أحمد بيضون
ثمة حاجة إلى التفكّر في بعض وجوه الصلة بين العلوم الاجتماعية، وعلى الأخصّ منها علم الاجتماع وعلم السياسة، على الصورة التي وردا فيها علينا من بلاد منشئهما، وحركات التغيير التي شهدتها بلادٌ عربية عدّة ابتداءً من أواخر العام 2010. وسيتبين أن ما نقصده بهذه الدعوة يجعلها مشتملة أيضاً على العراق ابتداءً من سنة 2003… بل هو يبيح أيضاً توسيع نطاقها المكاني إلى بلادٍ عربية أخرى وتوسيع نطاقها الزماني إلى تاريخ الدول الوطنية في هذا الإقليم منذ نشأتها مع تهاوي الدولة العثمانية ومنذ استقلالها تباعاً بعد ذلك عن سلطان هذه أو تلك من الدولتين الأوروبيتين اللتين آلت إليهما إدارة التركة العثمانية في بلاد العرب.
وللحاجة التي نشير إليها منطلقان متضافران يتعلّق كلّ منهما بطرف من الطرفين اللذين نرى العلاقة بينهما محتاجةً إلى تدبّر. أمّا المنطلق المتّصل بالعلوم الاجتماعية فهو أن هذه العلوم بنت المجتمعات التي نشأت ونمت فيها، تترسّم خطوط أنظمتها ومؤسساتها وقيمها وتتّخذها أدلّة إلى ما تطرحه من مسائل وما تتّخذه من مناهج وطرائق. وهي أيضاً، بمقدار ما تعنى بالمجتمعات غير المجانسة لمجتمعات نشأتها تلك، لجهة الأنظمة والمؤسسات والقيم، بنت النظرات المتاحة في مجتمعات نشأتها (بما فيها النظرات النقديّة) إلى تلك المجتمعات المغايرة. وقد كان الفصل المعتمد بين هاتين الفئتين من المجتمعات ماثلاً، على سبيل المثال، في أساس الفصل بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا… ولو ان البلاد التي من قبيل بلادنا بقيت حائرة بين هذين الحدّين فتكوّنت للإحاطة بأحوالها منظومة معارف هي ما يطلق عليها اسم الاستشراق، ظلّت حين تتناول المجتمعات وأنظمتها، تعتمد مرجعيات مختلطة، بل حائرة، لا تعنى كثيراً بتحديدها أو بإلزامها نطاق علم الاجتماع أ ونطاق الأنثروبولوجيا، صراحة، بما يفرضه هذا الإلزام، لو حصل، من مقدّمات معرفية وخيارات منهجية.
ولنقل إن ما نشير إليه هنا من مفارقة بين بنى علوم المجتمع هذه وبنى مجتمعاتنا والمدارات المؤهّلة للبحث في مسائلها لا ينتمي إلى النقد السياسي وإن كان لا يستبعده. فنحن لا نجعل موضوع السيطرة هنا في مركز الاهتمام، على غرار ما اعتمده إدوارد سعيد، ولا ننحو إلى حبس المعارف التي أثمرها الاستشراق، جملةً، في إشكال السيطرة ولا إلى اعتبار العلوم الاجتماعية في مقاربتها مجتمعاتنا مسخّرة، بالضرورة، لغاية السيطرة المذكورة. وذاك أننا نحمل على محمل الجدّ ما في هذه المعارف من تنوّع يجعلها تفيض من كلّ حدبٍ وصوب عن النطاق الذي يرسمه هذا الإشكال. وقد تفيد الإشارة إلى أن هذا الضرب من الاختزال، على اختلاف في موضوعه، موقفٌ غربي جدّاً في أصله. ولعلّ أبرز أمثلته ما يزعمه البيان الشيوعي بشأن التاريخ برمّته حين يعلن «إن تاريخ المجتمعات لم يكن، حتى يومنا هذا، سوى تاريخ الصراع بين الطبقات»!.
إلى ذلك، نحمل على محمل الجدّ أيضاً تعدّد الاتّجاهات التي يمثلها الباحثون في تناولهم قضايا تخصّنا أو تخصّ العلائق بين دولهم أو مجتمعاتهم ومجتمعاتنا أو دولنا. لا نقدّم السياسة أخيراً، وإن نكن لا نستبعدها، حين نباشر نقداً أو ندعو إلى نقدٍ لعلوم، هي العلوم الاجتماعية، نشأت في مجتمعات ذوات تواريخ وتكاوين مختلفة عمّا تمكن معاينته في مجتمعاتنا. وإنما نرمي، فوق كلّ شيء، إلى تتبّع كلّ ما يشي بإشكال في التواؤم بين عُدّة الدرس المستعارة والموضوع المدروس. ليس النقد الذي ندعو إليه إذن فضحاً أو احتجاجاً، بالدرجة الأولى، وإنما هو، بالدرجة الأولى أيضاً، طلبٌ للمقارنة بين مجتمعات مختلفة فعلاً ولكنها متفاعلة جدّاً أيضاً، في عالم لا يزال يصبح واحداً من أزْيَدَ من قرنين.
من هذه المقارنة يبتغي النقد تحسيناً لأدوات المعرفة المهيّأة لتناول مجتمعاتنا: تناولِها من سائر وجوه حياتها المعاصرة، على الخصوص. لا نهمل ما هو متعلّق بالسيطرة من صيغ للكلام وقوالب تُدْرَج فيها الوقائع. ولكن نرى أن السيطرة، بل والسياسة على الأعمّ، لا تستغرق معرفة مجتمع من المجتمعات بنفسه ولا معرفة غيره به، بسائر ما في ذلك من تفرّع المسالك والميادين وتعارض الاتّجاهات والمدارس، إلخ. لابدّ من السعي إلى الإحاطة، إذن، بديلاً من الاختزال: لا لتحقيق الإنصاف وحسب (إنصاف منتجي المعارف، على اختلافهم) بل لتكثير الفوائد وتقويم مسالك البحث الجديد وتوسيعها. فإن كثيراً من الفوائد تضيع بالاختزال وبالنظر إلى المعارف والقيم المعروضة من منظارٍ وحيد هو منظار العداوة. وإن كثيراً من العنف الذي يثمره هذا الانحصار يرتدّ إلى الذات وينتهي إلى تدمير متسلسل لها. وهو ما نرى شيئاً كثيراً منه معروضاً تحت أبصارنا إذا نحن أحسنّا النظر.
هذا من جهة المعارف المعروضة علينا. يبقى الجانب الآخر الذي نقترح وضع هذه المعارف على محكّه. ما الخصائص الذي تجعل المنظومات التي تتوزّع بينها علوم المجتمع غير موافقة لدرس ما عاينّاه من حركات التغيير في المجال العربي، خلال هذه السنوات الأخيرة؟ بل ما الذي يجعل هذه العلوم تتعثر في مقاربتها مجتمعاتنا المعاصرة جملةً في ما يتعدّى وقائع هذه السنوات؟
تحتاج محاولة الإجابة، مهما تكن عجولةً، إلى وقفة أخرى…
كاتب لبناني
أحمد بيضون