تَخاريفُ على هَدْيِ المِزاجِ والقَريحة



أَفْطَنُ إلى ما انْتَهَتْ إليهِ حالُنا فَيَخْطُرُ لي قَوْلُهُم: “تَفَرَّقوا أيْدي سَبَأ!”. ذاكَ ما يَحِلّ بالعائلاتِ اللُبْنانيّةِ عادةً، إذْ تَخْرُجُ مِنْ دِيارِها رَفْساً لا طَوْعا. وقَد راحَت عائلَتُنا تَتَفَرَّقُ أَيْدي سَبَأٍ مِنْ عُقودٍ كَثيرةٍ وكُنْتُ آخِرَ مَن غادَرَ مِن بَيْنِ عَناصِرِها: اغْتَرَبْتُ وأنا على عَتَبةِ الثَمانينَ أي في السِنًِ التي يَكونُ المُغْتَرِبونَ قَدْ آبوا إلى دِيارِهِم، عَلى الإجْمالِ، قَبْلَ بُلوغِها بِزَمَن. تفَرَّقْنا إذَنْ أَيْدي سَبَأ…

وفي الحديثِ أنّ سَبَأ “رَجُلٌ من العَرَبِ وُلِدَ لَهُ عَشَرةٌ: تَيامَنَ مِنْهُم سِتّةٌ وتَشاءَمَ مِنْهُم أَرْبَعة”. وكان سَبَبُ تَفَرُّقِهِم هذا، بَيْنَ جِهاتِ الشامِ وجِهاتِ اليَمَنِ، ما يُسَمّيهِ القُرْآنُ “سَيْلَ العَرِم” وهو انْهِيارُ سَدِّ مَأْرِب. وهذا حَدَثٌ يَبْدو لي أَشْبَهَ الحَوادِثِ القديمةِ بِتَفْجيرِ مَرْفَإ بَيْروت المَعْلوم. هذا وإذا صَحَّ زَعْمُ المُحَدِّثينَ أنّ جُرَذاً نَقَبَ السَدَّ اليَمَنِيَّ العَظيمَ انْتَفى كُلُّ مانِعٍ مَنْطِقِيٍّ أنْ يَكونَ الجُرَذُ نَفْسُهُ وصَلَ إلى مَرْفَإ عاصِمَتِنا، وفي ذَيْلِهِ نارٌ، ذاتَ يَوْمٍ لاهِبٍ مِن صَيْفِ العامِ ٢٠٢٠. هذهِ فَرْضِيّةٌ أحِبُّ أن أُنَبِّهَ إلَيْها المُحَقِّقَ العَدْلِيَّ (الذي نَسيتُ اسمَهُ لِبُعْدِ العَهْدِ بِأَخْبارِهِ) عَسى أن يَجِدَ فيها مَخْرَجاً مِن وَرْطَتِهِ المُسْتَعْصِيةِ فَتُحْفَظَ القَضِيّة ويَنْصَرِفَ المُحَقِّقُ إلى ما يُفيد…

أعودُ إلى التَيامُنِ والتَشاؤم… وخُلاصةُ القَوْلِ فيهِما أنَّ المَعاجِمَ القَديمةَ حَفِظَت للتشاؤمِ هذا المَعْنى المُشارَ إلَيهِ وهو التوَجُّهُ إلى الشامِ، ويُقابِلُهُ التَيامُنُ وهو تَيْميمُ شَطْرِ اليَمَن.

هذا وقد شاعَ اسْتِعْمالُ “التَفاؤلِ” مُقابِلاً للتَشاؤمِ أيضاً. وهو اسْتِعْمالٌ مَقْبولٌ ولَكِنْ لا يَبْدو هذا المَعْنى (أي معنى الاسْتِبْشارِ) أَصْلِيّاً في “التَفاؤلِ” ويَبْقى “التَيامُنُ” أَوْلى بِه. فالتَفاؤلُ مِن “الفَأْلِ” وهذا يكونُ فَألَ خَيْرٍ ويَكونُ فَأْلَ سوء. وقد يَصِحُّ اعْتِبارُ المأثورِ “تَفاءلوا بالخَيْرِ تَجِدوه” مُؤيِّداً لِهذا الرَأْي. فهو قد اضطُرَّ إلى التَصْريحِ بِذِكْرِ الخَيرِ بِما هو مَوْضوعٌ للتَفاؤلِ ولَمْ يَعْتَبِر الخَيْرَ ماثِلاً بالضَرورةِ في مَفْهومِ التَفاؤلِ فَلا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِه. وهو لَمْ يَقُلْ مَثَلاً: “تَفاءَلوا تَجِدوا خَيْراً” إذ لا تَسْتَقيمُ هذهِ الصيغةُ ما دامَ التَفاؤلُ جائزاً بالخَيْرِ وبالشَرِّ على حَدٍّ سَواء. على أنّهُ لا رَيْبَ أنّ حَصْرَ التَفاؤلِ بالخَيْرِ والتَشاؤمِ بالشَرِّ قد شاعَ، في كَلامِنا، وذاع…

فّلِماذا فُرِضَت على الشامِ هذه الوَصْمةُ، في كَلامِ القُدَماءِ، واسْتَأْثَرَت اليَمَنُ باليُمْنِ والبَرَكات؟ الراجِحُ عِنْدي أنّ السَبَبَ هو مَوْقِعُ الشامِ إلى الشمالِ من الجزيرةِ، وهذهِ جِهةٌ كانت قَليلةَ الحَظِّ، على الدَوامِ، في عُرْفِهِم. ويقابِلُها اليَمَنُ، في الجَنوبِ، وقَدْ عُدّتْ مُجانِسةً لليمينِ ولليُمْنِ مِنْ ثَمّ. وهذا هو المَبْدَأُ الذي كانَ مُعْتَمَداً في التَطَيُّر: اليمينُ سَعْدٌ والشمالُ نَحْس. وفي عُهودِ التَعَصُّبِ والتَضْييقِ، كانَ يُقالُ للذِمِّيِّ: “أَشْمِلْ يا كافِر!” أي: إلْزَمْ جِهةَ الشمالِ مِن الطَريق.

وكانَ صَباحٌ وكانَ مَساءٌ… وثَبَتَت، في أيّامِنا، وَصْمةُ الشُؤمِ على الشامِ العَظيمةِ، وذلكَ للُزومِ التَعْريجِ المُحْتَمَلِ (والعِياذُ بِالله!) عَلى “فَرْعِ فلسطين”! وهو ما كادَ أنْ يَحْصُلَ لي ذاتَ مَرّةٍ لَوْلا أنَّ سَوّاقَ فرانك مرمييه Franck Mermier (وكُنّا مَعاً)كانَ لهُ مِن النُفوذِ الحُدودِيِّ ما يَفوقُ بِما لا يُقاسُ نُفوذَ نقابةِ السَوّاقينَ بِأَسْرِها. حَتّى أنّني كِدْتُ أنْ أَعْرِضَ عَلى هَذا السَوّاقِ قَيْلولةً في المَقْعَدِ الخَلْفِيِّ الأَيْمَنِ فيما أَتَوَلّى، بَعْدَ إذْنِهِ، سَوْقَ السَيّارة. وقد ازْدَدْتُ مُؤَخَّراً إكْباراً لبُعْدِ نَظَرِ الجِهازِ الذي وَضَعَ في خِدْمةِ ذَلِكَ المَرْكَزِ الفَرَنْسِيِّ سَوّاقاً مُطْلَقَ الصلاحِيّةِ، حَلّالاً للعُقَد: إذْ لَوْلاهُ لَوَجَدْتُ، عَلى الأَرْجَحِ، ما أَشْهَدُ بِهِ أَمامَ تِلْكَ المَحْكَمةِ الباريسِيّةِ التي نَطَقَت بِحُكْمِها قَبْلَ أَيّام…

وأمّا التَيامُنُ فخَرَجَ، مِن جِهَتِهِ، مِن اليَمَنِ السَعيدِ أي من مَمْلكةِ الحوثِيّينَ الحاليّةِ. خَرَجَ قَبْلَ زَمَنِ هؤلاءِ بِدَهْرٍ وَلَمْ يَعُدْ، وكانَ حَقّاً لهُ أن يَخْرُج. فَلَزِمَ أن نَحْمِلَ التَفاؤلَ على مَحْمَلِ الخَيْرِ حَمْلاً مطَّرِداً شاءَ التَفاؤلُ أمْ أبى!

يَبْقى التَمَرُّدُ على هذهِ الحالِ كُلِّها: يَبْقى لِمَن اسْتَطاعَ إليهِ سَبيلاً، بِطَبيعةِ الحال.

وقَد اتّفَقَ أنّ المَعاجِمَ القَديمةَ نَفْسَها أَدْرجَت بَيْنَ مَعاني التَمَرُّدِ التَوَجُّهَ إلى ماردين! وهذهِ، في أيّامِنا، رَمْيةٌ مِن غَيْرِ رامٍ : فَإنّ خَليطَ الكُرْدِ والأَشورِيّينَ والعَرَبِ الذي يَأْهَلُ هذهِ المَدينةَ مُتَمَرِّدٌ تلْقائيّاً بَعْضُهُ على بَعْضٍ وكُلُّهُ على تَرْكيا أردوغان!
نَتَوَجَّهُ إذَنْ إلى ماردين، مَتى اسْتَطَعْنا، مُسْتَهْدينَ ما تُسَوِّلُهُ لَنا مَعاجِمُنا القَديمةُ مِنْ غَيْرِ ميعاد.

أَحْسَنُ GPS مَعاجِمُنا هَذه!

في أنّ وقائعَ التاريخِ كَثيراً ما تَظْهَرُ مُلْغَزةً ولكنْ لا “يَتَقَدّمُ التاريخُ مُقَنَّعاً”…*

لعلّ أَسْوَأَ ما تداولَتْهُ الماركسيّةُ، في هذا المَشْرِقِ، ذاكَ الجُنوحُ إلى إخضاعِ وقائعِ التاريخِ، أيّةً تَكُنْ حَقائقُها، لِنَوْعٍ مِنْ لُعْبةِ الأَقْنٍعةِ. فَنَفْتَرِضُ أنّهُ لا بُدَّ مِنْ قِناعٍ (ليس لهُ أن يَعْدو كَوْنَهُ قِناعاً مَهْما يَكُنْ حُضورُهُ ساحِقاً وفاعِلِيَّتُهُ دامِغةً) وأنَّ الوَجْهَ ماثِلٌ، بأُبَّهَتِهِ، خَلْفَ ذلكَ القِناع.

عَلَيْهِ يَغْدو لِزاماً أنْ يُكْشَفَ ذاكَ القِناعُ ليَظْهَرَ هذا الوَجْهُ فَيُحَصْحِصَ الحَقّ! وأَمّا ما يَجْعَلُ القِناعَ قِناعاً والوَجْهَ وَجْهاً فَلَيْسَ شَيْئاً تُسْتَطاعُ مُعايَنَتُهُ في الوَقائعِ وإنّما هُوَ قَوْلٌ قالَتْ بِهِ قِراءةٌ لِتاريخٍ آخَر.

مؤدّى هذهِ اللُعْبةِ تَفْويتٌ في أَثَرِ تَفْويتٍ في أَثَرِ تَفْويت. باسْمِ صِراعِ الطَبَقاتِ (وهو هَهُنا بَيْتُ القَصيدِ)، تَفوتُنا أَقْوامٌ وطَوائفُ وعَشائرُ ومَناطِقُ، وتَفوتُنا أدْيانٌ وتَقاليدُ وأَبْنِيةُ سُلْطةٍ… بَلْ تَفوتُنا تَواريخُ بِحالِها تَبايَنَت مَساراتُها وتَغايَرَ ما أَثْمَرَتْهُ المَساراتُ مِن مَوارِدَ ونَوازع.

ولَعَلَّ هَذهِ كُلَّها لَمْ تَفُتْ هذهِ أو تِلْكَ مِنْ مارِكْسِيّاتٍ بَلَغَنا خَبَرُها. ولَعَلَّ صِراعَ الطَبَقاتِ لَمْ يَكُنْ مَطْلوباً إنْكارُهُ ولا الغَضُّ مِن مَكانَتِهِ حَيْثُ تَكونُ قابلةً للمُعاينةِ والتَقْدير. ولَعَلَّ تَصَوُّرَ “الكُلِّ” الهيغليِّ يُسْتَبْقى ولَكِنْ لا تُمْلى على الكُلِّ مَوازينُ مُسْبَقةُ التَعْيينِ ولا دينامِيّةٌ مَبْدَئيّة. ولَعَلَّ الهّيْمَنةَ حَصَلَتْ وتَحْصُلُ ولَكِنْ كانَتْ لَها حُدودٌ يَتَعَيَّنُ كَشْفُها على الدَوامِ، إذْ قد تَداوَلَت
الهَيْمَنةَ، باخْتِلافِ الأَزْمِنةِ، قِوىً غَلّابةٌ مُخْتَلِفةُ الوَقْعِ وتَلَقّتٌها الجَماعاتُ المَغْلوبةُ فَكَيَّفَتْها وتَكَيَّفَتْ بِإمْلاءاتِها أو قاوَمَتْها بِما مَلَكَتْ أَيْديها وغَيَّرَتْ قَليلاً أو كَثيراً مِن مَفاعيلِها المُفْتَرَضةِ، في كُلِّ حال…

مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ، ظَلَّ الإلْحاحُ في لُزومِ مَبْدَإٍ جامِعٍ للتاريخِ بِرُمَّتِهِ يَحولُ دونَ اسْتِواءِ هذه أو تلكَ مِن القوى والعّوامِلِ الأُخْرى الآنِفةِ الذِكْرِ مَتْناً تامَّ الأَهْلِيَةِ (أو وَجْهاً تامَّ الوَجْهِيّةِ) لِتاريخِ هذا أو ذاكًَ مِن المُجْتَمَعاتِ المَعْروضةِ على بَصائرِنا، وقد اتَّفَقَ أنّها مُجْتَمَعاتُنا، لا أَكْثَرَ ولا أَقَلّ.

ظَلَّ يَفوتُنا، والحالةُ هذهِ، كُلُّ شَيْء! بَلى بَقِيَت لّنا صِناعةُ “حَسْرِ اللِثامِ”… وهذهِ “صناعةُ تَحْويلٍ”: تَحْويلِ ما هُوَ حاصِلٌ إلى ما لا يَعْدو أن يَكونَ مُفْتَرَضَ الحُصول!

تَبّاً لَنا!

  • “التاريخُ يَتَقَدَّمُ مُقَنَّعاً” عنوانُ كتابٍ أَصْدَرَهُ الفَرَنْسِيُّ لويس فالون سنة ١٩٥٧. وإذْ نَسْتَبْعِدُ هنا صورةَ القِناعِ، لا نُريدُ الإيحاءَ أنّ وقائعَ التاريخِ تَعْرِضُ نَفْسَها رَقْراقةً شَفّافةً لِنَظَرِ القارئ. فإنّما يكفي حُصولُ الفِعْلِ التاريخيِّ وانْدِراجُهُ في سِياقٍ لِيَسْتَوي فريسةً لإراداتٍ شَتّى وأسيراً لِمَجْرىً مُتَشَعِّبٍ لا يَضْبُطُ الفاعِلونَ، بالضَرورةِ، مَسارَهُ ووجْهَتِه. وما لا يَضْبُطُهُ الفاعلونَ لا يَتَبَيَّنُ للقُرّاءِ، كُلُّهُ أو جُلّه، من غَيْرِ عَناءٍ يَتَكَلّفونَهُ في الاسْتِطْلاعِ ومُغامَرةٍ في الاسْتِدْلال. ويَزيدُ العَناءَ عَناءً أنّ مَواقِعَ القُرّاءِ تَكونُ مُغايِرةً، على أنْحاءٍ مُخْتَلِفةٍ، لِمَواقِعِ الفاعِلين. ذاكَ ما يُشيرُ إليهِ تَنْويهُنا بِ”الإلْغازِ” في الوَقائع. ولَكِنّ هذا العَناءَ في اسْتِكْشافِ الدلالةِ المُلْغَزةِ وتَبَيُّنِ السِياقِ الفِعْلِيِّ والمَآلِ المُرَجَّحِ شَيءٌ مُخْتَلِفٌ كُلِّيّاً عَن رَدِّ الوَقائعِ، طَوْعاً أو قَسْراً، إلى “طبيعةٍ” مِعْيارِيّةٍ أو دينامِيّةٍ مَبْدَئيّةٍ مُعْتَمدة. بل إنّهُ يَجوزُ اعْتِبارُ ذاكَ العَناءِ ضِدّاً لِهذا الرَدّ.