المدن – فالوذَجُ الورَقِيِّ ولوزينَجُ الرقْميّ…مَلامِحُ للثورةِ الجاريةِ في كوكَبِ الكُتُب

Source: المدن – فالوذَجُ الورَقِيِّ ولوزينَجُ الرقْميّ…مَلامِحُ للثورةِ الجاريةِ في كوكَبِ الكُتُب

حين غادرتُ بيروت إلى بلتيمور بنيّةِ الإقامةِ في هذه الأخيرةِ – وكانَ ذلك قَبْلَ ما يَقْرُبُ من عامينِ – اتّسعَت حقائبي لكتابينِ ورقيَّينِ أو ثلاثةٍ لا أكْثَرُ. هذا بينَما خَلّفْتُ ورائي آلافاً عدّةً من الكُتُبِ جمَعْتُها في عُمْرٍ بحالِهِ فتكاثَرَت إلى أن اكتظَّ بها منزلايَ اللبنانيّانِ (ولو أنّ الجنوبيَّ مِنْهُما بقِيَ أكثرَ ترحيباً بالمزيدِ منها مِن البيروتيّ!) حتّى جازَ للعائلةِ التساؤلُ كلّما حلَّ على الرفوفِ المثقَلةِ ضيفٌ جديد: “متى تطردُنا الكتُب من بَيتِنا؟”

خَلّفتُ ورائيَ الكتبَ والبيتينِ والسؤالَ إذن (لأسبابٍ لا مسؤوليّةَ عَنْها للكُتب!) ولكن حَملتُ في حقيبةِ يدي الصغيرةِ لوحاً إلكترونيّاً مطويّةً جوانِحَهُ على نَيِّفٍ وألْفَيْ كتابٍ فَضْلاً عن موادَّ أخرى كثيرة… هذا اللوحُ (الذي أسْتَعْمِلُهُ الآنَ لكتابةِ هذه المقالةِ) يَزِنُ أقَلَّ من نصفِ كيلُغْرامٍ بقليلٍ ويُعادِلُ طولُهُ وعَرْضُهُ، على التقريبِ، طولَ كتابٍ واحدٍ من القَطْعِ الوسَطِ وعَرْضَهُ وتَقِلُّ سماكتُه عن سماكةِ كتابٍ من مائةِ صفحة.

بنِعْمةٍ من مكتبَتي الصغيرةِ هذهِ (وقد جمعتُها في عَقْدٍ وبعضِ عقدٍ من الزمنِ، وهي قابلةٌ للزيادةِ غيرِ المحدودةِ إلّا بِهِمّتي ومَوارِدي) أواصِلُ، في مَهْجَري الأميركيِّ، ما تطيبُ لي مواصلتُهُ من نشاطي اللبنانيِّ (وخُلاصَتُهُ القراءةُ والكتابةُ) من غيرِ شعُورٍ بفُقْدانِ شيءٍ من اللوازمِ المعتادةِ لهذا النشاطِ تقريباً. بلى أسألُ نَفْسي أحياناً: ما تَكُونُ حالي لو رغِبْتُ في الكتابةِ عن المجلّةِ القديمةِ الفلانيّة أو في مجرَّدِ الرجوعِ إلى بعضِ أعدادِها، وهي متوقّفةٌ عن الصدورِ وغيرُ مُرَقْمَنةٍ وتَقْبَعُ مجموعتُها على الرفّ الفلانيِّ في منزِلي الجنوبيّ؟ لا يُشْعِرُني السؤالُ ببَرْدٍ ولا بِحَرٍّ – والحَقُّ يُقالُ – وذاكَ لِعِلْمي أنّ الأمْرَ مستَبْعَدٌ، ومُسْتَبْعَدٌ ما هُوَ مِن قبيلِهِ أيضاً، في المَنْظورِ من أيّامي على الأقَلّ. لذا يبقى السؤالُ مُجَرّداً يُشْعِرُ، إنْ أشْعَرَ بشيءٍ، بِسَعْيٍ في غيرِ محلِّهِ إلى إعجازِ النفْس!


أعلَمُ أنّ ما سَبَقَ بعيدٌ جدّاً عن اسْتِنْفادِ المَوْضوعِ وأنَّ التحكيمَ بينَ الكتابِ الورَقيِّ والكتابِ الرقْمِيِّ أشْبَهُ شيءٍ بالتَحْكيمِ بينَ الفالوذَجِ واللوزينَجِ في قَوْلِ أَشْعَبٍ الطُفَيْليِّ وهو يَلْتَهِمُ ما قُدِّمَ إليهِ من هذا وذاك: “كُلَّما هَمَمْتُ بالحُكْمِ لواحدٍ أَدْلى الآخَرُ بِحُجَّتِه!” وأوّلُ ما يستحسَنُ التنويهُ بِهِ أنّ مزايا الكتابِ الرقميِّ لا تنحصرُ في خفّةِ حَمْلهِ أو في انعدامِ وزنِهِ أصلاً، بالأحرى، ولا في استغنائهِ عن الرفوفِ والخزائنِ وعزوفِهِ عن احتلالِ الجُدران. بل يزيِّنُ اقترانُ الوزنِ بالثَمَنِ، في العبارةِ الشائعةِ، أن نذكُرَ التدنّي النسبيِّ لكلفةِ الرقميِّ ولثَمَنِهِ، بالتالي، بالقياسِ إلى الورقِيِّ. ويصِلُ تدنّي الثَمَنِ إلى حَدِّ الإلغاءِ في حالةِ الكُتُبِ التي تُرَقْمَنُ بعْدَما تسقطُ حقوقُها، بالأقدميّةِ أو بغَيْرِها، من يدِ أصحابِها الأصليّين. فهذه، وقد باتت تحصى بالملايينِ وتتوزَّعُها لغاتٌ كثيرةٌ، يُمْكِنُ الحصولُ عليها بشَرْطِ حيازةِ التجهيزِ المناسبِ والصلةِ بالشَبَكةِ، لا غيرُ. هذا ويشتَمِلُ وضعُ انعدامِ البَدَلِ على ما هُوَ مقَرْصَنٌ من الكُتُبِ، وإن تَكُنْ الحقوقُ فِيهِ ما تَزالُ محفوظةً، وهذا أيضاً باتَ كثيراً وتتعاطاهُ، على الشبكةِ، مواقعُ كبيرةٌ وصغيرةٌ (يتقاضى بعْضُها بَدَلَ اشتراكٍ زهيداً ويَتَعاطى بَعْضُها النَصْبَ) ولا تُفْلِحُ في قَطْعِ دابِرِهِ جهودُ المكافَحة.


في المَساقِ نفْسِهِ، يُتيحُ انْعِدامُ الوزنِ المُشارُ إليهِ شراءَ الكتابِ الرقْمِيِّ عن بُعْدٍ، أي بِلا حاجةٍ إلى الانتِقالِ في طلَبِه، وهو ما باتَ ميسوراً في حالةِ الكتابِ الورَقِيِّ أيضاً إذ تُسَوِّقُهُ وتُسَوِّقُ غيرَهُ من السِلَعِ عن بُعْدٍ مؤسّساتٌ متفرّغةٌ بعْضُها عالميُّ النطاق. ولكنّ الكتابَ الرقميَّ يكونُ الحُصولُ عليهِ فَوريّاً أو شِبْهَ فوريٍّ عادةً فيما يستغرقُ سَفَرُ الكتابِ المادّيِّ وقتاً وقد تترتّبُ عليهِ نفَقةٌ مضافة. وما يصِحُّ في الشِراءِ عن بعدٍ باتَ يَصِحُّ في الاستعارةِ عن بُعْدٍ أيضاً: فإنّ كثيراً من المكتباتِ الكبرى اعتمَد نظاماً للإعارةِ بشُروطٍ تختلِفُ من حالةٍ إلى أخرى. وهو ما يُتيحُ للقارئِ المؤهَّلِ أن يُطالِعَ، من غيرِ أن يُغادِرَ مقامَهُ، كتاباً (رُبَّما يكونُ نادراً أو قديماً أو يَكُونُ مَخْطوطاً) تولّت رَقْمَنَتَهُ مكتبةٌ واقعةٌ في الجهةِ الأخرى من الكوكب.

تُيَسِّرُ هذه الميزاتُ كلّها، على نحوٍ غيرِ مسبوقٍ البَتّةَ، مهمّةَ الحصولِ على الكتاب. ويُقارَنُ اختِراعُ الكتابِ الرقْميِّ ودورانُهُ عَبْرَ الإنترنتّ بثوراتٍ تاريخيّةٍ كبرى، في هذا المِضْمارِ، أظْهَرُها اختِراعُ المطبعةِ ومفاعيلُه. فماذا الآنَ عن تجربةِ القراءةِ، بَعْدَ تحصيلِ الكتابِ، وهي تُمَثِّلُ الوجهَ الآخرَ المُتَمِّمَ للمقارنةِ بين الرقْمِيِّ والورقيِّ. هَهُنا أيضاً يُظْهِرُ الكتابُ الرقْمِيُّ طواعيةً غيرَ معهودةٍ في تَلَقّي القارئِ المُقْبِلِ عليهِ. فإنّ الشاشةَ المُضاءةَ تسمَحُ بالقراءةِ في العتمةِ، إذا عزَّ الضوءُ المُحيطُ لأيِّ سَبَبٍ كان. ويسمَحُ تكبيرُ الحُروفِ، وهو يحصُلُ بحركةٍ يسيرةٍ من الأصابعِ، بالقراءةِ المريحةِ لضِعافِ البَصَرِ أو لِمُتْعَبيه. ويستقْبِلُكَ الكتابُ الذي باشرتَ قراءَتَهُ مفتوحاً على الصفحةِ التي بلَغْتَها منه، إلخ.


هذا وهذهِ الميزاتُ الأخيرةُ متعلّقةٌ بالشُروطِ المادّيّةِ أو الخارجيّةِ للقراءة. فإذا سرّحْنا النَظَرَ الآنَ إلى المَضْمونِ وأدواتِ التعاملِ معهُ ووجوهِ الإفادةِ منهُ، طالَعَنا الكِتابُ الرقْمِيُّ بجديدٍ رائعٍ الجِدّةِ هنا أيضاً. وأوّلُ ما يُذْكَرُ، في هذا البابِ، ميزةُ “البحثِ” وهي تبيحُ استعادةَ المقاطِعِ من الكتابِ التي وردَت فيها كلمةٌ أو عبارةٌ يرغبُ القارئُ في الاطّلاعِ على ما يتعَلّقُ بها من الكِتابِ… فيُعْرَضُ عليهِ هذا كلَّهُ بتتابعِ الوُرودِ صفحةً بَعْدَ صفحة. وتَرُدُّنا وظيفةُ البحثِ هذه إلى الفَهارسِ المختَلفةِ التي تُزَوَّدُ بِها كتبٌ ورقيّةٌ كثيرة، وهي، في كلِّ حالٍ، تبقى ظاهرةً في موضِعِها من الكتابِ إذا خَضَعَ لرَقْمنةٍ لاحقة. على أنّ الاختِلافَ قائمُ بين الحالتينِ، وتفَوُّقُ الرقميِّ ظاهرٌ هنا أيضاً. فإنّ بعضَ الكُتُبِ تلحقُ بِهِ فهارِسُ وبعضَها يصدُرُ مجرّداً منها، ولا يُرادِفُ الغيابُ والحُضورُ دائماً غيابَ الحاجةِ إلى الفهارسِ وحُضورَها. ثُمَّ إنّ الماثلَ في الفهرسِ الورقيِّ مُقْتَصَرٌ بالضرورةِ على عناصرَ من الكتابِ مختارة. فيمكِنُ أن يَتَوَصَّلَ المُفَهْرِسُ إلى حَصْرِ الأعلامِ فعلاً في فهرسٍ خاصٍّ بِها. ولكنّهُ إذا أرادَ، مَثَلاً، حصْرَ المُصْطَلَحِ لم يُؤْمَن التعَسُّفُ من جهتِهِ في الأخْذِ والتَرْكِ ولم تُضْمَن بالتالي حَصْرِيّةُ الفهرسِ ولا اضطِرادُ تَجَنُّبِهِ لِما لا يَنْبَغي أن يَرِدَ فيه أيضاً.


وأمّا برمَجِيّةُ القراءةِ فتأذَنُ بالبَحث عن أيّةِ كلمةٍ في أيِّ كتابٍ يعتَمِدُها، سَواءٌ أكانَ الكتابُ روايةً أو تاريخاً لعلمِ الفيزياءِ وسَواءٌ أكانت الكلمةُ علَماً أو مُصْطَلَحاً أَمْ كانت غيرَ ذلك. هكذا يسعُك البَحْثُ عن اسمِ هيغل في كتابٍ لإنجلز ويسعُكَ البَحْثُ عن حرفِ جَرٍّ ما ترغَبُ في درسِ معانيهِ المختلفةِ في روايةٍ لفلوبير أو للطيّب صالح!

وفي رِكابِ مزيّةِ البَحثِ تقعُ مزيّةُ الإحالةِ الفوريّةِ، في متنِ النَصِّ أو في الحواشي، إلى أعمالٍ أخرى مختلفة. فتكفي نقرةٌ لرابطٍ في حاشيةٍ، مثَلاً، لـ”فَتْحِ” مقالةٍ ما، رقميّةٍ هي الأُخْرى، اتَّخَذَها المؤلّفُ مرجِعاً لبَعْضِ ما قَدَّمَ ويريدُ إطلاعَ القارئِ على ما ذَكَرَهُ منها. مثْلُ هذا لا يَأْذَنُ بِهِ الكتابُ الورقيُّ بطبيعةِ حالِه. وهو قد أصبَحَ كثيرَ الورودِ في المراجعِ العامّةِ المستجيبةِ لمُمْكِناتِ العَصْرِ الرقميِّ، فَنَقَعُ في الموسوعاتِ الجديدةِ، مَثَلاً، على روابطَ مفضِيةٍ إلى وثائقَ أو إلى خرائطَ وجَداولَ وموادَّ تَكْميليّةٍ أخرى… بل أيضاً إلى أشرطةِ فيديو في بعضِ الحالات. وما هذا إلّا التجسيدُ المتعلّق بالكُتُبِ لمزيّة عامَةٍ من مَزايا الأنترنتّ: ألا وهي التَفاعُليّة.

ولنُشِرْ هنا إلى أنّ الإحالاتِ الفَوْريّةَ (وهي رائجةٌ في المَجَلّاتِ العلميّةِ حيثُ سادَ الرقميُّ وهَيْمَنَ وباتت لمقالاتِ الباحثينَ روابطُ بحيثُ يُحيلُ بعضُها إلى بعضٍ) راحت تلقى إقبالاً متزايِداً في الصحافةِ الرقْمِيّة بعُمومِها. فيتآزَرُ التحريرُ والإخراجُ في التفَنُّنِ فيها إلى حَدٍّ أخَذَ يُغَيِّرُ ما كُنّا بَدَأْنا نألَفُهُ من مَظهَرٍ عامٍّ للصَحيفةِ الرقميّةِ نفْسِها. ولا يجانِبُ “الورَقِيّونَ” الصوابَ كَثيراً إذْ يأخُذونَ على هذه الإحالاتِ المتنوّعةِ إفضاءَها المُحْتَمَلَ إلى تشتيتِ انْتِباهِ القارئِ، فلا ينتهي إلى حصيلةٍ منظّمةٍ لِما اقْتَرَحَهُ عنوانُ المقالةِ بِدايةً. ولكنّ موضوعَ الصحافةِ الرقميّةِ موضوعٌ كبيرٌ قائمٌ برَأْسِهِ أشَرْنا، في معرِضِ كلامِنا على الكُتُبِ، إلى مَلْمَحٍ من مَلامِحِهِ المُسْتَجَدّةِ ولا يَتَّسِعُ هذا المَقامُ للتَبَسُّطِ فيه.

إلى ذلكَ كُلِّهِ، كانَ أنصارُ الوَرَقِيِّ يُشَدّدونَ إلى وقتٍ قريبٍ على الملاحظاتِ التي يُدَوِّنونَها في حواشي الكِتابِ والعلاماتِ والخطوطِ التي يُمَيِّزونَ بها مقاطِعَ استوقَفَتْهم وعلى مكانةِ هذا كُلِّهِ من علاقَتِهِم بالكُتُب. ولكنّ البرمجيّةَ لم تلبَث أن أخذت تَعْرِضُ على الشاشةِ أقلاماً تَتَنَوَّعُ ألوانُها وسَماكةُ خطوطِها يختارُ القارئُ بنَقْرةٍ ما يُناسبُ غرضَهُ منها ثمّ يخطُّ بإصبَعِهِ ما يشاءُ حيثُ يشاءُ من الصفحة. وهذا إلى ممحاةٍ يسَعُهُ استعمالُها لإزالةِ ما خَلّفَهُ القلَمُ أو تصويبِه: تكفي لذلك حركةٌ نظيفةٌ لا تُتْلِفُ الصفْحةَ ولا تُبْقي أثَراً غير مرغوبٍ فيه مَهْما يَكُن. حتّى أنّ البرمجيّةَ تُزَوِّدُك أيضاً علامةً تعادِلُ ثَنْيَ زاويةِ الصفحةِ في موضِعٍ من الكتابِ ترغبُ في العودةِ إليهِ لاحقاً!


ما الذي يبقى لفالوذَجِ الورَقيِّ يُقابلُ بِهِ هذا الهَرَمَ من المَزايا التي للوزِينَجِ الرَقْميّ: ما سَجّلناهُ منها وما قد يكونُ فاتَنا؟ في صعيدِ الواقِعِ المادّيِّ، يَبْقى القَليلُ بِخِلافِ ما زَعَمَ أشْعَب! تبقى أُلْفَتُنا الحِسّيّةُ لِمَلْمَسِ الكتابِ وحُضورِه بيْنَ أيدينا وتحتَ أنْظارِنا واعْتِيادُنا العَبَثَ بِهِ، ويبقى ما يُسَمّيهِ بعضُنا “رائحةَ” الورقِ معَ أنّ هذهِ مألوفةٌ، بخاصّةٍ، لوَرَقِ الصُحُفِ الرَديءِ حالَ خُروجِها مِن المَطْبَعةِ وللكُتُبِ إذا أَصابَتْها رُطوبةٌ تُورِثُ عَفَناً مُنْذِراً بالتَلَف. وتَبْقى الطُقوسُ الأنيسةُ لزيارةِ المَكْتَباتِ والتَلَبُّثِ فيها: ما كانَ مِنْها مَتاجِرَ وما كانَ دوراً للمُطالعةِ والبَحْثِ، وبَعْضُ هذهِ أشْبَهُ بالمَتاحِفِ أو الكاتدرائيّات. وتَبْقى “وَجاهةُ” الرُفوفِ المكتنَزةِ وجَمالُها في البيتِ أو في المَكْتبِ واستواءُ المكتبةِ “سيرةً” لصاحِبِها والأُنْسُ بحُضورِ الكُتُبِ عليها ولَوْثَةُ اقتنائها: ما قُرِئَ مِنْها وما لَنْ يُقْرَأ. ولَكِنَّ ابْنةَ أُخْتي الأميركيّةَ امْتَدَحَت بِحَماسٍ، على مَسْمَعٍ مِنّي، مَكْتبةَ الكُلّيّةِ التي تُزاوِلُ فيها أبْحاثَها مشيرةً إلى أنّها خاليةٌ من أَيِّ كِتابٍ على رَفّ! على أنّهُ يتعيَّنُ الالتِفاتُ، من الجهةِ الأُخْرى، إلى أنّ ما خَطّتْهُ البَشَرِيّةُ وما أخْرَجَتْهُ المطابعُ لم يُرَقْمَنْ كُلُّهُ إلى اليومِ، وإن يَكُن السَعْيُ جارياً على أقدامٍ وسيقانٍ كثيرة.


واضِحٌ، من بَعْدُ، أنّ الأمْرَ كُلَّهُ، على الجَبْهةِ الوَرَقيّةِ، مِزاجُ أجْيالٍ أخَذَت تَتَقَدَّمُ في العُمْرِ وتَضْؤلُ أَعْقابُها من جيلٍ إلى تاليه. هذا المِزاجُ وَجْهٌ عَزيزٌ من وُجوهِ حياةِ البَشَرِ، أو بَعْضِهِم، على الأصَحِّ، إلى أمْسِ بَلْ إلى اليَوْم! وما يَزالُ الحُضورُ الغامِرُ للكتابِ الورَقِيِّ حَوْلَنا يُسايِرُ هذا المِزاج. ولكنّ بعضَ الظواهرِ راحَ يُنْذِرُ بالضُمورِ المُضطَرِدِ لانتشارهِ وبِأَيلولةٍ شِبْهِ مُتْحَفيّةٍ له. ففضلاً عن الأزْمةِ العامّةِ التي تَضْربُ سوقَ الكُتُبِ مُشْتَمِلةً على المكتباتِ: من تجاريّةٍ يهجُرُها الزبائنُ وعامّةٍ يتضاءلُ روّادُها مع احتِيالِها في استِدراجِهِم، وعلى دورِ النَشْرِ التي تَعْصفُ بها أيضاً فوضى الرقمنةِ وازدهارُ القَرْصنة، تُسَجَّلُ ظواهِرُ من قَبيلِ “الطَبْعِ بحَسبِ الطلَبِ” تَشي بتَضعضُعِ الورقيِّ بدَوْرِها. فكأنَّما يُقالُ لك: “هَهْ! أنتَ من بقيّةِ السَلَفِ الصالِح؟ إذن نَسْحَبُ لك نسخةً ورقيّةً من الكِتاب!”

في هذا السِجالِ نفسِهِ، يُسَجِّلُ أنصارُ الورَقيِّ ما تورِثُهُ القراءةُ على شاشةٍ من تعبٍ للعينينِ ومن أرَقٍ في بعضِ الحالات. ولكنّ الشاشاتِ تتحَسّنُ لهذه الجهةِ أيضاً وتتَهاوى هذه الحُجّة. ما تزالُ الشاشةُ الممتازةُ مرتفعةَ السِعْرِ ولَكِنّ هذا لن يدومَ: ستُعالجهُ المنافسة. أمْرٌ أخيرٌ (ولكنّهُ ليسَ الآخِر!) يُسَجِّلُهُ الرقميّونَ من جِهَتِهِم: وهو أنّ الميلَ إلى تقليصِ الاعتِمادِ على الورقِ ينقِذُ كثيراً من أشجارٍ تحتاجُ إليها صِحّةُ الكوكبِ المُنْهَك ليَبقى في قَيدِ الحياة… المستقبَلُ للرقْمِيِّ إذن!

هذا ما اجتَمَعَ عندنا من معطياتِ سجالٍ مُسْتَشْرٍ، حيوِيٍّ للغاية، تتغيّرُ مُعْطَياتُهُ سريعاً على غِرارِ كلِّ شيءٍ يَنْتَمي إلى هذا المِضْمار. وما قَدّمناهُ بعيدٌ – لا رَيْبَ – عن الإحاطة. لم نُشِرْ إلى “الكتابِ المسموعِ” مَثَلاً! وهذا مع أنّهُ، وهو الصاعِدُ، قد يستوي “ثورةً في ثورةِ” الكتابِ الرقميّ. ولكنّ هذا حديثٌ يطول…        

المدن – فارس ساسين حيّاً

Source: المدن – فارس ساسين حيّاً

الكمالُ – على ما يُقالُ – ليس من هذا العالَمِ، فيبقى متاحاً لنا، في تخميني، أن نقول إنّ فارس ساسين كان بَشَراً “تامّاً”[1]. والمفارقةُ (وهي مفارقةٌ إنسانيّةٌ للغايةِ) أنّ التنوّعَ الاستثنائيَّ لميادينِ كفاءتِه كان لا يَني يزيدُ فضولَهُ للمعرفةِ شِدّةً. فكانَ “التَمامُ” يُثْمِرُ في حالَتِه – وهذا أمرٌ طبيعيٌّ – شعوراً مقيماً باللاتَمام.

كان فارس يوحي بالسَعْيِ وراءَ الجديد في كلّ اتّجاه. ولكن من غيرِ إرهاقٍ زائدٍ للنفسِ بهذا السَعْي. كان يبدو ماضياً على رِسْلِهِ في أشَقِّ ما اضطَلَعَ به من مهمّاتٍ وأعسَرِ ما أخَذَ بِهِ نَفْسَه من أنواعِ التَعَلُّم. ولم يكن يتركُ للكدحِ الذي كان مشروعٌ جارٍ أو التِزامٌ مِهْنيٍّ يفرِضه عليه أن يستَغْرِقه، بل كان يبدو قادراً على ادّخارِ ما يلزمُ من وقتٍ، أيّاً يَكُنْ مِقْدارُه، للعائلةِ وللأصحابِ وللتسليةِ على أنواعِها كافّةً. كان مزاجُهُ النَضِرُ الهازلُ وفكاهتُه الحاضرةُ القارصةُ واستعدادُه لتلْبِيةِ ما يَطْرَأُ من دَواعٍ هي ما يحمِلُ على الظنّ (الذي لم يَكُنْ في محلِّهِ دائماً، على الأرجح) أنّهُ كان يتقنُ هذا الإتقانَ كلّه ذاك الفنّ الصعب: فَنَّ سياسةِ الشواغلِ بحيث لا تتعدّى حدّ الاحتِمال. هكذا كان ما يظهِرُه من يُسْرٍ في الحركةِ بين قطاعاتٍ من الثقافة بالغةِ التنَوّع وجهاً (جليلاً، بطبيعة الحال) من وجوه موهبةٍ أخرى: موهبةِ سياسة الوقتِ، أو الحياةِ، بحسبِ المرغوب.

*

أذكر أنّ فارس نحّى جانباً ذاتَ يومٍ ما كان شائعاً من نسبةٍ قديمةٍ لي إلى “الوجوديّةِ” (وهذا صيتٌ كان الدهرُ قد أكَلَ عليه، والحقُّ يُقال) فأفهَمَني، بعباراتٍ قليلةٍ، أنّ اليَسيرَ الذي كنتُ قرأته من أعمالِ هايدغر إنَّما أرادَ أن يقولَ أشياء مغايرةً لما كنتُ أحسبُ أنّه يقول. وفي يومٍ آخر، دلّني، هو وكمال صليبي، على مواطنِ خَلَلٍ عدّةٍ في نصٍّ كنتُ أحسبُني أودعتُه عُصارةَ أعوامٍ من الاجتهاد في تدبُّرِ تاريخ لبنان… هذا وما هذان إِلَّا مَثَلان! ولعلّه يكفيني إيحاءً بما كانت عليه من سعةٍ مروحةُ الموضوعاتِ التي كان يمكن للمداولةِ مع فارسٍ أن تشتمِلَ عليها أن أستذكرَ موضوعَ الاستشارةِ الأخيرةِ التي لجأنا فيها، أنا وزوجتي، إلى خبرةِ فارسٍ الودودة (أو إلى مودّتِه الخبيرةِ، بالأحرى): كنّا نُريدُ فَتْواهُ، مع بدايةِ مراحلِ الحَجْرِ الذي فرض علينا مؤخّراً، في نوعيّة بساطٍ تركيٍّ رغبنا في شرائه فأرسلنا إلى فارس صورتَه بواسطة واتسآب!


هل يكون عليّ التنويهُ بأنّ إحالةَ البادرةِ أو العبارةِ إلى الشخصِ بأسره كانت أمراً يفرضُ نفسه، حين يكون فارس هو المُحاوِر: فَرْضاً أشَدّ بكثيرٍ ممّا تكون عليه الحال عادةً مع آخَرين؟ كان ما يوجّهه فارسٌ إليك من ملاحظاتٍ نقديّةٍ  يأتي ملطّفاً بكفاءةِ الناقد وصدقه فيخلخلُ ثباتك حيث تقفُ ولكن من غيرِ أن يؤذيك. وكان وخزُ الإبر التي كان يحسِنُ تسديدَها على حين غِرّةٍ لا يوجعُ بل يَسْتَحثّ. وقد يجبُ أن نضيف أنّ هذا الرجلَ الرفيعَ الثقافةِ لم يكن يزدري ثقافةَ السَوَقةِ مهما تكن. فكان يفسحُ في ذاكرته العجيبة لحكاياتٍ معظمُها لاذعٌ تتناول، على التغليب، أهلَ السياسةِ اللبنانيّين من سائرِ العهود. كان هذا الزَحْليُّ العريقُ، وهو المحاورُ المقدامُ لميشال فوكو، يتكشّفُ أيضاً عن وريثٍ شرعيٍّ لإسكندر الرياشي!

** 

أجرى فارس ساسين تدريبه الأوّل على النضال في مَشتلِ اليسار اللبنانيّ “الجديد” في غَدواتِ الهزيمةِ العربيّة سنةَ ١٩٦٧ ثمّ لم يتخَفّف يوماً من التزامِهِ السياسيِّ الأساسيّ. لم يستكِنْ في اللامبالاةِ أو في الحياد. ولا أراني محتاجاً بهذا الصددِ إلى غير التنويه بتلك الرشقاتِ القتّالةِ من “التغريداتِ” التي ظلَّ، إلى أمْسِ، ينهالُ بها على مدبِّري النكبةِ اللبنانيّةِ الجارية. على أنّ ساسين بقِيَ يأبى أن يُرَدَّ شخصُهُ إلى أيِّ نضالٍ أخَذَ منه بنصيب، جاعلاً من نفسِهِ ضِدّاً ل”المناضلِ المحتَرِف” الذي رَوَّجت لنموذجِهِ اللينينيّة. هكذا لَبِثَ يتحاشى من الإفراطِ في استهلاكِ قواه كُرْمى لأيّةِ إستراتيجيّةٍ جماعيّةٍ أو في تقَبُّلِ الخضوع لأسرِ المنطقِ النضاليِّ الغَلّاب. وإنّما دأَبَ على النضالِ بالاستواءِ قُدْوةً، يؤثِرُه على العَمَلِ المنظّم. فكان يسعى ليجعلَ من نفسِهِ صورةً لما يشاءُ للجماعةِ أن تكون. كان سلوكُهُ بما هو إنسانٌ ومُواطنٌ وشبَكاتُ أصحابه وما يذيعُ من مواقِفَ وآراءٍ أي، بوجيزِ العبارةِ، مُكَوِّناتُ نموذجِهِ المختارِ للحياة، هي الرياحُ الناشرةُ لرسائله.

***

جمعتني بفارس ساسين صداقةٌ خلَت من الغُيومِ تقريباً وبقيَتْ بمنجاةٍ من التجاعيدِ أيضاً مدّةَ أربعينَ سنة. وكان ملحم شاوول، ابنُ عمّةِ فارس، ونوّاف سلام (وهُما “رفيقان” سابقانِ كانا قد انقلَبا صديقيِنِ لي قَبْلَ أعوامٍ عدّةٍ) هما اللذان تولّيا تعريفي إلى فارس في صيفِ ١٩٨١، ولم يكن مضى زمنٌ طويلٌ على عودتِه من فرنسا. وكنتُ قد تعرّفتُ قَبْلَ مُدّةٍ يسيرةٍ إلى عضوٍ آخر في الزُمْرةِ نفْسِها هو أنطوان عبد النور الذي شهِدَ العامُ التالي سقوطَه ضحيّةَ الهَمَجيّةِ الإسرائيليّة.

ثمّ لم نلبث أن ألفينا نَفْسينا، فارسٌ وأنا، عضوينِ في الفريقِ نفسِه، وقد تشكّل في كنَفِ “مركزِ الأبحاثِ اللغويّةِ والتربويّةِ” الذي أنشأهُ طلال الحسيني، في ذلك الوقت، وتَوَلّى إدارَتَه. في أثناءِ هذه التجربةِ التي امتدّت خمسَ سنواتٍ أو ستّاً، اقتَرنَ سعيُنا معاً إلى الاستواءِ معجميَّينِ مَرِحَينِ بالترسّخِ اليوميِّ للصداقةِ بينَنا، وهو ما كانت بيئةُ المركزِ الإنسانيّةِ تتعهّده بالترحابِ ملطّفةً البيئةَ المحيطةَ السائدةَ في تلك الأعوام السوداء.

لاحقاً أيضاً، أكرمني فارس، وكان قد أصبَحَ المستشارَ الأدبيَّ لدار النهار للنشر، باعْتِنائهِ بإصدارِ كتبٍ وقّعْتُها وأخرى نَقَلْتُها عن الفرنسيّة وثالثةٍ لم أجاوز التقديمَ لها تمهيداً لإعادةِ نشرها، وهو ما اقتَرَحهُ عليَّ غسَّان تويني. فلفارسٍ أدينُ بالسلاسةِ التي ميّزت ولادةَ تلك الأعمالِ كُتُباً تُقْرَأُ مقرونةً بالصَرامةِ في لزومِ الأصولِ المفروضة. لا أفي هذا الصديق حقّهُ من العرفانِ أيضاً لِما خَصَّ به من حماسةٍ أعمالاً صدَرَت لي، إمّا في مناسباتِ صدورها أو في مناسباتٍ أخرى إذ هو تفضّلَ عليها بشهاداتٍ بقيَت محلَّ اعتِزازٍ لصاحبِها. فكانت خسارتي برحيلِهِ خسارةً لشاهدٍ عالي المقام اتّحدت بخسارتي الصديقَ الغالي، وكانا شخصاً واحداً.

****

هذا ولا أملكُ ألّا أستذكِرَ، في استعادتي لمَسارِ الصحبةِ ذاك، ذلك الطيفَ الجميلَ الذي عاد من باريس أيضاً، وكان أصغَرَ سنّاً من سائر الأقران، فانضَمَّ إلى الجماعةِ الصغيرةِ التي كانَ يتصدّرُ مناسباتِ التئامِها ذاكَ العشاءُ، تتحلّقُ له تامّةَ النِصابِ حولَ دومينيك شوفالييه كلّما نزل “المعلّمُ” بيروت. كان اسمُ ذلك الطيف الجميل سمير قصير، وهو سيلقى، بَعْدَ ثلاثٍ وعشرينَ سنةً كانت قد انقضت، مصيرَ أنطوان عبد النور نفْسَهُ: سيلْقاهُ بأَيْدٍ أخرى ولكنّها مُمَتّعةٌ بالحصانةِ نفسِها على الحِساب.

*****

كان فارس ساسين كاتباً مٌقِلّاً نسبيّاً، وهو ما أعْلَمُ أنّه كانَ يُحْنِقُ مُنى، زوجتَهُ، ويُحْنِقُ معها آخَرينَ، كثيرينَ في ترجيحي. ولا أراهُ بريئاً، من جهتي، من شُبهةِ الميلِ إلى إيثارِ رياضةِ الحديث! انصَرَف إلى النشر واشترَكَ في تأليف كتبٍ متعدّدةِ الأقلامِ ولكنّه امتنعَ عن نشرِ الأطروحةِ التي كرّسها لـ”اللبنانيّةِ المارونيّة”. وهذا تمنُّعٌ أجهَلُ أسبابهُ ولكنْ أوصي من باتَ  يملكُ أن يتجاوزَهُ بأن يفعل. من حُسْنِ حظّنا، في كلّ حالٍ أنّ مدوّنتهُ التي سَمّاها مُتَخابِثاً  Assassines  ، أي “القَتّالات” أو “الساسين”(!)، بقيَت مَعْرِضاً مُتاحاً لتصفُّحِ الكثيرِ من مقالاتِه الرائعاتِ ولجَمْعها وإعادةِ نَشْرِها. كانَ فارس ساسين إنساناً مشرّباً بالفلسفةِ (ولكن بالشِعْرِ أيضاً وبالسينَما وبكثيرٍ من أشياءَ أخرى مختمِراتٍ بالجَمال…) فأمكنَهُ أن يُعَلِّمَنا، بالقدوةِ وبالنَصِّ معاً، أنّ الفيلسوفَ، وهو المُعَرّفُ عادةً بأنّهُ “صديقُ الحكمةِ”، يسعُهُ أن يَكونَ، بينَ أصدِقائه، مُعَلِّماً للصداقةِ والسَلام.


II

وزَّعَ فارس ساسين أعمالَه المكتوبةَ بينَ الفَرَنسيّة والعربيّة. وهذا مع ترجيحٍ للفرنسيّة أَمْلَت بعضَه صُدفُ التكليفِ والأغراضِ وأملى بعضَهُ الآخرَ، على الأرجَح، ظُروفُ الإعدادِ وأثرُها في المزاج. ولَكِنّ الرجلَ بذَلَ، في مدى عقودٍ، لا أعوامٍ وحسْبُ، جهوداً حثيثةً لتعزيزِ مِراسِهِ للفصحى واستقامةِ عبارتِه بها. وهذا سعيٌ أملاهُ، بدَورِه، تعليمُ الفلسفة في الجامعةِ اللبنانيّة (أي الضلوعُ في إعدادِ آخَرين) وأملاهُ أيضاً الشعورُ بالانتسابِ إلى محيطٍ هذه لغتُه الأولى (أو هي الوحيدةُ المقروءةُ أحياناً) وهو المحيطُ الذي يحسُن بالكاتب (أو يَسْتحسِن هذا الأخير) أن يستهدِفه بالخطاب بالدرجةِ الأولى. وما يحتويه هذا الكتاب هو المنشور أو المؤهّل للنشر من ثمراتِ هذا السَعْيِ الساسينيّ لمؤالفةِ الفصحى وتراثها ولمزاولةِ التفكير والكتابةِ بها.

هذا وقد تفيد النظرةُ الإجماليّةُ في تصميم هذه الاستعادة التي أقدم عليها الناشر، ما بين مجموعٍ (قد يتبعُه آخر) لأعمال الكاتب العربيّة ومجلّدين (قد يتبعهما ثالثٌ وربّما رابعٌ أيضاً) لمدَوَّناتهِ بالفرنسيّة، أنّ هذا التصميمَ لا يخلو من إجحافٍ يصيب الفئتين معاً ولكن ينالُ معظمُه من المجموعِ العربي. فإنّ عزل مقالةٍ كُرّست لمؤلّفٍ بعينِهِ مَثَلاً عن أخرى تناولت كتاباً للمؤلّف نفسِه، وذلك بسبب اختلاف اللغة بين هذه وتلك، إنَّما ينتهي، على نحوٍ ما، إلى خسارةٍ يسيرةٍ أو جسيمةٍ للمقالتين. تلك حالةٌ واحدةٌ محتمَلةٌ من حالاتٍ نرجّحُ أن يظهِرها استقصاءٌ لم نباشرهُ. وإنّما عَوّلنا في ترجيحنا على أُلْفٍتِنا المديدةِ (وإن كانت لا تدّعي شمولاً) للرجُلِ ولمنشوراتِه. وهي ألفةً يسَّرتْها لنا أَيّما تيسيرٍ مُدَوَّنَتُهُ Assassines.

على أنّه يجِب الإقرارُ أنّ هذا الاعتماد للّغةِ، من جانبِ الناشرِ، مبدأً أوَّلَ لتصنيفِ الأعمال المستعادة هو أمرٌ لم يكن منه مناص. إذ لا يسوغُ افتراضُ إحسان اللغتين معاً من جانب الجمهور المستهدَفِ بهذه المجلَّدات، كلِّهِ أو جُلِّه. فلا يَجوز، بالتالي، فرضُ موادَّ على قُرَاءٍ لا يقْوونَ على فَهْمِها تُجاوِرُ أخرى مهَّدت لهم كفاءَتُهم اللغويّةِ سبيلَ الرغبةِ في مطالعتها. كان لا بدَّ من الفصْل اللغويّ إذن. فما الذي أسفَرَ عنه هذا الفصْلُ في جهةِ العربيّة، وهو ما يضُمّهُ المجَلَّدُ الذي بين يدي القارئ؟ جعَلَ الناشر ما جمعه ههنا من أعمالٍ عربيّةِ اللسانِ لفارس ساسين تحت عناوين ثلاثة. وهذا التصنيفُ المعتمدُ حصيفٌ ولكنّنا، إذ نعمِدُ إلى وجهةٍ مغايرةٍ في استنطاقِ النصوص: وجهةٍ تنظرُ لا إلى الحقلِ الذي يضوي إليه النصُّ بل إلى الهَمِّ الذي يحرّكهُ، ننتهي إلى إقرارٍ تقريبيّ (يبقى غيرَ تامٍّ إذَنْ) لتصنيف الناشر المثَلّث ولكن تحت عناوينَ ثلاثةٍ أخرى. في قراءتِنا، تتوزّعُ هذه الأعمالُ إذَنْ بينَ مجاميعَ ثلاثةٍ: ١- شروطُ التفلسُف ٢- حقوقُ الصداقة ٣- إنصافُ أركانٍ أو وجوهٍ للتجربةِ اللبنانيّةِ من نظامهم السياسي.

*

يغلِبُ على المجموع الأوّل هَمُّ التعليم. هذا ما يوضِحُ علّةَ التكرار الملحوظِ الذي يحصُلُ عند تَناوُلِ المسألةِ الواحدةِ أو الفيلسوفِ الواحدِ في مقالَتَين. هذا ما يوضِحُ أيضاً سَبَبَ الإبقاءِ على مقاطِعَ من المقالةِ في صورةِ العَناوين، إذ تكونُ هذه مواضيعَ لشُروحٍ يُدلي بها المُعَلِّمُ مُشافَهةً. هَهُنا إذن معلِّمٌ للفلسفة يحاضرُ طلّابَه في فلاسفةٍ وفلسفاتٍ اختارَها لهم بنفسِه، على الأرجح، ولو في نطاق عصرٍ أو قطاعٍ من التراثِ سَمّاه البرنامج. فالحالُ أنّ الدرسَ يُساقُ هَهُنا إلى مسألةٍ كبرى تطرحُها ولادةُ الفلسفةِ في بلادِ اليونان وملحقاتِها، وهذا قَبْلَ أن يصبِحَ “الغربُ” بأسرِهِ وريثاً لليونان في “احتكارِ” التفلسُفِ (بمعناهُ المضبوط، لا بتوسيعِ معناه إلى ممارساتٍ فكريّةٍ أو روحيّةٍ أخرى شهِدَتْها عصورٌ أخرى أو أظَلَّتْها سمَواتٌ أخرى…). هذه المسألةُ التي تبدو مستحوذةً على لبِّ المعلّمِ أو المحاضرِ هي مسألةُ “شروط التفلسف”، وهي ما ينتهي ساسينُ إلى طرحِهِ من سبيلينِ عريضينِ: سبيلِ البحثِ في ماهيّةِ الفلسفةِ أو معناها وسبيلِ السُؤال عَمّا جعَلَ اليونان وتوابعَها مَهداً حصريّاً للتفلْسف قَبْلَ أن تنتشرَ مزاولةُ هذه الرياضة في نواحٍ مختلفةٍ ممّا أصبَحَ يطْلَقُ عليهِ اسمُ “الغرب”. في هذا المسعى يجِدُ ساسين عوناً في فيلسوفينِ ألمانيَّين يَبُدُوان مستأثرين بالقسطِ الأوفر من عنايته بمذاهب الفلسفة وتوجُّهاتِ الفلاسفة، وهما هيغل وهايدغر. يقولُ الأوّل من هذين بأبوّةِ اليونانيّين لاختراعِ التفلسف وينزعُ الأخير الذي يجعلُ الفلسفةَ “منشئةً” للغَربِ فَضْلاً عن توَطُّنها إيّاه، إلى حصر إرث التفلسفِ اليونانيّ هذا في كوكبةٍ من نجوم الفكر ارتفعت تباعاً في السماء الألمانيّة في مدى قرنينِ سبَقا أيّامه، ويظهرُ أنّ الرجلَ يعِدُّ نفسه آخرَ هذه النجومِ بُزوغاً.


هل يكونُ علينا التسليمُ بهذه المقدّمة؟ يُبدي ساسين مَيْلاً إلى هذا التسليم ولكن مع تلطيف جسيمٍ للحصريّة اليونانيّة، ومن ثمّ الغربيّة، أو تعديلٍ لها بإبراز الدَينِ اليونانيّ للشرق القريب وبطرْحِ ماهيّة الغرب نفسها على أنّها موضعُ سؤال وبالتنويه، أخيراً، بقابليّة المقاربةِ الفلسفيّةِ لتوسّعٍ متعدّد الأبعاد. هذا كلّه لا يُبْطِل، في النَظَرِ الساسينيّ، وجوبَ السؤال عَمّا جعل أمور التفلسف تجري على هذا المنوال. فَما الذي ساقَ “العِلمَ بالوجودِ بِما هُوَ موجودٌ” (وهذا هو التعريف الأرسطيّ الذي يأخذ به ساسين للفلسفة) إلى الاستواءِ حكراً على بلاد اليونان الصغيرة ومستعمراتِها في عصرٍ بعينِه من عصورها وإرثاً لما يسمّى الغربُ (أو لبعضِه) سعى في تنميتِه بعد أن خبت الجذوة الفلسفيّة في اليونان نفسها بعصورٍ مديدة؟ ولِمَ كبَتْ، إلى هذا الحَدِّ أو ذاكَ، جهودُ حضاراتٍ أخرى، في أزمنةٍ أخرى أو في الأزمنةِ نفسها، للتوفُّر على هذا الضربِ من المراس الفكريّ بتَمام أوصافه ومعناه؟ أو، بالعبارةِ الوجيزةِ، ما شُروطُ التفلسف؟

ذاك هو السؤال الذي يقعُ القارئُ في بعضِ ما يلي من صفحاتٍ حَبَّرَها فارس ساسين على تَلَمّسٍ لجوابه: لجوابٍ يستعين محاولاتٍ سابقةً اضطلَعَ بها فلاسفةٌ أو مؤرّخون للفلسفة أو – أيضاً – مؤرّخون للحضارة اليونانيّةِ بعُموم وجوهها. ولكنّهُ، أي الجوابُ، يشي، على الأخصّ، بالهمّ المقيمِ في نفس طارحِهِ اللبنانيّ (أو المشرقيِّ-العربيّ) وهو هَمّ تعثُّر التفلسف في هذه الآفاقِ التي ينتمي إليها السائل وما يفيدُه هذا التعثُّر من فقدانٍ تاريخيّ اجتماعيٍّ، يصِحّ اعتبارُه فاجعاً، لشروط التفلسف. وكيف لا يُعَدُّ افتقادُ هذه الشروط فاجعاً وما هِيَ إِلَّا شروط التفكيرِ الحُرّ وخلاصتُها مبدءا الحرّيّة والمساواة في المواطنة وما تنتهي إليهِ مزاولَتُهما من اتّساعٍ لآفاقِ الفكر وحلباتِ الجدال إلى الإنسان الكُلِيّ، في ما يتعَدّى الخصائصَ، وأصولِ تفكيره وقِيمِ وجودهِ ومعارفه وعمَلِه وإلى الطبيعة بما هي كلٌّ، فيقيّضُ له من ثَمَّ البحثُ في حقيقةِ “الوجودِ بما هو موجود”؟

في ما خلا ذلك، يستوقفُ تلبُّثُ ساسين عند مسألةِ الموت ومكانتها في نظام هيغل الفلسفي. لا يُعينُ إقبالُ الرجلِ المعلومُ على الحياةِ والبهجةُ المستتبّةُ، على الظاهر، في مِزاجِه على تفهُّمِ هذا التلبُّث. قد يحسُنُ البحثُ عن مصدرٍ نفسيٍّ لهذا الشاغل. وهو ما يميلُ بي – إذا جازَ – إلى نوعٍ من الاقتناعِ بأنّ واحدَنا لا يعرِفُ أصدقاءَه… أو هو يعرف لهم أحوالاً وتفوتُه أحوال. على أنّ العبور إلى ما يتعدّى النفسيَّ، أي إلى الفلسفيّ، يبدو لزاماً، في ما أرى، ونحْنُ حيالَ هذا الشخص بعينِهِ، ننظُر في أعمالٍ له بعينها. فإنّ هذا الحضور لمسألةِ الموت في صدارةِ شواغله ما هو إِلَّا ترجمةٌ لموقع المسألةِ من التفكير الفلسفيّ الأصيل وهو مقامُ المصدرِ والصدارة. التفكيرُ في الموتِ هَهُنا تأَصُّلٌ في التفلسف.

من هذا الانشغال الساسينيّ بعموم الفلسفة، نتخلّص إلى مسائلَ أخرى تقع في النطاق الفلسفيّ أيضاً. ولكنّ ما أملاها على الكاتب كان فرضُها نفسها بين أغراضِ البحثِ المتولّدةِ من أوضاع العالم وتحوّلاتِها في العُقودِ الأربعة أو الخمسةِ الأخيرة: ماركس بَعْدَ تضعضُع الماركسيّةِ المجسّدة في معسكرٍ ودولٍ وأحزاب، الأيدلوجيا (من خلال كتابٍ خصّها به العرويّ) بعد أن بدا ظلّها صائراً إلى تقلّصٍ عن سُبُلٍ يجري  فيها تحريك كتلِ البشرِ وتعيينِ أهدافِهم، بقاء الانتفاضةِ لغزاً بعد مباشرةِ الثورة الإيرانيّة الانكماشَ عن مَدارها الأوّل، مطروقاً في محاورةٍ مشهودةٍ أجراها ساسين مع ميشال فوكو غداةَ زيارتَي الفيلسوفِ الفرنسيِّ لإيران وما أسفرتا عنه من صخَب، إلخ. هذا كافٍ للإيحاء بما ينتظرُ القارئَ تحت عنوانِنا الأوّلِ هذا (أي “شروط التفلسُف”) ولا بُغْيةَ لهذا التقديمِ في تجاوز حدِّ الإيحاء.

على أنّني لا أردعُ رغبتي في التنويه بواحدةٍ نفيسةٍ من مقالاتِ هذا الباب ترُدُّنا من الاشتغالِ الفلسفيِّ بالراهنِ التاريخيّ إلى التفلسف العامّ: ألا وهيَ تلك المكرّسةُ ل”الأخلاقِ والسياسةِ”. فهَهُنا تقليبٌ ألْمَعيٌّ لشاغِلٍ ماثلٍ في ميدانِ التفكيرِ العامِّ منذُ أن وجِدت السياسةُ وفلسفتٌها. وقد كنت اعتمدتُ هذا العنوانَ نفسهُ تقريباً لمشروعِ أطروحةٍ أوَّلَ سجَّلته قَبْلَ نحوٍ من ستّةِ عقودٍ فبقيَت لي منه بقيّةُ اهتمامٍ ومتابَعةٍ وبعضُ معرفةٍ أميّزُ بها الغَثَّ من السمينِ في مَدارِ هذا الجدال. وبهذهِ العُدّةِ أشهدُ للتأمُّلِ الساسينيِّ في هذه المسألةِ الكبرى بجدارةٍ توجِبُ على القارئِ أن يوليهِ بالغَ عنايته…

*

ما الذي يقعُ، من بَعْدُ، في أعمالِ ساسين هذه، تحتَ عنوان “حقوقِ الصداقة”، وهو العنوان الثاني في ثالوثنا المقترحِ تصنيفاً ل”هموم” هذه الأعمال أو محرّكاتها والدوافع إليها؟ كانَ صاحِبُنا ذا همّةٍ لا تدَعُ للتقاعسِ منفَذاً حينَ يكونُ المُرادُ شهادةً تؤدّى لواحِدٍ يراهُ مستحقّاً من بينِ أصحابهِ (أو مـعارفهِ) المنشورين على حقولٍ شتّى. وكانت المناسبةُ عادةً تسليم جائزةٍ أو احتفالاً بإنجازٍ أو بمسيرةٍ بحالِها، إلخ. كان هذا دأباً منتظراً للناشرِ الشاسعِ الاطّلاعِ وللمحكَّم تزدهي بعضويَّتِه لجانُ التَحكيم. ولكنّ هذا كان، فوق ذلكَ، بل قبلهُ، وجهاً من وجوهِ المودّة الفاعلةِ التي وزّعَها هذا الصديقُ الاستثنائيُّ على أصدقائهِ الكُثُر. ولا تنتمي النصوصُ التي استدعاها هذا النوعُ من المناسباتِ إلى ميدانِ النقدِ بالمعنى المقَرَّرِ لهذا المصطَلَح. لا خطابةَ فارغةً فيها لغرَضِ المَديحِ ولكنْ لا تنقيرَ أيضاً عن نقائصَ مفترضةِ الوجودِ في الشخصِ أو في أعماله. وإنّما تنتمي هذه النُصوصُ، على التقريبِ، إلى صِنْفٍ معلومِ الأصولِ ولهُ تقاليدُ هو ما تسمّيه الفرنسيّةُ éloge. ولعَلّي لا أجانِبُ الصَوابَ إذا اقترَحتُ “الإشادةَ” لا “المديحَ” مقابلاً عربيّاً يؤدّي المُرادَ، في هذا السياقِ، باللفظةِ الفرنسيّة. وذاكَ أنَّ الإشادة توحي بتشييدِ الخطيبِ أو الكاتبِ “شخصَ” الشخصيّةِ المتناولةِ أو بعضَ أدوارِها.


وقد كان غسَّان تويني طليعةَ من احتفَلَ بهم فارس ساسين وقد جمعهُ به جوارٌ عَمَليٌّ مَديدٌ ومعَهُ هوى الكتب وأمورٌ أخرى. واحتلّ جبّور دويهي موقعَهُ المتصدّرَ أيضاً من كوكبةِ الأصدقاءِ هذه، وهو الروائيُّ الخليقُ بالتكريم وهو عَشيرُ فارس ساسين الأقربُ في أعوامهما الأخيرة، وهو أخيراً الذي فارقَنا قبل فارس ساسين بساعاتٍ فلم يعلَم أيٌّ منهما برحيل الآخر! يحلُّ في هذه الفئةِ أيضاً (وهي التي يتوزّعُ حضورها بين مقالاتٍ باللغتين) أمثالُ موسى وهبة وسمير فرنجيّة. ويدخُلُ فيها جودت فخر الدين وتيريز دحدح… وكان لحِقَني من مَعينِ المودّةِ الفارسيّةِ هذا ما هو أوفَرُ من الرَذاذِ بكثير، وقد أشَرْتُ إلى الأمْرِ أعلاه. وهو ما يكفي لجعلي في حرَجٍ من الكلامِ في هذا الموضوعِ أصلاً، ناهيك عن الإطالة فيه…

**

يبقى أخيراً ما اقتَرحتُ اعتباره “إنصافاً” لأركانٍ لبنانيّين من “النظامِ” المعلومِ الذي هو نظامهم أيضاً. وقد ذكرتُ غسَّان تويني وهو صديقٌ وراعٍ لفارس ساسين، عارفٌ لقدْرِه، وهو أيضاً سياسيٌّ ذو أدوارٍ مشهورة ودبلوماسيّ بارزُ البصمات وقطبٌ مؤثِّرٌ في تشكيلات الرأي العامّ، وهو، أخيراً لا آخراً، صاحبُ جريدةٍ معروفةِ التميُّزِ في أيّامِه وذاتِ أذرُعٍ ولواحق. هذان مجموعان من الأسبابِ، شخصِيٌّ وعامٌّ، جعَلا ساسين يخصُّ تويني بنصوصٍ عدّةٍ مختلفة. ولكنّ لائحةَ “المُشادِ بهم” (والإشادة هذه “تعريفٌ” أيضاً ولكنّه تعريفٌ لا يريدُ نَفْسَه فاتراً) فيها أسماءٌ من قَبيلِ سليم تقلا، جبران تويني (الجَدّ)، كمال جنبلاط… هؤلاءِ وسواهُم كثُرٌ، من جيلِهِم أو من جيليهِم، ذهبوا وذهَبَت أدوارُهُم بَدداً (أو كادوا وكادت!) إذ وطأت سِيَرَهم سنابكُ خيلِ “الحداثةِ” و”التقدّم”: من “يسارٍ” يرتَجِلُ الكذبَ ويُصَدّقهُ و”يمينٍ” قوميٍّ يستطيبُ وطأةَ العسكر أو آخَرَ “وطنيّ” يبتغي لرؤوسِ الأموالِ أن تَجُبَّ ما قبْلَها بلا إبطاء، وهذه، في كلّ حالٍ، “فئاتٌ” تبدو لي أكثرَ اختلاطاً بكثيرٍ ممّا يُزْعَمُ عادةً…

فلا تكونُ البغيةُ من تناولِ سيَرِ تلك الوجوهِ أو بعضِ ما فيها تنزيهَهُم أو التهوينَ من أمرِ مثالبِهِم وإلباسَهُم دروعاً ترُدُّ عنهم النقد. وإنْما يُبْتَغى ردُّ كلٍّ منهم إلى زمانه وإلى موقعهِ فيه وتبَيُّنُ قيمِ الزمان وإمكاناتِ الموقع: ما كانت تبيحُه وما كانت تمنعُه، ما كانت تتيحُه من فرصٍ للتغيير وترسمُه من خطوطٍ للمواجهة وما كانت تجعله في عدادِ الأبوابِ الموصَدة، إلخ.

يقتضي ذلك – بينَ ما يقتضي – استقصاءَ ما طُمِسَ من منجَزاتٍ لأولئك الماضينَ كانت تُخالِف ملامحَ الرسمِ الذي فرَضَهُ لهم خصومُهم، وذلكَ لرَدِّها إلى أصحابها وإلى معانيها. والذينَ تناولَهم فارس ساسين كانوا، على الإجمالِ، ذوي ميزةٍ أحَلّتهم فوق الكثرةِ من أقرانِهم وفوقَ سويّةِ الهيئات أو الأجهزة العموميّة، من حاكمةٍ وغيرِ حاكمةٍ، في زمانِهِم ذاك. فيَرجَحُ عندي جوازُ نوعٍ من المقارنةِ بينَ أدوارٍ أدّوها وأخرى يؤدّيها في صحافتِنا الحاليّةِ صحافيّون معدودونَ هم أفضلُ من الصحُفِ التي يكتُبونَ لها بأشواطٍ وهي تموِّهُ بهم ما لا يموّه من عوراتِها.

حينَ يعمِدُ فارس ساسين أو غيرُهُ (وهم كُثْرٌ ومتباينو الأقدارِ من الكفاءةِ ومن الإنصافِ بدَورِهِم) إلى بعضِ هذا التناولِ لوجوهٍ عامّةٍ مضت، مبطئاً فيه أو مُسْرِعاً، فهو إنَّما يؤدّي قسطَه، ولو تأخّرَ، من صَدِّ حملةٍ كبرى تكادُ لا تُحْصى أفواهُها والأقلام[2]. تلك حملةٌ متماديةٌ أمعنت دماراً في صوَرِ رعيلٍ عريضٍ من آهلي المجال العامّ الراحلين. وهي إنَّما فعَلَت، ولا تزالُ، تزكيةً لرعيلٍ خلَفَ ذاكَ الرعيلَ وجاءَ، بينَ ما جاءَ بِهِ، بالاستبدادِ والهزائمِ التاريخيّةِ وبالمجازرِ الأهليّةِ والاغتيالِ السياسيِّ وبمعتقلاتِ الرعبِ وأجهزة الإرهاب، إلخ.

ذاكَ أيضاً بعض ما يستفادُ، وإن على نحوٍ غيرِ مباشرٍ، من فصولٍ ومقالاتٍ ضمّها هذا الكتاب. فيتَحَصَّلُ لنا من تدَبُّرِها درسٌ جليل.

*** 

نفتقد أخيراً ما عَهِدناه في فارس ساسين من سلاطة لسانٍ فَكِهةٍ أو مدمّرةٍ حين لا نَقَعُ بينَ المؤلّفين الذي كرّس لهم ساسين الناقدُ معظم مقالاتِهِ (باللغَتينِ) على كثيرٍ من الضحايا. فقد كانَ ينتقي منهم ومن بينِ أعمالِهم ما يعجِبُه للعرضِ والمراجعة. وتكادُ مدوّنتهُ Assassines  لا تستحقّ اسمَها إِلَّا لمجانستِها اسمَ عائلته والاسمَ الذي كان يحلو لأصحابِهِ أن يذْكُروهُ به: “الساسِين”! وإنّما يزدَحِمُ الضحايا من السياسيّين، حكّامِ اليومِ، ومعهم سُنَنُ تصرُّفهم بالبلادِ وأهلِها وما أثمرَتْهُ من جناياتٍ، في “تغريداتِه” القارصةِ وفي شظايا ذاكَ ال Abécédaire الذي أبقاهُ مكتوماً، على التخصيص.

نحْنُ، أصدقاءَهُ، كان يقيَّضُ لنا أيضاً، في ضَحَواتِ الأُنْسِ أو أماسيهِ، أن نجدَ أنفُسَنا في عِدادِ الضحايا ولكن راضينَ مَرْضِيّين. فسَلاماً عليكَ، أبا الفوارس!


[1]  في الذكرى الثانية لرحيل الكاتب الصديق فارس ساسين، أنشُرُ هنا نَصَّ “التقديم” الذي وضعتُهُ لأعمالِهِ العربيّة، وقد جُمِعَت تحت عنوان “كتابات” وصَدَرَت معها، في جزءين، أعمالٌ له بالفرنسيّة. صدَرَتْ هذه الكتب عن دار “شرق الكتاب”، بيروت، في خريف 2022.

[2]  دافع فارس ساسين عن كتابي رياض الصلح في زمانه (2011) حين أوشك أن يُحالَ دونَ نشره. ثمّ اعتنى بإصداره عن دار النهار للنشر. والكتابُ ينحو هذا النَحوَ المنوّهَ به أعلاه. وفي صيف العامِ الجاري، أصدَرَ صديقٌ آخرٌ لفارس ساسين هو منذر جابر كتاباً ينهَلُ (صراحةً لا ضمناً) من المشربِ نفسه، وهو سيرةٌ ضخمةٌ للزعيم الجنوبيّ يوسف الزين.

المدن – ميشال فوكو و”الخطابُ الفلسفيّ” (2/2)

Source: المدن – ميشال فوكو و”الخطابُ الفلسفيّ” (2/2)

هذا الكتابُ الذي سمّاهُ ميشال فوكو “الخطابَ الفلسفيَّ”، وكان قد بقيَ مجهولاً إلى أمسِ، يُقرأُ من عنوانِهِ: لا بمعنى أنّ القارئَ يقعُ فيه على المألوفِ المنتظَرِ من الأفكارِ، في موضوعِه، بل بمعنى أنّ عنوانهُ لا يُجاوزُ تسميةَ موضوعهِ باسمِهِ الصَريح. لا لُغزَ في العنوانِ هنا على غرارِ “الكلماتِ والأشياءِ”، مثلاً، أو على غرارِ “إرادةِ المعرفةِ” إذ تُسَمّي المدخلَ إلى تاريخ الجنس… “الخطابُ الفلسفيُّ” هُنا هو الخطابُ الفلسفيُّ، لا أكثرَ ولا أقلّ… على أن يكونَ القارئُ متوفّراً على حدسٍ ما لما هو الخطابُ ولِما هي الفلسفة…

في ما يتعَدّى صراحةَ العنوانِ هذهِ، يتعيّنُ على القارئِ أن يُهَيِّءَ نفسَهُ لمفاجآتٍ، بل لصدَماتٍ، يُضمِرُها الكتاب: هذا على الأقلِّ إن لم يكُنْ أَلَمَّ، من قَبْلُ، بأعمالٍ نشرَها فوكو في المدّةِ التي يتوسّطُها تأليفُ هذا الكتابِ: أي في النصفِ الثاني من ستّيناتِ القرنِ الماضي… ب”الكلِماتِ والأشياء” وب”حَفْرِيّات المعرفةِ” على الخُصوص. فنحن مع “الخطابِ الفلسَفيِّ” في المَدارِ نفْسِهِ الذي استكشفهُ هذان الكتابان أو على مقربةٍ منهُ ونحنُ نُلِمُّ فيهِ بتصوّراتٍ ركنيّةٍ فَصّلَها الكتابُ الثاني.

يبقى أنّ استفزازَ السائدِ يبدأُ في “الخطابِ الفلسفيِّ” من تعيينِهِ مهمّةَ الفلسفة. فخلافاً لتصُوُّرٍ شائعٍ يرى هذه الأخيرةَ محلِّقةً فوقَ عالَمِ الجزئيّاتِ، ضاربةً صَفْحاً عن العابرِ، معاينةً سائرَ المعارفِ من أعلى لترسمَ لها حدودَها التاريخيّةَ فيما هي، أي الفلسفةُ، تزعُمُ لنفْسِها طاقةَ البقاءِ بمعزِلٍ من تَصَرُّفِ التاريخ، يجعَلُ فوكو مهمّةَ الفلسفةِ ما يُسِمّيهِ “تشخيصَ الحاضر”. هذا الحاضرُ مثلَّثُ الأبعادِ عندَهُ يتشكّلُ من “الذاتِ” وال”هُنا” و”الآنِ” أو يشكّلُهُ، بالعبارةِ الأدَقِّ، موقعُ الذاتِ من ال”هُنا” و”الآن”. بهذا الموقعِ، يفترقُ الخطابُ الفلسفيُّ عن ضُروبِ الخطابِ الأخرى، أي عن كلٍّ من الخطابِ العِلْميِّ والخطابِ الأدَبيِّ والخطابِ الدينيِّ والخطابِ اليوميّ.

هذا التشكيلُ العامُّ لعالَمِ الخطابِ لم يكن، على الدوامِ، على الحالِ التي هو عليها اليوم. بل هو قد وُجِدَ، في أوروبّا، في مطلعِ العصرِ الأوروبيّ الموسومِ بالكلاسيكيّ: أي في مطلعِ القرنِ السابعَ عشرَ، مع ديكارت في ما يتّصِلُ بالفلسفةِ وفي المُدّةِ نفسِها مع ثرفانتس في ما يتَّصِلُ بالأدبِ ومع غاليليلو في ما يتّصِلُ بالعُلوم. وذاكَ أنَّ كُلّاً من قطاعاتِ “الخطابِ” تلكَ قد استقلّ، في ذلك العهدِ، بتشكيلٍ لحاضرهِ تميّزَ بصيغةٍ بعينِها للعلاقةِ بين أركانِ ذلكَ الحاضرِ الثلاثة وميّزَهُ عن سواهُ من القطاعات. هكذا وُلِدَ في ذلكَ العهْدِ لا قَبْلَهُ، وفي نطاقِ الثقافةِ الأوروبيّةِ لا خارجَها، ما نسمّيهِ، في أيّامِنا، الفلسفةَ أو ما يسمّيهِ فوكو الخِطابَ الفلسفيّ. وُلِدَ من انفصالِ الفلسفةِ عن الدينِ، وهو انفصالٌ قلَبَها رأساً على عَقِبٍ إذ غَيَّرَ حدودَها وأدواتِها، بِما هي معرفةٌ، وبدّلَ موضوعاتِها مُسْتَبْعِداً إلى هوامِشِها موضوعاتٍ كانت هي مداراتِ الكلامِ فيها، شادّاً وثاقَها إلى حاضرٍ جديدٍ لم يبقَ لها فكاكٌ من هَمِّهِ ولا رجوعٌ منهُ إلى ما سبَقه.

هذا كلّهُ مع العِلْمِ أنّ ما يطلقُ عليه فوكو اسمَ “الحاضرِ” ويجعَلُ تشخيصَهُ هَمّاً للفلسفة لا يستبعِدُ الكلامَ في الماضي بل يعيّنُ لهُ وظيفةً في الخطابِ يحكُمُها ضابطُ “التواؤُمِ” الذي يشيرُ إلى شركةٍ في البنيةِ والغايةِ وهو، في عُرْفِ فوكو، غيرُ “التواقُتِ” الذي يملي لزوماً لا محلَّ لهُ للّحظةِ الواحدة. إشارةٌ أخرى لا بدَّ منها وهي إلى كونِ “الحاضرِ” في الهَمِّ الفلسفيِّ والمحايثةِ في تشكُّلِ الخطابِ وفي العلاقات بين قطاعاتِهِ لا يَمْنَعانِ فوكو من الإشارةِ أحياناً إلى الخطابِ الفلسفيِّ على أنّهُ “خطابُ الخُطبِ”، وهو ما يُوافِقُ التصوُّرَ الرائجَ للفلسفة، ولكنَّ المؤلّفَ يلزَمُ حدَّ الإشارةِ النادرةِ بصدَدِه فلا يتبسّطُ في موقعِ هذا الوصفِ من المهمّةِ التي تختصُّ بها الفلسفةُ الحديثةُ في عُرْفِه.

بعدَ هذه المرحلةِ من الكتابِ، وهي تنطوي على تعريفِ الخِطابِ الفلسفيِّ بالتقابلِ مع قطاعاتِ الخطابِ الأخرى، يعمِدُ فوكو إلى قراءةٍ لهذا الخطابِ يسعُنا التمييزُ في سياقَتِها بين عملِيَّتينِ تبدُوانِ مستقلّتينِ إحداهُما عن الأخرى وإن لم تَخْلُوَا من تداخُل. الأولى عَمَلُ ترسيمٍ لبُنى الخطابِ الفلسفيِّ العامّةِ تُظْهِرُ ما فيه من توجّهاتٍ متخالفةٍ ومن تكاوينَ متراتبة. يُباشِرُ فوكو هذا العَملَ برصدِ وظائفَ أربعةٍ تتَرَتَّبُ عَنْها المهمّاتُ الأساسيّةُ للفلسفةِ بعدَ ديكارت.  ويطولُ بنا الكلام إن نحنُ حاولنا أن نتجاوزَ تسميةَ هذه المعالِمِ المميّزةِ للخطابِ الفلسفيِّ إلى التعريفِ بها، فنكتفي بالأسماءِ وما توحي به. فأمّا الوظائفُ فهي “التسويغُ” و”التأويلُ” و”النقدُ” و”الشرح”. ويأتي بعدَها – أو فوقَها، بالأحرى – ما يسَمّيهِ فوكو “الشبَكاتِ النظَريّةَ” وهي “تصاميمُ كبرى” تنتظِمُ فيها الفلسفات.

وفي نطاقِ هذه الشبكاتِ تغدو التوجّهاتُ المتخالفةُ ممكنةً، بحيثُ تتشكّلُ أبنيةٌ خطابيّةٌ أربعةٌ متنابذةٌ في ما بينَها. فتظهرُ المواجهةُ بينَ “نظريّةِ الكَشْفِ” و”نظريّةِ الظهورِ” والمواجهةُ الأخرى بين تحليلِ الظاهرِ واستكشافِ المُضْمَرِ أو اللاشُعورِ، إلى آخرِ القائمةِ ممّا لا غَرَضَ لعجالتِنا هذه في استيفاء ذكره… تكفي الإشارةُ إلى تفتُّقِ هذه المواجَهاتِ عَمّا هو “الحقولُ الأوّليّةُ” أو العناصِرُ الظاهرةُ للفلسفاتِ من نظريّةِ الذاتِ إلى تحوّلاتِ المحيطِ العَمَليِّ إلى البحثِ في معنىً للعالمِ، إلخ.  وهذا إلى أن نفضي، مع فوكو، إلى طبقةٍ أخيرةٍ من تشكّلاتِ الخطابِ الفلسفيِّ المتراتبةِ، يلحَظُها ويسَمّيها “الوحَداتِ النِظاميّةَ”، وهي تتولّدُ من تشابُكِ الوظائف متفرّعةً بدورِها تَبَعاً للاختلاف في إملاءاتِ هذه الأخيرة.

إلى عملِ الترسيمِ هذا – وقد اضطُرِرْنا إلى الابتِسارِ كثيراً في عَرْضِهِ –  يقرِنُ المؤلّفُ عَمَلَ تتبُّعٍ للمراحلِ أو الأطوارِ التي شهدَتْها الفلسفةُ الغربيّةُ بعدَ ديكارت. وتستوقفُهُ في هذا التتبُّعِ محطّتانِ كُبْرَيانِ هما كانط ونيتشه. وخُلاًصةُ دورَيْهِما أيسرُ مأخَذاً، إلى حدِّ ما، من خلاصةِ الترسيمِ الهيكليِّ التي حاولنا الإلمامَ بها لتَوِّنا. فزبدةُ القولِ في كانط الذي يعِدُّه فوكو بيضةَ ميزانِ الفلسفةِ الحديثةِ أنّه رسَمَ حدوداً قاطعةً لما تُسْتَطاعُ معرفتُهُ اسْتَنَمّت القَطْعَ مع الفكرِ الماورائيّ، بخلفيّتِهِ الدينيّةِ، معيدةً تعريفَ موقِعِ الإنسانِ في الوجود. هَكَذا كَرَّسَت الفلسفةُ النقديّةُ خُروجَ ثالوثِ اللهِ والنَفْسِ والعالَمِ من دائرةِ ما تُسْتَطاعُ معرِفتُهُ بذاتِه، مغَيِّرةً موقعَ هذا الثالوثِ من الفكرِ الفلسفيِّ ومَرْمى هذا الأخيرِ من تناوُلِهِ حينَ يحْصُل.

وأمّا نيتشه الذي لا تزالُ الفلسفةُ المعاصرةُ تستهدي سُبُلَها في أَثَرِ ثورتِهِ فقد لا نَكونُ قادرينَ على تبيُّنِ ملامِحِ التغييرِ الذي أحدثَهُ في فِكْرِنا بأَسْرِها لأنّنا مقيمونَ في الصورةِ التي رَسَمَها لعالَمِنا فلا يَسَعُنا الإحاطةُ بِها كلَّها. وإنّما نُدْرِكُ تحطيمَهُ الفلسفةَ أو بَعْثَرَتَهُ إيّاها بِما هي نِظامٌ مسْتَقِلٌّ للتفكيرِ، أي ما سَمّاهُ “التفَلْسُفَ ضَرْباً بالمِطْرقةِ”، وتَجْريدَهُ إيّاها من أغراضٍ عُرِفَت بِها وعودَتَهُ بالخطابِ الفلسفيّ إلى محايثةِ الحاضرِ وإلى الكثرةِ – وهذا هو المعنى الأهَمُّ ل”موتِ اللهِ” – وإلى مخالطةِ قطاعاتٍ خطابيّةٍ أخرى أَظْهَرُها الأدبُ ومعهُ العُلومُ والسياسةُ، وقد يحسُنُ أن نُدْرِجَ، في هذا المسْلَكِ، الموسيقى أيضاً…

هذا ويَسْتَوْقِفُ امْتِناعُ المؤلِّفِ عن إدراجِ هيغل وماركس – مُتَواصِلَيْنِ أو مُتَواجِهَيْنِ – بينَ المَحَطّاتِ التي يُعِيِّنُها لإعادةِ التشكيلِ القَطْعِيّةِ هذه لمَدارِ الفلسفة. وقد تَحْسُنُ الإشارةُ هنا إلى كَوْنِ فوكو الذي انتسبَ انتساباً عابراً إلى الحزبِ الشُيوعيِّ الفرنسيِّ، في مَطْلَعِ الخمسيناتِ، حَظِيَ بالتَتَلْمُذِ تِباعاً على كلٍّ من جان هيبّوليت، أبْرَزِ مُتَرْجِمي هيغل وشُرّاحِهِ الفرنسيّينَ في أيّامِهِ، ولويس ألتوسّير، الماركسيِّ الجِداليِّ المُتَصَدِّرِ في السِتّيناتِ والسَبْعيناتِ، وأنّهُ بَقِيَ مُحاوِراً لَهُما إلى النِهاية. وإذا كانَ الكتابُ الذي نحْنُ بصَدَدِهِ يكادُ يخلو من ذِكْرِ الماركسيّةِ أصلاً فإنّ مُحَرِّرَيهِ يشيرانِ، مَثَلاً، إلى معارضةِ المؤلّفِ لنسبةِ ألتوسّير “قَطيعةً مَعْرِفيّةً” في الاقتصادِ السياسيِّ إلى ماركس ويُنَوِّهانِ أيضاً بإقرارِ المؤلِّفِ، في مَواضِعَ أخرى، بِكَوْنِ هيغل هو الذي حَمَلَ العلاقةَ بينَ الفلسفةِ واللافلسفةِ على مَحْمَلِ الجِدِّ الكُلِيِّ فاستَوَت معهُ هذه العَلاقةُ محوراً للفلسفة…

تلكَ إذَن حالُنا و”الخطابَ الفلسفيَّ” في كتابِ فوكو النَفيسِ والصعْبِ القراءةِ لتَقَشُّفِه. ولكن ما “الخطابُ”، في مُبْتَدَإ أَمْرِهِ، أي قَبْلَ تَوَزُّعِهِ بينَ الأنواعِ أو القِطاعات؟ هذا التَصَوُّرُ الرُكنيُّ في فِكْرِ صاحِبِنا يبدو في الكتابِ الذي نعرضُ له وقد توسّعَ كثيراً عَمّا نعرفُه له من حدودٍ في مُقارَباتٍ سابقةٍ للمؤلّف. فهو يشتَمِلُ هنا – على ما يُنَبِّهُ إليهِ مُحَرِّرَا الكتاب – على كلِّ ما تمّ التلفُّظُ بهِ في عصرٍ بعينِه وعلى جملةِ القواعِدِ التي تضبطُ انتخابَ ما قيلَ ويُقالُ وتداولَهُ وحفظهُ، وهذا ما تُعْنى بوصْفِهِ “الحَفْرِيّاتُ” أو “الآثاريّاتُ” التي وضَعَ فوكو قواعدَها في الكتبِ الثلاثةِ التي يتوسَّطُها “الخطابُ الفلسفيُّ” مسبوقاً ب”الكلِماتِ والأشياءِ” ومَتْبوعاً ب”حَفْرِيّاتِ المعرفة”. وهذا أيضاً ما يعنيهِ جَعْلُ الخطابِ، في الفصولِ الثلاثةِ الأخيرةِ من الكتابِ، وجهاً آخرَ لل”محفوظاتِ”، وهذهِ سيتَواصَلُ بُروزُ موقِعِها في “الحَفْريّاتِ” أيضاً…

والخطابُ، في عُرْفِ فوكو، طبَقةٌ كلاميّةٌ مستقلّةٌ بقواعِدِها. فهو شيءٌ غيرُ اللغةِ ووحدَتُهُ هي “النُصَيْصُ” (énoncé ونعتَمِدُ صيغةَ التصغيرِ لتسميةِ هذه الوَحْدةِ الصُغْرى تمييزاً لها عن “النَصِّ” texte  الذي قد يكونُ مقالةً أو كتاباً) وهي تختَلِفُ عن القولةِ المفردةِ أو الحُرّةِ بانتِظامِها في شبكةٍ معلومةٍ من الحدودِ والضوابِطِ وقابليَّتِها للتكرار. هذا النسيجُ المتَرامي الأطراف، يَدْخُلُهُ فوكو ويَجْهَدُ لحصْرِ إقامتهِ وتجوالهِ في حدودِه. فيندُرُ كثيراً أن نَقَعَ عندَهُ على إشارةٍ إلى شيءٍ يغيِّرُ شيئاً في أحوالِ الخطابِ من خارجه: إلى اختراعِ المطبعةِ مثَلاً! وهذا ناهيكَ بأن نقَعَ على ضوءٍ مسلَّطٍ على تَحَوُّلٍ في المجتمعِ يثمِرُ تَحَوُّلاً في الخطاب. بل إنّ المجتمعَ وتاريخَهُ هما ما يُقْرَأُ في أطوارِ الخطابِ وتَحَوُّلاتِه وتغيُّرِ تشكيلاتِه.

في صيغةٍ من صيغَتَينِ ينطوي عليهما المخطوطُ للفقرةِ التي تخْتِمُ الكتاب، يذهَبُ فوكو إلى تشخيصٍ مذهِلٍ لماهيّةِ “الوجودِ” في الثقافةِ الغربيّةِ وللأطوارِ التي عَبَرَتْها هذه الماهيّةُ في ثلاثةِ قرونٍ مضَت. فيكتُبُ أنّ الحدَثَ الحاضرَ إنّما هو تحوّلُ الخطابِ إلى “مرجعيّةٍ عامّةٍ” وأنّ قابليّةَ التحوُّلِ إلى خطابٍ باتَت “هي نفْسَها الوجودَ، لا أكثرَ ولا أقلّ”! حصَلَ هذا بعد أن كانَ الوجودُ، في طورٍ أوّلَ، هو التوفُّرَ على حقيقةٍ ثمَّ أصبَحَ يَتَمَثَّلُ، في طورٍ ثانٍ، في القابليّةِ للاختِبار… وأمّا الآنَ فالوجودُ هو قابليّةُ التحوّلِ إلى خطاب!

في الحقِّ أنّ ما يُعْرَفُ إنّما يُعْرَفُ عادةً بتَحَوُّلِهِ إلى خطابٍ وأنّ امتناعَ المعرفةِ من غيرِ هذا السبيلِ رأيٌ له مناعتُه، وإن يَكُنْ يَحْتَمِلُ الجِدال. ولكنّ الوجودَ لا يُرَدُّ إلى المعرفةِ ومِن ثَمَّ إلى الخطاب! لا الألَمُ ولا الحَجَرُ يُرَدُّ إلى ما يُقالُ إشهاراً لوجوده! خلافُ هذا يشبِهُ، ولو من بَعيدٍ، سؤالَ المِثاليِّ، في الخُرافةِ المعروفةِ، عَمّا إذا كانَ العالَمُ يبقى موجوداً حين يكونُ السائلُ مُغْمِضاً عينيه…

المدن – ميشال فوكو يُواصل إصدار الكتب (1)

Source: المدن – ميشال فوكو يُواصل إصدار الكتب (1)

قَبْلَ ما يقاربُ العقدَ، لاحظتُ، في عُجالةٍ نشرْتُها، أنّ ميشال فوكو، وكانت قد حلّت الذكرى الثلاثون لرحيلِه، ما زالَ يواصِلُ إصدار الكتُب. اليومَ، ونحنُ على مقربةٍ من الذكرى الأربعين للحَدَثِ نفسِه، لا يبدو أنّ ذخيرةَ الرجلِ من الكتبِ غيرِ المنشورةِ قد نفِدَت. وإذا كان الوقوعُ على نصوصٍ مجهولةٍ بين أوراقِ المؤلّفينَ المتوفّينَ أمراً مألوفاً فإنّ حالةَ فوكو تبقى استثنائيّةً لهذه الجهة. فالرَجُلُ الذي غابَ، في حزيران 1984، عن سَبْعٍ وخمسينَ سنةً، لا غيرَ، لم يكن مقلّاً في التأليفِ والنشرِ، في حياتِه، ولم يكن مكثاراً أيضاً: وإنّما يصحُّ اعتبارُه معتدِلاً عندَ الاعتدادِ، على الخصوصِ، بالسعةِ غيرِ المعتادةِ لقاعدةِ الوثائقِ والمعارفِ التي يُرسي عليها كُلّاً من مؤلّفاتِهِ الكبرى وبالنسيجِ البالغِ الإحكامِ لنثرِهِ ذي الأسلوبِ الشديدِ التَمَيُّز.

مع ذلكَ باتَ عدَدُ الكتُب التي صدَرَت لفوكو بعدَ وفاتِهِ، حتّى اليومِ، يفوقُ كثيراً ما كانَ أصدرَهُ في حياتِه. وهو ما يُحِلُّنا منه – على التقريبِ – محلَّ أبي العَتاهيةِ من فقيدِهِ إذ يُخاطبُهُ قائلاً:
وكانت في حياتِكَ لي عِظاتٌ / وأنتَ اليومَ أَوْعَظُ منكَ حَيّا!

على أنّ ما قد يثيرُه هذا التفاوتُ من استغرابٍ يضؤلُ كثيراً حين ننظرُ إلى الفئاتِ التي تتوزّعُ بينها هذه المؤلّفاتُ، مع العِلمِ أنّ ظهورَها ما يزالُ يتوالى. تتَمَثَّلُ الفئةُ الأولى في المقالاتِ والأحاديثِ والتعليقاتِ وما جرى هذا المجرى وقد جُمِعَت، بلا تبويبٍ سوى نرقيمِها المُسايِرِ لتتابُعِها الزَمَنيّ، وصدَرَت، سنةَ 1994، في أربعةِ مجلّداتٍ ضخمة تحتوي على 364 نصّاً موسوعيّةِ التفرُّعِ والتنوّع…

الفئةُ الثانيةُ هي دروسُ فوكو في الكولّيج دو فرانس، وقد اكتمَلَ صدورُها في ثلاثةَ عشرَ مجلّداً وهو عدَدُ السنواتِ التي قضاها الرجلُ أستاذاً في المؤسّسة، ابتداءً من سنةِ 1970. الفئةُ الثالثةُ تضمُّ دروساً أقلَّ شهرةً كانت نصوصُها محفوظةً في أوراقِ فوكو، وهي ما كان قد احتفَظَ بِهِ من تلكَ التي ألقاها في مؤسّساتٍ دَرَّسَ فيها قبلَ دخولِه الكولّيج دو فرانس. صدَرَ من هذه الفئةِ الأخيرةِ إلى الآنِ أربعةُ مجلّداتٍ وما نزالُ موعودينَ – على الظاهرِ! – بِما لا يقِلُّ عن ثلاثة. والثلاثةُ الموعودةُ هذه مثيرةٌ لفضولٍ استثنائيٍّ إذ هي تضمُّ أوّلاً الدروسَ التي كرّسها فوكو، في جامعةِ تونس، بين عامَي 1966 و1968، لموقعِ “الإنسان” في الفكرِ الغربيِّ الحديثِ وتَضُمُّ ثانياً الدروسَ التي كرّسَها لنيتشه، بعدَ ذلك، في جامعةِ فانسين. ومعلومٌ أنّ “الإنسانَ” و”موتَهُ” أصبحا، مع صدورِ “الكلماتِ والأشياءِ”، سنةَ 1966، أشدَّ المسائلِ جداليّةً في فكرِ هذا المؤلّفِ. ومعلومٌ أيضاً أنّ نيتشه يحتلُّ مكانَ صَدارةٍ غيرَ منازَعٍ في الخريطةِ الفوكلدِيّةِ للفكرِ الفلسفيِّ الغربيّ، من جهةٍ، وفي التكوينِ أو “النَسَبِ” الفلسَفِيِّ لفوكو نفسِهِ، من الجهةِ الأخرى…

وأمّا “دروسُ” الكولّيج دو فرانس فيُسايِرُ معظمُ موضوعاتِها ما أصدَرَهُ الأستاذُ من كتُبٍ، في المرحلةِ نفسِها أو في عشاياها أيضاً: السجنُ وأنظمةُ المراقبةِ والمعاقبةِ، تاريخ الجنس، اللاسَواءُ والطبُّ النفسيّ، إلخ. وهذه مسايَرةٌ معهودةٌ عندَ الأساتذةِ في الكولّيجِ الذينِ تتَمَثَّلُ مهمّتُهُم أصلاً في نوعٍ من “البَحثِ بصوتٍ عالٍ” يؤولُ إلى تأليفٍ ونشر. ولكنّ “دروسَ” فوكو تتجاوزُ هذا النطاقَ أيضاً إلى مسألةِ “الذاتِ” و”تأويلِها” ومسألةِ المعرفةِ والسلطةِ، وهذه أصبحَ ذِكْرُها، مذ ذاكَ، مُلازِماً لذِكْرِ فوكو، ثمّ إلى مسائلِ “الحُكْمِ” أو “الحكمانيّة” وسياسةِ الذاتِ والغيرِ، إلخ.

عن هذه الفئاتِ ينفرِدُ كتابان: صدَرَ أوّلُهما سنةَ 2018 وعنوانُهُ “بَوْحُ الجَسَد”، وهو الجزءُ الرابعُ من “تاريخِ الجنس” الذي تغيّرَ تصميمُه كثيراً في الأعوام التي انقضت بينَ صدورِ الأوّلِ من أجزائهِ والفراغِ من تأليف الأخير. وكانَ وجودُ هذا الجزءِ الرابعِ معلوماً وكانَ معلوماً أنّ فوكو اشتغَلَ بتصحيحِ مخطوطِهِ في الأسابيعِ التي سبقت دخولَه المستشفى آخرَ مرّةٍ ووفاتَه. هذه حالٌ مختلفةٌ عن حالِ الكتابِ الآخر، وعنوانُه “الخطابُ الفلسفيُّ” وقد صدَرَ في شهرِ أيّار من السنةِ الجاريةِ، أي قبلَ أسابيعَ لا أكثر. فقد كانَ يُظَنُّ أنّ مخطوطَهُ ليسَ سوى مادّةٍ تحضيريّةٍ للدروسِ التي كان فوكو يعِدُّ نفسَهُ، سنةَ 1966، لإلقائها في جامعةِ تونس، عشيّةَ سفَرِهِ إليها. ولكن تبيّنَ من فحصِ المخطوطِ عن كثبٍ أنّهُ كتابٌ مستتِمُّ الأوصافِ ألّفهُ فوكو في منزلِ العائلةِ الريفيّ، في فاندوفر دو بواتو، في غربِ فرنسا، منتَهِياً بالمخطوطِ إلى الحالةِ التي بَقِيَ عليها في مدّةِ شهرٍ ونصفِ شهرٍ تقريباً، ومُرْجِئاً نشرهُ أو عازِفاً عن نشرهِ لسببٍ أو أسبابٍ لم تصلْ إلى عِلْمِ أحد.

عليهِ صدَرَ الكتابُ المشارُ إليه مؤخّراً في السلسلةِ نفسِها التي تضمُّ الدروسَ السابقةَ لدخول مؤلّفِهِ الكولّيج دو فرانس. وعلى غرار معْظَمِ ما صدَرَ من أعمالٍ لفوكو بعدَ وفاتِه، تتصدَّرُ الكتابَ إشارةٌ إلى مسؤوؤليّة فرانسوا إيفالد عن نشره، ويُذْكَرُ معهُ، شريكاً في هذه “المسؤوليّةِ”، في حالةٍ واحدةٍ على الأقَلِّ، دانييل دوفير. وكان إيفالد مساعداً لفوكو في الأعوامِ الأخيرةِ من حياتِهِ وكان دوفير رفيقَ حياةِ فوكو ابتداءً من سنةِ 1963، وقد آلت إليهِ تركتُهُ بما فيها أوراقُهُ التي اشتَرَتْها منهُ المكتبةُ الوطنيّةُ الفرنسيّة لاحقاً.

ويُذْكَرُ، في هذا المَساقِ، أنّ فوكو تركَ وصيّةً لا تَتجاوزُ السطْرَ الواحدَ طلَبَ فيها ألّا تُنْشَرَ لَهُ، بَعْدَ وفاتِهِ، أعمالٌ لم يَكُنْ نشَرَها في حياتِه. هذا، على الأرجَحِ، ما يُفَسِّرُ الإشارةَ، في حالةٍ أولى، إلى “مسؤوليّةِ” دوفير (الذي تُوَفّيَ في شباط الماضي أي عَشيّةَ صُدورِ الكتابِ الأخيرِ الذي يستوقِفُنا هنا)، وهو صاحبُ قرارِ النشرِ، و”مسؤوليّةِ” إيفالد، في الحالاتِ كلِّها، عن إصدارِ ما صَدَرَ من أعْمالٍ لفوكو بَعْدَ رحيلِه. فالواقِعُ أنّهُما توَلّيا معاً جمعَ موادِّ المُجَلَّداتِ الأربعةِ التي صدَرَت، قَبْلَ الكتُبِ الأخرى، تحتَ عنوانِ منطوقاتٌ ومكتوباتٌ، ولا يُعَدُّ إصدارُها مخالفةً للوصيّةِ إذ كانت موادُّها (أو الكثرةُ الكاثرةُ منها، في الأقَلِّ!) قد نُشِرَت، مِن قَبْلُ، متفرّقةً بينَ مواضِعَ كثيرةٍ. فاقْتُصِرَت مبادرةُ الرجُلَينِ على إصدارِها مجتمعةً مع التوابِعِ المفروضةِ وبينها سيرةٌ ثمينةٌ (وضَعَها دوفير) لنشاطِ فوكو وتَقَلُّبِ أحوالهِ، منَجَّمةٌ سنةً فسنةً وشهراً فشَهْراً. وأمّا الكُتُبُ اللاحقةُ فعُهِدَ بتقديمِها وتحريرِها، أي بإعدادِها الحِسِّيِّ للنشرِ، إلى آخَرينَ عديدينَ تكوّنت منهم “هيئةٌ ناشرة”. بينَ أعضاءِ هذه الهيئةِ، يستوقِفُ اسمُ فريديريك غْرو الذي أشرفَ، بَعْدَ تولّيهِ تحريرَ بعضٍ من الكُتُبِ المُشارِ إليها، على إصدارِ مجلّدينِ ضَخْمينِ من مُجَلَّداتِ “مكتبةِ لا بلياد” ضَمَّنَهُما ما اعتُبِرَ الأهَمَّ من أعْمالِ فوكو. ولكن بقيَ دوفير وإيفالد متابعَيْنِ لمهمّةِ النشرِ الجاري برمَّتِها مُتَحَمِّلَينِ وحدَهما “المسؤوليّةَ” عن خَرْقِ وصيّةِ المؤلّف.

على هذا تولّى كلٌّ من أورازيو إيرّيرا ودانييل لورنزيني مهامّ التحريرِ والتقديمِ في الحالةِ الأخيرة، وهي حالةُ كتابِ الخِطابِ الفلسفيِّ الذي نُكَرِّسُ له عُجالَتَنا المقبِلة…