أحمد بيضون
APRIL 26, 2014
في كثير من بلاد العالم، يُعتبر شهرُ نيسان/ابريل شهر الكذب. في لبنان، أصبح نيسان، في العقود الأخيرة، شهر التوبة. عند إمعان النظر، يتبين أن التفارق بين اللبنانيين وسواهم ليس مؤكّداً لهذه الجهة، ليس مؤكّداً أن توبة التائبين في بلادنا هذه ليست توبة كاذبة.
عمَّ يعلن اللبنانيون توبتهم؟ يقولون إنهم تابوا عن الحرب الأهلية. ويتّخذون مناسبة لهذا الإعلان ‘عيد’ ميلاد حربهم الضروس الفائتة وهو الثالث عشر من نيسان/ابريل. ففي هذا اليوم من سنة 1975، وقعت حادثة اغتيال في ضاحية بيروت ثم حصل الردّ عليها بمجزرة كبيرة. بعد ذلك… كان ما كان مما لست اذكره…
يعلن لبنانيون كانوا قد بلغوا السنّ المناسبة للقتال في غضون تلك الحرب وولغوا في فظائعها أنهم نادمون على خوضهم إياها، وأنهم لن يعودوا إلى مثلها أبداً. ويعلن لبنانيون آخرون من الذين بلغوا أشُدّهم بعد انتهاء الحرب، أنهم سيقاومون العودة إلى ما يشبهها من قريب أو من بعيد. وفي الكثرة الكاثرة من الحالات، يمتنع التوّابون هؤلاء، إن كانوا من الذين شهدوا فصولاً من الحرب، عن استرجاع ما فعلوه معيّناً بما يناسبه من أسماءٍ وأوصاف ويمتنعون، على الأخصّ، عن البحث في ما دعاهم إلى فعله. وأما الشبّان فيبقى تعهّدهم اجتناب الحرب الأهلية، باعتبارها رِجْساً، تعهّداً مبدئياً أيضاً: إذ هم لا يضعون هذا التعهّد على محكّ موقعهم في السياسة وما يمليه من مواقف وما يستجرّه الموقع والمواقف من ردودٍ ينبغي النظر فيما إذا كان القتل والقتال الأهليّان واردَين بين احتمالاتها.
في حالتي الشِيب والشبّان، إذن، تأتي التوبة مجْمَلةً لا تدخل في التفاصيل، أي في ما كان حاصلاً وما هو ممكن الحصول حسّياً. هي تختار الانقطاع عن صورة الواقع أو المساق السياسي، في الماضي والحاضر، مؤْثرةً التحليق فوق الصورة زاعمة، ضمناً أو صراحة، أنها قادرة على ضمان الوفاء من جهتها بعهد المسلك السلمي، أيّاً يكن ما يسفر عنه المستقبل من تحدّيات. هكذا يسعى التوّابون أن يكتفوا، في أكثر الحالات، بإشارات عارضة تفيد التوبة، تَرِد في معرِض كلامٍ آخر واشيةً بالاستنكاف عن اعتبار النقد الذاتي همّاً قائماً برأسه له قواعدَ وأصولٍ إن لم يَرْعها لم تَقُم له قائمة وعُدّ غِشّاً للشاهدين.
في ساحة الواقع، كان القول في السنوات الأولى التي تبعت الحرب أن خروجنا منها لا يكون ناجزاً إن لم نعالج مصادرها في تكوين النظام السياسي-الاجتماعي وفي ممارسة السياسة. وكان مؤدّى هذا الكلام الاعتقادُ أننا خرجنا منها ولكنه خروج غير مضمون المصير. في العقد الأخير تغيّرت حالنا: فقد أخذ يرجح أن لنا مع العودة إلى الحرب ميعاداً قد يكون قريباً وأن بين الذين يزعمون استبعاد هذه العودة من بين رغباتهم من يحثّ الخطى بالبلاد نحو أفق لا يلوح فيه غير الحرب.
في كلّ حال، يشير أدنى تذكّرٍ لِما أفضى إلى الحرب اللبنانية ولِما كانته هذه الأخيرة، على الفور، إلى أسئلةٍ موجعة جدّاً لا يسع مُزاولَ النقد الذاتي أن ينحّيها جانباً:
هل كان جائزاً للقوى السياسية المنسوبة إلى المسيحيين أن تَسدّ المسالكَ إلى ما كانت مراجعُ مسلمةٌ ذات وزن تسمّيه ‘المشاركة’، أي إلى إعادة نظر جادّة في موازين السلطة تتبع ما كان المجتمع قد شهده من تحوّلات في موازين طائفية أخرى؟ هل كان جائزاً للقوى السياسية المنسوبة إلى المسلمين أن تعتبر المنظّمات الفلسطينية المسلّحة جيشاً لها وأن تغلّ يد الدولة عن مواجهة النشاط الفدائي على حدود البلاد الجنوبية وعن الحؤول دون تحويل المخيمات الفلسطينية وغيرها من نواحٍ قريبة أو بعيدة إلى قواعد محرّمة على قوى الدولة؟ هل كان جائزاً لما سمّي ‘القوى الوطنية’ من يسارٍ وغيره أن تواجه بالسلاح لبنانيين آخرين مبادِرةً بمقاتليها إلى هذه المواجهة أو مؤازِرةً فيها منظّمات الفلسطينيين، قاصدة المستهدفين إلى ديارهم في بعض الحالات، باعتبارها مواقع ‘إستراتيجية’ لا دياراً لمواطنين في الوطن نفسه؟
هل كان يجوز لقادة المسيحيين أن يدعوا حاكم سوريا إلى مواجهة المنظمات الفلسطينية وحليفتها اللبنانية، بالنيابة عنهم وهو ما أورث احتلالاً سورياً للبلاد لم ينفع الانقلاب المسيحي عليه في وضع حدّ له؟ هل كان يجوز لهؤلاء القادة من المسيحيين أنفسهم أن يواجهوا العمل المسلّح الفلسطيني بطلب النجدة من إسرائيل مؤازرين احتلالها شطراً من الجنوب في سنة 1978 ثم اجتياحها نصفَ البلاد وعاصمتَها سنة 1982 وما تخلّل ذلك من مجازر ودمار فظيعين؟
هل كان للتنظيم الشيعي الأكبر في الثمانينات أن يستحيل أداةً للحاكم السوري فيخوضَ لحسابه حرب المخيمات السيّئةَ المنظرِ والمَخْبَرِ ويَقْمعَ ابتغاءَ رضاه حلفاءَ الفلسطينيين من المقاتلين السنّة ويقتسم مع التنظيم الدرزي نصفَ بيروت الغربي بعد أن يُخرج منها الجيش اللبناني؟ هل كان يجوز التهجيرُ المتبادل بين الجماعات في الساحل والجبل والقتلُ بحسب الهوية الطائقية ونهبُ الأحياء والقرى وتركُها قاعاً صفصفاً لعلّةِ الاختلاف الطائفي؟
ليس هذا سوى غيضٍ من فيضِ الأسئلة الجارحة، التي يتعيّن على كلّ تائب عن الحرب الأهلية أن يتجشّم عناء الإجابة عنها. فإذا وصلنا إلى الحاضر وَقَعْنا على أسئلةٍ تختلف فيها أسماءُ الأطراف والمواقع، أحياناً، وتختلف عناوينُ المسائل ولكنها من الصنف الموجع أيضاً. ولنَكْتَفِ بسؤالٍ واحد جامع: هل يجوز للقوى السياسية الرئيسة في البلاد أن تجعل مواردها، على اختلاف المجالات، موزّعة بين مصادر خارجية متعادية تشتري بالدعم الولاءَ السياسي وتفترض الطاعة وإجراءَ ما تقتضيه في الداخل أو في الخارج مصلحةُ كلّ منها في مواجهة الآخر؟
فيا له من كذبٍ أن يعلن المرء توبةً عن الحرب الأهلية ويبقى موالياً لما يجعل الحرب أمراً مرجّحاً أو قَدَراً محتوماً: ممالئاً له أو ضالعاً فيه.
نيسان باقٍ على حاله إذن: في لبنان وفي غيره!
عمَّ يعلن اللبنانيون توبتهم؟ يقولون إنهم تابوا عن الحرب الأهلية. ويتّخذون مناسبة لهذا الإعلان ‘عيد’ ميلاد حربهم الضروس الفائتة وهو الثالث عشر من نيسان/ابريل. ففي هذا اليوم من سنة 1975، وقعت حادثة اغتيال في ضاحية بيروت ثم حصل الردّ عليها بمجزرة كبيرة. بعد ذلك… كان ما كان مما لست اذكره…
يعلن لبنانيون كانوا قد بلغوا السنّ المناسبة للقتال في غضون تلك الحرب وولغوا في فظائعها أنهم نادمون على خوضهم إياها، وأنهم لن يعودوا إلى مثلها أبداً. ويعلن لبنانيون آخرون من الذين بلغوا أشُدّهم بعد انتهاء الحرب، أنهم سيقاومون العودة إلى ما يشبهها من قريب أو من بعيد. وفي الكثرة الكاثرة من الحالات، يمتنع التوّابون هؤلاء، إن كانوا من الذين شهدوا فصولاً من الحرب، عن استرجاع ما فعلوه معيّناً بما يناسبه من أسماءٍ وأوصاف ويمتنعون، على الأخصّ، عن البحث في ما دعاهم إلى فعله. وأما الشبّان فيبقى تعهّدهم اجتناب الحرب الأهلية، باعتبارها رِجْساً، تعهّداً مبدئياً أيضاً: إذ هم لا يضعون هذا التعهّد على محكّ موقعهم في السياسة وما يمليه من مواقف وما يستجرّه الموقع والمواقف من ردودٍ ينبغي النظر فيما إذا كان القتل والقتال الأهليّان واردَين بين احتمالاتها.
في حالتي الشِيب والشبّان، إذن، تأتي التوبة مجْمَلةً لا تدخل في التفاصيل، أي في ما كان حاصلاً وما هو ممكن الحصول حسّياً. هي تختار الانقطاع عن صورة الواقع أو المساق السياسي، في الماضي والحاضر، مؤْثرةً التحليق فوق الصورة زاعمة، ضمناً أو صراحة، أنها قادرة على ضمان الوفاء من جهتها بعهد المسلك السلمي، أيّاً يكن ما يسفر عنه المستقبل من تحدّيات. هكذا يسعى التوّابون أن يكتفوا، في أكثر الحالات، بإشارات عارضة تفيد التوبة، تَرِد في معرِض كلامٍ آخر واشيةً بالاستنكاف عن اعتبار النقد الذاتي همّاً قائماً برأسه له قواعدَ وأصولٍ إن لم يَرْعها لم تَقُم له قائمة وعُدّ غِشّاً للشاهدين.
في ساحة الواقع، كان القول في السنوات الأولى التي تبعت الحرب أن خروجنا منها لا يكون ناجزاً إن لم نعالج مصادرها في تكوين النظام السياسي-الاجتماعي وفي ممارسة السياسة. وكان مؤدّى هذا الكلام الاعتقادُ أننا خرجنا منها ولكنه خروج غير مضمون المصير. في العقد الأخير تغيّرت حالنا: فقد أخذ يرجح أن لنا مع العودة إلى الحرب ميعاداً قد يكون قريباً وأن بين الذين يزعمون استبعاد هذه العودة من بين رغباتهم من يحثّ الخطى بالبلاد نحو أفق لا يلوح فيه غير الحرب.
في كلّ حال، يشير أدنى تذكّرٍ لِما أفضى إلى الحرب اللبنانية ولِما كانته هذه الأخيرة، على الفور، إلى أسئلةٍ موجعة جدّاً لا يسع مُزاولَ النقد الذاتي أن ينحّيها جانباً:
هل كان جائزاً للقوى السياسية المنسوبة إلى المسيحيين أن تَسدّ المسالكَ إلى ما كانت مراجعُ مسلمةٌ ذات وزن تسمّيه ‘المشاركة’، أي إلى إعادة نظر جادّة في موازين السلطة تتبع ما كان المجتمع قد شهده من تحوّلات في موازين طائفية أخرى؟ هل كان جائزاً للقوى السياسية المنسوبة إلى المسلمين أن تعتبر المنظّمات الفلسطينية المسلّحة جيشاً لها وأن تغلّ يد الدولة عن مواجهة النشاط الفدائي على حدود البلاد الجنوبية وعن الحؤول دون تحويل المخيمات الفلسطينية وغيرها من نواحٍ قريبة أو بعيدة إلى قواعد محرّمة على قوى الدولة؟ هل كان جائزاً لما سمّي ‘القوى الوطنية’ من يسارٍ وغيره أن تواجه بالسلاح لبنانيين آخرين مبادِرةً بمقاتليها إلى هذه المواجهة أو مؤازِرةً فيها منظّمات الفلسطينيين، قاصدة المستهدفين إلى ديارهم في بعض الحالات، باعتبارها مواقع ‘إستراتيجية’ لا دياراً لمواطنين في الوطن نفسه؟
هل كان يجوز لقادة المسيحيين أن يدعوا حاكم سوريا إلى مواجهة المنظمات الفلسطينية وحليفتها اللبنانية، بالنيابة عنهم وهو ما أورث احتلالاً سورياً للبلاد لم ينفع الانقلاب المسيحي عليه في وضع حدّ له؟ هل كان يجوز لهؤلاء القادة من المسيحيين أنفسهم أن يواجهوا العمل المسلّح الفلسطيني بطلب النجدة من إسرائيل مؤازرين احتلالها شطراً من الجنوب في سنة 1978 ثم اجتياحها نصفَ البلاد وعاصمتَها سنة 1982 وما تخلّل ذلك من مجازر ودمار فظيعين؟
هل كان للتنظيم الشيعي الأكبر في الثمانينات أن يستحيل أداةً للحاكم السوري فيخوضَ لحسابه حرب المخيمات السيّئةَ المنظرِ والمَخْبَرِ ويَقْمعَ ابتغاءَ رضاه حلفاءَ الفلسطينيين من المقاتلين السنّة ويقتسم مع التنظيم الدرزي نصفَ بيروت الغربي بعد أن يُخرج منها الجيش اللبناني؟ هل كان يجوز التهجيرُ المتبادل بين الجماعات في الساحل والجبل والقتلُ بحسب الهوية الطائقية ونهبُ الأحياء والقرى وتركُها قاعاً صفصفاً لعلّةِ الاختلاف الطائفي؟
ليس هذا سوى غيضٍ من فيضِ الأسئلة الجارحة، التي يتعيّن على كلّ تائب عن الحرب الأهلية أن يتجشّم عناء الإجابة عنها. فإذا وصلنا إلى الحاضر وَقَعْنا على أسئلةٍ تختلف فيها أسماءُ الأطراف والمواقع، أحياناً، وتختلف عناوينُ المسائل ولكنها من الصنف الموجع أيضاً. ولنَكْتَفِ بسؤالٍ واحد جامع: هل يجوز للقوى السياسية الرئيسة في البلاد أن تجعل مواردها، على اختلاف المجالات، موزّعة بين مصادر خارجية متعادية تشتري بالدعم الولاءَ السياسي وتفترض الطاعة وإجراءَ ما تقتضيه في الداخل أو في الخارج مصلحةُ كلّ منها في مواجهة الآخر؟
فيا له من كذبٍ أن يعلن المرء توبةً عن الحرب الأهلية ويبقى موالياً لما يجعل الحرب أمراً مرجّحاً أو قَدَراً محتوماً: ممالئاً له أو ضالعاً فيه.
نيسان باقٍ على حاله إذن: في لبنان وفي غيره!