لعلّ أَسْوَأَ ما تداولَتْهُ الماركسيّةُ، في هذا المَشْرِقِ، ذاكَ الجُنوحُ إلى إخضاعِ وقائعِ التاريخِ، أيّةً تَكُنْ حَقائقُها، لِنَوْعٍ مِنْ لُعْبةِ الأَقْنٍعةِ. فَنَفْتَرِضُ أنّهُ لا بُدَّ مِنْ قِناعٍ (ليس لهُ أن يَعْدو كَوْنَهُ قِناعاً مَهْما يَكُنْ حُضورُهُ ساحِقاً وفاعِلِيَّتُهُ دامِغةً) وأنَّ الوَجْهَ ماثِلٌ، بأُبَّهَتِهِ، خَلْفَ ذلكَ القِناع.
عَلَيْهِ يَغْدو لِزاماً أنْ يُكْشَفَ ذاكَ القِناعُ ليَظْهَرَ هذا الوَجْهُ فَيُحَصْحِصَ الحَقّ! وأَمّا ما يَجْعَلُ القِناعَ قِناعاً والوَجْهَ وَجْهاً فَلَيْسَ شَيْئاً تُسْتَطاعُ مُعايَنَتُهُ في الوَقائعِ وإنّما هُوَ قَوْلٌ قالَتْ بِهِ قِراءةٌ لِتاريخٍ آخَر.
مؤدّى هذهِ اللُعْبةِ تَفْويتٌ في أَثَرِ تَفْويتٍ في أَثَرِ تَفْويت. باسْمِ صِراعِ الطَبَقاتِ (وهو هَهُنا بَيْتُ القَصيدِ)، تَفوتُنا أَقْوامٌ وطَوائفُ وعَشائرُ ومَناطِقُ، وتَفوتُنا أدْيانٌ وتَقاليدُ وأَبْنِيةُ سُلْطةٍ… بَلْ تَفوتُنا تَواريخُ بِحالِها تَبايَنَت مَساراتُها وتَغايَرَ ما أَثْمَرَتْهُ المَساراتُ مِن مَوارِدَ ونَوازع.
ولَعَلَّ هَذهِ كُلَّها لَمْ تَفُتْ هذهِ أو تِلْكَ مِنْ مارِكْسِيّاتٍ بَلَغَنا خَبَرُها. ولَعَلَّ صِراعَ الطَبَقاتِ لَمْ يَكُنْ مَطْلوباً إنْكارُهُ ولا الغَضُّ مِن مَكانَتِهِ حَيْثُ تَكونُ قابلةً للمُعاينةِ والتَقْدير. ولَعَلَّ تَصَوُّرَ “الكُلِّ” الهيغليِّ يُسْتَبْقى ولَكِنْ لا تُمْلى على الكُلِّ مَوازينُ مُسْبَقةُ التَعْيينِ ولا دينامِيّةٌ مَبْدَئيّة. ولَعَلَّ الهّيْمَنةَ حَصَلَتْ وتَحْصُلُ ولَكِنْ كانَتْ لَها حُدودٌ يَتَعَيَّنُ كَشْفُها على الدَوامِ، إذْ قد تَداوَلَت
الهَيْمَنةَ، باخْتِلافِ الأَزْمِنةِ، قِوىً غَلّابةٌ مُخْتَلِفةُ الوَقْعِ وتَلَقّتٌها الجَماعاتُ المَغْلوبةُ فَكَيَّفَتْها وتَكَيَّفَتْ بِإمْلاءاتِها أو قاوَمَتْها بِما مَلَكَتْ أَيْديها وغَيَّرَتْ قَليلاً أو كَثيراً مِن مَفاعيلِها المُفْتَرَضةِ، في كُلِّ حال…
مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ، ظَلَّ الإلْحاحُ في لُزومِ مَبْدَإٍ جامِعٍ للتاريخِ بِرُمَّتِهِ يَحولُ دونَ اسْتِواءِ هذه أو تلكَ مِن القوى والعّوامِلِ الأُخْرى الآنِفةِ الذِكْرِ مَتْناً تامَّ الأَهْلِيَةِ (أو وَجْهاً تامَّ الوَجْهِيّةِ) لِتاريخِ هذا أو ذاكًَ مِن المُجْتَمَعاتِ المَعْروضةِ على بَصائرِنا، وقد اتَّفَقَ أنّها مُجْتَمَعاتُنا، لا أَكْثَرَ ولا أَقَلّ.
ظَلَّ يَفوتُنا، والحالةُ هذهِ، كُلُّ شَيْء! بَلى بَقِيَت لّنا صِناعةُ “حَسْرِ اللِثامِ”… وهذهِ “صناعةُ تَحْويلٍ”: تَحْويلِ ما هُوَ حاصِلٌ إلى ما لا يَعْدو أن يَكونَ مُفْتَرَضَ الحُصول!
تَبّاً لَنا!
- “التاريخُ يَتَقَدَّمُ مُقَنَّعاً” عنوانُ كتابٍ أَصْدَرَهُ الفَرَنْسِيُّ لويس فالون سنة ١٩٥٧. وإذْ نَسْتَبْعِدُ هنا صورةَ القِناعِ، لا نُريدُ الإيحاءَ أنّ وقائعَ التاريخِ تَعْرِضُ نَفْسَها رَقْراقةً شَفّافةً لِنَظَرِ القارئ. فإنّما يكفي حُصولُ الفِعْلِ التاريخيِّ وانْدِراجُهُ في سِياقٍ لِيَسْتَوي فريسةً لإراداتٍ شَتّى وأسيراً لِمَجْرىً مُتَشَعِّبٍ لا يَضْبُطُ الفاعِلونَ، بالضَرورةِ، مَسارَهُ ووجْهَتِه. وما لا يَضْبُطُهُ الفاعلونَ لا يَتَبَيَّنُ للقُرّاءِ، كُلُّهُ أو جُلّه، من غَيْرِ عَناءٍ يَتَكَلّفونَهُ في الاسْتِطْلاعِ ومُغامَرةٍ في الاسْتِدْلال. ويَزيدُ العَناءَ عَناءً أنّ مَواقِعَ القُرّاءِ تَكونُ مُغايِرةً، على أنْحاءٍ مُخْتَلِفةٍ، لِمَواقِعِ الفاعِلين. ذاكَ ما يُشيرُ إليهِ تَنْويهُنا بِ”الإلْغازِ” في الوَقائع. ولَكِنّ هذا العَناءَ في اسْتِكْشافِ الدلالةِ المُلْغَزةِ وتَبَيُّنِ السِياقِ الفِعْلِيِّ والمَآلِ المُرَجَّحِ شَيءٌ مُخْتَلِفٌ كُلِّيّاً عَن رَدِّ الوَقائعِ، طَوْعاً أو قَسْراً، إلى “طبيعةٍ” مِعْيارِيّةٍ أو دينامِيّةٍ مَبْدَئيّةٍ مُعْتَمدة. بل إنّهُ يَجوزُ اعْتِبارُ ذاكَ العَناءِ ضِدّاً لِهذا الرَدّ.