المدن – الذكاء الاصطناعي وسؤال المصير

سيتحوّلُ الذكاءُ الاصطناعيّ (وهو الآن سلاحٌ متنامي القوّةِ في الحربِ الاقتصاديّةِ) إلى سلاحٍ متصدّرٍ في الحربِ العسكريّة المدن
— Read on www.almodon.com/opinion/2023/6/5/الذكاء-الاصطناعي-وسؤال-المصير

المدن – الولاء والحرية

ما الذي يحمِلُ الجماعةَ على أن تخصَّ بولائها المُشْرَعِ زعامةً تزعُمُ تجسيدَها لكنّها لا تشركُها في قرارٍ تتخذُهُ؟ المدن— Read on www.almodon.com/opinion/2023/5/29/الولاء-والحرية 

من الولاءِ ما يَأخُذُ بالمبدإ الأوتوقراطيّ فيكونُ ولاءً لزعامةٍ تُنْشئُ لنفْسِها نظاماً يؤبِّدٌها في موقِعِها ويجعلُها شِبْهَ مطلَقةِ اليَدِ، في دائرةِ سلطَتِها، دولةً كانت هذه الدائرةُ أم حزباً. وهذا إلى حدّ القدرةِ على اختِراقِ الحدودِ بينَ السلطاتِ، في حالةِ الدولةِ، وإن بقيَت هذه الحدودُ ماثلةَ الرسمِ شَكْلاً. أو يكونُ الولاءُ، على الأصَحِّ، ولاءً لزعيمٍ شَخْصٍ، في هذه الحالة: زعيمِ دولةٍ أو زعيمِ حزبٍ… ومن الولاءِ ما يأخُذُ بالمبَدإ الديموقراطيّ فيكونُ ولاءً لنظامٍ يعتَمِدُ حُكمَ القانونِ ويتمخّضُ، وفقاً للقانونِ، عن قيادةٍ سياسيّةٍ مقيّدةِ السلطةِ ومحدودةِ المدّة.

في حالةِ الدولةِ، يَظْهَرُ الاختلافُ بينَ الولاءينِ، أوَّلَ ما يظْهَرُ، على الأغلب، في سَعةِ كلٍّ منهما وفي أسلوبِ التعبيرِ عنه. هكذا يغلبُ أن يَظْهَرَ الولاءُ للزعيمِ كاسحاً، بل شِبْهَ إجماعيٍّ، في كثيرٍ من الحالاتِ، فلا يَدَعُ مجالاً لمنافسةٍ جادّةٍ ويعتمدُ تعابيرَ فاقعةً عن نفسِهِ تستكثرُ من الشعائرِ الممسرحةِ وتُظهرُ استعداداً للعنفِ في الدفاعِ عن شخصِ الزعيمِ وعن ثباتِهِ في موقعِهِ وعن شعاراتِ عهدِه. هذا بينَما يفتَرِقُ الولاءُ للنظامِ الديمقراطيِّ عن الولاءِ للقيادةِ أو لرأسِها المنتخَبِ فيصِحُّ أن يُدْعى هذا الولاءُ الأخيرُ تأييداً لا ولاءً. يتَمَثّلُ الولاءُ للنظامِ هَهُنا في الالتزامِ بحُكْمِ القانونِ وبالدستورِ، على الخُصوصِ. فيكونُ هذا الأخيرُ محلَّ رعايةٍ جامعةٍ مبدَئيّاً وإن وجدَت مواقفُ معارضةٌ لهذا أو ذاكَ من مندرجاتِهِ ومساعٍ ناشطةٌ لتعديلِهِ أو تغييره. وأمّا تأييدُ القيادةِ أو تأييدُ رأسِها فيُبْقيهِ التعبيرُ الحُرُّ عن تعدُّدِ التوجّهاتِ السياسيّةِ في المجتَمعِ بعيداً، في الأغلَبِ، عن الإجماعِ أو شبهِ الإجماعِ وبعيداً عن الثباتِ أيضاً.

حتّى أنّ الأكثريّةَ الحاكمةَ لا يندُرُ أن تكونَ أو تُصْبِحَ كبرى الأقلّيّاتِ، لا غيرُ، فلا يحفظُها في موقِعِها سوى أن يتعذّرَ تماسكُ حلفٍ أكثريٍّ في مواجهتِها. يحصُلُ كثيراً أيضاً أن تتراجعَ نسبةُ التأييدِ التي يحظى بها رأسُ الدولةِ (أو تحظى بها خياراتُه السياسيّة، بالأحرى) فتغدو أدنى، بقليلٍ أو بكثيرٍ، من تلك التي حملتهُ إلى منصبِه. فلا يبقيهِ في هذا المنصبِ سوى الضمانةِ الدستوريّةِ لمدّةِ ولايتِه. هذا وتوجَدُ في الديمقراطيّةِ أيضاً شعائرُ إظهارٍ للتأييدِ واحتفالٍ بالمرشّحينَ للسلطةِ وبفوزِهم بها. ولكنّها شعائرُ يلطّفُ التقليدُ من حدّتِها وتبقى بمنأىً عن إنكارِ ما للمنافسينَ من تمثيلٍ وشرعيّةِ وجودٍ وحركةٍ وعن توعُّدهم بالعنف…

والخلاصةُ أنّ الزعامةَ الأوتوقراطيّةَ تنحو نحْوَ إلحاقِ النظامِ بأسْرِهِ برِكابِها فيما تبقى القيادةُ الديموقراطيّةُ مقيّدةً بحُكْمِ القانونِ، مدينةً لَهُ بسلطتِها وملزمةً، وفقاً له، بصيغٍ مقرّرةٍ لممارسةِ  هذه السلطةِ وبحدودٍ مرسومةٍ لها أيضاً.

هذا ولا تختلفُ السِماتُ الإجماليّة للتَنْظيمِ السياسيّ ذي الصفةِ الديموقراطيّةِ عن تلكَ المميّزةِ لنظامِ الدولةِ الديموقراطيّةَ سوى بتفاصيلَ تنظيميّةٍ يمليها اختِلافُ النطاقِ والوظيفة. وإنّما المبْدَأُ واحد. وهذا يصِحُّ أيضاً في الحزبِ ذي الزعامةِ الأوتوقراطيّةِ وفي نظامِ الدولةِ الذي ينشئهُ هذا الضربُ من الأحزابِ حيثُ يضعُ يدَهُ على سلطةِ الدولة. وإنّما السؤالُ الذي نتوخّى طَرْحَهُ هنا هو سؤالُ الولاءِ: ذاكَ الذي تطرحهُ هذه المقارنةُ بينَ الالتزامِ بشخصِ الزعيمِ أو موقعِ الزعامةِ وما يمليهِ أو تمليهِ من إراداتٍ وبَيْنَ تأييدِ القيادةِ المنتخبةِ، ممثّلةً برأسِها، والالتزامِ بما ترسِمُهُ في نطاقِ القانون.

يَسَعُ هذا السؤالَ أن يكونَ التالي: ما الذي يحمِلُ الجماعةَ، جماعةَ حزبٍ كانت أم جماعةَ شعبٍ، على أن تخصَّ بولائها المُشْرَعِ زعامةً تزعُمُ تجسيدَها (بالمعنى الحَرفِيِّ للتجسيدِ، أي بمعنى الاستواءِ جسَداً مختصراً لها) ولكنّها لا تشركُها في قرارٍ تتخذُهُ ولا تعدّها جديرةً بالمبادرةِ الحرّةِ، تصدُرُ عن جهةٍ فيها، في أيّ شأنٍ من الشؤونِ ذاتِ الوقعِ العامّ؟ وإنّما السائدُ أن تُجْعَلَ المبادرةُ محلَّ شبهةٍ وأن يُحالَ دُونَ التجمُّعِ أو التنظيمِ المستَقِلِّ وأن يعدَّ ظهورُ المعارضةِ ظاهرةَ عداوةٍ للزعامةِ وللجماعةِ برُمّتِها، بالتالي. فيُرى هذا الظهورُغيرَ قابلٍ للاحتِمالِ أو للاستيعابِ بل يُرى مستدعياً القمعَ والإلغاء.

ما الذي يجعَلُ الجماعةَ، في كثرةٍ معلومةٍ من الحالاتِ، تظهرُ، باعتِبارِ سَعةِ النطاقِ التي يبلغُها ولاؤها والحماسةِ العارمةِ في تعبيرِها عنه، وكأنّها تؤثِرُ هذا النَمَطَ من القيادة – نَمَطَ زعامةِ الشخصِ المهيمنةِ – على ذاكَ الذي يَدَعُ لكلّ فرْدٍ من أفرادِها ولكلّ كسرٍ من كسورِها، في المبدإ، قولاً يدلي بِهِ في كلِّ أمْرٍ من الأمورِ العامّةِ (ناهيكَ بكفالةِ حرّيّتِهِ في تدبيرِ ما يخُصُّهُ من أمورٍ) ويدَعُ له أيضاً سبيلاً لتفعيلِ هذا القولِ يفتَحُهُ التجديدُ الدوريُّ لمؤسّساتِ النظامِ وتعزّزه حرّيّةُ التعبيرِ وحرّيّةُ التنظيم؟

أوّلُ ما يَتبادَرُ إلى الخاطرِ تفسيراً لهذه المفارقةِ نسبتُها إلى القَمْعِ أو إلى الإرهابِ أي اعتبارُ الولاءِ للزعامةِ الشخصيّةِ نفاقاً يستدعيهِ الخوفُ من السلطة. فإذا تَجَسّدَ التعبيرُ عن هذا الولاء في نتيجةِ انتخابٍ عُزِيَت النتيجةُ إلى التزوير، على اختلافِ صُوَرِه. ولهذا كلِّهِ نصيبٌ من الصحّةِ دوماً ولكنّ في البَذْلِ المحسوسِ المختلفِ الوجوهِ، أو في التفاني الظاهر، وهو يتعدّى مجرّدَ الحَماسةِ في التعبيرِ ويتَّخذُ، هنا وهناكَ، صوَراً قصوى، وفي الحُشودِ المتراميةِ العارمةِ أيضاً ما لا سَبيلَ إلى تزويره. وإنّما يُطْلَبُ التفسيرُ الأصدَقُ لهذا النوعِ من الولاءِ في بِنيةِ العلاقةِ ما بينَ النظامِ بأسره، بما يمنحُهُ من سلطةٍ للزعامةِ، وجمهورِ الرعايا، في حالةِ الدولةِ، أو جمهورِ المناصرينَ أو الأتباعِ في حالةِ التنظيمِ السياسي.

وخلاصةُ ذلك أنّ هذا النظامَ يقومُ أصلاً على تجريدِ من يُظِلُّهم، أفراداً وجماعاتٍ، من كلّ حَوْلٍ أو طَوْلٍ تاركاً إيّاهم في عُرْيٍ من الحقوقِ وخَوَرٍ في الطاقةِ حيالَ الزعامة. هذا الضعفُ المُعَمَّمُ هو ما تنبثقُ منهُ الحاجةُ إلى التعويضِ المكثَّفِ في قوّةِ الزعامة. ولا ريبَ أنّ الزعيمَ محتاجٌ إلى تأسيسِ زعامتهِ على مزايا شخصيّةٍ بارزةٍ وعلى مُنْجَزاتٍ ذاتِ وَقْع. فالزعامةُ لا تَخْرُجُ من عدمٍ ولا تُرْسى على فَراغ. ولكنّ المَزايا يَسْهُلُ نفخُها والمنجَزاتِ لا يعْسُرُ تضخيمُها فَضْلاً عن تأبيدِ مفعولِها المبتَغى. وتُتَّخَذُ هذه وتلكَ، في كلِّ حالٍ، ستاراً لأوضاعٍ لا يُدارى خَرابُها الضارِبُ في الأُسُسِ وحِجاباً لمخاطِرَ تكشِفُ المجادلةُ فيها ما عليهِ النظامُ والجماعةُ من هَشاشةٍ أصليّةٍ، وذريعةً لكَمّ الأفواه ما خلا ما كانَ تمجيداً للزعامةِ وتبجيلاً لصاحبِها وللمضيِّ قُدُماً، فَوْقَ هذا كُلِّهِ، في “تطْفيلِ” الجماعةِ أفراداً وتَكاوينَ بحيثُ يؤولُ ما قد ينالُها من خيرٍ، في هذا المضمارِ أو في ذاك، إلى منّةٍ عليها، من جهةِ الزعامةِ العبقريّةِ، لا إلى حقٍّ لَها وهي المُجَرّدةُ من الحقوقِ الأصليّةِ. فتلكَ حالُ الجماعةِ، في الواقع، بمُقْتَضى فرضِيّةٍ ضِمنيّةٍ تَتَواطَأُ هي وزعامَتُها على الأخْذِ بِها وإن أَظْهَرا خِلافَها.

ذاكَ – أي العَجْزُ المُعَمَّمُ في الجماعةِ – هو أصْلُ البَلاءِ بهذا الطرازِ من الزعامةِ الذي يتّخذُ لبوساً شخصيّاً ويُلْحقُ بنفسِهِ نظامَه. وأمّا حماسةُ الحُشودِ فهي  العَرَضُ المُتَرَتِّبُ على هذا العَجْزِ الأصيلِ، يُجَنِّبُ المحكومَ عليهِم بِهِ محنةَ مواجَهَتِه. وذاكَ أنّ في هذا البديلِ راحةً مؤكّدةً، ولَو إلى حين… وهذا مخرَجٌ له، في عُصورِ التاريخِ، شواهدُ كثيرةٌ، لعلَّ أظْهَرَها ما كانَ العَبْدُ يَحْفَظُهُ لسَيّدِهِ من وَلاءٍ يَهونُ مَعَهُ بَذْلُ الحياةِ نَفْسِها. فإنّما العُمْدةُ، في هذا الأمْرِ، هي المصادرةُ الكُلّيّةُ لِنَفْسِ العَبْدِ ولِشُروطِ بقائهِ فيُسْتَبْعَدُ، في حالتِهِ، إمكانُ التَدَبُّرِ المستقِلِّ والتَمَرُّد.

على هذا، لا يأتي استعدادُ الرَعايا أو الأتباعِ للبَذْلِ أو للتفاني بريئاً من استحواذِ الزعامةِ على جملةِ ما يُضِرُّ أو يَنْفَعُ، توزّعهُ بحسبِ ما يقتضيهِ ترسيخُها وتأبيدُها. فإذا أصبحَت هي المحكَّمةَ في وجوهِ المعاشِ وحاجاتِهِ كلِّها من الدَخْلِ إلى الصحّةِ إلى التعليمِ إلى رعايةِ المسنّينَ، فَضْلاً عن الأمنِ والحمايةِ، أي على وظائفِ الدولةِ برُمَّتِها، وهذا بأسلوبِ الاستئثارِ المفروضِ والأمرِ الواقعِ وليس بأسْلوبِ الاختِيارِ المؤسَّسيِّ الحُرِّ، كانَ ذلكَ مَجْلَبةً لضَرْبٍ من الولاءِ، مترَتِّبٍ على الحِمايةِ أو على الإعالةِ أو على كِلَيْهِما، منتَظَرٍ من جانبِ مَن لم يُتْرَكْ لَهُم حقٌّ أصيلٌ في شَيْءٍ: لا في قرارٍ أو مَشورةٍ ولا في مَنْفَعة. هذا التجريدُ من الحُرِّيّةِ المصونةِ بالقانونِ ومن الحقوقِ بما هِيَ أساسٌ لِما يُطْلَبُ ولِما يُنالُ لا يَدَعُ للولاءِ المذكورِ من قيمةٍ ما خلا قيمتَهُ بِما هو قُوّةٌ ماثلةٌ للتوظيفِ من جِهةِ الزَعامةِ وقيمتَهُ بِما هو موضوعٌ للدَرْس.

يُقابِلُ هذا، في المشهدِ الديموقراطيِّ، قَلْبُ الميزانِ ما بينَ الزعامةِ والنظام. فلا يبقى هذا ملحقاً بتلك بل تغدو هي وظيفةً من وظائفِهِ، حتّى لَيُصْبِحَ اسمُها نفْسُهُ فَضْفاضاً عليها. وهو ما يؤولُ إليهِ فقدانُها الصفةَ الشخصيّةَ في عَلاقَتِها بالجماعةِ أي هَهُنا بالقاعدة. وهو ما يترَتَّبُ على اعتِبارِها وظيفةً أنشَأَتْها القاعدةُ: مَصْدَرُ السُلْطةِ وصاحبةُ الحقوقِ جميعاً. وهو ما يفتَرضُ الحرّيّةَ، على اختلافِ المجالات. وهذه تستدعي الكثرةَ في تشكيلِ الجماعةِ: مستوياتٍ وتوجُّهات. وفي ما يعني موضوعَنا هَهُنا، يؤولُ المَشْهَدُ الديمقراطيُّ إلى نَقْلٍ للقيمةِ من القِمّةِ إلى القاعدةِ أي إلى إرادةٍ لتسليمِ البَشَرِ زِمامَ أُمورِهم. وهو ما يعادِلُ التَصْريحَ، مرّةً أخرى، بأنّ الولاءَ لزعامةٍ تُرْسى على تجريدِ الجماعةِ، أفراداً وتشكيلاتٍ، من  الحقوقِ ومن التصرُّفِ الحُرِّ بها، بما هي مَصْدَرُها، إنَّما هو ولاءٌ لا قيمةَ له.

ألزَمَنا ما سَبَقَ باختِزالٍ لا يَخْفى فَرَضَتْهُ الحاجةُ إلى الإيجازِ وإلى الخُلوصِ المُباشِرِ إلى لُبِّ القضيّةِ موضوعِ هذهِ العُجالة. فلا تصنيفُ الأنظمةِ على النَحْوِ المُقْتَرَحِ أعْلاهُ وافٍ لو كانَ المُرادُ اتّخاذُ التصنيفِ موضوعاً، ولا المُؤدّى الحِسّيِّ لكلٍّ من الطرازَينِ المُسْتَبْقَيَينِ يَسْتَنْفِدُهُ ما أُشيرَ إليهِ من سِماتٍ هَيكَليّة، إلخ. على أنّ ما يُعَيِّنُ قيمةَ الوَلاءِ يبقى هذا الذي أبْرَزْناهُ: أي الحُرِّيةَ بمُقَوِّماتِها المعنويّة، وهي الحُقوقُ، وبِمُقَوِّماتِها الحِسّيّةِ، وهي المُقَوِّماتُ المَعْلومةُ لحياةِ الجماعةِ ومُقَوِّماتُ الحياةِ الشخصيّةِ في المُجْتَمَعِ بِما هِيَ حُقوقٌ أيضاً.

المدن – بَيْنَ السعادةِ وراحةِ البال


— Read on www.almodon.com/opinion/2023/5/22/بين-السعادة-وراحة-البال

قَبْلَ أعوامٍ، كان واحدٌ من أكبرِ المصارفِ اللبنانيّةِ يتّخذُ له شعاراً إعلانيّاً “راحةَ البال”! كان هذا المصرفُ يتنازعُ وآخرَ صفةَ “المصرفِ الأكبرِ” أو الرتبةَ الأولى بينَ المصارفِ اللبنانيّة: فتارةً تُمْنَحُ هذه الرتبةُ لهذا وتارةً لذاك. في كلّ حالٍ، كان يصعُبُ أن تنجو، إذا أنتَ جلستَ أمامَ شاشتكَ الصغيرةِ ساعةً من الزمنِ، من ذِكْرِ المصرفِ المُشارِ إليهِ يرنُّ في أذنيكَ مَثْنى وثُلاثَ مقترِناً بتلكَ العبارةِ تَنْشُرُ الخَدَرَ في جِسْمِكَ كلِّه: “راحةُ البال!”…

اليومَ يجوزُ الافتراضُ أنّ هذا المصرفَ، إذا صَحَّ أنّه لا يَزالُ الأكبرَ، فهو المصدَرُ الأهَمُّ لإقلاقِ راحةِ المودعينَ فِيهِ إلى حدِّ إبعادِ الكَرى عن جفونِهم وعن جفونِ من قد يلوذُ بهِمْ أو يعتمدُ عليهِم من ذوي القُرْبى واليَتامى والمساكينِ وأبناءِ السبيل…

وقد تبدو الصلةُ واهيةً، لأوّلِ وهلةٍ، بين تغيّرِ الحالِ هذا وتقهقُرِ لبنان واللبنانيّينَ إلى الدرجةِ ما قَبْلَ الدنيا على سلّمِ “السعادةِ” الدوليِّ، فلا يبقى دونَنا على السُلّمِ المذكورِ إِلَّا أفغانستان وشعبُها المنكوب. ولكنّ هذه الوهلةَ الأولى غَرّارةٌ إذ الصلةُ المُشارُ إليها وثيقةٌ للغاية. وذاكَ أنّ تداعي النظامِ المصرفيِّ اللبنانيِّ كشفَ هشاشتَهُ بما هو عمودٌ فِقْريٌّ لنظامِنا الاقتصاديِّ ولكنّه كشفَ أيضاً، بما استدعاهُ من تصدُّعاتٍ، هشاشةَ الحياةِ اللبنانيّةِ كلّها. لم يحصُل هذا الكشفُ لأوّلِ مرّةٍ فإنّ عهدَنا به قديم. ولكنّه حصَلَ مرّةً أخرى وجاءَ حصولُهُ فاجراً.

وقد كانَ لا بُدَّ لنا، وقد وجدنا أنفٌسَنا في هذا الحضيضِ، أن نشرئبَّ إلى أعلى سُلَّمِ السعادةِ ذي الدرجاتِ المائةِ والأربعِ والثلاثين، لنعلَمَ، في الأقَلِّ، مَن الأَوْلى بغيظِنا وحسَدِنا. فكانَ أن وقعنا على فنلندا، وهي بلادٌ يوشكُ أن لا يكونَ بينَنا وبينَها خيرٌ ولا شَرّ، فأخذنا عِلماً باستوائها على قمّةِ الهَرَمِ تنازعُها موقعَها هذا الدنمارك، ووقَفْنا من العِلْمِ عندَ هذا الحدّ، على وجه الإجمال، أو تجاوَزْناهُ قليلاً إلى “الوصيفةِ الثانيةِ” وهي أيسلندا. لم نَجِد في شهيّتنا متّسعاً للغوصِ في مزيدٍ من التفاصيلِ، أي – مثلاً – للتوقّفِ مليّاً عندَ تبوُّءِ إسرائيل المرتبةَ الرابعةَ، وهذا بعد إنزالِنا ما أنزلناهُ بها من هزائم! بهذه الصفاقةِ إذن، انتقَلَت “راحةُ البالِ”، على ما يظْهَرُ، من صَفّنا إلى صَفِّ العَدُو!

هذا ونعلمُ أنّ سُلّمَ السعادةِ ذاكَ، وقد ذاعَ صيتُهُ وأصبحَ ظهورُه الدوريُّ منتظراً، إنَّما وُضِعَ في مواجهةِ “الناتج الداخليّ القائم” و”الناتجِ الوطنيّ القائم” اللذين كانا (ولا يزالان) معتمَدَينِ، تقاسُ بحركتِهما صحّةُ الاقتصادِ في دولةٍ من الدُوَلِ وتٌقارَنُ الدُوَلُ، لهذه الجهةِ، بعْضُها ببعض. فكأنّ الارتدادَ إلى حديثِ السعادة أريدَ لَهُ أن يأتيَ مصداقاً لحكمةِ الشعوبِ وهي القائلةُ أنّ المالَ ليسَ كلَّ شَيْءٍ في حياةِ البشر! لم يهمِلْ مقياسُ السعادة الذي رعَتْهُ الأممُ المتّحدةُ وأمَدّتْهُ مؤسّسةُ “غالوب” المشهورةُ بالمعطياتِ المناسِبةِ، موقعَ المالِ أو الاقتصادِ، بطبيعةِ الحال. ولكنّ التقريرَ الأخيرَ تبيّنَ ركائزَ سِتّاً اعتمدها للسعادة. وهي الدخلُ والصحّةُ وتوفّرُ السندِ الاجتماعيّ والشعورُ بالحرّيّةِ في توجيهِ دفّةِ الحياةِ والكرَمُ (بمعنى الاستعدادِ لبذلِ المعونةِ) والبعدُ عن التعرّضِ للفساد.

وقد انتظمَ صدورُ هذا التقريرِ العالَميِّ منذ سنةِ ٢٠١٢. ولكنّ أصلَ فكرتِه يرقى إلى أوائلِ السبعيناتِ من القرن الماضي. إذ ذاكَ ارتأى ملكُ بوتان، المملكةِ الصغيرةِ المحشورةِ بينَ التيبت الصينيّة وبعضِ ولاياتِ الاتّحادِ الهنديِّ، وكان الملكُ لا يزالُ في السادسةَ عشرةَ من عمرهِ، أن ينشئَ أداةً يقيسُ بها حظّ شعبِهِ من السعادة. وهذه رغبةٌ استغرقت التهيئةُ لوضعها موضعَ التنفيذِ عقوداً فلم يتيَسّر تجسيدُها مرّةً أٌولى إِلَّا في سنةِ ١٩٩٨. على أنّ إجراءَ هذا القياسِ رُفِعَ لاحقاً إلى مَصافِّ الواجبِ الوطنيِّ الثابتِ إذ أدْرِجَ في دستورِ البلادِ المعتَمَدِ سنةَ ٢٠٠٨، وهو ما انفرَدَت به بوتان وبقيَ التزامُها به مستقلّاً عن المبادرةِ الدوليّةِ التي استلهَمَت خبرتَها. هذا ولا يظْهَرُ لبوتان أثرٌ بينَ الدُوَل المدْرجةِ على السُلّم الدُوَلي وعَددُها، على ما سبَقت الإشارةُ إليه، مائةٌ وأربَعٌ وثلاثون!

في كلّ حالٍ، تُفيدُ مراجعةُ العناوينِ الستّةِ التي جعلَها التقريرُ الدُوَليُّ لهذه السنةِ مفاصلَ له أنّهُ لم يَبْقَ للّبنانيّينَ من معظَمِها، في هذه الأعوامِ الأخيرةِ، نصيبٌ يُذْكَر. على أنّهُ لا يزالُ يسعُهُم (شأنُهُم في هذا شأنُ سواهُم) أن يجادلوا في وجاهةِ هذه العناوينِ وفي كفايَتِها أدلّةً لسعادةِ الشُعوبِ أو أن يَطْرَحوا، في الأقلِّ، مُشْكِلَ التَراتُبِ في ما بينَها، إذا هُم سَلّموا بكفايتِها الإجماليّة. هذا جدالٌ مفتوحٌ يُسْتَبْعَدُ أن يظهرَ إلى حَسْمِهِ سبيل.

عليهِ أرى أن نترُكَ السعادةَ لأهلِها ونقنَعَ بالنـظَرِ في ما كانَ ذلكَ المصرَفُ يزعُمُ إلى أمسٍ قريبٍ ضمانَهُ لنا، أي “راحةِ البال”. وهو ما أجدُ له، من جهتي، مقياساً واحداً مناسباً لا يدخُلُ في نطاقِ العَمَلِ المصرفيّ وإن تَكُنْ المَصارِفُ تتدخّلُ فيه: ألا وهو كلفةُ التغييرِ السياسيّ. فإذا كانت كلفةُ هذا التغييرِ، على اختِلافِ درجاتِهِ: من تعديلِ سياسةٍ ما إلى تغييرِ النظامِ السياسيِّ، تُتَرْجِمُ حقَّ الشعبِ في تقريرِ مصيرِهِ واختيارِ من يَسوسُ شؤونَهُ وتعيينِ الأهدافِ والوسائلِ الموافقةِ للخيرِ العامِّ، كانت راحةُ البال حاصلة. وذاكَ أنّ ما يَسوءُ أو يَبْلى يكونُ ممكناً تغييرُهُ بحُكْمِ الحقِّ أي من غيرِ حاجةٍ إلى تكَلّفِ الفادحِ من التضحيات: الفادحِ إلى حدٍّ قد يجْعَلُ الخسارةَ في طلبِ الانتقالِ أضخَمَ من الربْحِ المترتِّبِ على الوصولِ… وهذا إذا كانَ الوصولُ –أو بَقِيَ– في دائرةِ الممكِنات.

واضحٌ أنّ راحةَ البالِ هذه غيرُ حاصلةٍ لِلُّبنانيّين. وتفْرضُ الأمانةُ التاريخيّةُ الاعترافَ بأنّها كانت (ولكن بمعنىً آخرَ لها) بعيدةً عنْهُم، على الدوامِ تقريباً. وذاكَ أنّ السمةَ الأصدقَ وصفاً لنمطِ العيشِ اللبنانيِّ كانت، في معْظَمِ المراحلِ، أنّ اللبنانيّينَ يعرفونَ على ماذا أمسوا ولكن لا يعرفون على ماذا يصبِحون. وهو ما كانَ ميشال شيحا يطلقُ عليهِ متغزِّلاً اسمَ “العيش في خَطَر”… ذاكَ ما يتبدّى للنَظَرِ الإجماليّ.

وأمّا اليومُ الذي نحْنُ فيه فهو، في ما يتعَدّى لزومَهُ هذا المجرى العامَّ، يومٌ آخرُ: يومٌ مختلِفٌ جدّاً. والفارقُ بينَ هذا اليومِ وغيرِهِ هو الفارقُ بينَ النكبةِ بِما هي احتِمالٌ قريبٌ أو بعيدٌ والنكبةِ بِما هي وَهْدةٌ سقطَت فيها الحياةُ اللبنانيّةُ كُلُّها وهي لا تَني تَزدادُ عُمْقاً ولا يَتَبَيَّنُ منها مَخْرَج. فإنّ البلادَ توشكُ أن يُقْضى عليها حَرْثاً ونَسْلاً من غيرِ أن تبدو هذه الكلفةُ كافيةً لفرضِ ما يقتضيهِ انفكاكُ قبضةِ المحنةِ المطبقةِ على أعناقِ اللبنانيّينَ من تغييرٍ سياسيّ. بل إنّ مسيرةَ الهلاكِ هذه متروكةٌ تمضي نحو خواتيمِها، لا يلجمُها اللبنانيّونَ ولا غَيْرُهم. وربّما كانَ أفْجَعَ ما في المحنةِ اللبنانيّةِ (مُضافاً إلى “الاستقالةِ” شِبْهِ الشاملةِ من السَعْيِ في معالَجَتِها) اشتِدادُ نَزْفِ البلادِ لأوفَرِ قواها أهْلِيّةً للنهوضِ بها. معنى هذا كلِّهِ أنّ الدرجةَ التي ضَمنّاهاً مَقْعداً لنا في أسفَلِ سُلّمِ السعادة تبقى مضمونةً لنا أيضاً في أسفَلِ سُلّمِ راحةِ البال.

وقد ذَكَرْنا أنّ دولةً واحدةً كانت قد وُجِدَت أقلَّ سعادةً منّا هي أفغانستان. وأمّا سلّمُ راحةِ البال فأرى أن نتركَ عليه مقعداً واحداً أيضاً أدنى من المقعدِ اللبنانيّ: نترُكُه لسوريّة. وذاكَ أنّ السوريّينَ أرادوا التغييرَ السياسيَّ، موضحينَ أنّهم يقصدونَ إسقاطَ النظامِ الأسَديِّ. فكان أن تَكَبّدوا كلفةً أبرزُ عناصرِها هجرةُ رُبْعِهم، في أدنى تقديرٍ، وتوزّعُ الأرباعِ الباقيةِ، وأحدُها، في التقدير الأدنى أيضاً، مهجَّرٌ، بيْنَ مناطقَ بقيَت للحُكْمِ الأسديّ أو عادت إليهِ وأخرى موزّعةِ المرجعيّاتِ والتوجّهاتِ. تُتَوِّجُ هذا الخرابَ قوى احتلالٍ متنافسةٍ أو متنازعةٍ واضعةٍ أياديها على معْظَمِ البلادِ وأجواءٌ ومَرافقُ مستباحةٌ من جانبِ المحتلِّ القديمِ. وهذا فضلاً عن الدمارِ العميمِ والقتلى بمئاتِ الألوفِ وأرخبيلِ الاعتقالِ والتعذيبِ الشاسعِ وفضلاً عن تداعي مقوّماتِ العيشِ العاديِّ كافّةً… ذاكَ كلُّهُ تغييرٌ، لا رَيْبَ، وهو – بينَ ما هو – تغييرٌ سياسيٌّ. ولكنّهُ ليس التغييرَ الذي بذَلَ السوريّونَ ما بذَلوه طلَباً له. وإنّما هو عَكْسُه. وهو ما أراهُ، بالنظرِ إلى فداحتِهِ القُصْوى، بما هو كلفةٌ فُرِضَت وأفضى فَرْضُها إلى غيرِ النتيجةِ المُتَوخّاةِ أو إلى حَجْبِ هذهِ الأخيرةِ، يُجيزُ تعيينَ الموقعِ الأبعَدِ عن راحةِ البالِ على أنّه موقعُ السوريّينَ اليوم.

قُلْتُم “راحةُ البالِ” يا نُخْبةَ الحُثالات؟! 

المدن – سوريّة ولبنان في مسْتَهَلِّ الانتداب: صُوَرٌ من كتابٍ مَنْسيّ(2)

واللبنانيّون؟ والسوريّون؟ أكثرُ ما نراهم، في الكتاب، ناشئةً مشمولةً بالعناية الفرنسيّة في مؤسّساتِ التعليمِ وما جرى مجراها المدن
— Read on www.almodon.com/opinion/2023/5/13/سورية-ولبنان-في-مستهل-الانتداب-صور-من-كتاب-منسي-2

بعد حلقة أولى عن كتاب الكاهن أميل وترلي É. Wetterlé الصادر في باريس، سنةَ 1924، والذي يسرد وقائعُ رحلةٍ متلاطمةِ الأحداثِ قامَ بها مؤلّفهُ في عدادِ وفدٍ في خريف 1922 إلى سوريّة ولبنان، هنا الحلقة الثانية والأخيرة:

يعلنُ أميل وترلي خيبةَ أملِه في بيروت قبلَ أن يَطأَ أرضها! يصدُمُه ما يشاهده منها وهو يدخلُ المرفأ: سطوحُ القرميد وزِيُّ العَمَلِ الأوروبيُّ لحمّالي المرفإ وندرةُ الطرابيش على ما يستقبل القادمين من رؤوس، إلخ! لا يكتم وترلي، من غير أن تفوتَه علاماتُ الفقرِ في المشهد، أنّه لم يحضر ليرى ما يشبه “كانّ” أو “سيتّ”. ولكنّ هذا الشعور الأوّل، وهو لا يعدو أن يكون مثالاً أوّل لمزاج المؤلّف “الاستشراقيّ” وميلِه إلى التنميط والقولبة، لا يلبثُ أن يغورَ في سيل “محاضراتِ” التعريف وزيارات التفقّدِ لمرافق الأعمال ومؤسّسات الصحّة والتربية وما إليهما، وفي مسلسلِ المآدب والخُطَب، وفي ماجريات التنقّل الدائب بين العاصمة وسواها: عاليه حيث يصطاف غورو وصوفر حيث يولم للوفد حبيب باشا السعد رئيس “المجلس التمثيليّ” وهذا بعد أن جمعتهم مأدبةُ حاكم لبنان الفرنسيّ ترابو بوزراء لبنانيّين فاستمعوا إلى خطبٍ بالعربيّة…

هذا النوع من الوقائعِ أو المفاصلِ سيبقى ملازماً لإقامة الوفد في لبنان وفي سوريّة ثمّ في فلسطين، بعدَ انتهاء المهمّة، حتّى بدءِ رحلةِ العودةِ من بور سعيد: مآدبُ وخطبٌ وتفقّدٌ وتدشينٌ وسياحة. وهذا في محطّاتٍ مذهلةِ الكثرة. فمن بيروت وبعضِ الجبل اللبنانيِّ وبعض البقاع، انتقل الوفدُ إلى دمشق. ومن هذه إلى حمص فإلى حلب ثمّ إلى حماه رجوعاً فإلى بلادِ العلويّين التي استكثرَ الوفدُ فيها من المحطّات وقصدَ بعدها طرابلس ثمّ الديمان في زيارةٍ للبطريرك المارونيّ. بينَ أواخرِ المحطّاتِ أيضاً قلعةُ المرقب ثمّ هياكل بعلبك. وفي عودٍ على بدءٍ، اختُتِمت مهمّة الوفدِ في بيروت. وكان قد فاتهُ، بعد هذا كلّه، النصفُ الجنوبيُّ من لبنان. ومن سوريّةَ فاتهُ جنوبُها أيضاً وفاتتهُ الباديةُ والجزيرة… وأمّا زيارةُ فلسطين (قبل ركوبِ البحر من مصر) فكانت أشبهَ بحجٍّ أدّاهُ الكاهنُ شُفِعَ بفرصةٍ أخرى لذمِّ الإنكليز، أصحابِ الأمرِ هناك، ولهجاءِ حلفائهم الصهاينة…

لم تزد مدّةُ الإقامةِ في لبنان وسوريّة عن أسبوعينِ، مساويةً تقريباً ما كان استغرقَهُ سفرُ الباخرة من مرسيليا إلى بيروت. وهي مدّةٌ امتزجت فيها السياحةُ التقليديّةُ بتعرّفِ الأحوالِ والمطالبِ مع غلبةٍ لما هو فرنسيّ المنشإ: من العملةِ الجديدةِ إلى مدارسِ الإرساليّاتِ ومزرعةِ اليسوعيّين في تعنايل وكلّيتِهِم في بيروت، إلخ. بل إنّ بعضَ الجاليةِ الفرنسيّةِ لا يبدو بعيداً عن الافتراضِ أنّ الوفدَ إنّما جاءَ يتفقّدُ أحوالها هي، بالدرجةِ الأولى، لا أحوالَ البلادِ، وأنّ الصلةَ بينها وبينَ الوفدِ ينبغي لها أن تبقى حرّةً ومباشرةً فلا تخضعُ لوصايةِ المفوّضيّةِ السامية أو لمصادرتها. تلك إشارةٌ خاطفةٌ إلى منطلقٍ أساسٍ لعلاقةِ الجاليةِ بالبلادِ التي حلّت فيها بشراً وحجراً… ولكن يظهرُ أنّ الوفدَ نفسه لم يلتفت إلى رغبةِ مواطنيه أولئك في الاستئثار باهتمامه.

واللبنانيّون؟ والسوريّون؟ أكثرُ ما نراهم، في الكتاب، ناشئةً مشمولةً بالعناية الفرنسيّة في مؤسّساتِ التعليمِ وما جرى مجراها: لا ينافسُ حضورَهُم هذا سوى ظهورِهم المتكرّرِ على الطرقاتِ أو في الساحاتِ مؤدّينَ العراضاتِ التي يحسنونها احتفاءً بالوفد، خصوصاً حين يكونُ هذا الأخيرُ بصحبةِ الجنرال غورو. وهذا إلى حضورٍ لأعيانٍ مختلفي المواقِعِ في المحطّات. لا يظهرُ من أثرٍ حيثُ يحلُّ الوفدُ أو حيثُ يمرُّ لمعارضةٍ ما يستثيرها الاحتلالُ الفرنسيُّ أو سياستُهُ وإن نمَّ بعضُ عباراتِ الأعيانِ برغبةٍ لا إلحاحَ فيها ولا استفزازَ في زيادةِ أنصبتِهِم من سلطةِ الحكمِ وتصريفِ شؤونِ البلادِ وأهلِها. وإذ يستغرقُ هذا التسليمُ المصحوبُ بتهليلِ العوامِّ وبرقصِ المهلّلينَ وزغاريدِ نسائهِم مساحةَ الصورةِ التي يعرضها الكتابُ لمسلكِ الأهالي ومواقفِ أعيانِهِم، يجِدُ الكتابُ نفْسَه في موقعِ مواجهةٍ للتآليفِ المتأخّرةِ التي خصَّ بها لبنانيّونَ أو سوريّونَ تلك المرحلةَ. إذ تُبْرزُ هذه الأعمالُ، أكثرَ ما تُبْرِزُ، معارضةً تنوّعت قواها وواكبَت بأنواعٍ مختلفةٍ من القولِ والفعلِ مسارَ الاحتلالِ والانتدابِ، وإن تكُنْ الأعمالُ نفْسُها لا تُخْفي وجودَ قوىً أهليّةٍ أخرى (تَغَيّرَ قُوامُها أيضاً من محطّة إلى أخرى): قوىً حظيَ منها ذلك المسارُ نفْسُه بالولاءِ والتعاون.

في هذه المواجهةِ، لا يكفي تعارضُ المواقعِ لتعيينِ جهةٍ تُحصَرُ فيها حقائقُ التاريخ. بل إنّ هذا التعارضَ ينبغي لهُ أن يَكونَ حافزاً للتمهّلِ وللتحرّي لا للاستعجالِ في إهمالِ الوقائعِ بحجّةِ تحكّمِ الموقعِ (وإن يكن مؤكّداً) في تعيينِ ما تبرزه من الوقائعِ كلٌّ من جهتي المواجهة. يَعْرضُ وترلي صورةً مشْكلةَ المعاني لهذا المسلسلِ الاحتفاليِّ بسلطةٍ محتلّةٍ تَفْرضُ نفْسَها على أنّها محرّرةٌ وتبدو، في ترويجِها هذه الصورة لدَوْرِها، غيرَ خاويةِ الوفاضِ من التأييدِ الأهلي. ولا يبدّلُ من هذا الواقعِ كثيراً أن يتّخذ هذا التأييدُ، في بعضٍ من لحظاته، صوراً تُراوحُ ما بيْنَ تذلُّلٍ ونفاقٍ كلاهُما ظاهرُ السذاجة.

لا يُبْدي وترلي ارتياباً من التكرارِ الرتيبِ لمَظاهر الولاءِ هذه بما فيها من صخبٍ يبتغي استيقافَ صاحبِ السطوةِ واستدراجَ إعجابِه أو رضاه. ولكنّه يشدِّدُ بينَ حينٍ وآخر على كثرةٍ ما في هذا المشرقِ من فَوالِقَ تُفَرّقُ الجماعاتِ الكثيرةَ بعْضَها عن بعْضٍ وتَحْضرُ فيها مذاهبُ الأديانِ وعصبيّاتُ العشائرِ واختلافُ أنماطِ العيشِ باختلافِ المواقعِ. وهذا مع ما يفرضُهُ نموُّ المدنِ من تداخلٍ واشتباكٍ ومع صمودِ الزراعةِ، بما ينتَظِمُها من ملكيّاتٍ كبيرةٍ، صيغةً رئيسةً للعيشِ ومع الحضورِ المستمرِّ للباديةِ ولبَدْوِها. من لوحةِ الفسيفساءِ هذه، يخلُصُ وترلي إلى ضرورةِ البقاءِ المديدِ للدورِ الفرنسيِّ الذي يراهُ “تربويّاً” بالدرجةِ الأولى. وهو يرى مآلاً لهذا الدور تنميةَ الرابطِ الوطنيّ ما أَمْكنَ في ما يتعدّى الشُقوقَ الماثلةَ، فضلاً عن التدريب على التنظيمِ الحديثِ لأجهزةِ الدولةِ ومؤسَّساتِ المجتمع. على أنّهُ يرى هذا كلَّه بعيدَ المَنال فيقدّر أنّ الدَوْرَ المشارَ إليهِ موعودٌ بعمرٍ طويل. ودليلُه الأوّلُ إلى هذا الترجيحِ حالُ الناشئة: ففي لبنان وسوريّة معاً يرتادُ المدارسَ أربعونَ ألفَ تلميذٍ فيما يَفْتَرَضُ وترلي أنّه لا بدَّ من رَفْعِ هذا العددِ إلى ستمائةِ ألفٍ حتّى تحوزَ البلادُ ما يكفي من الأهليّةِ للقبضِ على مقاليدِ مصيرها. في هذا الصدد، لا يفوتُ المؤلّفَ (وهو الكاهنُ) أن يُعَبِّر عن يقينِه بأنّ عَلْمانيّةَ المدرسةِ الفرنسيّةِ ليست للتصدير. بل إنّه ينبغي تيسيرُ اجتذابِ المرشّحينَ للكَهْنُوتِ في فرنسا سَدّاً لحاجةِ الإرساليّاتِ إلى معلّمينَ، وينبغي أيضاً تفهّمُ حَمِيّةِ المسلمينَ الدينيّةِ طلباً لكَسْبِ ولائهم.

هذا والمؤلّف، إذ يتأمّلُ المسارَ العاصفَ الذي وجدَه موشكاً على الإفضاءِ إلى تثبيتِ الانتدابِ بعدَ مباشرةِ هذا الدَوْرِ الذي رسَمَتْه فرنسا لنفْسِها ثمّ رسَمَتْه لها صيغةُ الانتدابِ المسمّاةُ “A”، يميلُ إلى اعتبارِ الدَوْرِ المذكورِ صفقةٌ خاسرةٌ: مؤقّتاً على الأقلّ. ففرنسا تكادُ لا تجني منه ربحاً – في ما يرى المؤلّف – سوى الأمانةِ لما تَعدُّه رسالةً لها والامتثالِ لأمَلِ الشعوبِ الضعيفةِ فيها. وهي قد بذَلَت مواردَ وضحّت بجنودٍ وعتادٍ توصّلاً إلى الموقعِ الذي باتت تَشْغلُه. على أنّ وترلي لا يفوتُه، إذ يذكُرُ الجنودَ، أن يشيرَ إلى أنّ مُعْظَمَهم من أبناءِ المستعْمَراتِ ولا يَمْنعُه ذِكْرُ المَواردِ المبذولةِ من التنويهِ بما تزخرُ بهِ البلادُ السوريّةُ من وعودٍ عاجلةٍ أو آجلةٍ للمستثمرينَ الفرنسيّينَ إذا هُم أَقْدموا…

وفيما تُنْفِقُ فرنسا ما في الجيبِ مستبشرةً بما في الغيبِ، لا يبلُغُ مسمعَ وترلي اعتراضٌ أهليٌّ ما على تقسيمِ سوريّة إلى خمسٍ من الدولِ وأشباهِ الدولِ تَجْمَعُ بينَ اثنتينِ منها صيغةٌ فدراليّةٌ ويضافُ إليها نظامٌ خاصٌّ بالبدوِ وآخرُ لسنجقِ الإسكندرون وثالثٌ للمناطقِ العسكريّة… فرغبة لبنان في الاستقلالِ معلومة. والفصلُ بينَ دمشق وحلب يجِدُ مسوّغَهُ في التحاسدِ التقليديِّ بين المدينتينِ، وقد لطّفَ منهُ “اتّحادٌ” لاحقٌ رخوُ المفاصل. والدروزُ والعلويّونَ (وقد انفردَتْ كلٌّ من جماعتَيهِما ب”بلادٍ” لها) تأبيانِ كلَّ الإباءِ – في قولِ المؤلّفِ – الالتحاقَ بالدولتينِ “العربيّتَيْن”. وفي هذا كلِّهِ إقرارٌ لفرنسا على ما ارتأَتْهُ وسببٌ للتمسّكِ بظلِّها المبسوطِ على سوريّة بأَسْرِها.

وأمّا أنّ هذه الخريطةَ المتشقّقةَ قد خرجَت من مرحلةِ رفضٍ سياسيٍّ ومقاومةٍ بالموقِفِ وبالسلاحِ ووجِها بأشدِّ القمعِ فواقعةٌ لا تَظْهَرُ منها آثارٌ تُذْكَرُ في روايةِ وترلي. وإنّما يقتصَرُ أثرُ المرحلةِ الفيصليّةِ في برنامجِ الوفدِ على وقفةٍ استذكاريّةٍ في ميسلون يصحبُها شرحٌ مختزلٌ جدّاً لما جرى ينالُ منْهُ الإنكليزَ رشاشٌ مقذعٌ ويسوَّغُ فِيهِ اقتلاعُ فيصل بأسبابٍ ليس أقلَّها حجبُ استخدامِ السكّةِ الحديدِ عن القوّاتِ الفرنسيّةِ التي كانت محتاجةً إليه في إبّانِ القتالِ على جبهةِ كيليكيا. بقيّةٌ أخرى من بقايا المقاومةِ يمثِّلُها الشيخُ صالح العلي قائدُ “ثورةِ العلويّينَ” المهزومةِ وقد اسْتَحْضَرَهُ غورو إلى  موعدٍ مع الوفدِ في الريفِ العَلَويِّ وراحَ يذكّرُهُ بمَن قُتِلوا بتدبيرٍ مِنْهُ من جنودِ فرنسا مردفاً أنّ الأخيرةَ كريمةٌ تعفو عن أعدائها إذا هُم آبوا إلى الإخلاصِ التامِّ لها. اسْتَقْبَلَ الثائرُ السابقُ هذا الخطابَ المستفزَّ بالشكرِ على المدارسِ التي تجلبُ المدنيّةَ وعلى الطريقِ التي كانت حلماً قديماً فشُقَّت في أربعةِ أشهرٍ وعلى الأمانِ الذي عَمَّ بلادَ العَلَوِيّينَ ساحلاً وجبلاً… فكانَ من هذا “الحوارِ” أن اسْتَدْرَجَ تصفيقَ الوفدِ وفَرَضَ فَتْحَ قناني الشمبانيا ختاماً! إشارةٌ أخيرةٌ إلى ثغرةٍ كانت لا تزالُ تستحضرُ أشباحَ الماضي القريبِ: وهي أنّ الوفدَ الذي لم يتْرُكْ هيكلاً رومانيّاً ولا قلعةً صليبيّةً إِلَّا وجالَ فيها ولا جامعاً أمويّاً، فَضْلاً عن الكنائسِ الأثَريّةِ، إلّا وتَمَلّى من مَعالِمِهِ، لم يتمكَّنْ من زيارةِ تَدْمُر لأنّ البدوَ كانَ لا يزالُ يَسَعُهُم قطْعُ الطريقِ إليها هنا أو هناك. معنى هذا أنّ نوري الشعلان الذي اشترى الفرنسيّونَ ولاءَهُ بمرتَّبٍ لم يكُنْ ظلُّهُ مبسوطاً على الباديةِ كلّها.

بَعْدَ ميسلون بسنتينِ، كانت سلطاتُ الانتدابِ قد بذلَت جهداً لإنهاضِ البلادِ من وهدةِ الحربِ مكرّسةً معظمَ طاقتِها للمدارسِ وللطرُقِ: المدارسُ لنشرِ اللغةِ وحمولتِها والطرقُ لنَشْرِ العسكرِ وتيسيرِ المبادلات. وهو ما وقَفَ الوفدُ عليه وعلى سواهُ من معالمَ وشؤونٍ أجملَها وترلي في كتابِه. على أنّ الثغراتِ في اللوحةِ بقيَت عصيّةً على النكران. فلم يَكُنْ سهلاً أن لا يَرى الوفدُ ما يلبسُهُ جمهورُ المحتفلينَ بهِ من أسمالٍ أو ما يخلِّفٌهُ المطر من مستَنْقَعاتٍ ووحولٍ في أزقّةِ المُدُنِ والقرى. ولم تكُن الحماسةُ لخيولِ البدوِ العربيّةِ أو للحمارِ الذي يقودُ قافلةً من الجمالِ كافيةً لحَجْبِ واقعةٍ من قَبيلِ أنّ حمص كانت لا تزالُ تشربُ من مياهٍ تعبثُ بها الدوابُّ ويبولُ فيها الأطفالُ ويتَغَوَّطونَ وأنّ الوفدَ نفسَهُ شربَ منها! حتّى لبنان يصفُهُ واحدٌ من بَنيهِ للمؤلّفِ بأنّه “بلادٌ فقيرةٌ متخمةٌ بالمال!”، إلخ، إلخ. يميلُ وترلي إلى القوالبِ، ما تعلّقَ منها بالنساءِ أو بالطوائفِ والبدوِ أو بالجمالِ والخيولِ ويرسمُ لنفْسِهِ عالَماً يُحْسِنُ التجوّلَ فِيهِ ويكادُ يخلو ممّا يفاجئُهُ مع أنّهُ لم يسبق لهُ أن زارَه. ولكنّ الكتابَ ينطوي على رغبةٍ في الإنصافِ ويسجِّلُ إعجابَ مؤلِّفِه بكثيرٍ من مزايا الناسِ والبلادِ ويبقى راغباً في نوعٍ من المزاوجةِ العسيرةِ بين استعلاءِ المحتلِّ القويِّ واحترامِهِ الأهلينَ ديناً ودُنْيا، تاريخاً وحاضراً. وإنّما يفرضُ هذا الكتابُ على قارئهِ أن يجتنبَ سَجْنَ مؤلِّفِهِ في قالبٍ جاهزٍ على الرغْمِ من شدّةِ الإغراءِ الملازمِ لهذا الموقف.   

المدن – سوريّة ولبنان في مستهَلّ الانتداب: صوَرٌ من كتابٍ مَنْسِيّ(1)

كان فيصل قد أُخرجَ من دمشق ثمّ رَدّه البريطانيّون إلى بغداد. وكانت كلُّ مقاومةٍ للاحتلالِ الفرنسيِّ وللانتدابِ الزاحفِ قد أُخْمدت.. إلى حين المدن
— Read on www.almodon.com/opinion/2023/5/11/سورية-ولبنان-في-مستهل-الانتداب-صور-من-كتاب-منسي-1

سنةً بعد سنةٍ أو شهراً بعدَ شهرٍ، لا تنفكّ تنمو في رحاب الشبكة مكتبةٌ تجمعُ المتعةَ إلى الفائدة هي “المكتبةُ الدبلوماسيّة الرقميّة” وترعاها وزارةُ الخارجيّة الفرنسيّة ويُنْشَرُ فيها مختارات من مجاميع الوثائق الشاسعة التي تحتويها مراكزُ المحفوظات التابعةِ لهذه الوزارة. وإذ نقول “مختارات” لا نرمي إلى الإزراء بحجم ما نُشرَ إلى الآنِ بل إلى التنويهِ بجسامةِ المهمّة وفداحةِ ما تقتضيه رقمنةُ المجاميع بأسرِها (إذا كانت واردةً في مخيّلة القائمين بالمشروع) من وقتٍ وجهودٍ وموارد. ولعَلّ رقماً واحداً يغني عن سواه للإيحاءِ بهذا كلّه وهو أنّ المحفوظَ من هذه الوثائق الدبلوماسيّة في مركز نانت وحده يشغلُ من الرفوف ما يبلُغُ طولُه الإجماليُّ 31 كيلومتراً!

هذا ولا يستغني الباحثُ في المرحلةِ الانتدابيّةِ، على الخصوصِ، من تاريخِ سوريّة ولبنان عن التجوالِ بين المراكز المختلفة: الكي دورسي وفانسين ونانت، إلخ، ومؤخّراً لا كورنوف الذي أريدَ له أن يكونَ الأَجمعَ والأحدثَ تنظيماً. وما تحتويه هذه المراكزُ يفيض قروناً عن مرحلةِ الانتدابِ المحدودةِ ويفيض عن سوريّة ولبنان، بطبيعةِ الحالِ، إلى سائرِ أنحاءِ الأرض.

وفي كلّ كتابٍ جادٍّ يتناولُ الانتدابَ، تقريباً، نقعُ على صورٍ لوثائقَ وعلى شواهدَ من وثائقَ محفوظةٍ في هذا أو ذاك من تلك المراكز. إلى ذلك جرَتْ محاولاتٌ أوسعُها نطاقاً محاولة المؤرّخ عادل إسماعيل لنشر مجاميعَ من هذه الوثائق متعلّقةٍ بلبنان، ولكنّها لم تدرك، على الإجمالِ، سويّةً من الشمول تغني الباحثَ المدقّقَ عن مباشرةِ التنقيبِ بنفْسِه عمّا يخصُّ موضوعَه من موادَّ في مَظانِّهِ من المجاميع المفهرسةِ، المحفوظةِ في المراكز.

على أنّ ما أراه جديراً بالتنويه، وهو ما لا يلتفتُ إليه الباحثون والموثّقون عادةً، هو ما يتكشّف لك، عند استطلاعِ القسمِ المتعلّقِ بالانتدابِ من هذه المكتبةِ الرقميّةِ الآخذةِ في التوسّع، من انطوائها على عددٍ باتَ معتبَراً من الكتُبِ المعاصرةِ لتلك المرحلةِ. وهي، مع كونِها نُشِرت ووُزّعَت، في تلك الأيّامِ، قد باتت منسيّةً كلّيّاً في أيّامنا. فلا نقعُ لها على ذكرٍ – على حدِّ عِلْمي – في لوائحِ المراجعِ المضمومةِ إلى كتبٍ لمؤرّخينَ متأخّرينَ تناولوا تلك المرحلة. هؤلاءِ بحثوا في المحفوظاتِ عن الأوراقِ والتقاريرِ وما جرى هذا المجرى ولم تستوقفهم الكتب! وهذا مع كونِ الكتبِ تنطوي، في الغالب، على موادّ مختلفةٍ، من حيثُ طبيعةُ مضامينها، عن تلك التي تتيحُها المراسلات.

وقد كان أنّي وقعتُ، بين العناوين المنشورةِ، على كتابٍ طابت لي قراءتُه إذ وجدته منطوياً على كثيرٍ من العِبَرِ الواشيةِ بعقليّةِ المحتلّ الفرنسيّ، في مَطالعِ انتدابه على سوريّة ولبنان، وعلى كثيرٍ أيضاً من المعطيات الدالّة على أحوالٍ للبلدينِ ومواقفَ لأهاليهما، في تلك الأيّامِ، تبدّلت لاحقاً ولم يعبأ المؤرّخونَ المتأخّرونَ باستعادتها. ذاك هو كتاب الكاهن أميل وترلي É. Wetterlé الصادر في باريس، سنةَ 1924، وفيه وقائعُ رحلةٍ متلاطمةِ الأحداثِ قامَ بها مؤلّفهُ، في عدادِ وفدٍ، في خريف سنة 1922 إلى سوريّة ولبنان. تلك مرحلةٌ من المراحل التي قد يجوزُ وصفُها ب”الرماديّةِ”، فهي لم تُخَلِّف صُوَراً تُمَيّٰزُها في الذاكرةِ العامّةِ ولم تستوقفْ كثيراً مؤرّخينَ استوقفَتْهُم مراحلُ أخرى عاصفة: 1918-1920، مثلاً، أو 1925-1927، أو أيضاً 1935-1937 أو 1941-1945…

عنوانُ الكتاب “في سوريّة مع الجنرال غورو“، وهو يوحي، أوّلَ ما يوحي، أنّ اسمَ سوريّة كان لا يزال في حينِهِ مشتملاً في المخيّلةِ الفرنسيّةِ (وفي غيرها…) على جملةِ البلادِ التي نُذِرَت للانتداب الفرنسيّ. وهذا على الرغمِ من تقسيمِ تلك البلادِ، في غدواتِ ميسلون، إلى دولٍ و”بلادٍ” عدّةٍ كانت دولةُ لبنان الكبير واحدةً منها.

هذا أيضاً على الرغمِ من حرص اللبنانيّينَ البارزِ (الذي أشعروا به المؤلّفَ) على استقلالِهم. غير أنّ العلويّين (وقد حصلوا هم أيضاً على “بلادٍ” لهم أي على ما يشبه الدولة) لم يَجدْهم المؤلّفُ أقلَّ حرصاً على استقلالهم هذا (وعلى الانتدابِ معه!) من اللبنانيّين، وإن فاتتهم الأواصرُ التاريخيّةُ التي شَدّت هؤلاءِ إلى فرنسا. بخلاف ذلك، لا تشتملُ سوريّة هذه، في مخيّلة وترلي، على أيّةٍ من البلادِ الآيلةِ إلى الانتدابِ البريطانيِّ بما فيها فلسطين. هذا كلّهُ في حينٍ كان فيه انتدابُ الدولتينِ العظميينِ، وقد تقرّر منذُ سنةِ ١٩٢٠ في مؤتمرِ سان ريمو، ينتظرُ إبرامٌهُ إقراراً من عصبةِ الأممِ الوليدةِ لم يلبث أن حصل. وهذا بعد أن كانَ الوضعُ القائمُ منذ سنة 1918 وضعَ احتلالٍ متحرّكٍ يلوح في أفقهِ انتدابٌ لمّا تُسْتَكْمَلْ شرعيّته.

ولعلّ توقيتَ الرحلةِ التي يروي الكتابُ وقائعَها لم يكن بلا صلةٍ بالظرفِ المستتبِّ في سوريّة ولبنان في ذلك الخريف. كان فيصل قد أُخرجَ من دمشق ثمّ رَدّه البريطانيّون إلى بغداد. وكانت كلُّ مقاومةٍ للاحتلالِ الفرنسيِّ وللانتدابِ الزاحفِ قد أُخْمدت.. إلى حينٍ: في مدنِ الساحلِ، في الشمال السوريّ، في جبل عامل، في بلاد العلويّين، إلخ. إلى ذلك كانت سلطةُ الاحتلالِ قد وَجدَت من الوقتِ ما يكفي لاجتراحِ أنظمةٍ وإنشاءِ مؤسّساتٍ لل”دول” و”البلادِ” الجديدةِ ولتنفيذِ مشاريعَ يختصُّ أظهَرُها بالمواصلاتِ ولتنمية المدارس الحاظيةِ برعايتِها (وبعضها مهْنيّ) وهي تعتمدُ الفرنسيّةَ وتنشُرُها، إلخ. ولعلَّ غورو وجَد أنّ هذا كلَّه باتَ جديراً بالعرضِ على من يحتاجُ إلى كسبِ ولائهِم وتأييدِهم ومن يَطْمعُ في استدراجِ مشاركتِهم بالمالِ والخبرةِ في العمليّة الجارية. كان الظرفُ مؤاتياً لهذا العَرْضِ أيضاً بعد أن أنهت معاهدةُ أنقرة المواجَهةَ بين القوّاتِ الفرنسيّة وجيشِ مصطفى كمال فأتمَّت بذلكَ تأمينَ الطريقِ وإبعاد تلك القوّاتِ عن كلّ دورٍ قتاليٍّ ناشطٍ في شرقِ المتوسّط. فلم يبقَ لها إلّا دورُ فرضِ الأمنِ والسكينةِ في المناطقِ الخاضعةِ للاحتلال.

على أنّني أستحسِنُ التنويهَ، قبْلَ الإلمامِ بمحتوى الكتابِ، بطرفٍ من سيرةِ مؤلّفه الظريفِ الأب وترلي. فهو، حين قام بهذه الرحلةِ، نائبٌ عن الألزاس في الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة… وكان، حتّى استعادةِ فرنسا للألزاس، بعدَ الحربِ العالميّةِ، نائباً (معارضاً) عنها في البرلمانِ الألماني! وهو، في الرحلة موضوعِ الكتابِ، عضوٌ في وفدٍ ضخمٍ متعدّدِ المشاربِ، دعاهُ المفوّضُ السامي (الذي كان وترلي يعرفهُ من أيّامِ الحربِ على جبهةِ شمبانيا) للقيامِ بجولةٍ في بلادِ الانتداب. ومن الوقائعِ، يتبدّى أنّ وترلي هو الشخصيّةُ الثانيةُ في هذا الوفد بعد نائبٍ آخر هو أحد مديري الجمعيّة الوطنيّة ويُدعى بيار لوناي، رئِسَ الوفدَ بصفتِه ممثّلاً الحكومة.  عليه يبدو وترلي متردّداً بين الإشفاق على لوناي والسخرية منه وهو ينوّه تكراراً بكثرةِ ما اضطرَّ الرجلُ إلى ارتجالِهِ من خطبٍ، في محطّاتِ الرحلةِ، فيما اقتُصِر نصيبُ الكاهنِ الشخصيِّ من المراسمِ على ثلاثةِ قداديسَ أو أربعة!

يُفْرِدُ وترلي جانباً لا يستهان به من صفحات كتابه للرحلةِ البحريّةِ المعقّدةِ التي جاءت بهِ على متنِ الباخرةِ بيار لوتي من مرسيليا إلى بيروت. ولهذا التلبّثِ ما يسوّغُه في السياسةِ والتأريخِ فضلاً عن إغراءٍ بالوصفِ يستولي على السائحِ حين يتوقّفُ في محطّاتٍ من قبيلِ نابولي وبومبايي أو مالطة… ناهيكَ بأكروبول أثينا ومعالمِ إستانبول التي لم تكن قوّات الحلفاء المحتلّةُ قد أخلَتْها بعد. من مسوّغاتِ التلبّث تلك أنّ سفينةَ الوفدِ ترسو في إزمير غداةَ الحريق الهائلِ الذي أتى على أحياءٍ برمّتها من المدينة وذلك مع انسحاب اليونانيّين منها عسكراً ومدنيّينَ ودخولِ الأتراكِ الكماليّينَ إليها. بالاستنادِ إلى من تيسّرَ من شهودِ العَيانِ، يميلُ المؤلّفُ، وهو يعاينُ مأساةَ اللاجئينَ من يونانيّينَ وأرمنٍ، إلى تبرئةِ الأتراكِ من تبعةِ الحريقِ ومن المقتلةِ التي صحبَتْهُ آخذاً بالدعوى القائلةِ أنّ سياسةَ الأرضِ المحروقةِ إنَّما كانت خطّة اليونانيّين الذين أحرقوا كلَّ شيءٍ غادروهُ وهم ينسحبونَ، لا في إزمير وحدَها، بل في سائرِ البقاع التي كانوا واضعين يدهم عليها من غربِ الأناضول كلِّه.

صَكُّ البراءةِ هذا الذي يحصُلُ الأتراكُ عليهِ من وترلي لا يبدو بريئاً من وَقْعِ المودّةِ التي استُجِدّت بين مصطفى كمال وحكومة فرنسا فأثمَرَت معاهدةَ أنقرة، ولا من وّقْعِ انحيازٍ راحَ الإنكليزُ (الذين يكرهُهم وترلي كُرهَه للألمانِ تقريباً) يُظْهِرونه لملكِ اليونانِ وجيشه المهزوم. هذانِ العاملانِ يحملانِ المؤلّفَ على ما يشبِهُ الطمسَ لجانبٍ من السياقِ الذي تمَّ فيه الانسحابُ اليونانيّ من إزمير: ألا وهو سياقُ الحربِ التركيّةِ اليونانيّةِ التي كانت قد اسْتَوَت، في الواقعِ، مسرحاً مفتوحاً لتبادُل الفظائعِ لم يصلْ إليهِ وترلي إلّا عشيّة إسدالِ الستار… في كلّ حالٍ، يقف هذا الشاهدُ، عن كثبٍ أيضاً، على الفصلِ المتأخّرِ من النكبةِ الأرمنيّة. ومن ذلك أنّ باخرةَ الوفدِ التي تُقِلُّ من إزمير ثلاثمائةٍ من اللاجئين الأرمن إلى إستانبول المحتلّة (وهذه كانت لا تزالُ تؤَوّي مئاتِ الألوفِ من اليونانيّينَ والأرمنِ) تعود إلى إزمير ثانيةً، بعدَ زيارتِها إستانبول، لتحملَ على متنها إلى بيروت عدداً من هؤلاءِ اللاجئينَ أيضاً…
(يَتْبَع)

المدن – فوكس نيوز وكارلسون والقِيَمُ الأميركيّة

يُسِرُّ كارلسون إلى المنتِجِ أنّه وجَدَ نفْسـَهُ يتمنّى لو أنّ الترامبيّينَ أمعنوا في تنكيلهم بالفتى إلى حدّ قتلِه المدن
— Read on www.almodon.com/media/2023/5/5/فوكس-نيوز-وكارلسون-والقيم-الأميركية

أخيراً ظَهَرَت القشّةُ التي قصَمَت ظَهْرَ تاكر كارلسون! وكان الرجلُ هو النجمَ الألمعَ بينَ أصحابِ البرامجِ السياسيّةِ في “فوكس نيوز”. وكان متابعو برنامجهِ ملايينَ على شاشةٍ هي أهمُّ ما يُحْتسبُ في خانةِ “اليمينِ” من بينِ مؤسّساتِ الإعلامِ الأميركيّ. وهيَ – بينَ ما هِيَ – أقوى قوى “الترامبيّةِ” الضاربةِ، في ميدانِ الإعلامِ، ولكنّها أهَمُّ من الترامبيّةِ وأرْحَبُ: كانت في الساحةِ قبلَها وتبقى بعدَها. وقد صرَفَت الشركةُ كارلسون بغتةً، قَبْلَ نحوٍ من عشرةِ أيّامٍ، وهذا غداةَ التسويةِ التي أفضى إليها النزاعُ القضائيُّ بينَها وبينَ شركةِ “دومينيون لأنظمةِ الاقتِراع”، صاحبةِ البنيةِ التجهيزيّةِ المعتمدةِ للاقتراعِ ولاحتسابِ نتائجهِ في الانتخاباتِ الأميركيّة.

كان مناطَ النزاعِ ترويجُ “فوكس نيوز” أضاليلَ مختلفةً ترمي إلى تزكيةِ الدعوى الترامبيّةِ القائلةِ بأنّ انتخابَ 2020 الرئاسيَّ خالطهُ تزويرٌ أتاحَ “سرقةَ” الفوزِ فِيهِ من دونالد ترامب ومنحَهُ لجو بايدن. وكان الطعنُ في كفاءةِ الأجهزةِ التي تصنعها دومينيون في مقدّمةِ ما اعتُمِدَ وأُبْرِزَ إثباتاً للدعوى المذكورة. وهو ما جابهَتْهُ هذه الشركةُ بدعوى تشهيرٍ أقامَتْها على “فوكس نيوز” طالبةً تعويضاً لما لحقَها من ضَرَرٍ قدّرَتْهُ بمليارِ دولارٍ وستّمائةِ مليونٍ لا غير! وكانَ لا يزالُ يفصلُ فوكس نيوز يومٌ واحدٌ عن الموعدِ المحدّدِ لها لتقديمِ دُفوعِها في وجهِ التُهَمِ الموجّهةِ إليها حينَ “تصالَحَ” المدّعي والمدّعى عليهِ على مبلغٍ قدْرُهُ سبعمائةٌ وسبعةٌ وثمانون مليوناً ونصف مليونِ دولارٍ تؤدّيها فوكس نيوز لدومينيون لقاءَ فَضّ النزاع. وكان هذا – على ما تردّدَ – أضخمَ تعويضٍ في التاريخ كلّه تنتهي إليه قضيّةُ تشهير!

بَعْدَ أيّامٍ من المصالحةِ، صُرِف كارلسون. قدّمت الشركةُ قرارها على أنّه “افتراقُ طرُق” وشكرَت المصروفَ على حُسْنِ الخدمة. ولكنّ الرابطَ بين الصرفِ والمصالحةِ التي كلْفَت روبرت مردوك وابْنَهُ هذه النفقةَ الباهظةَ لم يفُت نباهةَ المعلّقينَ وإن ظلّت تشوبُه بعضُ حيرة. كان برنامجُ كارلسون ضالعاً في الحملةِ التي ذهبت بها دومينيون إلى القضاءِ ضلوعَهُ في أمورٍ كثيرةٍ أخرى تندرِجُ وهذه الحملة في “خطّ” عامٍّ: خطٍّ متّسعٍ لدعاوى مقَدَّميّةِ العِرقِ الأبيضِ وتهديدِ الجماعاتِ الملوّنةِ لها بوجوهِها كافّةً، ولإنكارِ التغيّرِ في مناخِ الكوكبِ وما يترتّبُ عَنْهُ، والتهوينِ من شأنِ الوباءِ والتشكيكِ في سلامةِ الإجراءاتِ المتّخذةِ لمُواجَهَتِهِ بما فيها التلقيحُ، والدعوةِ إلى تشديدِ القيودِ المفروضةِ على الهجرةِ والمهاجرينَ، والهجومِ على كلّ توجّهٍ لتعديلِ النظامِ الضريبيِّ بحيثُ تُزادُ الفريضةُ على الثرواتِ الكُبْرى، ولمعارضةِ كلِّ مشروعٍ لتوسيعِ نطاقِ العنايةِ الصحّيّةِ نَحْوَ الهَوامشِ والتخفيفِ من وطأةِ أكلافِها على الأفرادِ والأسَرِ، وللتصَدّي لكُلِّ بادرةٍ ترمي إلى تشديدِ القيودِ على بيعِ السلاحِ  للمواطنينَ، إلخ.

على أنّ كارلسون لم يكن ناهضاً وحدَهُ في فوكس نيوز بعبْءِ هذه “القضايا” كلِّها ولا كانت فوكس نيوز بأسْرِها الشاشةَ الوحيدةَ  الملزِمةَ نفْسَها بهذا الخطّ. بل إنّ نصيبَ كارلسون من وقائعِ “التشهيرِ” المثارةِ في دعوى دومينيون اعتُبِرَ أَمْيَلَ إلى التواضعِ، إجمالاً، وهذا على الرغْمِ من التصَدُّرِ المؤكّدِ للرجلِ ولبرنامجِه. فكان هذا التواضعُ باعثاً للتساؤلِ عَمّا حَمَلَ “فوكس نيوز” على استهدافِ هذا الوجهِ البارزِ من وجوهِ شاشتِها بالعقوبةِ وعلى خسارةِ برنامجٍ هو أنجحُ برامجِها السياسيّةِ، بالتالي. بدا إذَنْ أنّ تقديرَ المسؤوليّةِ عن الهزيمةِ أمامَ دومينيون لم يأتِ منْصِفاً وأنّ العقوبةَ وقعَت، على الأرجحِ، حيثُ لم يَكُنْ لها أن تقع.

يبدّدُ نصُّ الرسالةِ التي تداوَلَها الإعلامُ يَوْمَ أَمْس هذه الحيرةَ ويتكشّفُ عن عِبَرٍ ذواتِ وَقْع. والرسالةُ قديمةٌ وجّهَها كارلسون إلى “منتِجِ” برنامجِه غداة 6 يناير/كانون الثاني2020 الشهيرِ، يومِ الهجومِ الانقلابيِّ على حَرَمِ الكابيتول، في واشنطن العاصمةِ، للحؤولِ دُونَ تصديقِ الكونغرس نتيجةَ الانتخابِ الرئاسيّ. يبثُّ كارلسون هذا “المُنْتِجَ” (الذي ترجّحُ فَحْوى الرسالةِ كونَه صديقاً حميماً لمرسِلِها) لواعجَه حيالَ مشهدِ عنفٍ عايَنه، على الشاشةِ، في واشنطن أيضاً، قَبْلَ أيّامٍ من ذلك النهار: مشهدِ ترامبيّينَ راحوا يوسِعونَ فتىً من خصومِهم ضرباً. ونَفْهمُ أنّ الفتى الخصمَ أحدُ المنتمينَ إلى “أنتيفا”: وهذه حركةٌ يساريّةُ النَفَسِ، تكثرُ فيها الأجنحةُ والشراذمُ بحيثُ تبقى مفتقرةً إلى الوحدةِ أو المُسْكةِ، ولكن يجمعُ بين عناصرِها السعيُ في مقاومةُ الفاشيّة. يُسِرُّ كارلسون إلى المنتِجِ أنّه وجَدَ نفْسـَهُ يتمنّى لو أنّ الترامبيّينَ أمعنوا في تنكيلهم بالفتى إلى حدّ قتلِه. ولكنّه يضيف أنّه لم يلبث أن زجرَ نفسه إذ اعتبَر أنّه لو ثابرَ على هذه الرغبةِ متجاهلاً كونَ الضحيّةِ بَشَراً، فإنّه يَفْقدُ هو نفْسْه كلَّ أفضَليّةٍ على العنصرِ الـ”أنتيفا”!

ومع ما في هذا الاعترافِ من شحنةٍ تَسْتَفِزُّ المَشاعِرَ فإنّ بيتَ القصيدِ في موضِعٍ آخر من رسالةِ كارلسون. هو في ملاحظتهِ أنّ مهاجمي الفتى كانوا ثلاثةً لواحد، في الأقَلِّ، وأنّ هذا يٌفْقِدُهم “شرفَ” القتال وأنّه “ليس طريقةَ البيضِ من البَشَرِ في القتال!”.  يعكسُ تداولُ الإعلامِ الأميركيِّ أمْسِ هذه العبارةَ الأخيرةَ نوعاً من “الصدمةِ الوطنيّةِ” الواسعةِ النطاقِ حيالَ صدورِها عن شخصيّةٍ عامّةٍ ذائعةِ الشهرةِ إلى هذا الحدّ. وهذا على الرغْمِ من المعرفةِ العامّةِ بالرجلِ وبفوكس نيوز! من جهةٍ أخرى، بدّدَ نشرُ الرسالةِ كلّ حيرةٍ كان إقدامَ الشركةِ على صَرْفِ كارلسون مَصْدَراً لها. فالرسالةُ كانت في المحكمةِ مضمومةً إلى أوراق دعوى التشهير. وكان لوقوفِ كارلسون في المحكمةِ وسؤالهِ عنها (وعن سواها من الأوراقِ، على الأرجحِ) كلفةٌ فادحةٌ على فوكس نيوز. هذه الكلفةُ هي بعضُ ما ضحّت فوكس نيوز بمئاتِ الملايينِ (وبكارلسون نفْسٰهِ أيضاً) تفادياً منه.

تُشيرُ هذه الواقعةُ إلى أمورٍ عديدةٍ: إلى موقعِ القضاءِ الحيويِّ في النظامِ الأميركيِّ وإلى وجودِ رأيٍ عامٍّ مرهوبِ الجانبِ يُحْيي ويُميتُ في ما يتعدّى كثرةَ العناصرِ والتناقضاتِ واتِّساعَ مرْوَحةِ التَوَجُّهاتِ في المجتمعِ الأميركيّ. يزيدُ من سطوةِ الرأيِ العامّ هنا أنّ الذي في الميزان شخصيّةٌ إعلاميّةٌ ومؤسّسةٌ إعلاميّة: أيْ كيانانِ ينتهيانِ إلى لا شَيْءٍ إذا جُرِّدا من نصيبٍ لهما من الرأيِ العامِّ يصنعُهُما وتَصْنعانِه. على أنّ الأعمقَ في ما تُشيرُ إليه الواقعةُ نفْسُها إنَّما هو منظومةُ القيمِ التي تمخّضَ عنها المِراسُ التاريخيُّ لقُوى هذا المجتمعِ وتتمخّضُ بدورِها عن أوتارٍ حسّاسةٍ يُخشى المسُّ بها أشدَّ الخشيةِ ويَهونُ لحفظِها بَذْلُ المالِ، وهذا على الرغم من بعْدِها عن حيازةِ الإجماعِ واقعاً. وذاكَ أنّ المَسَّ بِها يُعَدُّ، على نحوٍ ما، نامّاً برغبةٍ ما في إخراجِ أميركا من مَآلاتِ تاريخِها المُكَرّسةِ: أيْ ممّا صَنَعَتْهٌ ديناميّاتُ الصراعِ التاريخيِّ من وَحْدةٍ صَعْبةٍ، نابضةٍ، لهذا المُجْتَمَعِ الضخْمِ، الهائلِ التعقيدِ… وَحْدةٍ لا تقاسُ أكلافُ تَصَدُّعِها ولا تُحَدّ. فيَبْرُزُ، والحالةُ هذهِ، شعورٌ فَوْرِيٌّ حيالَ الرغبةِ المشارِ إليها يفرِضُ لها صورةَ الرغْبةِ في إخراجِ أميركا من نفْسِها. 

المدن – عن أيِّ شيءٍ نَبْحث؟

باقونَ حيثُ نحْنُ، لا نغادرُ أنفُسَنا إلى أيِّ موضوع. المدن
— Read on www.almodon.com/culture/2023/4/28/عن-أي-شيء-نبحث

أذكُرُ من أيّامِ إقامتي الدراسيّةِ في باريس (في أواسطِ الستّيناتِ من القرنِ الماضي) شعوراً بالدهشةِ استولى عليَّ حين اكتشفتُ أنّ طالباً لبنانيّاً قد اختارَ موضوعاً لأطروحةٍ يُعِدّها “نظامَ النقلِ العامِّ في مدينةِ تور”، وهذه مدينةٌ متوسّطةٌ من مدنِ الغربِ الفرنسيّ. وكان لدهشتي مداران: الأوّلُ أن يٌعْرِضَ اللبنانيّ عمّا تقترحه عليه بلاده (أو يقترحُه محيطُها الذي تنتمي إليه) من موضوعاتٍ ليختار موضوعاً فرنسيّاً. والثاني أن يكون الموضوعُ الفرنسيّ فرنسيّاً إلى هذا الحدِّ فلا يمسَّ بخيرٍ ولا بِشَرٍّ بلادَ الطالبِ ولا أهلها. وقد زادَ من بغتتي حيالَ هذا الموقفِ أنّني كنتُ أبحثُ، أنا أيضاً، عن موضوعٍ لأطروحةٍ لم أكنْ أتخيّلٌها، في تلك الأيّامِ، إلّا مغمورةً بهَمِّ تغييرٍ كاسحٍ يشتملُ بلا ريبٍ على أوضاعِ لبنان ولكن يتجاوزه إلى أصقاعٍ أخرى قريبةٍ وبعيدة…


بعد هذه الواقعةِ بأعوامٍ كثيرةٍ، استوقفني مَلِيّاً أن تختارَ شابّةٌ هولنديّةُ المنشأِ موضوعاً لبحثٍ أعدّته قريةً في لبنان تدعى شبريحا تقعُ على مقربةٍ من مدينة صور ويعمرها فلسطينيّون تمكّن كثيرٌ منهم من الحصولِ على الجنسيّةِ اللبنانيّةِ، في غمرةِ حملةِ التجنيسِ التي شهدَتْها غدواتُ الحربِ اللبنانيّةِ أو قَبْلَ ذلك في بعضِ الحالاتِ، وذلك لكونِ قريتِهِم الجليليّةِ الأصليّةِ (وتدعى صَلْحا) هي إحدى “القرى السبعِ” المقتطعةِ من جبلِ عاملٍ، أي من قضاءي صور ومرجعيون العثمانيّين، لتُضَمَّ إلى فلسطين غداةَ إنشاءِ “لبنان الكبير”، وذلك في تعديلٍ للحدودِ شاءَه الانتدابان الفرنسيُّ والبريطانيّ. هؤلاء يقتسمونَ القريةَ مع فلسطينيّينَ آخَرينَ من أصولٍ بدويّة. تركت نورا ستيل (هذا هو اسمها) بلادَها العامرةَ – بل قارّتها بأسرِها – لتنكبَّ على دراسةِ شبريحا… شبريحا التائهةِ عن أيّةِ خريطةٍ نفترضها لهمومِ الخالقِ وملائكته… وهي قد اختارت لبحثها زاويةَ العلاقةِ بين المرجعيّاتِ الفلسطينيّةِ في القريةِ وبين السلطاتِ اللبنانيّةِ المحلّيّة.

والحالُ أنّه إذا كانت دهشتي للواقعةِ الأولى (المتعلّقةِ بـ”تور”) سليمةً من كلِّ زغلٍ فإنّ دهشتي للثانيةِ (المتعلْقةِ بشَبْريحا) أو لبعضِ وجوهِها أتت غيرَ خاليةٍ من الافتعال. كان في هذا الإخراجِ لشبريحا الضئيلةِ بالذات من عتمةِ التجاهلِ ما يفاجئُ حقّاً. ولكنّ إقبالَ باحثةٍ في مطلعِ سيرتها العلميّةِ على موضوعٍ تلفّه العتمةُ ههنا بين ظهرانينا ولا تصلُه بمنشإ الباحثةِ وهمومِه أدنى صلةٍ كان أمراً أعرِفُ له أمثلةً كثيرةً فلا أجدُ في حصولِه مرّةً أخرى ما يدهش. بل إنّ التنزّهَ في موقعِ “أكاديميا” الشاسعِ لم يلبثْ أن أوقفني على ما يتجاوزُ ما حوَتْهُ ذاكرتي من هذا القبيلِ بما لا يقاس. فقد أفادني البحثُ أنّ في الموقعِ المُشارِ إليه ألوفاً كثيرةً من الأعمالِ موضوعٌها لبنان: تاريخاً ومجتمعاً وسياسة! وهو ما يقتضي تصفّحه أٓزْيـدـ من عُمْرٍ واحدٍ من القارئ المُجِدّ. وهو أيضاً ما يُفيدُ التقليبُ العشوائيُّ لصفحاتٍ من لوائحِ عناوينِه أنّ شطراً معتبراً جدّاً من أصحابِه (إن لم يكن معظمهُم) ليسوا من أهل الدار بل هم من هؤلاءِ “الغربيّين” الذين يشتَمِلُ فضولُهم، شأن فضولِ نورا ستيل، على أيّ شَيْءٍ من كلّ شيء… هذا، بطبيعةِ الحالِ، حينَ تكون الأعمالُ المستطلعةُ موضوعةً باللغاتِ الأوروبيّة…


أعلَمُ، من بَعْدُ، أنّنا ندلي، من جهتِنا، بكلامٍ  كثيرٍ مدارُه دولُ “الغربِ” تلك أو “الغربُ” بلا تمييزٍ بينَ الدٌوَلِ أو المجتمعات. نحْنُ أبْعَدٌ ما نكونُ عن الاعتِصامِ بالصَمْتِ في هذه الوجهة! ويكون الباعثُ إلى الكلامِ المُشارِ إليهِ عادةً ما نعْلَمٌه (أو نتوهّمٌه) من تأثيرٍ ماضٍ أو حاضرٍ أو متوقْعٍ لأفعالِ تلك الدول في أحوالِنا. هذا يثمرُ كلاماً سياسيّاً، في الأغلبِ، ولكنّ المثولَ اللجوجَ لمسألتَي “الحداثةِ” و”السيطرةِ”، على اختلافِ ضروبِهِما والأبوابِ، كثيراً ما يجعلُ الحديثَ يفيضُ عن الدائرةِ السياسيّةِ تلك ليُلِمَّ بأطرافٍ ووجوهٍ من تاريخِ العلاقاتِ المضطربِ ومن المواجهةِ الحضاريّة. في كلّ حالٍ، لا نغادرُ أنفُسَنا إلَيْ”هِمْ” فعلاً وإنّما نلبثُ مشدودينَ إليهِم في اشتباكٍ لا نَجِدُ منه فكاكاً إذ لا يتيحُ منطلقٌنا إلى تناولِ أحوالِ”هِمْ” وأوضاعِ”هِمْ” مثلَ هذا الفكاك.

في أصلِ هذا التعذّرِ، من جانبِنا، أنّ ادّعاءَ “العالَميّةِ”، بمعنى القولِ بوحدةٍ للعالَمِ قابلةٍ لأن يحاطَ بها، في ما يتعدّى الكسورَ ووجوهَ التناقضِ، لم يصدُر عن مخاضٍ عانيناه ومَنَحْنا استيلادَه ما يقتضيه من مدىً واختبارٍ تاريخيّين. وإنّما كان من الهزيمةِ الحضاريّة بما أورثتهُ من غلبةٍ علينا أن احتجزٓت عالَمَنا في صورةِ الانشقاقِ والتغايرِ والمغالبة. وهذا في حينٍ كان فيه الغالبُ قد تسرّبَ إلى نفوسِنا ووجوهِ عمرانِنا ومعاشِنا من شقوقٍ لا تُحْصى.

من الجهةِ الأخرى، لا نرمي من الإشارةِ إلى بقاءِ “العالَميّةِ” في الشطرِ الذي وُلدَ فيه تصوّرُ “العالَمِ”، بما هو واحدٌ في ما يتعدّى انقسامَه، و”الإنسانِ”، بما هو متعالٍ على الفوارقِ بينَ فئاته، إلى القولِ بأنّ هذه “العالَميّةَ” خلت من الشعورِ بالتفاوتِ والتفوّقِ من جانبِ مجترحيها ولا بأنّ المعرفةَ المستظلّةَ بها قد خلت من نوازعِ الإخضاعِ والاستغلال. ليس هذا مرادُنا البتّةَ. ولكنّ وجهَ القوّةِ الأبرزَ لهذه “العالَميّةِ” أنّها لا تُرَدُّ إلى ذاك الشعورِ وتلك النوازعِ بل هي تفيضُ عنهما من كلّ جانب. تفيضُ لتستوي معارفَ “مجرّدةً” بمعنى كونِها مبذولةً لمن يريدُ استثمارَها ويقوى عليه وبمعنى استواءِ تحصيلِها نفْسِه مِراناً للمحصِّلِ وبناءً لشخصِه وقوّةً له بقطعِ النظرِ عمّا تنتهي إليه المعارفُ نفسها في السوق المفتوحة.   

هذا الفائضُ الذي تنطوي عليه المعارفُ المنتَجةُ عن أغراضِ الدُوَلِ وخططِ السياسةِ هو ما ننحو كثيراً إلى إنكاره، في حمّى سجالٍ قلّما تغادرنا أو نغادرها. نٌنْكِرُه فيرتـدُّ نقدُ الاستشراقِ، مثالاً لا حصْراً، إلى ضَررٍ يكسِفُ ما له من ضرورةٍ وما لبعضِه من وجاهة. يوقعُ بنا إنكارُ هذا الفائضِ الجسيمِ أفدحَ الضررِ إذ ينتصبُ سَدّاً “نفسيّاً” بيننا وبين تمثّلِه حقَّ التمثُّلِ، بما هو تمثّلٌ للـ”عالَميّةِ” التي أثمرَتْه. وهذا في ما يتعدّى حالاتِ التقبّلِ “الضمنيِّ” أو تقبُّلِ “المغلوبِ على أمرِه” أو الإقرارِ بالضرورةِ الموضعيّةِ وإبطانِ الرفضِ للشروطِ العامّةِ، وهي حالاتٌ لا تُحْصى.

من هذا الإنكارِ الذي يلجمُ إقبالَنا على دراسةِ مجتمعاتِ “الآخَرِ” وأحوالِه بلا قيدٍ على موضوعاتِ البحثِ ولااستثناءٍ منها، ينْجُمُ ما سمّيتُه ذاتَ مرّةٍ “أَسْرَ الموقع”. ومعناهُ أنّنا باقونَ حيثُ نحْنُ، لا نغادرُ أنفُسَنا إلى أيِّ موضوع. وهذا – ولا رَيْبَ – ضعفٌ مقيمٌ ونكوصٌ عن أنواعٍ من المعرفةِ هي القوّةُ عينُها ما دامَ أنّ القوْةَ هي المبتغى المٌعْلَن.

المدن – في أنّ المَحكيّ ليس “فساد” المكتوب…

أنّ الجماعاتِ في دولِ العصورِ القديمةِ لم تكن الواحدةُ منها تُقْتَصَرُ في تدبيرِ الوجوهِ المختلفةِ لحياتِها على لغةٍ واحدة المدن
— Read on www.almodon.com/culture/2023/4/9/في-أن-المحكي-ليس-فساد-المكتوب

يَغْلِبُ على المخيّلةِ العامّةِ تصوّرٌ عفويٌّ للعلاقةِ ما بينَ اللغةِ القياسيّةِ أو لغةِ الكتابةِ والمحكيّاتِ المجانسةِ لها، مؤدّاهُ أن الأخيرةَ تولّدَت من الأولى عبْرَ مساقٍ هو أقربُ إلى الفسادِ منهُ إلى النموِّ والتفرّعِ المنْبئِ بالازدهار. تُغْري بهذا التصوّرِ معطياتٌ عديدة. بَيْنَ هذه المعطياتِ مَهابةُ المدوّنةِ التي يَشي حِفْظُها بقيمةٍ استثنائيّةٍ مُسْبَغةٍ على نصوصٍ شتّى يجري صونُها بحُروفِها ولا يُقْبَلُ لها أن تبقى نَهْباً لِعَبَثِ الذاكرةِ بالرواياتِ الشفهيّة. بَيْنَ هذه المعطياتِ أيضاً مشهدُ صَرْحِ القواعدِ التي يتمثّلُ فيها إملاءُ اللغةِ المكتوبةِ ونَحْوُها وصَرْفُها وسائرُ عُلومها. فهذه القواعدُ تُسْتخرَجُ وتُبَوّبُ ويصبحُ تعلّمُها شرطاً لمعرفةِ اللغة. وهذا شرطٌ ينبّهُ إلى كَوْنِ لغةِ الكتابةِ لا تُكْتَسَبُ، على وجهِ الإجمالِ، بمجرَّدِ النشأةِ في العائلةِ وفي شبكتِها وإنّما يحتاجُ اكتسابُها إلى جهازٍ يُنْشأُ على حدةٍ ليست له ولا للانتماء إليه الصفة “الطبيعيّة” التي للولادةِ في العائلة. يَتَداولُ هذا الجهازُ مَعارفَ ويتولّى إعداداً يَفيضانِ عن طاقةِ العائلة عادةً. ذاك هو جهازُ التعليم بأشخاصِهِ ومستلْزَماتِهِ كافّة.

هذا وانفصالُ الجهازِ المذكور يُبْعِدُ عن لغة الكتابةِ صفةَ “لغةِ الأمّ” التي تطلقُ عليها بلا رويّة عادةً. ويُسْهِمُ هذا الانفصالُ نفسُه في إدراج المعرفة بلغة الكتابة بَيْنَ “المعارفِ العُلْيا” التي يُفْرِدُ لها المجتمعُ أو الجماعةُ طاقاتٍ ومَواردَ تَدُلُّ على ما لها من شأنٍ يتجاوزُ نطاقَ الفردِ والوحداتِ الاجتماعيّةِ الصغرى. تعبّرُ هذه العنايةُ العامّةُ عن الانتماءِ إلى الجماعة اللغويّة أو عن مكانِ اللغةِ من وجودِ الجماعةِ نفْسِه. وهي تفتحُ السُبُلَ، فضلاً عن تجسيدِ الهُويّةِ الواحدةِ، إلى صُنوفِ التَعاملِ المختلفةِ التي تُتَّخَذُ اللغةُ القابلةُ للكتابةِ (أي للحِفْظِ وللتناقلِ بلا حاجةٍ إلى الصوتِ الحيِّ) مَرْكباً لها.

هي إذن صورةُ العِمارةِ الراسخةِ تَعْرِضُها لغةُ الكتابةِ، في ما يتعدّى ما يُحْتَمَلُ الشعورُ بهِ من وجوهِ الخللِ فيها وظواهرِ التقادمِ والشيخوخة. تَعْرِضُها بما يَظْهَرُ لها من تنظيمٍ ولاستعمالِها من ضوابطَ وبما يظهرُ لتاريخِها الذي يُحْصى بالقُرونِ عادةً من ثَراءٍ يُجَسِّدُه تراثٌ محفوظٌ يَجْعله حِفْظُه قابلاً للزيارةِ والاستلهامِ (إن لم يكنْ للاتّباعِ) بعيداً كانَ ما يستلهمُ منه، في الزمنِ، أم قريباً. يقابلُ هذا كلَّه لُزوجةٌ في هياكلِ المحكيّةِ تَجْعل تَبَيُّنَ صورةٍ لها قابلةٍ للحصرِ وقواعدَ لاستعمالِها منذورةٍ للانتظامِ أمراً عويصاً. يَصِحُّ هذا في قواعدِ الإملاءِ التي تبقى حَدْسيّةً إلى حدٍّ ملحوظٍ وقابلةً للتباين الكثير بين الحالةِ وأختها، ويَصِحُّ في الصَرْفِ والنَحْو اللذَينِ يَعْسُرُ تَثْبيتُ قَواعِدَ لهُما لكثرةِ ما تَحْمله التفرّعاتُ المتداخلةُ من خُروقٍ وفروقٍ تَمْتَحِنُ جُهْد التقعيدِ وتعرّضه للاعتباطِ والتحكّم. بل إنّ مَتْنَ المحكيّةِ نَفْسِهِ، أي مُعْجَمَ ألفاظِها، يَتَحدّى محاولاتِ الضبطِ فتتباينُ الألفاظُ الدالّةُ على المُسَمّى الواحدِ من بيئةٍ إلى أُخْرى ويَخْتَلِفُ إملاءُ اللفظةِ باختلافِ النطقِ بها، لولا أن تَحِدَّ من ذلك المرجِعِيّةُ الضمنيّةُ للُّغةِ القياسيّة. إلخ.

لا ريبَ أنّ جُهوداً تُبْذَلُ لاستدراكِ البعضِ من دَواعي الفوضى هذه. فالمحكيّاتُ باتَ يُكْتَبُ بها كثيراً ويُنْظَرُ كثيراً في قواعدِها. وفي هذه الجُهودِ (التي تَسْتَلْهِمُ لغةَ الكتابةِ كثيراً أيضاً) ما يفرضُ للمحكيّة، شيئاً بعدَ شيءٍ، حقّ الخروجِ من أسر اسْمِها لتستوي لغةً للكتابة، وفيها أيضاً ما يقتربُ، مرّةً بعدَ مرّةٍ، من الاستواءِ تقعيداً لما يبدو، في المُشافَهاتِ المتداولةِ، عَصِيّاً على التقعيد. هذا كلّهُ على حظوظٍ من القبولِ والرُسوخِ تتباينُ كثيراً، بطبيعةِ الحالِ، ويُبْقيها على تبايُنِها بقاءُ تَعَلُّمِ المحكيّةِ في حالِ الشيوع: فلا يَرْعاهُ جهازٌ ذو سلطةٍ يُمْلي وَحْدةَ القواعدِ أو يَعْتَمِدُها ويتولّى نَشْرَها.

هل يُبيحُ هذا التفارقُ الإجماليُّ بَيْنَ لغةِ الكتابةِ والمَحْكيّاتِ، بوُجوههِ التي أشرنا إلى أهَمِّها، ما يجنحُ إليه الشعورُ السائرُ من اعتبارِ المحكيّةِ “فساداً” أَنْزلهُ الزمنُ بلغةِ الكتابةِ أو تضَعْضُعاً في هذه الأخيرةِ حملَهُ إليها مزيجٌ مُتَمادٍ من جهلٍ واستسهالٍ وإهمالٍ، إلخ؟ يبدو هذا الشعورُ مسايراً، على نحوٍ مباشرٍ أو عفويٍّ، للمشاهدةِ الحسّيّة: لمَشْهدِ التفاوتِ بين عِمارةِ المكتوبِ واختلاطِ المحكيِّ ولَغْطِه. فهو، أي الشعورُ، لا يرقى إلى مرتبةِ الرأيِ المعلّل بحال. وهو مخالفٌ – وهذا هو الأهمُّ – لما يفيدُنا به تاريخُ اللغات. وإذا كانت العربيّةُ، بما تضفيهِ على هذه المسألةِ من إلحاحٍ حالُ العلاقةِ بين فُصْحاها ومَحْكِيّاتِها، هي ما حفزنا إلى تناولِ هذه المسألةِ أصلاً فإنّ التاريخَ الفعليَّ للعربيّةِ، بما حمَلَت إليهِ من جديدٍ ألوفُ النُقوشِ المكتشفةِ في العهودِ الأخيرةِ والمنتميةِ إلى أطوارٍ شهِدَتْها العربيّةُ قَبْلَ الإسلام، يَرْسمُ مجرىً للعلاقاتِ بَيْنَ مَحْكيِّ اللغةِ ومَكْتوبِها مُغايراً جدّاً لفرضيّةِ “الفسادِ” الآنفةِ الذِكْر.


(نقش النمارة)

في فصلٍ ضافٍ، زاخرٍ بالتفاصيلِ، من فصولِ “القرآنُ في سياقٍ” (وهو سِفرٌ جماعيّ نفيسٌ أعدّته للنشرِ أنجيليكا نويفرت ونيكولاي سيناي ومايكل ماركس وظهر في لايدن سنة 2010) ينشئُ مؤرّخُ الساميّاتِ الألمانيُّ أرنست أكسل كْنوف خريطةً بالغةَ التعقيدِ لتكوين العربيّة التاريخيّ في مَساره الطويل ولحركةِ اللغاتِ، على الأعَمِّ، وتفاعُلِها في المحيطِ نفسه: خريطةً تعصي على كلّ اختزال… على أنّ انتقاءَ بعضِ المعطياتِ من هذا المَسار، بما يناسبُ همَّنا في هذه العجالةِ، يبقى ممكناً أيّا يَكُن نَصيبُ التقحّمِ منهُ والمغامرة.

وأوَّلُ ما يَسْتوقِفُ في المَسار المشارِ إليه طولُه: إذ يقعُ كْنوف للعربيّة على اثني عشرَ قرناً من التحوّلات سبقَت الإسلامَ موَثَّقةٍ بألوفٍ من النُقوشِ جمعَتْها الحَفْريّاتُ من أرجاءِ البيئةِ التي نشأَتْ فيها هذه اللغةُ ونَمَت. وقد خَرَج أكثرُ تلك النُقوشِ من جنوبِ بلادِ الشامِ، موئلِ الأنباطِ والصَفائيّين والتَدْمُريّين، ولم تتمخّض جزيرةُ العرب من بَيْنِها، حتّى يَوْمِنا، إلّا عن الأَقَلّ، تستثنى من ذلك بلادُ اليَمَن. تُبَدِّدُ وقائعُ التاريخِ هَهُنا وَهْماً يجعلُ من شعر المُهَلْهِلِ وامرئِ القيسِ (أو، في أقصى احتمالٍ، من “نقش نَمارة”) أقدمَ ما نعرفهُ من نصوصٍ عربيّة. وتُبَدِّدُ التحوّلاتُ التي تَشْهَدُ بها النُقوشُ، بانتشارِها على الأزمنةِ والأمكنةِ، أخْيِلةً مستقاةً من التراثِ توحي أنّ لغةَ القرآنِ كانت من عهدِ آدمَ على حالِها في القرآنِ إذ أنشأها اللهُ على هذه الحالِ وأنشأَ بها القرآنَ… أو انّ القرآنَ نفْسَهُ قديمٌ لا تَعَلُّقَ له بزمنٍ بما هو كلامُ الله.

على صعيدٍ آخرَ، يوضِحُ كْنوف أنّ الجماعاتِ في دولِ العصورِ القديمةِ لم تكن الواحدةُ منها تُقْتَصَرُ في تدبيرِ الوجوهِ المختلفةِ لحياتِها على لغةٍ واحدة. وإنّما كانت تَتَّخذُ إلى اللغةِ التي تتداولُها مشافهةً لغةً أخرى، على الأقلّ، للمعاملاتِ المشتركةِ بَيْنَها وبَيْنَ سواها من الجماعات، وهذه يَسَعُها أن تَكُونَ أو لا تَكُونَ لغةَ الدولةِ المركزيّة. هكذا جاورت العربيّةُ الآراميّةَ التي سبقَتْها إلى دائرةِ الكتابةِ وجاورت اليونانيّةَ في عهودٍ أخرى، وكان بعضُ من يعرفونَ إحدى اللغتينِ يعرفونَ الأخرى، وهذه معرفةٌ يجوزُ أن نُخَمِّنَ لها أهمّيّةً وظيفيّةً تتعدّى أهمّيّة النسبةِ الحائزةِ لها من أفرادِ الجماعة. إلخ.

الأمرُ الأخيرُ الذي نستحسنُ إبرازَهُ من مطالعةِ كْنوف تأكيدُه أن لغةَ الكتابةِ تكتَنِفُها على الدوامِ محكيّاتٌ مجانسةٌ لها أو مغايرة. فلا معنى للقولِ، مع اعتبارِ المدى التاريخيِّ للعلاقةِ بَيْنَ هذه وتلك، أنّ المحكيّةَ تضعضُعٌ للمكتوبةِ، إذ لا أسبقيّةَ لهذه على تلكَ بالضرورة. بل المُتَحَصِّلُ من المراجعةِ التاريخيّةِ أنّ العلاقةَ دائريّةٌ أو لولبيّة: تَتَّخِذُ واحدةٌ من المحكيّاتِ أو أكثرُ من واحدةٍ لنفْسِها عُدّةَ الكتابة، في ظرفٍ تاريخيّ (سياسيٍّ، اقتصاديٍّ، اعتقاديٍّ، إلخ) يُهَيِّئُها لهذا الخيارِ وتَروحُ تَسْتَكْمِلُ شُروطَه. ولكنّها منذُ أن تُفْلِحَ في فَرْضِ نفْسِها على أنّها لغةُ تعاملٍ في دائرةٍ أوسعَ من الدائرةِ التي نَمَت فيها أصلاً، يَأخُذُ ظلُّها في الانحسارِ عن دوائرِ المشافهةِ وتأخذُ في توليدِ محكيّاتٍ جديدةٍ أو في مداخلةِ أخرى قائمة. يُشيرُ كْنوف، مثلاً، إلى انقطاعٍ مباغتٍ في السلسلةِ التاريخيّةِ للنقوشِ التدمريّةِ ويَعْزُوهُ إلى انقطاعٍ سياسيٍّ حَصَل… هذه، في الواقع، سُنّةٌ عامّة: فاتّخاذُ لغةٍ من اللغاتِ لغةَ تعاملٍ واسعِ النطاقِ، متعدّدِ الأقطابِ، إنّما يَفْتَرِضُ طُموحاً فاعلاً إلى إرساءِ هذا التعاملِ أو صُموداً تاريخيّاً له إذا كان حاصلاً. فإذا ضَعُفَ الطُموحُ أو تَخَلْخَلَ الصُمودُ مالَت لُغَتُهُما إلى الضُمورِ وبرزَت لها لغةٌ أخرى (أو أكثرُ من واحدةٍ) تَجْلُوها عن كثيرٍ أو قليلٍ من أدوارِها. وهذا مع العِلْمِ أنّ اللغةَ المنافِسةَ قد لا تَكُونُ سوى واحدةٍ من محكيّاتٍ كانت تواكبُ اللغةَ الآفلةَ فواتاها مَوْقِعُها وشروطٌ أخرى للانفرادِ بدائرتِها أو لتوسيعِ هذه الأخيرة…

الحالُ أنّنا رَسَبْنا في العصيانِ المدني

الحالُ أنّنا رَسَبْنا في العصيانِ المَدَني…

أحمد بيضون

لم تقُم الساعةُ حين تواطأ رئيسُ مجلس النوّاب ورئيس حكومة تصريف الأعمالِ اللبنانيّان على تمديد فصل الشتاءِ شهراً ولكن حصلت “ضجّةٌ ما بين أحمدَ والمسيح”… هذه الصفةُ التي لازمت الأزمةَ المشارَ إليها من بابِها إلى محرابِها لم تَحُلْ دونَ جَريان ألسنةٍ وأقلامٍ شتّى بعبارةِ “العصيان المَدَني”. والذين أجازوا هذه العبارةَ تسميةً لما حصل لم يكونوا يستنكرون “العصيان” بل بدوا، بخلافِ ذلك، أقربَ إلى الاستبشار بما عَدّوهُ مخالفةً موضعيّةً لموقف الرضوخِ المديدِ الذي جَنَحَ إليه اللبنانيّون بعد خمودِ الحركة التي شهدتها الأشهرُ الأولى من نكبتهم المديدة، وهذه لا يدُلّ شيءٌ مذ ذاك على أنّ لمفاعيلها المدمّرةِ حدّاً معلوماً وهذا ناهيكَ بأن يوجَدَ دليلٌ على توجّهٍ نحو مخرجٍ ما من دوّامتها الطاحنة. كان معنى الاستبشار أنّ الجانحين إليه تبيّنوا في ما يتعدّى طوفان الهزل الذي أطلقتْهُ أزمةُ الساعة، موضوعاً وتعابيرَ، ما يسوّغُ اعتبارَ الرفض الذي استثاره القرار إرهاصاً – لم يستبعد بعضُهم أن يكونَ له ما بعده – بما يخالفُ الاستكانة السائدة للنكبةِ ونومَ اللبنانيّين المتمادي على ضيمها. هذا الإرهاصُ ارتأوا أن يسمّوه “عصياناً مدنيّاً” من غير سؤالٍ عمّن يؤولُ إليهِ، في مشهدِنا السياسيّ المتهالك، طربوشُ سعد زغلول أو خرقةُ المهاتما غاندي وعنزته…

والحالُ أن هذه التسمية تنطوي، في الحالةِ اللبنانيّةِ على العموم وفي ظرف النكبةِ الجاريةِ على التخصيص، على مثارَين للاستغراب، في الأقلّ. المَثارُ الأوّلُ أنّ “المدنيّة” خُصّت في لبنانٍ، من عقودٍ باتت كثيرة، بموقعٍ مستقرٍّ في مواجهة “الطائفيّة”. هذا ما كان في الدعوة مثلاً إلى تشريعٍ مدنيّ للأحوال الشخصيّة وهو ما كان في الدعوة الأعمّ إلى “دولةٍ مدنيّةٍ” تخلف النظامَ الطائفيّ القائم. فكيف صَحّ أن يعدّ عصيانا مدَنيّاً رفضٌ لقرارٍ أُخِذَ عليه اتّسامُهُ، مع عُمومِ مفاعيلِه، بالانفرادِ الطائفيّ فجاءَ الرفضُ بدورِه، على جاري العادةِ في هذا النوعِ من الأحوال، مكافئاً في طائفيّته للمرفوض بل أشدّ منه طائفيّةً بما تخلّله من ذهابٍ إلى أقاصٍ أهونُ شعاراتِها الفدراليّةُ ولكنّ بين سكّانها أيضاً شبَحُ التقسيم وأخيلةُ الحربِ الأهليّة. هذه الأخيرةُ، أي الحربُ الأهليّة، ليست “مدنيّةً” في لسانِنا، على ما هو معلومٌ، وإن تكن هذه صفتُها في ألسنةٍ أجنبيّة. ولعلّنا اخترنا لها صفة “الأهليّة”، على وجه التحديد، ليبقى في وسعها أن تكون “طائفيّة” وليبقى في وسع “المدنيّة” أن تبقى مخرجاً مرتجى من “الطائفية” وضدّاً يُظهرُ حسنَهُ ما خَبرناهُ من قبائح هذه الأخيرة. أقربُ إلى تجسيدِ الطائفيّةِ صفةً لما جرى خطّ الفصل، في كلّ من القطاعاتِ التي كان عليها أن تتّخذ قراراً من إجراء رئيس الحكومة، ما بين مؤسّساتٍ انصاعت وأخرى تمرّدت. وقد مَثّلَ توزّعُ المؤسّساتِ المعلومةِ الهُويّات في قطاع الإعلام على جانبَي الخطّ المذكور – وهذا طبيعيّ – أظْهَرَ تجسيدٍ لطائفيّةِ المواجهة.

مثارُ الاستغرابِ الآخر أنّ من وجدوا في مهزلةِ الساعةِ، أو في سلوكِ إحدى جهتيها بالأحرى، بادرةً أو أزْيَدَ من بادرةٍ لعصيانٍ مدَنيّ لم يكن خطَرَ لهم أن ينسبوا هذه الصفة إلى حالة التعطيل المتمادي الضاربة أطنابَها من شهورٍ كثيرةٍ في إدارات الدولة وفي قطاع التعليم (الرسميّ منه على الخصوص) والتي كانت مشتملةً إلى أمس على القضاء. لم يخطر لهم “العصيان المدنيّ” وصفاً لحالة الشلل هذه وهي مستوليةٌ على معظمِ أجهزة الدولة فيما يرمي العصيان المشارُ إليه إلى شلّ يد الدولة ويعرّفُ بمرماه هذا. لا بُدّ من التنويه هنا بالاستثناء الذي مثّلته أجهزةُ القمع، ولا تزال، في هذا المشهد، وهذا استثناءٌ تضافرت جهودٌ من الداخل والخارج لحفظه، معبّرةً عن خيارٍ إستراتيجيّ حاظٍ، إلى الآنِ، بنوعٍ من الإجماعٍ السياسيّ، المعلَنِ والضمنيّ. مهما يكن من شيءٍ، لم يظهر من ينسب إلى العصيان المدنيّ هذا الاستنكافَ الشاسع عن الخدمة العامّة. ولهذا سببٌ لا يصعُبُ تبيُّنه، وهو أنّ العصيان المشارَ إليهِ مقرونٌ لزوماً بهدفٍ سياسيٍّ. هذا فيما احتجاجُ الموظّفين الجاري خالٍ من السياسة، لا يجدُ ما يقولُه في صددِ السلطةِ وتكوينها ولا في المصادر السياسيّة للمحنةِ الجارية. فمدار حركتهم أجورهم المنهارة وما يتبعها من حقوق وحاجاتٍ مادّيّةٍ أو عمليّة. وهم أفلحوا، بإفراغهم هذه الحركة من السياسةِ، في تجنيبِها، إلى حدٍّ مقبول، ترجمة السياسة المعتادةِ في لبنان: أي التمزّق الطائفي.

على أنّ ما شهدناه في سنواتِ النكبةِ هذه من صورِ المواجهةِ لها والاعتراضِ عليها لم يكن على هذا الخواءِ من السياسة دائماً. فما انطلق في خريف 2019 ودُعِيَ ب”الثورة” كانت السلطة وقواعدُ تكوينِها شغلاً شاغلاً له: لطليعتِه الشبابيّةِ في أقلّ تقدير. ولكنّ الكلامَ الطموحَ لم يجد من سبيلٍ يسلكُه بالأفضليّةِ سوى التظاهر والاعتصام. ولم يلبث أن ظهَرَ أنّ سالكي هذا السبيل ظلّوا معرّضين للحصار من قِبَلِ قوى جسيمةٍ أخرى حفظت تماسكها الإجمالي، في ما يتعدّى ضغوط المحنةِ العامّة، حولَ قياداتها الطائفيّة أي حول أركان السلطةِ والنظام القائمين. ظهر أيضاً أنّ “كلّن” لم يكن يعني “كلّن” فعلاً إذ بقيّ في وسعِ “بعضُن” أن يتخذ له مواقعَ في الحركة الشعبيّة مستفيداً من سنّةٍ استنّها النظامُ اللبنانيُّ لنفسهِ بعد الحربِ هي سُنّةُ الانتماءِ بحماسةٍ واحدةٍ إلى الحكم (أو إلى السلطةِ) والمعارضةِ معاً. هكذا وُجِدَ من بين قوى السلطةِ المعلومةِ من قَطَع الطرق محتَجّاً ومن تولّى قمع المعتصمين على الطرق أو في الساحات. بدا مستبعداً، والحالةُ هذه، أن يصلحَ التظاهرُ والاعتصام سبيلاً إلى تغييرٍ يُعْتَدُّ به في بنى سلطة كانت قادرةً، إذا أجالت النظر في البلاد المجاورة، أن تعلمَ، على سبيل المثالِ لا الحَصْرِ، أنّ مئاتِ ألوفٍ من القتلى وملايينَ من اللاجئين وجَعْلَ عالي البلاد سافلَها مثّلت، في مسلكِ النظامِ الأسديّ، ثمَناً مقبولاً لبقائه.

أيُّ شيْءٍ كان يسعُه – لو بَدا ممكناً! – أن يُمِدّ بفاعليّةٍ جادّة ما انطوت عليه حركة 2019 من طموحٍ سياسيّ؟ الجوابُ الأقربُ إلى التصديق هو العصيانُ المدنيّ: أي تجاوز التظاهر والاعتصام إلى شلٍّ ليدِ الدولة يستنزف موارد السلطة ويعطّل أجهزتها بما في ذلك زعزعةُ ولاء قوى القمع، وتصحبه، في المجتمع، إضراباتٌ متماديةٌ تجهدُ في الاستواء روافدَ للإضرابِ العامّ. من هذا كلّه لم يحصُل شيءٌ في خريف 2019 مع أنّ الحركة الجاريةَ آنذاك اقتربت بطموحها السياسيّ من هدف التغيير الثوريّ إلى أقصر مسافةٍ بلغَتها البلاد في تاريخها الحديث. اقتربت إذن ولكنّها لبثَت بعيدة.

في خريف 2019، لم تحصُل ثورةٌ. حصلت حركةٌ شعبيّةٌ نمَت بسرعةٍ ثمّ راحت تتهاوى حينَ ظهَرَ أمرٌ لا يبدو اليومَ عصيّاً على التفسير: وهو رُسوبُها في امتحان العصيان المدني.

اليومَ يبدو اللبنانيّون (بدليلِ أزمةِ الساعةِ مثَلاً!) أبعدَ ما يكونُ البعدُ عن مجرّدِ الترشُّحِ لهذا الامتحان.