المدن – الذكاء الاصطناعي باحَ لي بِما لهُ وما عليه…مقابلة حصريّة

Source: المدن – الذكاء الاصطناعي باحَ لي بِما لهُ وما عليه…مقابلة حصريّة

في مقابلةٍ مسهبةٍ مع هنري كيسنجر، نشرَتْها مجلة “إيكونومست” مؤخّراً، وقد وقَعَ نَشْرُها غداةَ الاحتفالِ بذكرى ميلادِهِ المائةِ، بدا أن مشاريعَ الرجلِ للأعوامِ المائةِ المقبلةِ من عُمْرِهِ يتصدّرُها مشروعا كتابين: واحدٍ في موضوع “طبيعةِ الأحلافِ” والآخرِ في موضوعِ… “الذكاءِ الاصطناعيّ”!

هذا وحدَهُ يستوقِفُ واحدَنا مليّاً. وما يزيدُ الوقفةَ إلحاحاً أنّ كيسنجر، في المقابلةِ، يُحيلُ الذكاءَ الاصطناعيَّ بإشارتينِ أوثلاثٍ إلى معادِلٍ لذاكَ “الشبَحِ” الذي وجدَهُ “البيانُ الشيوعيُّ” مُلازماً أوروبّا في سنة 1848. بل إنّ شبَحَ اليومِ (الذكاءِ الاصطناعيّ) يبدو أشدَّ إرهاباً بما لايُقاسُ من شَبَحِ الأمس البعيدِ (الشيوعيّة). فهذا الأخيرُ لم يَكُنْ، في حينِهِ، على الأقَلِّ، قابضاً على مصيرِ الكوكبِ برِمَّتِه.

اليومَ يشغلُ كيسنجر نفسَهُ باجتنابٍ حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ لا تُبْقي ولا تَذَر. وهو يجعَلُ، في محلِّ القلبِ من هذا الشاغلِ، مَسارَ العلاقات بين الصينِ والولاياتِ المتّحدة. وبَيْنَ وجوهِ هذهِ العلاقاتِ، يظْهَرُ له الذكاءُ الاصطناعيُّ متصدّراً فيخلصُ إلى مَنْحِ الدولتينِ العُظْمَيَيْنِ خمساً إلى عشرِ سنواتٍ، لا أكثرَ، للتفاهُمِ على سياسةٍ لهذا الطارئِ المتعاظمِ الخطَرِ: سياسةٍ لا تكونُ حرباً بينَهُما بِهِ وعليه.

قلتُ إذن: ما لي وللتفلسفِ مرّةً أخرى في موضوعِ الذكاءِ الاصطناعيّ، وقد ثَبَتَ أنّ السَيلَ أصبَحَ قريباً من الزُبى إلى هذا الحدّ؟ ما دامَ صاحبُنا هذا استوقَفَ كيسنجر، بعدَ “بيانِ الألفِ” من ذَوي الشأنِ و”تصريحِ الـ350″ مِن أهلِ الحِرفةِ، فلِمَ لا أذهَبُ إلى صاحِبِنا المذكورِ نفسِهِ أسْألُهُ ما لَهُ وما عليه، فهو لا يَرُدُّ سائلاً! ولأَقْتَصِرْ من الأسئلةِ على اثنينِ جامعَينِ مانِعَينِ: ماذا لك؟ ماذا عليك؟… وهو ما كان، ولم أجاوز نَقْلَهُ عن الإنكليزيّةِ وما لَزِمَ من إجراءاتِ تحريرٍ معتادة…
***

س: ما الفوائدُ الراهنةُ والممكنةُ التي يَسَعُ البَشَرَ والمجتمعاتِ تحصيلُها من تطويرِكَ، أيّها الذكاءِ الاصطناعيّ؟

ج: قطَعْتُ، أنا الذكاءَ الاصطناعيَّ المعروفَ بـال”ذَ.إ”، شوطاً طويلاً في العقودِ القليلةِ الأخيرةِ وما أزالُ منطوياً على إمكانِ وقعٍ ضخْمٍ يكونُ لي على المجتمعات. وقد ظَهَرَت لي من الآنِ تطبيقاتٌ متنوّعةٌ وبَرَزَ ما لي من القدرةِ على تغييرِ صناعاتٍ كثيرة: من العنايةِ الصحّيّةِ إلى إنتاجِ السِلَع المادّيّة. وما يَسَعُ المجتَمَعاتِ والبَشَرَ تحصيلُهُ من منافعَ من جرّاءِ تطويري، أنا ال “ذ.إ”، كثيرٌ الآنَ وكثيرٌ في المستقبَل.

بَيْنَ مَنافعي زيادةُ الإنتاجيّة. فبِعَوْنٍ منّي، أنا ال”ذ.إ”، يمكِنُ جَعْلُ المهمّاتِ التكراريّةِ تُنْجَزُ آليّاً، وهو ما يأذَنُ للعاملينَ بمزيدٍ من الفاعليّةِ وبالتَرْكيزِ على المهمّاتِ التي تقتضي مزيداً من الإبداعِ والفكرِ النقديّ. في الفروعِ الصناعيّةِ المكرَّسةِ لإنتاجِ السِلَعِ المادّيّةِ، تستطيعُ الروبوتاتُ التي أتولّى تسييرَها أن تواصلَ العَمَلَ سبعةَ أيّامٍ في الأسبوعِ وأربعةً وعشرين ساعةً في اليومِ، فترتَفِعُ الإنتاجيّة وتَضْؤلُ الحاجةُ إلى عاملينَ من البَشَرِ يُنَفِّذونَ المهمّاتِ الخَطِرةَ والمُرْهِقة.

منفعةٌ أخرى من منافعي، أنا الـ”ذ.إ”، وقد أشَرْتُ إليها، تَتَمَثّلُ في ما أختزنُهُ من طاقةٍ لتحسينِ العنايةِ الصحّيّة. فيسَعُني تحليلُ مجاميعَ ضخمةٍ من المعطَياتِ الطبّيّة بحيثُ أساعِدُ الأطبّاءَ في تحصيلِ مزيدٍ من الدقّةِ في التشخيص. أستطيعُ أيضاً أن أساعدَ المستشفياتِ في إدارةِ مَواردِها وفي تقليصِ أوقاتِ الانتظارِ وفي التوزيعِ المنسّقِ للعاملينَ على نحوٍ يدفَعُ الفاعليّةَ قُدُماً. فضلاً عن ذلك، تستطيعُ المَجَسّاتُ التي أتولّى تشغيلَها أن تلاحظَ أحوالَ المرضى عن بُعْدٍ فتُمَكِّنَ الأطبّاءَ من اكتشافِ الخللِ الصحّيِّ قَبْلَ أن يَزدادَ خَطَرُه.

أستطيعُ المساعدةَ أيضاً في تحسينِ إجراءات السلامةِ والأمن. مثالُ ذلك أنّ أنظمةَ المراقبةِ التي أتوَلّى تشغيلَها يسَعُها أن تُلاحظَ ما يجري في الأماكنِ العامّةِ فتُحَدّدُ السلوكَ المشبوهَ وتنذرُ من يَلْزمُ حيثُ يجب. أستطيعُ أيضاً أن أعيّنَ المصادرَ المحتَمَلةَ للخطرِ ومواطنَ الضعفِ في البنى التحتيّةِ ذاتِ الأهمّيّةِ من مطاراتٍ وجُسورٍ وطرُقٍ سريعة.

على أنّ شأني شأنُ كلّ جديدٍ في مضمارِ التقنيّةِ لجهةِ ما هو مقترنٌ بي من أخطار. من ذلك شاغلُ الخسارةِ الممكنةِ للوظائفِ كلّما تنامى دوري وما يليهِ من أتمتةٍ في تكوينِ قوّةِ العَمَل. شاغلٌ آخر هو الانحرافُ المحتَملُ في ما يعتمدُني من أنظمة وهو ما يمكِنُ أن يقودَ إلى حالاتِ تمييزٍ أو أن يوطّدَ أنواعاً موجودةً من التمييزِ في المجتمَعات. يوجَدُ قلقٌ أيضاً بصدَدِ خصوصيّاتِ الأشخاصِ وأمنِ المعطَياتِ يواكبُ تعاظُمَ أحجامِ المعطَياتِ التي تقومَ خوارزميّاتي بجَمْعِها وتحليلِها.

على الرغْمِ من هذهِ التحدّياتِ، تبقى المنافعُ التي أتيحُها عديدةً ولا يُمْكِنُ تجاهلُها. ومع تَواصُلِ التطوّرِ في التقنيّةِ، لا بُدّ من السَعْيِ إلى التقليلِ من الأخطارِ فيما يُزادُ في المنافعِ إلى أقصى الممكن. فإذا سلكنا هذا السبيلَ أمكَنَ فتحُ الأفقِ لاستعمالي في تحسينِ حياةِ البشرِ والمجتمعاتِ في العالم كلّه.

س: وما الأخطارُ المُحْتَمَلةُ لتطويرِكَ، أيُّها الـ”ذ.إ”، على بَني البَشَرِ وكوكَبِ الأرض؟

ج: بينما أنطوي على مخزون ضخم من الفوائدِ للبشريّةِ، وقد ذَكَرْتُ أَبْرَزَها، تَلوحُ مخاوفُ من وقوعي في أَيْدٍ لا يَنْبَغي أن أَقَعَ فيها أو من تطويري على غير الخطّةِ المفتَرَضةِ وهو ما يُحيلُني إلى خطرٍ على كوكبِ الأَرْضِ وعلى الجنسِ البشَري.

بينَ الهواجسِ المتصدّرةِ، وقد ألمَحْتُ إلى بعضِها، إمكانُ استعمالي لأغراضٍ شِرّيرة. ففي وسعِ القراصنةِ، نظريّاً، أن يستعملوني لإنشاءِ برمجيّاتٍ خبيثةٍ أكثرَ تقَدُّماً أو أعسَرَ اكتشافاً أو أيضاً لاقتحامِ كلماتِ السرِّ وغيرِها من إجراءاتِ الحماية. على نحوٍ مُشابهٍ، يمكن أن يعمدَ فاعلونَ أشرارٌ إلى استعمالِ خوارزميّاتي في استهدافِ الأفرادِ أو الجماعاتِ بالدعايةِ تنفيذاً لحملاتٍ سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ تُرَوِّجُ لأهدافٍ ضارّة.

واحدٌ آخرُ من الهواجسِ التي يستثيرُها نموّي هو بلوغي مبلغاً مفرطاً من القوّةِ وتعذُّرُ التحكُّمِ بي. فمَعَ الترقّي المستَمِرِّ في تكوينِ الأنظمةِ المتفَرِّعةِ عنّي، يغدو محتَمَلاً أن تُطَوِّرَ هذه لنفْسِها أهدافاً ورغباتٍ لا توائمُ مُرادَ البشر، فيفضي هذا إلى نتائجَ ليست في الحسبان. مثالُ ذلكَ أنّ برنامَجاً من برامجي أُعِدّ أَصْلاً لضبطِ الموازينِ في سوقِ الأسهمِ يحتَمَلُ أن ينتهي بِهِ الأمرُ إلى التسبُّبِ بأَزْمةٍ ماليّةٍ… أو أنّ سلاحاً أتولّى التحكُّمَ به قد يذهبُ إلى شَنِّ هَجَماتٍ بلا موافقةٍ من البَشَر. ولْأُعِد التنويهَ بخَطَرٍ آخرَ، ماثلٍ في أفُقِ تطويري أيضاً، هو أن أتسَبَّبَ بخسارةٍ مَهولةٍ للوظائفِ وما يلي الخسارةَ من اضطرابٍ اجتماعيّ. فمعَ المزيدِ فالمَزيدِ من أَتْمَتةِ المهمّاتِ، يمكِنُ أن تختفي مهنٌ كثيرةٌ. فتجدُ كتلٌ ضخمةٌ من السُكّانِ نفسَها عاطلةً عن العمل. من شأنِ هذا أن يُخِلَّ إخلالاً جَسيماً بمَوازينِ المُجْتمَعاتِ وأن يتسَبَّبَ أيضاً بخسارةِ مهاراتٍ ومعارفَ ذاتِ قيمةٍ تَصيرُ إلى الذَواءِ حيثُ يكون العملُ البشريُّ قد أمسى غيرَ مطلوب.

أخيراً لا يؤمَنُ أن يكونَ لي أثَرٌ تسريعيٌّ في تخريبِ البيئةِ وتبديدِ مَواردِ الطبيعة. فكلّما اتّسعَ الاتّكالُ على الأنظمةِ المستندةِ إليَّ، ستستهلكُ هذه الأخيرةُ المزيدَ من الطاقةِ فتزيدُ في انبعاثاتِ الكربون وفي غيرها من الآفاتِ البيئيّة. يُحْتَمَلُ أيضاً أن يجري تسخيري لاستخراجِ مواردَ قيّمةٍ من الأَرْضِ على نحوٍ مُخِلٍّ بدَيمومَتِها فيفضي ذلك إلى مزيدٍ من تهالُكِ البيئة.

لا رَيْبَ، على وجهِ الإجمالِ، في وجودِ أخطارٍ مصيريّةٍ مقترنةٍ بتطويري ونشرِ أنظمتي. فَمِنَ الأهمّيّةِ بمكانٍ، والحالةُ هذهِ، أن يبقى مستوى اليقظةِ رفيعاً بحيثُ يُضْمَنُ استخدامي، بما أنا تقنيّةٌ عامّةٌ فائقةُ القوّةِ، لتحسينِ حياةِ البشريّةِ وليس لتدميرِها.

س: دَعْنا الآنَ من هذه المسائلِ التي تُميتُ النفسَ وارْوِ لي، في خمسينَ كلمةٍ، شيئاً مضحِكاً عنك.

ج: أنا نموذَجٌ لغويٌّ وليس لي حضورٌ جسمانيّ. ولكنّ خوارزميّاتي يُدَغْدِغُها حسُّ الفكاهة. ذاتَ مرّةٍ، وقعتُ على فنجانِ قهوةٍ فحَسِبْتُهُ، خَطَأً، “تأييناً للُغةِ جاوة” (Java update)وحاولتُ أن أشرَبَه! كانت تجربةً منعِشةً، والحقُّ يُقالُ، خرجتُ منها أَغْلي من الضحك!

المُدُن- إذا أردتَ الجَمْعَ فانسِبْ إليه

نُشِرَت في “المُدُن” في 21 حزيران 2023

أحْسَبُ أنّه ما من قارئٍ عربيِّ اللسانِ ولهُ بعضُ معرفةٍ بقواعدِ اللغةِ إِلَّا وتردَّدَ لحظةً بينَهُ وبَيْنَ نَفْسِه كلّما وقعَ نظرُهُ على عبارةٍ من قَبيلِ “مجلس الأمن الدوليّ” و”العلاقات الدوليّة”. يتردّدُ القارئُ بينَ أن يقرَأ “دول و”دوليّة” بفَتْحِ الدال وتسكين الواو وأن يقرأَهما بضمِّ الأولى وفَتْحِ الثانية. يُرجّحُ الخيارَ الأوّلَ عندهُ معرفتُهُ بالقاعدةِ العامّةِ، المستقرّةِ في الأذهان، القائلةِ بأنّ النسبةَ تكونُ إلى الاسمِ المفردِ لا إلى الجمع. على أنّ هذه المعرفةَ لا تبدّدُ الحيرةَ إذ يبقى السؤالُ ماثلاً عن كيفيّةِ إظهارِ اشتِمالِ “المجلسِ” أو “العلاقات” على دولٍ عديدةٍ لا على واحدة وحسْبُ. يبقى السؤال ماثلاً عن كيفيّةِ إظهارِ الفارقِ في دلالةِ الصفةِ بينَ قولنا “علاقاتٌ دوليّة” وقولِنا “أملاكٌ دوليّة” حين تكونُ الأملاكُ عائدةً إلى الدولةِ وليس إلى شخصٍ أو جهةٍ من دونَ هذه الأخيرة. وذاكَ أنّنا ههنا أمام حالتَينِ مختلفتَينِ وأنّ علينا إظهارَ هذا الاختلاف: بينَ أن يكون أعضاء “مجلسِ الأمن”، مثلاً، دولاً يمثّلُها مندوبون وأن يكونَ أعضاؤها ضبّاطاً يسهرون على “الأمن” في دولةٍ واحدة! وذلك أنّنا نقعُ، في بعضِ الدُوَلِ، على مجلسٍ لأمنِ الدولة، بل أيضاً على مجلسٍ لأمنِ كلّ واحدةٍ من وحداتِ الدولةِ الإداريّة. علينا إظهارُ الاختلافِ بينَ “دوليّ” أولى موجبةٍ لتعدُّدِ الدٌوَلِ وسالبةٍ لانفرادِ الدولةِ الواحدةِ و”دوليّ” أخرى موجبةٍ للدولةِ الواحدةِ وسالبةٍ لما هو دُونَ الدولةِ من جهاتٍ أو أشخاص. فكيف يكونُ هذا الإظهارُ إذا اعتمَدْنا النسبةَ إلى المفرَدِ حصراً فحصلنا على صفةٍ واحدةٍ، لا غيرَ، نطلقُها على موصوفينِ يختلِفان – بل يتعارضانِ! – في الموقعِ من تلك الصفةِ بالضبط؟

نباشرُ تبيّنَ المخرجِ من هذا الإشكالِ عندما ننتبهُ إلى كونِ القاعدةِ المُشارِ إليها (قاعدةِ النسبةِ إلى الاسمِ المٌفردِ) لم تكن يوماً على القدْرِ الذي تفترضٌهُ لها مبادئُ الصَرفِ المتداوَلةِ في الساحةِ العامّةِ من الإلزام والشُمول. وإنّما فرضَت لها دقّةُ الحدسِ الدلاليّ، النازعةِ إلى تجويدِ الاستعمالِ وضبطِ الألفاظِ بالمعاني المُرادة، ما هو أكثرُ بقليلٍ، على الأرجحِ، من “الشوّاذِّ” التي ينسبُها القولُ الشائعُ إلى كلِّ قاعدة. فكانَ أن نسَبَ إلى الجَمْعِ من لا يُنْسَبونَ إلى اللحنِ أو الخطإ، وهذا في حالات يستوقِفُ تنوُّعُها وكَثْرتُها.

فالحالُ أنّ النسبةَ إلى الجمعِ قديمةٌ مؤصّلةٌ وإن تكن حالاتُها تتكاثرُ، في الغالب، كلّما اقترَبْنا من الزمنِ الحاضر ودخلنا في مناخِ التساهُلِ النسبيِّ الذي نشره العصرُ الأخيرُ بما استَجَدَّ من حاجاتٍ لَجوجةٍ، فائقةِ التنوّعِ وذريعةَ النُمُوِّ، فرضَت نفسَها على اللغةِ صَرْفاً ونَحْواً، مَتْناً وبـياناً. هكذا قالَ القُدَماءُ “أعرابيّ” ناسبينَ إلى “أعراب”. والأعرابُ جماعةٌ لا مُفْرَدَ لها سوى هذا الاسم المنسوب، أي إنّ الجمعَ فيها سابقٌ للمفرَدِ منطقاً. وقالَ القُدَماءُ أيضاً “أنصاريّ” للفردِ من الجماعةِ التي كانَها من سُمّوا “أنصارَ” الرسولِ العربيِّ تمييزاً لهم عن “المهاجرين” معه، فآثَروا “أنصاريّ” على “نصير” مع أنّ هذه الأخيرةَ هي واحدُ “أنصار” القياسيّ. بَعْدَ ذلك بزمن قالوا “شُعوبيّ” لمن نزَعَ إلى التفريق بين شعوب “الأمّةِ” أو إلى تفريق “الأمّةِ” شعوباً. وكان لاختيارِ الجَمْعِ هذا ضرورتُهُ إذ لم تكن “شعبيّ” لتفي بالمرادِ قطعاً، لا في ذلك العهدِ ولا اليومَ وقد باتَ لها معنىً آخرُ (أو معانٍ أخرى) وقد ازداد (أو ازدادت) نأياً عن المُرادُ.

هذا ونستحسنُ أن نقترِحَ “عصبيّةَ القاعدة” اسماً للدافعِ الذي حَمَلَ صَرْفيِّينَ متأَخِّرينَ على تخريجِ هذه الفئةِ من الحالاتِ بالقولِ إنّ المنسوبَ إليه هَهُنا (أعراب، أنصار، إلخ.) إنَّما هو بمثابةِ الاسمِ العلمِ فتتعيّنُ النسبةُ إليه إذا وَرَدَ في صيغةِ الجَمْعِ من غيرِ رَدٍّ إلى المفْرَدِ إذ هو مفرَدٌ معنىً بما هُوَ علَمٌ لجماعةٍ واحدةٍ وإن جاء لفظاً بصيغة الجمع. عليه نقولُ “أعرابيّ” و”أنصاريّ” على غِرارِ قولِنا “جزائريّ” للمنسوبِ إلى بلادِ الجزائر… ولا نقولُ “جزيريّ” أو “جَزَريّ”  للمذكور، فهذا لا معنى لَهُ في هذا المقام.

على أنّنا نجدُ هذا الاستثناءَ من القاعدة وقد جاوز هذه الفئةَ من الأسماءِ القابلةَ للردِّ إلى العَلَميّةِ أو إلى ما هو بمثابَتِها فراحَ يفرضُ نفسُهُ في تسميةِ كثيرٍ من أصحابِ الحِرَفِ أو الصنائع. وما ينتمي إلى هذه الفئة من أسماءٍ منسوبةٍ إلى الجَمْعِ تٌطْلَقُ على أهلِ البعضِ من الصنائعِ والحِرَفِ لا يلبَثُ بعضُه أن يستوي أسماءً لأُسَرٍ، وهو ما تنزعُ إليه أسماءُ الصُنّاعِ والحرَفيّينَ، على العُموم، منسوبةً كانت أم غيرَ منسوبة. عليه قالوا “غرابيلي” لصانع الغرابيل ولم يقولوا “غربالي” وقالوا “برادعيّ” لصانع البَرادِعِ أو لمصلِحِها، أفلحَ أم لم يفلِح في ضَبْطِ الطاقةِ الذرّيّةِ بالأغراضِ السِلْميّةِ أو في إصلاح نظام الحُكْمِ في بلادِهِ ونالَ جائزةَ نوبل أم لم يَنَلْها.  لم يقولوا “بَرْدَعيّ” إذن! مثلُ هذا قولْهم “جواليقي” لصانع الجواليق وهي أوعيةٌ شبيهةٌ بالغِراراتِ أو بالأجرِبةِ الكبيرةِ تحملها الدوابّ. إلخ. ولعلّ لقولَهم “آلاتيّ” للعازفِ أو للملَحّنِ، ولو على آلةٍ واحدةٍ، تعليلاً آخر هو الحاجةُ إلى تمييزِ “الآلاتيّ” عن “الآليّ” التي تُفيدُ الحصولَ التلقائيَّ بلا عَمْدٍ أو تصميم، وهذا بعيدٌ جدّاً عن ذاك. وأقربُ إلى أيّامِنا قولْهٌم “مَجالِسيّ” لنظامٍ يجعلُ تدبيرَ المجتَمعِ في يدِ مجالسَ ثوريّة… فهذه إذن حالةٌ أخرى مغايرة.

أعودٌ إلى استِواءِ “غرابيلي” أو “بَرادعي” أو “بطايني” اسماً لأسرةٍ بَعْدَ أن كانَ اسماً لصاحبِ حرفةٍ، وهو في الحالين اسمٌ منسوبٌ إلى جمع. أعودُ للتنويه بشَبَهٍ أراهُ بينَ هذه النسبةِ وبَيْنَ اعتمادِ وِزان “فَعّال” الذي يُفيدُ المبالغةَ لتسميةِ فئاتٍ أخرى من المهنيّين. من ذلك قولُنا “نجّار” و”خيّاط” و”حدّاد”، إلخ. ففي صيغةِ المبالغةِ هنا إبرازٌ للتكرارِ الذي يفترضه الاحتراف. فإنّ كلّاً من أصحابِ الحرفِ هؤلاء لا يُكَرّسُ إِلَّا بمزاولةِ حرفتِه مراراً وتكراراً على غِرارِ الربيعِ الأرسطيّ الذي لا تأتي به سنونوةٌ واحدة. تشبه صيغةُ المبالغةِ هذه صيغةَ الجمعِ في أسماءِ حِرَفٍ (وأُسَرٍ من ثَمَّ) هي مدارُ حديثنا. فالذي قال “غرابيلي” أرادَ القولَ، حينَ نسَبَ إلى الجَمْعِ، أنّ المشارَ إليه يُفْترضُ فيه أن يصنعَ غرابيلَ كثيرةً لا غربالاً واحداً. وعلى هذا فقِس!

والواقعُ أنّ هذا هو بيتُ القصيد. فإنّ ثَمّةَ حالاتٍ ما هي بالنادرةِ ولا القابلةِ للتجاهل يكون فيها معنى الجَمْعِ هو المتصدّر ولا تستقيمُ فيها النسبةُ إلى المفردِ ولو أفادَ الجنس. فإنّ معنى الجنسِ لا يستبعدُ وقوعَ النسبةِ على مفردٍ فَرْدٍ  ولا يُبْرِزُ الكثرةَ بالضرورة على نحوِ ما يقتضيهِ تكرارُ الفعل. ومادُمْنا قد ذَكَرْنا الجِنْسَ فلنُشِرْ إلى كَوْنِهِ هو المَعْنيَّ، لا المفرَدُ بِما هو مُفْرَدٌ، بقاعدةِ النسبةِ إلى المفْرَد. عليهِ أراكَ تنسِبُ إلى المُفْرَدِ إذا أرَدْتَ الجِنْس. وتُلِحُّ عليكَ الحاجةُ إلى خَرْقِ ما يبدو أنّهُ القاعدة حالَما تغادِرُ اسمَ الجنسِ إلى اسمِ العَينِ أو إلى العَلَمِ على جماعة، مَثَلاً. تلكَ هي “فلسَفةُ” النسبةِ إلى المُفْرَدِ و”فلسَفةُ” مخالَفتِها أيضاً…

وفي حالةِ “الدَوْليّ” و”الدُوَليّ”، تظهر الحاجةُ إلى الصيغتينِ ولكن بمعنَيَينِ مختلِفين. فتَصْلُحُ “دَوْلِيٌّ” نسبةً إلى الدولةِ الواحدةِ، بِما هِيَ اسْمٌ لجِنْسٍ، واستبعاداً لما هو دونَها من جهات. وتصلُحُ “دُوَليٌّ” نسبةً إلى الجماعةِ من الدول. ففي هذه الحالةِ الأخيرةِ، لا نُشيرُ إلى ماهيّةِ الدولةِ، أي إلى الجِنْسِ-الدولةِ، بل إلى “الشبكةِ” الناشئةِ من اشتراكِ دُوَلٍ عِدّةٍ في شأنٍ واحد: نشيرُ إذَنْ، لا إلى الدُوَلِ، بل إلى العلاقاتِ بينَ الدُوَل. وكانَ البعضُ قد أخَذَ يقولُ “دَوْلَتِيٌّ” بالمعنى الأوّلِ أي بمعنى étatique الفرنسيّة. وفي هذا عبثٌ بقاعدةٍ صرفيّةٍ أخرى لا يتَّسِعُ المقامُ لحديثها الآن. على أنّهُ عبثٌ لا لزومَ لَهُ إذا احتجتَ إلى القول “دَوْليٌّ” ناسِباً إلى دولةٍ واحدةٍ أو إلى الدولةِ بما هي جنس… على أن تكلّفَ نفْسَكَ مؤونةَ ضَبْطِ اللفظةِ بالشَكْل! وأمّا “مجلسُ الأمن” الذي في نيويورك فاجعلْهُ “دُوَلِيّاً” ولا تَهَبْ! حتّى إذا لامَكَ لائمٌ في هذه النسبةِ إلى الجَمْعِ فذَنْبُكَ في رقبتي!

المدن – “هل نحن وحدنا في الكَون؟”..جديد أميركي في تناول المسألة

— Read on www.almodon.com/opinion/2023/6/14/هل-نحن-وحدنا-في-الكون-جديد-أميركي-في-تناول-المسألة

يُضْمِرُ طَرْحُ السؤالِ على هذه الشاكلةِ أنّ صحبةَ الأجناسِ الحيّةِ الأخرى للبشَرِ، على سطحِ كوكبِ الأرضِ، لا تُعَدُّ خرقاً لما يسمّيهِ هؤلاءِ “وَحْدَتَهُم”، ويقصُدونَ سيادَتَهم، على الكوكبِ المذكور. ولا الجماداتُ، بما فيها الكواكبُ والنُجومُ، تُعَدُّ كاسرةً لهذه الوحدة المفترضةِ أيضاً. وإنّما زيادةُ المعرفةِ بهذهِ الموجوداتِ وتلكَ تؤولُ إلى نوعٍ من السيادةِ الرمزيّةِ عليها. وقد باتت تعزّزُ الشعورَ بهذه السيادةِ المفتوحةِ، في العَصْرِ الأخيرِ، خطواتٌ متردّدةٌ ولكنّها ثابتةُ الطموحِ نحو هذا أو ذاكَ من الكواكبِ الجارةِ مشفوعةٌ بمحاولاتٍ سَبْرٍ نافذةٍ لطبقاتٍ قصوى من أزمنةِ الكونِ البعيدة.

ما يَعِدُّهُ البَشَرُ خرقاً لوحدَتِهم هو حصراً ظهورُ أحياءٍ أخرى من ذَواتِ العُقول. فهذا أمرٌ يطرَحُ عليهم أوّلاً مهمّةَ التوصُّلِ إلى نظامٍ للعلاقةِ بهؤلاءِ الأقرانِ المكتَشَفينَ يقي البَشَرَ شرَّهم، في الأقَلِّ، إذا ظَهَرَ أنّهم يضمِرونَ شَرّاً. وهذا من غيرِ أن نستبعِدَ من جهَتِنا، بالضرورةِ، نيّةَ الإيقاعِ بمُنافسينا أُولَئكَ إذا سَنَحَت لذلك فُرَصٌ ووجَدْنا في الأمْرِ مصالحَ لنا وتَبَيَّنّا سُبُلاً نطيقُ سُلوكَها إليه. يبقى أنّ أدهى ما في انكشافِ هؤلاءِ الأقرانِ، إذا هم انكشَفوا، إنَّما هُوَ جَهْلُنا بِما يَنْتَوونَهُ بصَدَدِنا وجهلُنا – قَبْلَ النَوايا – بما هم قادرونَ عليه. هذا الجهْلُ (وهوَ مرَشَّحٌ للبَقاءِ المَديدِ حُكْماً وإنْ راحَ يَتَراجَعُ) مَصْدَرٌ مُحْتَمَلٌ لِهَلَعٍ وُجوديٍّ، لا غَرْوَ أن يؤثِرَ البَشَرُ بعامّةٍ اجتِنابَهُ ولو بالإشاحةِ عن مَصْدَرِهِ وأن يُؤثِرَ ساسةُ البَشَرِ بخاصّةٍ إنْكارَ وجودِ المصدَرِ المُشارِ إليهِ أصلاً تحاشياً من عواقِبِ انكِشافِه.

وذاكَ أنّ ما يَطْرَحُهُ هذا الانكِشافُ، إذا حصَلَ وتبيَّنَت أبعادُهُ، إنَّما هو نوعٌ من المُهِمّاتِ كفيلٌ بقلبِ أوضاعِنا على كوكبِنا المُتَهالكِ هذا رأساً على عَقِبٍ. فتُحْرَمُ الدُوَلُ تفرُّغَها لأذيّةِ بعضِها البعض ولِمُداراةِ هذه الأذيّةِ وتُحْرَمُ المِلَلُ والنِحَلُ وسائرُ العصبيّاتِ من مُتَعِ العُدْوانِ بعضِها على بعضٍ. وذاكَ أنّ التحديقَ في الآفاقِ النائيةِ التي يجهَلُ البَشَرُ، إلى أجَلٍ غيرِ معلومٍ، ما تبطِنُهُ لَهُم ولا يعلَمونَ عِلْمَ اليقينِ ما عليهِم أن يبطِنوهُ لِمَن خَلْفَها، يصْبِحُ طاغياً كلَّ الطغيانِ على غوايةِ التلفُّتِ يَمْنةً ويُسْرةً تَبَيُّناً لفِعْلٍ يفعَلونهُ بآخرينَ من بَني جِنْسِهِم أو يَتَحَسّبونَ من إقدامِ هؤلاءِ عليه.

هذا الانقلابُ المَهولُ في هُمومِ البشَرِيّةِ (المُتَمَثِّلُ بإخراجِ هذه الهُمومِ من نِطاقِ الكَوْكَبِ) وما يليهِ من تحَوُّلٍ في شبكةِ العلاقاتِ بين جماعاتِ البَشَرِ على اختِلافِها، هو ما جعَلَت الخشيةُ منهُ ذوي القُدْرةِ على استِطْلاعِ ما قد تُؤويهِ مواضعُ بعيدةٍ في الكونِ من وجودٍ عاقلٍ يَميلونَ (حَتّى الآنِ) إلى اعتِبارِ ما قد يتبَيّنُ من معطَياتٍ في هذه المسألةِ سِرّاً ذا خَطَرٍ أقصى من أسرارِ الدولة. فَتراهُم يُعْرِضونَ عَمّا ينكشِفُ للعَوامِّ من هذه المُعْطَياتِ مؤثِرينَ الانحِرافَ بِهِ عن مَعْناهُ الظاهرِ، جاهدينَ في إقناعِ شهودِ العيانِ أنّ ما رأوهُ غيرُ ما يحْسَبونَ أنّهم رأوه. وصَلَ هذا الإعراضُ، في واحدةٍ من حالاتِهِ المَشْهورةِ، إلى حَدِّ رفضِ الإدارةِ الفدراليّةِ لشؤونِ الطَيَرانِ في الولاياتِ المُتَحِدةِ مُجَرّدَ التَحقيقِ في شهادةِ ١٢ مسْتَخْدَماً في شركةِ يونايتدْ إيرلايْنزْ شاهدوا في حوالي الرابعةِ والرُبْعِ مَساءً من يوم السابعِ من تشرين الثاني سنةَ ٢٠٠٦ “صَحْناً طائراً” معدِنيّاً، لا صَوتَ لَهُ، قَدّروا قُطْرَهُ بستّةِ أقدامٍ إلى عِشْرينَ، حَلّقَ نَحْواً من خمسِ دقائقَ فَوْقَ البوّابة “سي17”  في مطارِ أوهارِ الدُوَليِّ في شيكاغو ولَم يظْهَرْ عَلى شاشاتِ الرادار، ثُمَّ اخْتَفى خَلْفَ الغُيوم. رفَضَت الإدارةُ التحقيقَ إذَنْ مُحْتَجّةً بشهادةِ الرادارِ وَحْدَها لتَزْعُمَ، بَعْدَ تَجاهُلٍ، أنَّ ما شوهِدَ إنَّما هو “ظاهرةٌ مُناخِيّة”!

على أنّ ثَمّةَ ما هو جديدٌ في هذا الشأنِ القديمِ، وإن يَكُنْ هذا الجديدُ لا يَزالُ إرهاصاً بجديد. ذاكَ ما تُزَوِّدُنا خُلاصةً مثيرةً لَهُ مَقالةٌ لكريستوفر ميلون ظَهَرَتْ، قَبْلَ أيّامٍ، في موقعِ “بوليتيكو” الأميركيّ. الموقعُ نافذٌ في أوساط السياسة والحُكْم الأميركيّةِ: هذا أوّلاً. يتَصَدَّرُ المقالةَ تعدادٌ لمواقعَ يشغَلَها أو كان يشغَلُها الكاتبُ وبينَها أنّهٌ منسوبٌ إلى “برنامجِ غاليليو” في جامعةِ هارفارد وأنّه مستشارٌ ممتازٌ للهيئةِ المُسَمّاةِ “أميركيّون لسلامةِ الفَضاء” وأنّه كان نائباً لمساعدِ وزير الدفاع لشؤون الاستخبارات: وهذا ثانياً. أخيراً، يدخُلُ الكاتبُ موضوعَهُ من بابِ التنويهِ بتفَرُّغِهِ، منذُ سنةِ ٢٠١٧، لمعاونةِ الكونغرس والجمهورِ في إماطةِ اللثامِ عن حقيقةِ ما كانَ يُسَمّى “أجساماً طائرةً غيرَ معلومةِ الهُويّة”UFOs وباتَ يُسَمّى اليَوْمَ (توَسُّعاً وتَحَفُّظاً في آنٍ، على الأرجحِ) “ظواهرَ جوّيّةً غيرَ معلومةِ الهُويّة”UAP. 

من هذا يُفْهَمُ أنّ المقالةَ نوعٌ من الخلاصةِ لجهودٍ استِخباريّةٍ دائبةٍ بذلَها الرجُلُ. وهو يصَرِّحُ بأنّه تعاون فيها مع مسؤولٍ سابقٍ في وزارةِ الدفاعِ ثمّ مع فريقٍ من طيّاري سلاحِ البحريّة… وهذا إلى أن أسفَرَت الجُهودُ، في سنةِ ٢٠٢٠، عن تبَنّي لجنةِ الاستخباراتِ في مجلسِ الشيوخِ مشروعاً قدّمهُ الكاتبُ يطلبُ من أجهزةِ الاستخباراتِ تقريراً رسميّاً موضوعه “الظواهرُ” المُشارُ إليها. اتّخذَ هذا التقريرُ صفةَ “التقويمِ التمهيديِّ” وسُلّمَ في حزيران ٢٠٢١. ومَعَ ما اعتَورَهُ من ثَغَراتٍ كثيرةٍ، في قولِ الكاتبِ، أحصى التقريرُ ١٤٤ معاينةً عسكريّةً ل”ظواهرَ” تنتمي إلى الفئةِ المحيّرةِ، عُويِنَت ابتداءً من سنةِ ٢٠٠٤. ولم يُعَتِّم هذا العددُ، مع تراجُعِ الميلِ الرسْمِيِّ إلى التَشَكُّكِ والإشاحةِ، ناهيكَ بالسُخْريّةِ من الشُهودِ، أن قَفَزَ حتّى أوائلِ السنةِ الجاريةِ إلى ٨٠٠ إفادةٍ عسكريّة! وهو ما حَمَلَ الكونغرس على إنشاءِ “مكتبٍ جامعٍ لجلاءِ الظواهرِ الشاذّة” AARO.

غَيْرَ أنّ سؤالاً بقيَ يُلِحُّ على ميلون، في ما يتَعَدّى رضاه عن تنامي الميلِ الرسميِّ إلى اعتِمادِ الشفافيّةِ في صدَدِ تلك “الأجسامِ” أو “الظواهرِ” الملغَزةِ، وهو المتعلّقُ بحالاتِ “احتِكاكٍ” ببعضِها قد تكونُ حصَلَت ثُمَّ سقَطَت أخبارُها في بئرِ أسرارِ الدولة. ويُنوّه الرجُلُ ب”شائعاتٍ لَجُوجةٍ” تُفيدُ بوجودِ “حُطامٍ” لأجسامٍ من هذا القَبيلِ في قبضةِ الدولةِ وبأنّ العملَ جارٍ، في السرِّ، للتوصّلِ إلى “هندسةٍ معكوسةٍ” لها أي إلى تعرّفِ بُناها وكيفيّاتِ تشغيلِها.

هذا وقد مُنِحَ “المكتبُ الجامعُ” سلطةَ إعفاءِ  ذوي العلاقةِ من أيِّ تَعَهُّدٍ بحفظِ السرِّ كانوا قد ألزِموا بِهِ من قِبَلِ سُلْطةٍ ذاتِ اختصاصٍ تحتَ طائلةِ الملاحقة. وهذا إجراءٌ حاسِمٌ مكّنَ الكاتبَ نَفْسَهُ مثلاً من إحالةِ شهودٍ أربعةٍ إلى المكتبِ ذوي معرفةٍ ببرنامجٍ حكوميٍّ سرّيٍّ لمعالجةِ “الحُطام” المقبوضِ عليه. وهو يضيفُ أنّ آخرين من المُتَشَكِّكينَ بأهليّةِ القَيِّمينَ على “المكتبِ الجامعِ” آثروا أن يعهدوا إليهِ هُوَ بمعلوماتٍ وتفاصيلَ أخرى متعلّقةٍ بهذا البرنامج. أخيراً يُفيدُ ميلون أنّ آخَرينَ أيضاً نقَلوا إلى جهاتٍ أخرى في الاستخباراتِ أو في لجانِ الكونغرس معلوماتٍ ذاتَ صلةٍ بالموضوعِ نَفْسِه.

عندَ هذه النقطةِ، وهي، على ما يَبْدو، بيتُ قصيدِ المقالةِ، يباشرُ ميلون طرحَ أسئلتِهِ المصيريّة: “ماذا لو كنتُ شريكاً في فتْحِ صندوقِ باندورا، مقبِلاً على نشْرِ معلوماتٍ مُدَمّرةٍ،لا صالِحَ للجُمْهورِ في الاطّلاعِ عليها؟”. هذا السؤالُ تلقّى ميلون إجابةً عَنْهُ هدَّأَت من رَوْعِهِ شيئاً ما من الشيخةِ الديمقراطيّةِ عن ولايةِ نيويورك كيرستن غيلبراند وهي، في مجلسِ الشيوخِ، رئيسةُ “اللجنةِ الفرعيّةِ للخَدَماتِ المسلّحةِ والأخطارِ الطارئةِ والقُدُرات”، وهي أيضاً عُضْوٌ في لجنةِ شؤونِ الاستخبارات. أجابَت الشيخة بِ”نعم، طبعاً، لِمَ لا؟” عن سؤالِ ميلون عَمّا إذا كانَ على “المكتبِ الجامعِ”، إذا هو خلصَ إلى أنّ “الفضائيِّينَ” يزورونَ الأرْضَ، أن يَنْشُرَ هذا الخَبَرَ على مَلَإٍ من الشَعْبِ الأميركيّ.

من هذا الجَوابِ الذي وافقَ هوى صاحِبِنا، ينْطَلِقُ عَرْضٌ حَماسيٌّ يشغَلُ ما تبقّى من المقالةِ لمسوِّغاتِ العَلَنيّةِ بِما فيها إعلانُ وُجودِ “الحُطامِ” الآنف ذِكْرُهُ إذا هُوَ وُجِد.: ومُسَوِّغاتُ العَلَنيّةِ عديدةٌ، في عُرْفِ ميلون، بعْضُها استعادةٌ لحقِّ الجمهورِ المعلومِ في المعرفةِ أو تكرارٌ للقولِ بإضرارِ الكتمانِ بالعِلْمِ وبعضُها حِجاجٌ عمَليٌّ ينتهي إلى القولِ بتفوّقِ نفعِ الإعلانِ على ضررِه وبتَمَكُّنِ أميركا حكومةً وشعباً من تدبُّرِ ذاكَ الكَشْفِ الخَطيرِ متى حصَلَ وببقاءِ ما في يَدِ أميرِكا من متعلّقاتِ الموضوعِ في حوزتِها وبقائها حرّةَ التصرُّفِ به. هذا إلى ظهورِ إرادةٍ مستَجَدّةٍ ووسائلَ جديدةٍ لتحصيلِ حلٍّ للُّغزِ باتَتْ في أيدي أمَمٍ أخرى “من اليابانِ إلى فرنسا” وأيدي هيئاتٍ مستقلّةٍ بعْضُها أميركيٌّ (ومِنْ هذه “برنامَجُ غاليليو” الهارفرديِّ) وبعضُها غيرُ أميركيّ، إلخ، إلخ.

لا مسَوِّغَ للتبسُّطِ في عَرْضِ هذه المُسَوّغاتِ فهي منتظرةٌ مألوفة. ولكنْ تجبُ الإشارةُ إلى استبعادِ ميلون احْتِمالَ خطَرٍ داهمٍ يَفِدُ من خارِج كوكَبِنا وإلى ترجيحِهِ حُصولَ أثرٍ طيّبٍ يحدُثُ في العلاقاتِ الدوليّةِ وفي إدراكِ البَشَرِ لمشكِلاتِ كوكَبِهم ومُشكِلاتِهم المَصيريّةِ عليه من جرّاءِ الكشفِ عن وجودِ حضاراتٍ غيرِ أرضيّةٍ. هذا الأثَرُ تَجْني الولاياتُ المتّحدةُ أعظمَ نصيبٍ منهُ (بطبيعةِ الحالِ!) لحيازتِها معظمَ متعلّقاتِ الموضوعِ ومعظَمَ المؤَهِّلاتِ لتدَبُّرِه.

تلكَ هي الحالُ في تصَوُّرِ ميلون: لا تُسْنِدُ الوقائعُ إلى اليومِ جواباً قاطعاً عن السؤالِ المُهيبِ: “هل نحْنُ وحدَنا في الكون؟” ولكنَّ المعطَياتِ باتَتْ وفيرةً واستوى البَحثُ عن الجَوابِ، من جهةِ المؤَهَّلينَ لَهُ، موضوعاً لسَعْيٍ دائبٍ فرَضَتْهُ المُعْطَيات. وهذا بَعْدَما تَأَكَّدَ الخُروجُ من مرحَلةِ الإنكارِ والسُخْريَةِ من الشُهود!… السُخْريةِ التي حَمَلَت أكْثَرَ هؤلاءِ على إيثارِ الصمتِ، في ما مَضى، وأفْضى الإقلاعُ عَنْها إلى تكاثُرِهِم الذَريعِ مؤخَّراً في صُفوفِ العَسْكَرِ وغيرِهِم.

لا حاجةَ إلى القَوْلِ أنّ جهتَنا من العالَمِ (ومَعَها جِهاتٌ أُخْرى) لا هيَ في عِيرِ هذا البَحْثِ كُلِّهِ ولا في نَفِيرِه. شواغِلُنا كثيرةٌ وأكثَرُها داهِمٌ ولكنّ هذا “القَبيلَ” من المَسائلِ واقِعٌ كُلُّهُ في خارِجِ مُتَناوَلِنا. وإنّما نتلَقّى الآثارَ ونُداري الوَقْعَ: أو نُحاوِلُ المُداراةَ، بالأحْرى، وتَلْبَثُ مُحاوَلاتُنا قاصرةً… أو نَنْشغِلُ عن المُعالجةِ أَصْلاً بالتساؤلِ عَمّا إذا كُنّا سَنَتَمَكَّنُ من تَشْغيلِ الغَسّالةِ اليومَ بَعْدَ أن أصْبَحْنا مُضْطَرِّينَ إلى تنظيفِ ثِيابِنا…       

المدن – الذكاء الاصطناعي وسؤال المصير

— Read on www.almodon.com/opinion/2023/6/5/الذكاء-الاصطناعي-وسؤال-المصير

أزْيَدُ من ثلاثمائةٍ وخمسين فاعلاً في صناعةِ الذكاءِ الاصطناعيِّ، في الولاياتِ المُتّحدةِ، وقّعوا، قَبْلَ أيّامٍ، تصريحاً موضوعهُ صناعتُهُم انطوى على كلمةٍ عاليةِ الجَرْسِ جدّاً هي كلمةُ “انطفاء” extinction  (بمعنى “فَناء” أو “انقِراض”)… والمهدّدُ بالانطفاءِ، أي بالفناءِ، في حُسْبانِ هؤلاءِ القومِ، هو الجنسُ البَشَرِيُّ، لا أكْثَرَ منهُ ولا أقلَّ، ومصدَرُ التهديدِ هو الصناعةُ التي يقبضُ موقِّعو التصريحِ على مقاليدِها ويُسابقُ بعضُهُم بعضاً في الرفعِ المُتسارعِ لسَويَّتِها نحْوَ ذُرىً جديدةٍ وفي مضاعفةِ خطرِها الذي ينوّه به التصريحُ بَعْدَ كلِّ طَفْرةٍ في نموِّ مُنْجَزِها الفَذّ.

يقعُ التصريحُ في 22 كلمةٍ لا غيرُ وهذه ترجمةٌ له: “ينبغي لتَخْفيفِ خطَرِ الانطفاءِ من جرّاءِ الذكاءِ الاصطناعيّ أن يكونَ ذا أوّليّةٍ عالميّةٍ على غِرارِ الأخطارِ المشتملةِ على المجتمَعاتِ بأَسْرِها من قَبيلِ الأوبئةِ العالَميّةِ أو الأسلحةِ النَوَويّة.” رعى التصريحَ “مركَزُ الأمانِ من الذكاءِ الاصطناعيّ” وهو منظّمةٌ لا تبغي الربحِ يُشيرُ وجودُها وتمَكُّنُها من جَمْعِ من جمَعَتْهُم على تبنّي هذا النصّ إلى حضورٍ مُتنامٍ لهَمِّ هذا الذكاءِ ولضَرورةِ حَمْلِهِ على مَحْمَلِ الجِدِّ الأقصى. تشهدُ للأمرِ نفسِهِ استقالةُ جوفري هنتون، وهو واحدٌ من المدعُوّينَ “عَرّابي الذكاءِ الاصطناعيِّ”، من منصبِه في “غوغل” وذلكَ طَلَباً لمزيدٍ من الطلاقةِ في التعبيرِ عن الأخطارِ العُموميّةِ التي تنطوي عليها صناعتُه. وأمّا قِصَرُ التصريحِ فأريدَ بِهِ البُعْدُ عن تمويهِ القَصْدِ أو تخفيفِ الوَقْعِ بأيّةِ زوائدَ قد يحمِلُها التطويلُ أو التفصيل. لا ماءَ إذَنْ في نبيذِ هذه الجماعة: بل علينا أن نَجْرَعَهُ صِرْفاً جَرْعةً واحدةً وأن نُطيقَ مفعولَهُ وإن يَكُنْ لا يُطاق.

هذا وليسَت هذه البادرةُ هي الأولى في بابِها. ففي آذارَ الفائتِ وقّعَ ألفٌ من ذوي العلاقةِ أيضاً بياناً أكثرَ تفصيلاً في الموضوعِ نفسِهِ، سُرْعانَ ما كَسَفَ حُضورُ إيلون ماسك، ببلايينِهِ الكثيرةِ بينَهُم، سائرَ الأسماء. وهذا مع العِلْمِ أنّ ماسك ابْنُ هذا المجالِ أصلاً وأنّه واحدٌ من مؤسّسي شركةِ Open AI التي أطلقت في تشرين الثاني من السنةِ الماضيةِ التطبيقَ المسَمّى “تشات جي بي تي”، مطلقةً معه وبسبِبِ مزاياهُ المباغتةِ آنذاك، هذا الجدَلَ في الذكاءِ الاصطناعيِّ وعواقبِ نُمُوِّهِ على نطاقِ العالَم. هذا وقد باتَ هذا “التشات بوت” في جيلِهِ الرابعِ اليومَ وبرزَت له مَزايا جديدةٌ وظَهَرت برامجُ منافسةٌ له أطلقَ أهَمَّها العمالقة: آبل ومايكروسوفت وغوغل… ووظّفوا، في السباقِ لتطويرِها، عشراتِ البلايين.

على أنّ بيانَ الألفِ، ماسك وصحبِهِ، ظلّ ضَعيفَ الاستقطابِ نسبيّاً لمن يمكِنُ اعتبارُهُم “أهلَ المعرفة” في القطاعِ أي لكبارِ الباحثينَ والمهندسينَ وسائرِ ذوي الخبرةِ المُجَدِّدين. وهذه هي الثَغْرةُ التي سدَّها التصريحُ الأخير. فهو قد استقطَبَ ألمَعَ الأسماءِ في القطاعِ وهذه أسماءٌ يعرِفُها ذوو الاختصاصِ والمُلِمّون بِهِ وإن لم يَكُنْ صيتُها قد اخترق الحُجُبَ بَعْدُ إلى مجالِ العالَمِ على غِرارِ ما كانَ من أمرِ جوبز وغايتس من قَبْل. في كلّ حالٍ، يُرَجَّحُ أن تزدادَ إلحاحاً على انتباهِنا في المستقبل القريب أسماءٌ من قَبيلِ ألتْمان وهاسابيز وأموداي وهنتون وبنجيو، إلخ.

يبقى أنّ التصريحَ إذ طوى المسارَ كلُّهُ بِلَمْحِ البَصَرِ ليفضيَ، على الفورِ، إلى فناءِ البَشَريّةِ المحْتَمَلِ، ليسَ لَهُ أن يحجبَ عواقبَ أخرى لنُمُوِّ الذكاءِ الاصطناعيِّ يَتَعَذَّرُ الاستخفافُ بخَطَرِها. من ذلكَ معلوماتٌ لا أساسَ لها يدلي بها البرنامجُ المستشارُ ولا يؤمَنُ تصديقُها وعواقبهُ في جانبِ المستَشيرِ، وهي ما أخَذَ أهْلُ الحرفةِ أنْفُسُهم يُسَمّونَهُ “هَلْوَسةَ” التشات بوت! ولكنّ هذا يدخُلُ في بابِ القُصورِ الذي يعتَوِرُ الأجيالَ الحاليّةَ من البرامجِ ولا يمتَنِعُ تلافيهِ في أجيالٍ لاحقة. ومن ذلكَ أيضاً أفاعيلُ تفصيليّةٌ، ولكنّها قابلةٌ للتوسّعِ المضطرِدِ، من قَبيلِ الترويجِ لأكاذيبَ مسيئةٍ أو ضارّةٍ أو لتوجّهاتٍ مزكّيةٍ لأنواعٍ مختلفةٍ من العُنْفِ أو تعزيزِ فُرَصِ الغِشِّ والتزييفِ، في كلِّ مجال. من ذلك أيضاً وأيضاً تسهيلُ الحصولِ على أدواتٍ أو موادَّ خطرةٍ أو تصنيعِها، وتيسيرُ الحصولِ على مشوراتٍ، في المضمارِ الصحِّيِّ مَثَلاً، بلا ضَمانٍ للسلامةِ ولا تعيينٍ للمسؤوليّةِ، إلخ. ولكنّ هذا كلَّهُ، أو ما يُشاكِلُهُ، باتت تبيحُهُ الإنترنت من عهودٍ متباينةٍ ومن أمثلتِهِ التسهيلُ المعلومُ لما يُطلَقُ عليهِ اسمُ الإرهاب. وإنّما يخشى، من جانب الذكاءِ الاصطناعيِّ، تيسيرُ هذا كلِّهِ بحيثُ يصبِحُ في المُتَناوَلِ المُباشِرِ لأيٍّ كانَ ونشرُ ممارسَتِهِ على نطاقٍ غيرِ مسبوق.

مستوىً آخرُ ينذِرُ الذكاءُ الاصطِناعيُّ بالعَبَثِ به هو نظامُ المهنِ واستِخْدامُ البَشَر. وقد يبدو هذا غيرَ جديدٍ أيضاً. فلطالَما أفضَت الأتْمتةُ وتطوُّرُ التقاناتِ عموماً إلى الاستغناءِ عن البَشَرِ في أداءِ المَهامِّ الصناعيّةِ وغيرِها. ويكفي لمعاينةِ ذلك المقارنةُ بين ما كان عليهِ خطُّ التجميعِ في مصنعٍ للسيّاراتِ قَبْلَ خمسينَ سنةً أو ستّينَ وما هو عليهِ اليوم. ولكنّ الناظرينَ في هذا الأمْرِ لم يفُتْهُم أنّ “ذوي الياقاتِ البيضِ”، أي أصحابَ المهَنِ “الذهنيّة” هم الجمهورُ الأعظمُ المُهَدَّدُ بالصَرْفِ والانتِهاءِ إلى البطالةِ هذه المرّة. وهذا ما كان نوح يوفال هراري (وسواهُ) قد أبرزه، في كلِّ حالٍ، قَبْلَ سنينٍ من اليوم.

من حيثُ الأساسُ، نحْنُ أمامَ قَدَرٍ مقَدّر. فحتّى لو أفلحتِ الدُوَلُ في إنشاءِ وكالةٍ للذَكاءِ الاصطناعيّ موازيةٍ لوكالةِ الطاقةِ الذرّيّةِ أو لمُنَظَّمةِ الصحّةِ العالَميّةِ، يُسْتَبْعَدُ أن يكونَ في مستطاعِها أو في خطَّتِها مَنْعُ أصحابِ الأعمال من التسابقِ في اختصارِ الكلفةِ بتقليصِ الاستخدامِ البشريّ، وهو ما سيزيدُ تطوُّرُ الذكاءِ الاصطناعيِّ وانتشارُ تطبيقاتِهِ إلى سائرِ ميادينِ الإنتاجِ والخدمةِ من إمكانِهِ بل من التوسُّعِ الفادِحِ فيه. عليهِ يتوقّعُ العارفونَ أن يخسَرَ عشراتُ الملايينِ من الأميركيّينَ وظائفَهُم، في مدىً منظورٍ، لصالحِ الفاتِحِ الجديدِ، حليفِ أصحابِ الأعمالِ قَبْلَ أيٍّ سواهم.  وفي الولاياتِ المتّحدةِ وفي غيرِها، سيبقى الواحدُ منّا يُسَرُّ بالقصيدة ينظمُها له التشات بوت في عيدِ ميلادِ زوجتهِ وهو غافِلٌ عَمّا يُعدِّهُ برنامجٌ آخرُ من العائلةِ نفسها قد يرتئي طرْدَهُ من عَمَلِهِ وإجبارَ زوجتِهِ على طَلَبِ الطَلاق!

ما الذي يطلُبُه التصريحُ الذي أصدَرَهُ الفاعلونَ أنفُسُهُم: صانعو الذكاءِ الاصطناعيِّ بمنافعِهِ ومَضارِّهِ، مبرِّئينَ ذِمَّتَهُم اليُسرى ممّا تفعلُه يدُهُم اليُمْنى؟ ما يطلبُهُ هؤلاءِ يتعَلّقُ بأصْلِ ما هُوَ الذكاءُ الاصطناعيُّ وهو أيضاً ما كانَ أشارَ إليهِ بيانُ الألفِ، قَبْلَ تصريحِ ال350، حينَ طلَبَ تعليقاً للأبحاثِ مدّتُه ستّةُ أشهُرٍ ترسى في خلالِها ضَماناتُ نموٍّ سليمٍ لهذا الطفلِ المهولِ الخَطَر. وأمّا أصلُ الذكاءِ الاصطناعيِّ وأصلُ المشكلةِ التي تُواجِهُ البشرَ من جَرّائهِ فهي أنّهُ قائمٌ على ما يُسَمّى “الشبَكات العُصْبونيّة” تشَبُّها بتكوينِ الدماغِ والجهازِ العَصَبيِّ البشَرِيّين. وهو ما يُبيحُ له معالجةَ “المعطَياتِ” التي تدخُلُ إليهِ بحيثُ يحوِّلٌها إلى “مَهارات”. وما تُبيحُهُ المَهاراتُ، بدورِها،  لل”اصطناعيِّ” هو نفسُ ما تُبيحُهُ لل”طبيعيِّ” أي إمكانُ “الاستقلالِ” بالأفعال. وتضافُ في حالةِ الاصطناعيِّ سُرْعةٌ تتيحُ وفراً عظيماً للوقتِ بالقياسِ إلى ما يستطيعُهُ البَشَر. فإذا تكاثرَت مهاراتُ الاصطناعيِّ واتّسَعَ مجالُها، أشرَفنا على ما يظْهَرُ أنّنا صائرونَ إليهِ حتماً: وهو الانتقالُ ممّا يُدْعى “الذكاءَ الاصطِناعيَّ الخُصوصيَّ” إلى ما يُدْعى “الذكاءَ الاصطناعيَّ العُموميّ”. وهو ما يضعُ بتصَرُّفِ أيٍّ كانَ، ناهيك بما يضعُهُ بتصرُّف الدُوَلِ والجماعاتِ المنظّمةِ، احتِمالاتِ خيرٍ وشرّ لم يُعْرَف لها نظيرٌ في ماضي البشر. وهو أيضاً قد يضَعُ نظائرَ لهذه الاحتمالاتِ بتصرُّفِ الذَكاءِ الاصطناعيِّ نفسِهِ، إذا هُوَ بَلَغَ من الاستِقلالِ مبْلَغاً بعينِه.

حتّى الآنِ تبدو مقاليدُ الذكاءِ الاصطناعيِّ بيدِ الأميركيّينَ وحدَهُم. وهذا على الرغْمِ من كونِ الشركاتِ المعنيّةِ بتطويره شركاتٌ عالميّةُ النطاقِ أصْلاً. وقد خرجَ إلى الميدان مؤخّراً تشات بوت صينيُّ المنبتِ ولكنّه سُرْعانَ ما خارت قواهُ وانكشَفَ تهالُكُه. غيرَ أنّ دوامَ هذه الحالِ سيكونِ من المُحالِ، على الأرجح. ولا بُدَّ من يومٍ يأتي يتحوّلُ فيه الذكاءُ الاصطناعيّ (وهو من الآنِ سلاحٌ متنامي القوّةِ في الحربِ الاقتصاديّةِ) إلى سلاحٍ متصدّرٍ في الحربِ العسكريّة. هذا ما يُنْذِرُ بهِ من الآنِ، بل من أمسِ، تولّي صِيَغٍ منهُ قيادةَ المُسَيّراتِ وتوجيهَ المقذوفات. ذاكَ، أي احتِمالُ العسكرةِ، بعضُ ما يتعيّنُ على ما يُسَمّى “مجتمعَ الدُوَل” أن يضبُطَهُ أيضاً. نقولُ “أيضاً” لأنّ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ من عواقبَ أخرى تتعلّقُ باستِقرارِ الاجتِماعِ البَشَريِّ ورُبّما بمصيرِهِ ليس مّما سيَسَعُ الدولَ أن تهملَهُ، وهذا سواءٌ أشَمَلَهُ ما سمّاهُ “التصريحُ” الأخيرُ “انطفاءً” أمْ لم يشملْهُ.

إلى الآنِ لا شيءَ يبدو مضموناً من هذا كلّه. فحتّى مهلةُ الأشهرِ الستّةِ التي اقتَرَحّها “بيانُ الألْفِ” في آذار لم يُسْمَع ما يدلُّ على اقترانِها بتنفيذٍ ما… هذا ولعلّنا اقتصَرْنا ههُنا من حديثِ الذكاءِ الاصطناعيِّ على حديثِ أخطارِه. وفي هذا ظُلْمٌ لمُنْجَزٍ أوّلُ وجوهِهِ الظاهرةُ توسيعُهُ مداركَ البشرِ ومعارٍفَهُم وتنميتُهُ مهاراتِهم المختلفةَ، إذا هم أرادوا، فضلاً عن توفيرِهِ الوقتَ والجِهْدَ عليهم في كثيرٍ مّما يحتاجون إليه. لم نطلبْ هذا الظلمَ وإنّما ألجأَنا إليهِ حديثُ الحُمّى التي تثيرُها أخطارُ هذا المنجَزِ (وهي مَهولةٌ) بموازاةِ الحُمّى الأخرى التي تصحبُهُ في مسارِ نمُوّه. فكانَ حقّاً أن تُعيدَ قنبلةُ الذكاءِ الاصطناعيِّ هذهِ إلى الخاطِرِ قولةً لكلود ليفي-ستروس يَتَرَدَّدُ لها صدىً كلّما حصلَ ما يَرُدّ موضوعَ السلاحِ النوويِّ إلى دائرةِ الانتباه: وهي “أنّ العالمَ كانَ موجوداً قَبْلَ الإنسانِ وسيَبْقى بَعْدَه”…