«مذكّرات أمير مُبْعَد»

أحمد بيضون

في وسط الكتاب غير المسبوق الذي نشره، قبل أسابيع، الأمير هشام العلوي ابن عمّ ملك المغرب الحالي، يذكر المؤلّف أمراً بعينه يوضح أنه فهمه بعد حديث مع عمّه الحسن الثاني جرى في وقتٍ ما من تسعينات القرن الماضي. وذاك أن النظام الملكي في المغرب يمزج مزجاً جوهرياً ما هو ديني وما هو عائلي وما هو سياسي فيجعل من هذا الثالوث أقانيمَ متحدةً ومنفصلة في آن. والحقّ أن هذا المزج يخترق الكتاب من أوّله إلى آخره ملقياً ما يكفي من الضوء على سيرة هذا الأمير التي يتحكّم فيها تنازع بدأ باكراً بين شخصه الآخذ في التكوّن وبين مقتضيات منبته. وهو تنازعٌ أدخل الأمير في مواجهة استغرقت معظم حياته حتى الآن وبقيت لا تعرف المهادنة مع مَلِكين تباعاً هما عمّه وابن عمّه. تلك مواجهة اختلفت طبيعتها من الملك السابق إلى الملك الحالي وجعلت نفَس الكتاب يتغيّر كثيراً تبعاً لهذا الاختلاف فينقسم عمليّاً إلى نصفين تهيمن على كلّ منهما شبكة من الهموم والمشاغل مغايرة لتلك التي تفرض نفسها على النصف الآخر.
فمع أن الشأن المغربي العام يحضر باكراً في مبادرات الأمير المولود سنة 1964 وأحاديثه، فإن سيرته مع الحسن الثاني تبقى، من حيث الأساس، سيرة تحرّر شخصي من القبضة التي يطبقها هذا الملك الجبّار على حياة ابن أخيه حيثما وُجِد. هذا الإطباق فرعٌ، بدوره، من تحكّم الملك، بما هو رأس العشيرة، بأخيه عبد الله، حتى وفاة هذا الأخير، وبأسرة أخيه كلّها، زوجة وأولاداً. والزوجة هي اللبنانية لمياء، ثانية بنات رياض الصلح الخمس، والأولاد صبيّان وبنتٌ بكرهم «مولاي هشام».
في هذا الصدد، يكشف هشام العلوي، بإقدام عزيز النظير، صوراً من حياة البلاط الحَسَني تكاد لا تبقي ستراً على شيء أو أحد. فالملك جادّ في إفساد أخيه وإضعافه إذ هو يخشى تفلّت عبد الله من سلطانه ويتوجّس من بعض القنوات المفتوحة بين هذا الأخير وشخصيات من المعارضة. ولا يستثنى من وسائل الإفساد توجيه الملك أخاه نحو إدمان الخمرة ولا تسهيل ميله إلى الجري وراء نساء مشوبات السيرة بتيسير خروجه من القصر بلا علمٍ من زوجته. حتى أن لمياء الصلح تضطرّ إلى بذل جهود حثيثة معقّدة لإبعاد اثنين من قوّادي البلاط عن القصر في سعيها لاسترداد زوجها إلى بيته. في قصر «أمير المؤمنين» الذي لا يفوته فرض صلاة قوّادون إذن. وفيه «مجانين» يسرّي الملك عن نفسه بتوجّههم إليه بضروب من الكلام والتصرّف لا يُتوجّه بمثلها إلى الملوك. وهي ما يمنح الملك فرصة التحرّر الطوعي للحظة من استواء وجهه قناعاً يفرضه عليه موقعه. وهذا تحرّر يقبض الملك على مقاليده ويرسم له حدّه ومدّته سلفاً. في البلاط حكواتيون أيضاً كانوا لا يزالون مقيمين فيه بعد وصول التلفزة إليه.
هذا وفي القصر «وزير» مكلّف إحصاء أنفاس العباد ووقف كلّ امرئ عند حدّه إن لم يكن بالقمع فبالإفساد. بالقمع الذي بلغ ذرىً مهولة في المرحلة الوسطى من عهد الحسن الثاني المديد، أي في أعقاب محاولتي الانقلاب اللتين قاد أولاهما، في مطلع السبعينات، الجنرال مدبوح، أحد كبار القادة العسكريين، وقاد الثانية، في العام التالي، «وزير» الملك نفسه، أي رأس معاونيه وأقربهم إليه، الجنرال أوفقير. تلك مرحلةٌ أصبح رمزاً لاحقاً لها سجن تزمامرت الرهيب في جنوب البلاد… بالقمع إذن… أو بالإفساد الذي هو الوجه الغالب على حياة «المخزن» كلها أو هو أسلوب «المخزن» في الحياة.
وما أدراك ما «المخزن». «المخزن» شبكة أخطبوطية من الأجهزة والمؤسسات والموارد هي آلة السلطة والحكم المصاحبة للنظام الملكي في المغرب عبر تاريخه. وهي، على التحديد، آلة المُلْك المطلق يقبع المَلِك على رأسها ويتحكّم في موازينها، فيقدّم ويؤخّر ويوزّع المنافع والصلاحيات لقاء الولاء المطلق أوّلاً، بما فيها الاستثناءات من موجبات القوانين، بحيث يحفظ سلطانه المطلق ومن ورائه مؤسسةَ المُلْك. وبالوسائل التي يضعها المخزن بين يدي المَلِك وبما للمَلِك من سلطان على الأسرة العلوية برمّتها، يتحكّم الملك بأفراد أسرته أيضاً. ومن هؤلاء سيدي محمّد، وليّ العهد ومولاي هشام صاحب الكتاب اللذين تُظْهر حالتهما انتباه الملك التفصيلي إلى سيرة كلّ فردٍ من أفراد البيت العلوي، لا يغفل عن شيء منها. فهو يعلم مثلاً أن هشام أمضى سهرة طويلة، في برنستون حيث استقرّ للدراسة بعد معركة خاضها. أمضى السهرة خارج مرمى النظر الملكي فأصبح على الملك أن يبني على الأمر مقتضاه أي أن يحكم طوق المراقبة… ذاك نوع من المراقبة أمضى هذا الأمير فتوّته ومعظم شبابه مجاهداً للتملّص منه. وهو قد توصّل إلى كثير من ذلك مما تملأ تفاصيله النصف الأول من الكتاب.
يشدّد المؤلّف كثيراً على تحكّم المخزن في سياسة البلاد واقتصادها ويرى في «إفراغ المخزن» شرطاً أوّل لإصلاح النظام والتوجّه به نحو الديمقراطية. ويدفعه هذا التوجّه إلى كفاح متعدّد المواقع والمحطّات لبناء وضع مهنيّ لنفسه وموقع في مجال الأعمال يخرجه من التبعية للمخزن، أي من حال التعيّش والطفيلية التي هي الحال المعتادة لأفراد الأسرة المالكة ولرجال الحاشية وسائر الدائرين في فلك الملك. تتواصل جهود البناء الشخصيّ هذه بين عهدي الحسن الثاني ومحمّد السادس. ولكن مولاي هشام يشغله أيضاً، في العهد الجديد، شاغل عامّ هو شاغل النظام المغربي وكيفيّات إصلاحه. وهذا شاغل يستحقّ أن نفرد له عجالتنا المقبلة.

أحمد بيضون

أضف تعليق