضاً بتفكيك أوطان تضيق بها موحّدة. وكان للتوحيد صفة المصلحة إذ كان يصوّر على أنه استجابة لدواعي القوّة بوجوهها كافّة. واليوم تظهر للتفكيك صفة العجلة إذ هو يبدو استجابة للدعوة إلى وقف المذبحة.
في المبدأ، ليس للتفكيك أو التقسيم أو الانفصال، في الظرف الذي يقال أنه يفرضه، شيء من مقومات الاختيار الحرّ. وذاك أنه ليس من شأن النزاع بين جماعتين، مثلاً، أو بين القوى المنظّمة فيهما (وهذا أقرب بكثير إلى واقع الأمور) أن يعزّز حريّة الاختيار في كلّ منهما. بل إن ما يطرح على أنه اختيار ههنا يطرح في ظرف إنهاك وقسر وسيطرة يجعل منه احتمالاً أوحد ويبعد عنه كلياً صفة الاختيار. وهذا وضع ستكون قد تولّت سوق الجماعتين إليه قلّة هنا وقلّة هناك فرضت كل منهما نفسها فرضاً على الجماعة بدعوى الدفاع عنها. وإذا وجد انسياق من الجمهور وراء حماة الذمار، وهذا موجود، لا بدّ، إلى هذا الحدّ أو ذاك، فيجب النظر، ما دام الظرف ظرف نزاع أهليّ مسلّح، في نصيب العُصاب ذي الطابع الظرفي من هذا الانسياق.
وفي ما يتعدّى المبدأ، يتعيّن النظر في العواقب: عواقب التفكيك أو التقسيم أو الانفصال. ذاك ما نجعله موضوعاً للعجالة المقبلة. فإذا ألزمنا هول العواقب باستبعاد هذه الكأس وجب علينا النظر في صيغة للنظام السياسي يصحّ اعتبارها منصفة لأطراف النزاع وضامنة لمستقبل شركتهم في دولة واحدة. وهو ما نتخّذه مداراً لعجالة تلي العجالة المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

في مداواة الأوطان بتفكيكها

أحمد بيضون

تَواصَل إذن تردّي حركات الانتقال التي شهدتها بلادٌ عربية عدّة ابتداء من أواخر العام 2010 في أشكال دموية شتى من التنازع الأهلي. فشهدت مصر، وهي كبرى هذه البلاد، نوعا من الثورة المضادّة تمثّل في الارتداد الحاظي بغطاء شعبي واسع إلى هيمنة المؤسّسة العسكرية على النظام السياسي-الاجتماعي، وهي هيمنة ذات مندرجات اقتصادية وثقافية فضلا عن السياسية. يورث هذا الارتداد الذي يبدو وكأنه أنسى المصريين حصولَ ثورة على نظام حسني مبارك لجوءا من الجانب المُقْصى بالقوّة عن سلطة أساء تدبيرها والمتعرّضِ لأشدّ القمع، وهو جماعة الإخوان المسلمين، إلى عنف يستهدف العسكريين بالأفضلية ولكن ضرباته تنال من بعض فئات الأهلين، وخصوصاً منهم الأقباط، وتعمّق خطوطَ فصل خطرة على مستقبل السلم الأهلي في البلاد.
ويتّصل في سوريا صراع مدمّر أكسبه اعتماد النظام الأفضلية الطائفية أساسا متصدّرا بين أسس توزيع السلطة ومغانمها ولجوؤه المفرط إلى العنف الإجرامي منذ الأيام الأولى لحركة التغيير طابعا طائفيا لم يلبث أن أخذ يستدرج عنفا جهاديا مقابلا. وكان أن اتّخذ النظام من وصمة الإرهاب، وهي ظاهرة، منذ 11 ايلول/سبتمبر 2001، على الأقلّ، على جبين السلفية الجهادية، راية لقبائح لا تعرف حدّا: من قتل بالجملة وتدميرِ عمران وتراث ومن تحويلٍ للمعتقلات إلى حقول تعذيب وقتل ومن تشريد لملايين البشر، إلخ. ثم إن الاندراج المتزايد لهذا الصراع في المواجهة الإقليمية التي يمثل قطبيها نظامان معلنا الصفة المذهبية هما النظام السعودي والنظام الإيراني راح يتحكم في رسم الخطوط الداخلية للصراع إلى حدٍّ جعل مصير سوريا الواحدة رهينة لقوى النزاع الإقليمي وأطواره وللتجاذب بين رعاته العالميين، من جهة، ولميراث من العنف الداخلي، المؤسّس على الطائفية، تزداد أثقاله المهولة كل يوم، من الجهة الأخرى. ولنضف بصدد الداخل أن ما يبدو متهالكا تحت وطأة الضربات التي يكيلها له النظام ووطأة التشظي التنظيمي الفادح أيضاً إنما هو، على وجه التحديد، ما ليس «جهاديا» في الثورة السورية. هذا فيما يبدو أكثر التنظيمات تشدّدا بل توحّشا في الإرهاب مرتفع الأسهم، منصرفا إلى إحكام هيمنته على أرجاء متزايدة الاتّساع من سوريا ومن العراق معا.
وفي ليبيا واليمن وفي البحرين أبرزت أطوارُ النزاع خطوطَ انقسام أهلية الصفة، من طائفية وقبلية جهوية، بدت ماثلة تحت السياسة ومنذرة، بسبب انتمائها إلى أرض الهويات الأولى، بتفسيخ ما كان قد اصطنع من وحدة معلنة للأرض الوطنية. فبدت هذه الوحدة هشّة القوام، ذات حقيقة سرابية، إلى هذا الحدّ أو ذاك، وبدا تبديدها احتمالاً ماثلاً إلى حدّ الإلحاح بين مآلات الصراع. هذا ولمّا يصبحْ التقسيم (باستثناء الحالة اليمنية والبوادر الكردية في العراق، على الخصوص) مطلبا صريحا يثابر على رفعه طرف وازنٌ من أطراف المواجهة. وفي تونس، أفضى النزاع إلى نشوء وضع هو الوحيد الذي يبدو ذا شبه بالمنطلقات الأولى للحركة: أي بطلب الحرّية والكرامة والخبز وبإصلاح مؤسسات الدولة وبجعل الدستور منطلقا لمحاسبة السلطات وركيزة لديمقراطية تستبعد إخضاع جماعة لجماعة بما فيه إخضاع جنس من الجنسين للآخر. ولكن الاستثناء التونسي، إذ يبلغ هذه المحطة بعد عبوره منزلقا لم يكن يخلو من شبه بالمنزلق المصري، يثير من الخوف قدر ما يثيره من الأمل. فهو استثناء في بلد صغير، واقع في محيط بعضه شديد الاضطراب وبعضه ماض في وجهة مغايرة جداً لما آلت إليه الأمور في تونس.
وما يزيد الصورة قتامة أو يزيد القتامة شمولاً أن بلادين -على الأقل – من تلك التي لم تعصف بها حركات تغيير من سنخ الحركات التي استثارها ما دعي «الربيع العربي» قد ضربتهما الموجة التي قد تصحّ تسميتها موجة «التفكك الوطني»، وما تزال. هاتان البلادان هما العراق ولبنان. وفي كلتيهما كانت بوادر المضي نحو التفكك (أو الاستئناف الحثيث لمراحل سابقة من السير نحوه) أسبق بأعوام من الموجة التي افتتحها الحدث التونسي في آخر العام 2010. وكان دخولهما طور الاضطراب الشديد متقاربا في الزمن ومشتركا جزئيا في الأسباب. فإن لبنان قد شهد بدء الاهتزاز الجادّ للهيمنة السورية عليه وما أورثه ذلك من صراع متناسل الصور، في أعقاب الاجتياح الأطلسي للعراق في سنة 2003.
حيال هذه المسيرة المتنوّعة الفصول نحو التفكك في هذا العدد الكبير من الأوطان وما يتخللها من عنف بلغ في بعض مواطنه درجات من الهمجية كانت عصية على التخيل، يلحّ على الناظرين في شؤون هذه الدول ومجتمعاتها، من المثقفين وغيرهم، سؤال ينطوي على استعجال فائق وعلى طاقة ضغط هائلة على النفوس والعقول: ما القول في جماعات قدّمت شواهد ضخمة على افتقارها إلى الأهلية أو إلى الرغبة في البقاء وحدة سياسية من الصنف المسمّى دولة أو وطنا؟
عن هذا السؤال البالغ الخطر باشر محلّلون أفرادٌ الإصداء لطلب لا شكّ في وجوده على قارعة الطرق، خارج دائرة المحلّلين ووجهات نظرهم. باشروا التصريح بما لا تصرّح به، على وجه الإجمال، أطراف سياسية ذات تمثيل، فاعلةٌ في الساحات التي هي مصدر الهمّ وموضوع البحث.
وإلى الوجهة التي تشير إليها أجوبة هؤلاء المحلّلين وإلى ما يرجّح أن يفضي إليه من قد يعتمدون هذه الوجهة، لنا عودةٌ في عجالات مقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

في المصطَلَح الجديد وضْعاً وتعريباً

أحمد بيضون

لا نملك ههنا أن نجاوز الإشارة السريعة إلى أنواع الأخطاء التي يقع فيها مرتجلو المصطلحات ثم تشيع وتذيع. فالمصطلح الجديد، سواء أكان اسماً لتصوّر فلسفي أم اسماً لجهازٍ جديد أم غير ذلك يدخل اللغة إمّا بالوضع وإمّا بالتعريب. ومعنى الوضع أن يوجد من العربية نفسها مفردةٌ أو مركّبٌ يعتمد مقابلاً للمصطلح المراد نقله. ومعنى التعريب أن يعتمد المصطلح الأجنبي بصورته الصوتية نفسها بعد تطويع هذه الصورة بحيث تراعي قواعد الصرف العربي نطقاً وتؤدّيها حروف العربية كتابةً.
ويفترض في الواضع أن يكون ملمّاً بالذخيرة الضخمة التي تركها القدماء لنا في حقولٍ كثيرة وأكثرها مثبتٌ في كبريات المعاجم القديمة من لغوية وفنية. ويفترض فيه أن يكون عارفاً أيضاً بما قد يكون المُحْدَثون اقترحوه حتى لا يزيد طين التفتّت بلّةً من غير داعٍ يسوّغ له ذلك. ويفترض فيه أيضاً أن يكون عارفاً أصول الاشتقاق والنحت العربية ومعاني الوزانات الصرفية فلا يضع اسم مفعولٍ، مثلاً، لمصطلحٍ له معنى الفاعل.
هذه المعارف نفسها تُفْترض في المعرّب الذي لا يجوز له الجنوح إلى التعريب أصلاً إلا بعد التثبّت من تعذّر الوضع المناسب للحاجة. فمع أن دخول الألفاظ الأجنبية حَرَمَ العربيةِ أمرٌ قديمٌ قِدَمَ اللغة، محقّقٌ في حالة القرآن نفسه، وأن هذه الرحابة لا تعدّ مأخذاً، فإن الاستكثار من التعريب بلا داعٍ وجيه ينتهي إلى إخلال جماليّ غير محمود.
بقي أن نضرب مثلاً أو اثنين على ما رمت إليه هذه الملاحظات. ظهر الهاتف الجوّال المسمّى «سلّولر»… ففهم صحافيّ ما أن الأمر يتعلّق بالـ»سلّ» أي الخَليّة. وما كان منه إلا أن قال «خِلْيَويّ»، مفترضاً أن له أن ينسب إلى «فَعيلة» بـ»فِعْيَليّ». وحين وصل اللغوي، الذي لم يكن قد استشير، ليقول أن الصواب «خَلَويّ» على «فَعَليّ»، كان الأوان قد فاتَ تقريباً. والحالُ أن اللغوي كان حقّه وواجبه أن يكون المبادر إلى الفتوى وكان يجب أن يكون بتصرّفه من وسائل النشر والإعلان ما يجعل صوتَه الأعلى. ولكن هيهات!
هذا في الوضع. مثل آخر يدخل في باب التعريب. قبل سنين، اقترح معمارٌ عربي ذائع الشهرة على استحقاق، في بعض مؤلّفاته، أن يُنْقل المصطلح الانكليزي-الفرنسي «أوبتيمال» بلفظه إلى العربية فنقول «أُبتِماليّ». وفي مراجعة للكتاب الذي حمل هذا المقترح وغيره من صنفه، لاحظتُ أن «أبتمالي» تشكو علّتين، على الأقلّ: الأولى أنها لا تتوقّف عند مقابلٍ عربي لا يبدو فيه عيب، وهو «أمْثَل». فهذه صفة تفيد معنى المقابل الأجنبي بالضبط. ولنا أن نأخذ من الصفة اسماً أو مصدراً صناعياً هو «أَمْثَلِيّة» مقابلاً لـ»أوبتيمالتي». فإذا سلّمنا جدلاً بأن علينا الجنوح إلى التعريب، عِوَضَ الوضع، وجب الالتفات إلى العلّة الثانية في «أُبتِمالي» وهي شَفْع اللاحقة الأجنبية «أَلْ» التي تفيد النسبة بياء النسبة العربية، فتصبح الصفة منسوبةً مرّتين! وهو إخلال بالأناقة وهدْرٌ لا يسوّغه غير السهو عن أصول التصريف في اللغتين معاً. فكان الصواب، إن أصررنا ـ مرّةً أخرى ـ على التعريب، أن يقال «أَبْتَميّ» وأَبْتَميّة» لا «أبتماليّ» و»أبتماليّة».
ولكن، لا حوْلَ…
وقد نلتقي من يدعونا إلى التسامح حيال هذا النوع (أو هذه الأنواع) من الأخطاء وإلى إلزام اللغة بتقبّلها على سبيل التيسير. ولا غبار على مبدأ التيسير. ولكن ما يبدو تيسيراً لأوّل وهلة قد يتكشّف، عند المفترق الأوّل، عن تعسير يضاف إلى قواعد اللغة. فإن علينا أن نلتفت دائماً إلى متعلّمي اللغة وقواعدها فلا نزيد همومهم ثقلاً ونحن نحسب أننا نجاري العامّة بالسكوت عن خطأ يشيع ويذيع. وذاك أن الاستكثار ممّا يشذّ عن قاعدة من قواعد اللغة إنما يزيد تعلّم اللغة عسراً ليس معه يسر. لا مناص إذن من استدعاء السلطة اللغوية لا للتنكيل بمستخدمي اللغة بل للتخفيف من العبْء على متعلّميها. وما هؤلاء سوى أولئك أو بعضهم.
وذاك أن استلهام العامّيات وإحسان الاستقبال للوافد من الحاجات يجب أن يكونا في رأس ما تعتمده تلك السلطة ـ إذا وُجدت! ـ من سبلٍ إلى التيسير. وهما، في كلّ حال، شرطان لفاعليّتها إذ هي، بخلاف سلطات أخرى نعرفها، لا تملك وسيلةً للفعل غير الدعوة والنصيحة. وهذا من حسن حظّها وحظّ اللغة إذا هي أرادت أن تحصل من الناس على قدر من الإصغاء لا على الإعراض. فإن الإعراض يبقى في أيديهم إذا هم آنسوا من هذه السلطة المقتصر سلاحها على الإغراء رجعيةً وميلاً إلى التشنّج وإلى أخذ العامّة بالعنف.
كاتب لبناني

 

في السلطة اللغوية

أحمد بيضون

يحسب العرب من ذوي الاختصاص، على اختلاف الحقول، أن في وسعهم تجديدَ المصطلح، كلٌّ في حقل اختصاصه، أو الزيادةَ فيه من غير حاجةٍ إلى استشارة اللغوي. وقد يشاركهم هذا الظنّ صحافيون تبيح لهم مهنتهم تجوالاً حرّاً بين حقولٍ عدّة فيروحون يقترحون على العربية مصطلحات جديدة في أكثر من حقلٍ واحد. يَجْمع الأوّلون، على الأغلب، معرفةً حسنة بحقل الاختصاص إلى نقصٍ في الكفاءة اللغوية التي يفترضها هذا النوع من المقترحات. ويقرن الأخيرون، على الأغلب أيضاً، نقصاً في الأخيرة إلى نقصٍ في الأولى. هكذا تمتلئ حقول الاصطلاح المختلفة، من علميّةٍ وفنّية، بطحالب لغوية يصبح الخلاص منها غايةً في الصعوبة.
ويزيد من حدّة هذه المشكلة ما يلازم السلطةَ اللغوية من ضعفٍ في مجال العربية. وما نسمّيه السلطة اللغوية يتمثّل في مجامع اللغة، أوّلاً، وفي مراكزَ صَرَفَت وأفرادٍ صَرَفوا جهوداً مركّزة لوضع المعاجم الفنية ومسارد المصطلحات على اختلافها. وقد يتمثّل الجهد المبذول في تآليف قائمةٍ برأسها، مكرّسةٍ للمصطلح. وقد يُقْتصر على مسردٍ للمصطلحات يُلْحقه المترجم بكتابٍ نقله عن لغةٍ أخرى. ولا يجوز أن نجعلَ التقصير عنواناً لتقويمنا حصيلة هذه الجهود، في كلّ مجال. بل الأرجح أن التقصير، إذا وُجد، فهو يتفاوت بين مجالٍ وآخر ولا يُبْطل القيمةَ العظيمة للجهود المبذولة في كلّ حال. وهذا مع العلم أن بين المترجمين أنفسهم من لا يُحْسن الأصول الضابطة لوضع المصطلح أو لتعريبه ويبدي تساهلاً غير محمود في حقّ اللغة حين يقترح مقابلاً لهذا أو ذاك من المصطلحات التي وقع عليها في النصّ غير العربي.
على أن مشكلاً عويصاً يستوقف الناظر في هذا الحقل هو ذاك المتعلّق بتفتّت السلطة اللغوية أي بوجود مراكز لها، مؤسّسيةٍ وفردية، تكاد لا تحصى. ولكانت هذه الكثرة تُعدّ نعمةً لو وُجد قدْرٌ من تراتب السلطات يمنح واحداً من المراكز أو عدداً محدوداً منها قدرةً على التحكيم عند وقوع الخلاف الذي يقع فعلاً في كثرة من الحالات. وهذا إلى القدرة على التصويب عند وقوع الخطأ اللغوي الصريح وهو غير نادر الوقوع أيضاً.
هذه السلطة يفترض أن تكون منوطةً بواحد من مجامع اللغة (ومجمع القاهرةهو الأَوْلى بتوّليها) أو بهذه المجامع كلّها (التي بات اتّحاد المجامع يضمّ عشرةً منها) على أن ينشأ بينها تنسيقٌ منتظم تصل نتائجه إلى الجمهور. والواقع أن مسألة الوصول إلى الجمهور هذه أي مسألة المنظورية هي المسألة العويصة التي تبدو الجهود المبذولة لحلّها قاصرةً للغاية حتى الآن. فإن حصاد مجمعالقاهرة، على التخصيص، من المعاجم الفنيّة التي هي ثمرات جهودٍ متّصلةٍ من عقود كثيرة، حصاد وفير يستحقّ التحية. وهذا ناهيك بقيمة المعجم اللغوي الكبير الذي ينكبّ المجمع على وضعه ولو ببطء يجده المهتمّ ممضّاً. ولكن هذا كلّه يوشك أن يكون غير متاحٍ لأصحاب الحاجة إليه، باستثناء «المعجم الوسيط « الذي عرف انتشاراً ولكنه لا يفي بما يستوقفنا ههنا من حاجات. وما يدعو إلى مزيد من الأسف أن ما تتيحه الشبكة العنكبوتية من إمكانات النشر وتيسير الوصول بالأعمال إلى الجمهور والتوسّع فيه يستثمر استثماراً ضيقاً وكثير الثغرات من جانب المجامع. فإن مواقع المجامع لا تفي بشيء يذكر ممّا يؤمّل منها. فتبقى أزمة المنظورية على حالها تقريباً ويبقى باب الارتجال مشرعاً أمام من يعتقدون في أنفسهم كفاءةً هم بعيدون عن حيازتها.
ما أنواعُ الخطأ والفوضى التي يتوجّب على السلطة اللغوية أن تواجهها؟ هي تلك التي يقع فيها مرتجلو المصطلحات ثم تشيع وتذيع. وتقتضي المعالجة استباق هذا النوع من الخطأ أو مواجهته قبل ان يستقرّ. ويفترض النجاح في أداء هذه المهمّة توفّر ما نسمّيه «السلطة» على الصوت المسموع. ولإسماع الصوت وإذاعة الكلمة وسائل معلومة. ولكن الثقة بأصحاب الصوت، أي حيازتهم ما يكفي من رأس المال الرمزي المتمثّل في ثقة الجمهور بهم وأنسه إلى آرائهم، هي الشرط الشارط لجعل الصوت المسموع نداءً مجاباً  فلا يبقى جعجعةً بلا طحن.
ولنا إلى الأخطاء التي ألمحنا إليها وإلى مقتضيات علاجها عودة في العجالة المقبلة.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

لغةٌ مُشْكِلة أم عالَمٌ مُشْكِل؟

أحمد بيضون

هنا أو هناك يقع واحدنا على إشارة (إن لم يقع على مطالعة ضافية) يأخذ صاحبها على العربية عجزها عن مجاراة ما يسمّى الحضارة الحديثة أو المعاصرة، وهذه، في واقع الحال، حضارات. يقابل وجهة النظر هذه موقف آخر ينبري للدفاع عن اللغة بإبراز ثرائها الضخم بالألفاظ والطواعية المؤكّدة لبناها وتمكّنها، في ماضٍ مضى، من الاستواء مركباً لحضارة عظيمة كان بُناتها ناطقين بالضاد ومن مجاراة انفتاحهم، نظراً وترجمةً، على حضاراتٍ عظيمة أيضاً كانت قد سبقت زمانهم.
يشدّد الأوّلون على الفيض من الألفاظ غير العربية (بل ومن التراكيب والبنى الأجنبية أيضاً) ممّا يزخر به كلامنا اليومي ويبرزون كذلك ما يلقاه المترجم العربي، لا في نقل النصوص العلمية أو الفنية وحسب، بل في نقل أعمال من قبيل النثر الروائي أيضاً. ويردّ الآخرون بمدائح يخصّون بها نظام الاشتقاق العربي بما يتميّز به من كثرة الموازين واختصاص كلّ منها بفئة معنوية بحيث يتيسّر للمترجم أن يختار منها ما يناسب اللفظ أو المصطلح الأجنبي الذي يستوقفه وأن يقترح له ما يجده حسناً من الكثير الموجود أو يلجأ إلى الوضع عند الضرورة. ويضيف هؤلاء إلى الاشتقاق سبلاً أخرى من قبيل النحت، وهو الاجتزاء من لفظين لدمجهما في واحد جديد، أو تعريب الألفاظ وهو تبني اللفظ غير العربي بعد تطويعه، إذا لزم الأمر، لواحدٍ مناسب من الأوزان الصرفية. إلخ.
على أن هذين الفريقين من المجادلين يهمل كلاهما، في معظم الحالات، مسألتين حيويتين للغاية لا مسؤولية للفصحى عنهما. أولاهما مسألة غير لغوية أصلاً، بمعنى الكلمة الدقيق، هي ما نرى تسميته «مسألة أصل العالم» الذي بات الناطقون بالعربية مقيمين فيه. وأما الثانية فهي مسألة العاميّات واستوائها مراكب للتعامل الأوّل أو المباشر مع العالم المذكور وأثر ذلك على استعداد الفصحى التي يصل إليها طلب التعامل المشار إليه متأخراً في الغالب… يصل إليها بعد أن تكون استجابة العامّية (أو العامّيات) قد حصلت وفرضت نفسها واقعةً يتعذّر تجاهلها على المقاربة الفصحى للتحدّي نفسه. فالحال أن الفصحى، بما هي نظامٌ وتراث، كثيراً ما تأنف من الحلّ الذي ترتضيه وتفرضه عامّيةٌ من العامّيات لمسألة جديدة من مسائل التسمية التي تطرح على المتحدّث أو تُطرح على مؤلّفٍ أو مترجم.
وما نسمّيه مسألة «أصل العالم» ههنا إنما هو الإشكال الناجم عن سكنانا عالماً بات مستورداً من ألفه إلى يائه تقريباً. ليس علينا إلا التلفّت حولنا لنتحقق من كون الأشياء التي تحفّ بنا من كلّ جانب إنّما هي، في معظمها، أشياء وصلت إلينا من خارج نطاقنا الحضاري ووصل معها أيضاً كثير من وجوه تصرفنا بها وتفاعلنا معها. قد تكون قطعة الأثاث هذه صنعت في معمل غير بعيد عن بيتي. ولكن من أين جاء مثالها الأوّل؟ وأهمّ من هذا، في ما يعنينا هنا، أن نسأل من أين جاء اسمها. ولا يقتصر الأمر على الأشياء المصنوعة التي تتكوّن منها بيئة حياتنا. فحتى المزروعات التي نستنبتها ونعدّها من عطايا الطبيعة وفد علينا كثير منها ومعها أسماؤها من ديار بعيدة. وحتّى مؤسسات المجتمع ونظم الأفكار الجديدة نسجت على منوالاتٍ مستوردةٍ هي أيضاً. وغنيّ عن القول أن ما يحمل، في جملته، اسماً واحداً تحمل أجزاؤه أو مكوّناته أسماء أخرى وتلزم لاستعماله أو للتصرّف به أفعالٌ وعبارات قد يكون بعضها وُضع له، على التخصيص، أو اعتُمد للفئة التي ينتمي إليها في الأقلّ.
فالحال أننا أصبحنا نترجم معظم حياتنا والعالم الذي تندرج فيه هذه الحياة عن عوالم أجنبية ولغاتٍ غريبة. فبات محالاً اعتبار الترجمة أمراً استكمالياً يطرأ على دنيا تامّة الأوصاف أو هي مكتملة العناصر بمعزل عن حصوله. وأمّا منطلق هذه الواقعة الضخمة فهو أن الأشياء المستوردة تفد، في كثير من الحالات، ومعها أسماؤها بلغات المنشأ ومع الأسماء ألفاظ أخرى هي لوازم الاستعمال والتدبّر. وهو ما يمثّل تحدّياً ضخماً، بمعنى الضخامة الحرفي، للغة من يبقى إسهامهم في صنع عالمهم ضئيلاً فتبقى سلطتهم اللغوية عليه مخرّقةً هنا مهزوزةً هناك متهالكةً هنالك. تلك هي المسألة التي سميناها مسألة «اصل العالم».
وأمّا دور العامّيّات أو المحكيّات في مفاقمة المحنة التي تمثّلها للفصحى علاقتها بهذا العالم الممعن في التغير دون توقّف فهو جليّ. وذاك أوّلاً أن العامّيات متساهلة للغاية، مفتوحة الشهية للّفظ الوافد، تسرع إلى اعتماده وإن يكن مخالفاً لأدنى مطالب الفصحى وشروطها. فتقبل العامّية، في ما تقبل، أصواتاً لغوية لا وجود لها في العربية ولا تسأل عن مطاوعة اللفظ الجديد لوزن صرفي عربي يلائم معناه ومبناه ولا يقلقها أن يبدأ اللفظ بحرف صحيح ساكنٍ، مثلاً، أو أن يلتقي فيه ساكنان، إلخ. ثم إن العامّيات كثيرة ويحصل ان تأخذ واحدة منها بحلّ لمسألة من مسائل التسمية تُطْرح عليها وتأخذ الأخرى بحلّ آخر.
وأمّا الفصحى فتصل إلى ساحة الحلول متأخّرة في أكثر الأحوال. وهي تلقى، إذ تواجه ما ترسيه العامّيّات، عناءً في فرض ما تراه مناسباً لذائقتها ولأصولها على الجمهور. وكثيراً ما يخيب سعي الفصحى فتُداخل النصوصَ الموضوعة فيها ألفاظٌ وتراكيب لم تجد اللغة سبيلاً إلى نبذها فيما تُنْبذ بدائلُ فصيحة اقترحها اللغويون. ولا تكاد تحصى محتويات سلّة المهملات اللغوية من حلول أقترحها اللغوي واستبعدها الجمهور، وبعضها ممتازٌ وبعضها أمسى مادّةً لتندّر المتندّرين.
لا أمل في حلّ شامل لمشكلة العلاقة هذه بين الفصحى والعالم المعاصر ما دام أهل الفصحى لا يجدون سبيلاً إلى تحسين موقعهم من هذا العالم وتعظيم نصيبهم من إنشائه المتواصل. فما يخصّ اللغةَ نفسها من هذه المشكلة يبقى محدوداً، على أهمّيته. ولا يُبْطل هذا ضرورة السعي المعزّز لتيسير الفصحى وتوسيع قابليتها لمنافسة العامّيات أو مسايرتها في استقبال كلام العالم المتجدّد والتعبير عن حفاوتها به. وهذه مهمّة عرضنا، في أعمال قديمة، لمقتضيات القيام بأعبائها وقد تكون لنا إليها عودة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

«وطني دائماً على حقّ»!

أحمد بيضون

في نحوٍ من ستمئة صفحة، وفي نسختين: فرنسيّةٍ أصلية وعربية منقولة، رَوت صونيا فرنجية الراسي سيرة والدها رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق سليمان فرنجية. ولكن العائلة كلها حاضرة في هذه السيرة. الكبار حاضرون ابتداءً من جدّ المؤلّفة قبلان الذي يبدأ معه ما يشبه أن يكون سيرةً سياسية للعائلة. ويخلفه ولده الأكبر حميد الذي يُخْرج الزعامة العائلية إلى أفق السياسة الوطنية فعلاً فيصبح نائباً في مجلس الجمهورية الحديثة النشوء ثم وزيراً مؤسساً للدبلوماسية اللبنانية ثم مرشّحاً لرئاسة الجمهورية… أي سياسياً، في جميع هذه الأطوار، لا تعدو زعامة العائلة والوجاهة في الناحية أو في المحافظة أن تمثّلا خلفية له يتعدّاهما مجال حضوره الأهمّ ونشاطه الأبرز بأشواط. بعد حميد الذي أخرجه نزفٌ دماغي من حلبة السياسة قبل الأوان، يتقدّم إلى الواجهة العامّة سليمان، أخوه الوحيد وصاحب هذه السيرة التي تكتبها ابنته. وكان سليمان، قبل انكفاء حميد، حاضراً في البلدة (زغرتا-إهدن) وفي الجوار الذي تبسط عليه هذه البلدة نفوذها، يرعى فيهما مصالح العائلة على اختلافها ومنها – على الخصوص – مصالحُ أخيه الانتخابية.
هل يستنفد هذا الكتاب الضخم أن نعدّه سيرةً سياسية لسليمان فرنجية تلمّ بوقائعَ ومسائلَ ووجوهٍ قريبة وبعيدة على غرار ما يُفترض في سِيَر الشخصيات العامّة؟ يغرينا عنوان الكتاب باعتماد هذه النظرة. «وطني دائماً على حق!» شعارٌ أطلقه سليمان فرنجية، في سنة 1969، أي في ظرفِ تصاعُد الحمّى السياسية التي سبق استبدادُها بلبنان تسلّمَ الرجل رئاسة البلاد. والشعار مستعارٌ (مع كتمان المصدر!) من عبارة أطول منه بقليل ولكنها أقرب إلى الصراحة في العصبية للأديب الفرنسي موريس باريس: «أَجْعَلُ الحقَّ في جانب وطني دائماً وإن يكن على باطل!». غير أن الفضول الذي تستثيره قراءة الكتاب يبدو منبعثاً من مصدرٍ آخر. فهذا الكتاب ليس سيرةً فرديّةً على الرغم من دورانه الواضح حول فرْد. وإنما يجعل منه «موقع الراوية» فيه والعين التي تنظّم بها هذه الأخيرة عالمَها وثيقةً أنثروبولوجية تطرح أوّل ما تطرح شروط إمكانها على الشاكلة التي منحَتها أوصافَها بما هي سيرةٌ ذات طرازٍ مميّز.
وأوّل ما يجعل تصنيف الكتاب على أنه سيرةٌ لشخصية سياسية أمراً مشكلاً أو ملتبساً هو حضور المؤلّفة نفسها فيه. فحين تكون صونيا فرنجية بالقرب من والدها – وهذه هي الحال غالباً – تجعل من نفسها، بما هي شاهدة، طرفاً تامّ الأوصاف من أطراف الحدث. فنُلمّ بالمزاج الذي كانت عليه حين وقع حدثٌ من الأحداث قد يكون جللاً ونقع على ذكرٍ لمناسبة ما كانت ذاهبةً إليها وعلى وصفٍ لثيابها المختارة لتلك المناسبة وعلى استعادةٍ لشعورها ولكلامها وتصرّفها عند وقوع الحدث. وهي تقيم في خارج البلاد، أحياناً، بعيداً عن أسرتها الوالدية، شأنها حين تلتحق بزوجها في الرياض أو حين تكون في سياحةٍ فتتبعها روايتها حيث تكون. فهل هذه سيرة لصونيا فرنجية الراسي إذن يحضر فيها والدها حضور الوالد المعتاد في حياة ابنته وقد يروح ظلّه ينكشف كلّما كبرت هي واستقلّت بأمرها؟
يتعذّر الأخذ بهذه الفرضيّة لأن الإبنة باقية في المدار القريب لوالدها وإن ابتعدت عنه بالجسد، في وقت من الأوقات، ولأن طريقتها في إدراج حياتها في حياته لا تستبقي لها حياةً قائمة بذاتها فعلاً وتنذر بانفراط الكتاب انفراطاً تامّاً لو جازفنا باعتباره سيرة لمؤلّفته. ثم إن الكتاب يوقف روايته قبل ثلاثين سنة من اليوم أي مع مغادرة الوالد حلبة السياسة. فيوحي بذلك أن صاحبته التي لم تكن تبدو ميالة إلى إهمال شخصها ووقائع حياتها، قبل هذا التاريخ، أصبحت لا تجد ما تقوله عن نفسها في ثلاثة عقود انقضت على اعتزال من كان الرأس الفعلي لعائلتها قبل هذا الانسحاب وبعده.
حوْلَ هذا الرأس تنعقد سيرةٌ ليست سيرتَه وحده ولا سيرةَ المؤلّفة وحدها. فإنما تنعقد سيرة العائلة كلّها وتتسرّب هذه في حياة البلدة (زغرتا-إهدن) وفي حياة البلاد كلّها بحيث توشك أن تستوي مداراً لحياة البلاد أو تُبادلها المداريّة دون إمكانٍ سهل لتعيين جهةٍ من الجهتين ينبجس منها المدار وينتمي إليها. ومعنى هذا التسرّب أنّه سيتعذّر علينا أن نستشعر اختلافاً في الحال أو المآل بين الرجل الذي يلعب طاولة الزهر في «نادي» منزله أو يتناول قهوته مع اثنين من رجاله في مقهى من مقاهي طرابلس وذاك الذي يشهر مسدّسه وهو يُهرع للاحتماء من الرصاص بعمود من أعمدة الكنيسة في قرية مزيارة المجاورة وذاك الذي يباشر مهامّه رئيساً للجمهورية بعد أن فاز بالمنصب بأكثرية صوتٍ واحد.
وذاك أن العائلة هي الأصل والأفق هنا وليس الشخصُ إلا عنوانَها ولسانها. بل إن الطائفة والوطن (الذي هو دائماً على حقّ) ليسا إلا مجال العائلة ومضمارها. وما يجعل الكتاب وثيقةً أنثروبولوجية مستحقّةً أن تتّخذ هي نفسها موضوعاً للدرس، إنما هو هذه الحميمية ذات المصدر العائلي تنبعث من العلاقات ومن التصرّفات والأشياء مهما يكن نطاقها أو صعيدها. فالذي يحضر الاجتماع أو يتّخذ القرار أو يستقبل الزوّار هو الوالد طبعاً وهو الزعيم أيضاً وهو الرئيس بلا فصل ولا تمييز.
عليه نطّلع من الكتاب على نظرة المؤلّفة إلى العالم وهي نظرة منتمية إلى بيئة بعينها ودالّة عليها. ولا ريب أن الكتاب يستردّ أيضاً وجهاً مختلف الملامح نسبياً لرئيس غلب على صورته العامّة صيت القسوة والعنف الصادرين من عالمٍ ريفيّ مختصر. غير أن قوّة التشويق التي في النصّ تنبع من حيث أشرنا: أي من اختلاط العامّ والخاصّ في مساكنةٍ غير مؤكّدة الشرعية ومن نزهة طويلة يؤخذ فيها القارئ إلى حياة بيت وأسرة بعينهما فيما تتوالى في المساق نفسه حوادث لم تلبث أن أدمت البيت نفسه حين كانت تسيل الدماء في البلاد أنهاراً.

أحمد بيضون