إسرائيلُ ودُوَلُ “الجَنوبِ العالَمِيِّ” الكُبْرى

في العلاقاتِ الدوليّةِ الجاريةِ وقائعُ قابلةٌ للقياسِ يَسَعُ الإلْمامَ بِها أن يُعَدّلَ قليلاً أو كثيراً صُوَراً بَقِيَت راسِخةً وقَد أَكَلَ عَلَيْها الدَهْرُ أو هِيَ تُسْتَنْتَجُ اسْتِنْتاجاً مِن هُوِيّاتٍ شاخت وما تَزالُ تُفْتَرَض لَها فاعِلِيّةٌ في توجيهِ السُلوكِ فَقَدت مُعْظَمَها، في الواقِع.

مِنْ ذاكَ أنّ انتِسابَ إسرائيلَ إلى ما يُدْعى “الغَرْب” (وهو حاصِلٌ مَبْدَئيّاً) لم يَحُلْ بينَها، في ميدانِ السِياسةِ التِجاريّةِ، وبَيْنَ وَضْعِ قدَمٍ في ال”جي٧” (الذي يضُمّ أبْرَزَ الدُوَلِ الغَربيّةِ ومَعَها اليابانُ وتَقودُهُ الولاياتُ المتّحدة) وقَدَمٍ في ال”بريكس+” (الذي باتَ ينطُقُ باسمِ “الجنوبِ العالَمِيّ”) وتَتَصَدَّرُه الصينُ والهِنْدُ وروسيا.

فَخِلافاً لتَصَوُّرٍ مَبْدَئيٍّ يَبْدو شائعاً في دِيارِنا، نَمَتْ علاقاتٌ طَيّبةٌ إجْمالاً بَينَ الصينِ “الجديدةِ” وإسرائيلَ أَسْفَرَت عن جَعْلِ الصينِ ثاني شَريكٍ تِجارِيٍّ لإسْرائيل: تَحلُّ بَعْدَ الوِلاياتِ المُتّحدةِ مباشرةً.

هَذا وأفادَت إسرائيلُ من اضطرابِ العَلاقاتِ الإجْمالِيِّ بينَ الهِنْدِ، بَعْدَ اسْتِقْلالِها، وبَيْنَ العالمِ الإسْلامِيِّ فأنْشَأَت مَعَها شَبَكةَ علاقاتٍ لَعَلَّ أَبْرَزَ عَناوينِها أنّ إسْرائيلَ هِيَ أَبْرَزُ مُصَدّرٍ للسِلاحِ إلى الهِندِ بَعْدَ روسيا.

هذه الأخيرةُ تَعَهّدت، في عهدِها البوتينيّ، توثيقَ عَلاقاتِها بإسرائيلَ جاعلةً عنواناً له أنّ الروسيّةَ هي اللغةُ الثالثةُ المَنْطوقُ بِها في إسْرائيلَ، بَعْدَ العِبْرِيّةِ والعَرَبِيّة، وأنّ اليهودَ ذَوي الأصولِ الروسيّةِ يُمَثّلونَ نَحْوَ ١٧٪؜ من سُكّانِ إسرائيلَ بِما لِذلك مِنْ تَبِعاتٍ سِياسِيّةٍ، انْتِخابِيّةٍ على الخُصوصِ، في المُجْتَمَعَينِ مَعاً.

وفي أثناءِ إقامَتَيْهِما المَديدَتَينِ على رأسِ السُلْطةِ، وجَدَ بوتين (أبو علي!) ونتانياهو فُرَصاً عِدّةً للتَعْبيرِ عن المَوَدّةِ الشخصِيّةِ الوثيقةِ العُرى، القائمةِ بَيْنَهُما. وتُعَزِّزُ هذهِ المَوَدّةُ حِسابَ روسيا الإستراتيجيّ لعَلاقاتِها بإيران: فَيَدَعُ بوتين حَبْلَ نتانياهو على غارِبِهِ في سوريا لِيَضْرِبَ ما شاءَ له الضَرْبُ مَواقعَ الإيرانيّين ومُناصِريهِم. ولا تَبْدُرُ مِنْ الدُبِّ الروسِيِّ معارضةٌ – تَبْقى لَفْظِيّةً، خِلْواً من العواقبِ، في كُلّ حالٍ – ما لَم يتسبّبْ لهُ الفُحْشُ الإسرائيليّ بحَرَجٍ دُوَليٍّ اسْتِثْنائيّ أو يَتَعَرّضْ لإحدى طائراتِهِ بِشَرّ.

هذه السَماحةُ الروسِيّةُ يُقابِلُها نتانياهو بِمِثْلِها وأحْسَن. فَيَتَجاوزُ العلاقةَ الوطيدةَ بينَ أوكرانيا وإسْرائيلَ ويَتَجاوزُ الرَغبةَ الأمْيركيّةَ مِراراً أيضاً إذ يرفضُ ضَمّ صَوْتِهِ إلى أيٍّ من الإجراءات الدوليّةِ المُهِمّةِ التي ووجهت بها روسيا منذ احتلالها القُرمَ سنةَ ٢٠١٤ إلى حَربِها الجارِيةِ على أوكرانيا (التي يَتَرأّسُها يهوديّ وتوجَدُ فيها واحدةٌ مِن أَكْبَرِ الجَماعاتِ اليَهودِيّةِ في أوروبا) ويَرْفُضُ أيضاً تَزويدَ هذه الأخيرةِ منظومةَ الدفاعِ الجَوّيّ المعروفةَ بالقُبّةِ الحَديديّة، مكتَفِياً بفُتاتِ “معونةٍ إنسانيّةٍ” يَبْعَثُ بِهِ إلى الأوكرانيّين!

لا نَذْهَبُ إلى القَوْلِ أنّ إسرائيلَ تُمْلي سِياسةَ أيٍّ من هذه الدُولِ العُظمى في شَرْقِنا العَرَبيِّ، بما في ذلك الموقِفُ مِنْ أطوارِ الصِراعِ الفلسطينيِّ الإسرائيليّ. فهذه دُوَلٌ كُبْرى، في آخِرِ المَطافِ، وحِساباتُ كلٍّ مِنْها على قَدْرِها! ولكنّ إسْرائيلَ قابضةٌ على أوراقٍ ذاتِ شَأنٍ (تتَزَوّدُها من تَقَدُّمِها التكنولوجيّ البارزِ، على الخُصوص) في مُجاذَبَتِها هذه الدُوَل. ولا تأتَمِرُ إسْرائيلُ بأمْرِ الولاياتِ المتّحدةِ دائماً ولا تَرعى دَواعيَ انْتِمائها الغَرْبيِّ بِلا قَيْدٍ أو شرط.

ولا تُعَدُّ روسِيا أو الصينُ أو الهِنْدُ مَكْسوبةً بلا تَحفُّظٍ للجانبِ العَرَبيِّ حينَ تَكونُ إسرائيلُ في المُواجَهة. فإنّ في يَدِ هَذه الأخيرةِ ما تَحِدُّ بهِ، قليلاً أو كثيراً، من اعْتِراضِ هذه أو تلكَ على سياستِها، حينَ يَحْصُل. نَما ما أَشَرْنا إليهِ من علاقاتٍ وثيقةٍ بينَ هذه الدولِ وإسرائيل فيما إسرائيلُ ماضيةٌ قُدُماً في الاحْتِلالِ والاستيطانِ وفي التَنْكيلِ العُنْصُرِيِّ بالفلسطينيّين. لم يَلْجم العدوانُ توثيقَ العَلاقاتِ المُشارِ إليها، إذن، ولا هُوَ لَطّفَ من حَرارتِها إلّا في مَواسِمِ التَأَزُّم.

الصورةُ الماثلةُ “على الأرضِ”، إذنْ، بعيدةٌ للغايةِ عن تِلكَ الشائعةِ في دِيارِنا: تلكَ التي يُؤسِّسُ عَلَيْها أكْثَرُنا ما يَحْسَبونَهُ نِظاماً للعالَم، وهو إلى أضْغاثِ الأَحْلامِ أَقْرَب!

في الحنين إلى ترامواي بيروت!

هل أنا واهمٌ أم هي تتكاثرُ فِعْلاً هذه المواقعُ التي تنشرُ صُوَراً لبيروتَ في ربعِ القرنِ الذي سَبَقَ الحربَ ودمارَ وسطِ العاصمة؟

يُقالُ لَنا: انْظُروا إلى الترامواي! فننْظُرُ ونَراهُ ولكن لا يُقالُ لَنا ما المتعةُ التي يُفْتَرَضُ أن نجدَها في مَنْظَرِهِ وما الشعورُ الذي يُرادُ لذِكْراهُ أن تُثيرَهُ فينا. ويُقالُ لَنا: انظُروا إلى سيّاراتِ ذلك الزَمَنِ: كم هي جميلة! فَنَنْظُرُ ونَرى سَيّاراتٍ ولا نَراها جميلة! ويُقالُ لَنا انْظُروا إلى البناياتِ التُراثيّةِ الرائعةِ في ساحةِ البُرْج! هَهُنا يَبْلُغُ السَيْلُ الزُبى: متى كانت بناياتُ ساحةِ البُرْجِ تُراثيّةً، يا صاحِ، وما مَعْنى “تُراثِيّة” هَهُنا؟ ومَنْ هذا الذي كانَ يَنْظُرُ إليها فيَراها “رائعة”؟

وعَلى ذِكْرِ السَيْلِ: مَنْ يَذْكُرُ أيّامَ المَطَرِ وعُبُورَ شارِعِ الأمير بَشير على ظَهْرِ حَمّال؟ لَمْ يَكُنْ هذا الحَمّالُ بِسَلّ! الحَمّالونَ بِسَلٍّ كانَ الواحِدُ مِنْهُم يَدْفَعُكَ والآخرُ يَتَلَقّاكَ على بُعْدِ أمتارٍ مِن هُناكَ إذا كانَ اليومُ يَوْمَ نَحْسِكَ ونزلْتَ دَرَجَ خانِ البَيْض إلى حيثُ السّمَكُ والخُضار. وهل تُراكَ نسيتَ “الزَمَنَ الجَميلَ” الذي أمْضَيْتَهُ في السرفيس، مُتَصَبِّباً في حُمارّةِ القَيظِ، وأنتَ على سَفَرٍ بينَ ساعةِ الغداءِ وساعةِ العَصْرونيّةِ من أوّلِ جِدارِ جَبّانةِ الباشورةِ إلى آخره؟

نَحْنُ كُنّا هُناكَ، يا أَخانا، وعايَنّا الأبنيةَ “التُراثيّةَ” (أي الانتِدابيّةَ، على الإجْمالِ)… عايَنّاها من الداخلِ ونَعْلَمُ كَم كانت مُنْهَكةً! ونَعْلَمُ أنّ الترامواي ألغيَ لأنّهُ عادَ لا يُطاقُ ولا يُطيقُ غَيرَهُ من المَرْكَبات، ونَعْلَمُ أيضاً أنّ بديلَهُ (الذي لا تُعْفينا المواقعُ المُشارُ إليها من بعضِ صُوَرِهِ!) لَمْ يَكُن خَيراً منه فِعْلاً! نَعْلَمُ أنّ “البَلَدَ” ذاكَ كانَ مُتَهالِكاً للغايةِ وأنّ كلّ ما هو “طليعيٌّ” في العاصمةِ: من التجارةِ إلى الصحافةِ والنَشْرِ إلى السينَما إلى المَقاهي والمَلاهي، إلخ.، كان قد راحَ يهْجُرُهُ، أَوّلاً بأَوّلٍ، إلى فضاءاتٍ أخرى.

كانَ الوسَطُ أو “البَلَدُ” محتاجاً إلى تجديدٍ لئلّا يتحوّلَ إلى صحراء موبوءة.

عِوَضَ تجديدهِ، هدَمَهُ المُتَحاربونَ بَعْدَ أن حَوّلوا أطرافَهُ إلى بؤرٍ موبوءةٍ فِعْلاً. وبَعْدَ الحربِ أُخْضِعَ تجديدُهُ لمَنْطقٍ ألغى صفَتَهُ العُموميّةَ بِما هُوَ وَسَطٌ مَفْتوحٌ لِعاصمة. ولم يلْبَثْ هذا الإلغاءُ أن أتاحَ للحربِ المُسْتَمِرّةِ (المُسْتَتِرةِ إلى هذا الحَدِّ أو ذاك) أن تُحيلَهُ مُجَدّداً إلى صَحراءَ: صَحْراءَ لا هي مُتَهالكةٌ ولا هي موبوءةٌ. صحراءَ فاخرةٍ: فاخرةٍ وقاحلة.

هذا والتفكيرُ في شُروطِ عَودةِ الوسَطِ وَسَطاً أو “بَلَداً” لا يَسْتَقيمُ ما لَمْ يَكُنْ تَفكيراً في مَصيرِ العاصمةِ ومَكانِها من البلادِ كلّها، أي في مَصيرِ البلادِ كُلِّها.

ذاكَ تفكيرٌ لا يَصْلُحُ لهُ أن يُباشَرَ برَشْوَتِنا بالحنينِ إلى التراموايِ ولا هو يَنْتَفِعُ باخْتِراعِ “زمَنٍ جَميلٍ” لوسطٍ كانَ، في ذلك الزَمَنِ بالضَبْطِ، قد باشَرَ الاخْتِناقَ بأَزْمَتِه.

بلتيمور في ٤ نيسان ٢٠٢٤