هل أنا واهمٌ أم هي تتكاثرُ فِعْلاً هذه المواقعُ التي تنشرُ صُوَراً لبيروتَ في ربعِ القرنِ الذي سَبَقَ الحربَ ودمارَ وسطِ العاصمة؟
يُقالُ لَنا: انْظُروا إلى الترامواي! فننْظُرُ ونَراهُ ولكن لا يُقالُ لَنا ما المتعةُ التي يُفْتَرَضُ أن نجدَها في مَنْظَرِهِ وما الشعورُ الذي يُرادُ لذِكْراهُ أن تُثيرَهُ فينا. ويُقالُ لَنا: انظُروا إلى سيّاراتِ ذلك الزَمَنِ: كم هي جميلة! فَنَنْظُرُ ونَرى سَيّاراتٍ ولا نَراها جميلة! ويُقالُ لَنا انْظُروا إلى البناياتِ التُراثيّةِ الرائعةِ في ساحةِ البُرْج! هَهُنا يَبْلُغُ السَيْلُ الزُبى: متى كانت بناياتُ ساحةِ البُرْجِ تُراثيّةً، يا صاحِ، وما مَعْنى “تُراثِيّة” هَهُنا؟ ومَنْ هذا الذي كانَ يَنْظُرُ إليها فيَراها “رائعة”؟
وعَلى ذِكْرِ السَيْلِ: مَنْ يَذْكُرُ أيّامَ المَطَرِ وعُبُورَ شارِعِ الأمير بَشير على ظَهْرِ حَمّال؟ لَمْ يَكُنْ هذا الحَمّالُ بِسَلّ! الحَمّالونَ بِسَلٍّ كانَ الواحِدُ مِنْهُم يَدْفَعُكَ والآخرُ يَتَلَقّاكَ على بُعْدِ أمتارٍ مِن هُناكَ إذا كانَ اليومُ يَوْمَ نَحْسِكَ ونزلْتَ دَرَجَ خانِ البَيْض إلى حيثُ السّمَكُ والخُضار. وهل تُراكَ نسيتَ “الزَمَنَ الجَميلَ” الذي أمْضَيْتَهُ في السرفيس، مُتَصَبِّباً في حُمارّةِ القَيظِ، وأنتَ على سَفَرٍ بينَ ساعةِ الغداءِ وساعةِ العَصْرونيّةِ من أوّلِ جِدارِ جَبّانةِ الباشورةِ إلى آخره؟
نَحْنُ كُنّا هُناكَ، يا أَخانا، وعايَنّا الأبنيةَ “التُراثيّةَ” (أي الانتِدابيّةَ، على الإجْمالِ)… عايَنّاها من الداخلِ ونَعْلَمُ كَم كانت مُنْهَكةً! ونَعْلَمُ أنّ الترامواي ألغيَ لأنّهُ عادَ لا يُطاقُ ولا يُطيقُ غَيرَهُ من المَرْكَبات، ونَعْلَمُ أيضاً أنّ بديلَهُ (الذي لا تُعْفينا المواقعُ المُشارُ إليها من بعضِ صُوَرِهِ!) لَمْ يَكُن خَيراً منه فِعْلاً! نَعْلَمُ أنّ “البَلَدَ” ذاكَ كانَ مُتَهالِكاً للغايةِ وأنّ كلّ ما هو “طليعيٌّ” في العاصمةِ: من التجارةِ إلى الصحافةِ والنَشْرِ إلى السينَما إلى المَقاهي والمَلاهي، إلخ.، كان قد راحَ يهْجُرُهُ، أَوّلاً بأَوّلٍ، إلى فضاءاتٍ أخرى.
كانَ الوسَطُ أو “البَلَدُ” محتاجاً إلى تجديدٍ لئلّا يتحوّلَ إلى صحراء موبوءة.
عِوَضَ تجديدهِ، هدَمَهُ المُتَحاربونَ بَعْدَ أن حَوّلوا أطرافَهُ إلى بؤرٍ موبوءةٍ فِعْلاً. وبَعْدَ الحربِ أُخْضِعَ تجديدُهُ لمَنْطقٍ ألغى صفَتَهُ العُموميّةَ بِما هُوَ وَسَطٌ مَفْتوحٌ لِعاصمة. ولم يلْبَثْ هذا الإلغاءُ أن أتاحَ للحربِ المُسْتَمِرّةِ (المُسْتَتِرةِ إلى هذا الحَدِّ أو ذاك) أن تُحيلَهُ مُجَدّداً إلى صَحراءَ: صَحْراءَ لا هي مُتَهالكةٌ ولا هي موبوءةٌ. صحراءَ فاخرةٍ: فاخرةٍ وقاحلة.
هذا والتفكيرُ في شُروطِ عَودةِ الوسَطِ وَسَطاً أو “بَلَداً” لا يَسْتَقيمُ ما لَمْ يَكُنْ تَفكيراً في مَصيرِ العاصمةِ ومَكانِها من البلادِ كلّها، أي في مَصيرِ البلادِ كُلِّها.
ذاكَ تفكيرٌ لا يَصْلُحُ لهُ أن يُباشَرَ برَشْوَتِنا بالحنينِ إلى التراموايِ ولا هو يَنْتَفِعُ باخْتِراعِ “زمَنٍ جَميلٍ” لوسطٍ كانَ، في ذلك الزَمَنِ بالضَبْطِ، قد باشَرَ الاخْتِناقَ بأَزْمَتِه.
بلتيمور في ٤ نيسان ٢٠٢٤