أحمد بيضون
لا أقاوم شهوة الوقوف عند الجزء الثاني من «الرقّ الطوعي»، كتاب الأنثروبولوجي الفرنسي آلان تستار، وقد اختار عنواناً لهذا الجزء: «أصل الدولة». وذاك أن هذا الجزء يعجّ بإيحاءات بعيدة أراها – على بعدها – مسعفة لنا في تناول مسألة الدولة والاستبداد، وهي المسألة التي نتخبّط حاليّاً في إخفاق مواجهتنا لتجسّدها الحسّي – التاريخي، بسائر أمثلته، وكنّا قد غفلنا عن كلّ نظر جادّ في طبقاتها العميقة أو في أصولها.
أي أننا أهملنا – بالعبارة البسيطة – بناء نظريّة لها تنفذ من وصف المظاهر إلى تعليلها والقبض على جملتها المنطقية العامّة، أي على الصورة المجرّدة لبنيتها الواقعية. وكنت قد توقّفت هنا عند الجزء الأوّل من كتاب تستار، وعنوانه «موتى المرافقة»، وهو ينطوي على مدخل إلى مسألة الاستبداد، ولكن يدّخر جلاءها وتمحيصها إلى الجزء الثاني. ويحملني اليوم على تفحّص الجزء الثاني اقتصار تناولنا المعاصر لدولة الاستبداد على الوصف الخارجي لجهازها وسلوكها واستعاضتنا الإجمالية في ذلك بالتنديد عن استقصاء عوامل التماسك… أو ارتضاؤنا – إذا حاولنا شيئاً من هذا الاستقصاء – استنزاف تصوّر العصبية المقترض من ابن خلدون الذي نُلبسه، انصياعاً لاختلاف الحالات، لبوسه الإثني أو القبلي الأصلي تارةً ونفرض عليه طوراً لبوساً قوميّاً، بالمعنى الحديث، أو مذهبيّاً. فإذا غادرناه فإلى تصوّرٍ لصراع الطبقات ينسب إلى هذه الأخيرة أدواراً لم تكن لها ويلبسها أزياء يراها متنكّرةً فيها وهذا حين لا يخترع هذه أو تلك منها صدوعاً بافتراض وجود لها لا يرى منه بدّاً.
قبل تناول الدولة، يلاحظ تستار خللاً فادحاً (لا بدّ لنا من الانتباه مباشرةً إلى ما يخصّنا من عواقبه) في بنية الأنثروبولوجيا الاجتماعية برمّتها يراه في طغيان علاقات القرابة على مقاربتها ما تناولته من مجتمعات أو جماعات. وهو يرى أن المدرسة البنيوية قد زادت هذا الطغيان فداحة. تفضي هذه المقاربة إلى إهمال أنواع أخرى من العلاقات يُدرجها تستار تحت اسم «العلاقات الشخصية» (وهذه تسمية قد لا توحي بأهمّيتها البالغة) ويتابع حالات حضورها وحالات غيابها في جماعات ومجتمعات كثيرة ويرصد بناها العامّة وتحوّلاتها ومفاعيلها. يتمثل المفعول العام لهذا الضرب من العلاقات بـ»الولاء» أو «الوفاء» من شخصٍ لشخص. وعليه يسعها أن تتّخذ صورة «الصداقة» المألوفة، مقترنةً كانت بعهدٍ صريح أو قَسَم أو شعيرةٍ أخرى أم غير مقترنة بشيء من هذا القبيل. ولكن ما يولج العلاقات الشخصية في تكوين السياسة، بما هي إعمالٌ للسلطة وتدبّر لها، إنما هو غلبة اللاتكافؤ وما يليه من تبعية في صورها الأبرز، القابلة لتشكيل القوّة السياسية والاستواء قاعدة وأداة للسلطة ولصاحبها. تلك، في أشدّ صيغها أسراً، علاقة العبد بالسيّد حيث وُجدت. ولكنّها أيضاً علاقة «المحسوب» بـ»وليّه» في روما القديمة أو علاقة «المولى» أو المملوك المُعْتَق بمولاه في المجتمعات الإسلامية أو علاقة القنّ أو التابع بصاحب الإقطاع أو بمن يقوم مقامه في أوروبّا العصر الوسيط، إلخ.
ولكن ما الدولة؟ ولِمَ وجب أو جاز أن يقترن البحث في أصلها بالبحث في أصل الاستبداد؟ وكيف يصحّ أن تعتبر العلاقات الشخصيّة أصلاً للدولة وللاستبداد معاً؟ يقبل تستار التعريف الفيبري المشهور للدولة وهو تعريفها بـ»احتكار القوّة الشرعية» في المجتمع، وهو ما يفترض أن يكون، بالدرجة الأولى، احتكاراً للحقّ في إعلان الحرب وخوضها وللحقّ في إجراء العدالة. ويشير وصفُ القوّة أو العنف بالشرعية إلى الاختلاف ما بين الدولة والمافيا مثلاً. ولمّا لم تكن الدولة قد وجدت في كلّ مجتمع أو جماعة ولا في كلّ عصر من عصور التاريخ وما قبله فإن السؤال عمّا يجعل وجودها محتوماً أو راجح الاحتمال، في الأقلّ، يصبح متوجّب الطرح. وهو ما يُدخل تستار في مناقشة أرادها وجيزةً ولكنّها جاءت ثاقبة لأشيع النظريّات في أصل الدولة.
لا يقبل تستار نظرية العقد الاجتماعي، على اختلاف مصادرها، إذ يرى فيها همّ إسباغ الشرعية على الدولة لا همَّ البحث في أصلها. وذاك أن أصحابها أنفسهم لا يزعمون أن هذا العقد أُبرم فعلاً، في يوم من الأيّام، بين أطراف فعليّين. وإنما يرى روسّو ومشايعوه في الدولة «خدعةً» فرضها أهل الثروة على المجرّدين منها مع استتباب الملكية الخاصّة. وهو يزعم أسبقيةً للدولة الديمقراطية فيقع في ضلال وقَع أكثرُ نظريي القرن العشرين في الضلال المقابل له، فيما لا تأذن المعطيات المتاحة اليوم ببتّ هذه المسألة لا في هذا الاتّجاه ولا في ذاك.
ولا تنأى النظرية الماركسية عن هذا المنطق كثيراً، وقد حظيت بعبارتها الأوفى في كتاب مشهورٍ لإنجلز. وخلاصتها أن الدولة مقترنة الوجود بالصراع الطبقي تضبطه بـ»النظام» حائلةً دون اتّخاذه صيغة المقتلة المفتوحة وتسهر على سيطرة الطبقة المسيطرة. والحال أن إنجلز إذ يفترض ظهور الدولة مع ظهور الملكية الخاصّة والرقّ في اليونان القديمة، يزاول – في ما يرى تستار – «تاريخاً خياليّاً» يدحضه الوجود الثابت للدول قبل هذا العهد بدهر سحيق. ويخالف «نمط الإنتاج الآسيوي» الذي عرض ماركس لبعض مميّزاته هذه النظرية مخالفة قاطعة. ففي مصر وفي الصين القديمتين، كان «السياسي» مهيمناً على «الاجتماعي» بأسره وكانت السلطة (أو الوظيفة) مصدر الثروة، لا العكس. ولا يقول أيّ دارس جادّ اليوم بتولّد الممالك الأفريقية التقليدية من صراع الطبقات. أوقع من ذلك أن التصوّر الماركسي للدولة يبقى «وظيفيّاً» فلا يعالج مسألة الأصل. هو يتابع صورة «الدولة – الشرطي» التي جاء بها بعض نظريّي الثورة الفرنسية. وهذه صورة مستقاةٌ ممّا كانته الدولة الأوروبية في مرحلة تاريخية بعينها، ولكن الماركسية تعمد إلى تعميمها، فيما لا يقوم دليل على اطّراد حماية الاستغلال وظيفةً للسلطة، بحيث يصحّ ردّ هذه إلى مجرّد وسيلة لذاك، بل يكثر أن تتواءم الثروة والسلطة بما هما غايتان تسعى كلّ منهما في تحصيل الأخرى وحمايتها. والدولة إنّما ولدت من الرغبة في السلطة فيما كانت الرغبة في الثروة منتشرة قبل الدولة.
بعد هذا يبدي تستار إعجاباً متحفّظاً بإسهام روبرت لوفي في استنطاق السؤال نفسه. فهذا الأنثروبولوجي يجرؤ على الخروج من نطاق القرابة ليجد دوراً في منطلق التحوّل إلى الدولة للّقاء الحرّ بين إراداتٍ مقرّة بأفضلية هذا النوع من تدبّر القوّة وليقرّ أيضاً، مقتفياً أثر سلفه الكبير جيمس فريزر، بدور للعامل الديني أو للسحر في تأسيس السلطة. ولكن تستار لا يقبل قولَ لوفي بعمومية الدولة، أي افتعالَه إيّاها حيث لا توجد. وهو إلى ذلك لا يرى العامل الديني فاعلاً في هذا الاتّجاه ما لم يدخل وعوامل أخرى مختلفة في تشكيل موافق. وأمّا مبالغة الأصول القديمة في إظهار البعد الديني للسلطة فيردّها تستار إلى صلاحه لتمجيد الحاكمين.
هذا وقد يكون كارل فيتفوغل، صاحب كتاب «الاستبداد الشرقي»، أشهر المعتنين بـ»أصل الدولة» بعد إنجلز، وهو منسوب، في كلّ حالٍ، إلى الحومة الماركسية (وإلى المروق منها أيضاً!). ولنظريّته جاذبية مصدرها السهولة إذ هو يعرض لنشوء الدول في أحواض الأنهار فيرى في الحاجة إلى تنظيم الريّ أصلاً للحاجة إلى سلطة مركزية يذهب بها اقتضاءُ الفاعلية مذهبَ الاستبداد. ردّاً على هذا ينوّه تستار (الذي يذكر أن فيتفوغل لم تكن له معرفةٌ بالآثار) بكون الريّ، في مصر القديمة مثلاً، لم يكن يحتاج إلى إنشاءات أو إلى تنظيم من النوع الذي لا يقوى عليه غير الدولة. ويضيف أن مقياس النيل الذي كانت تتميّز به السنوات السمان من السنوات العجاف كان يوطّد هيبة الفرعون، ولكن لم يكن يردّ غائلة المجاعة. أمّا ما خلّفته الدول الفرعونية من منشآتٍ مهولة، أي الأهرام والهياكل مثلاً، فهو «عديم النفع» بمعنى أنه لا يطعم خبزاً ولا يجاوز أن يظهر عظمة السلطة ووقوعها فوق متناول العامّة من البشر. ثم إن ضرورة التنظيم لا تملي الاستبداد إن لم يكن هذا الأخير سابقاً لها.
بهذه الألمعية وبما تقتضيه من إحاطة عزيزة النظير بالمعطيات وبالنظريات، يواصل تستار التصدّي لنظريّات لا ينكر وجاهتها ولكن يأخذ عليها أنّها، إن فكّت لغز فئةٍ من الحالات (أي من الدول) فهي تخلّف فئاتٍ من غير حلّ، وإن أبرزت عاملاً تراه حاسماً فاتتها حاجته إلى عوامل أخرى لا يوجد دليلٌ على أنها كانت أدنى منه فاعلية. ذاك ما يعمد إليه مؤلّفنا، مرّةً أخرى، عند التعرّض لنظرية كارنيرو «البيئية» في أصل الدولة. وهمّه في مختلف الحالات، بعد أن يعيّن المعطيات التي يترتب على نظريّةٍ في أصل الدولة إيضاحُها، أن يشير إلى ما توضحه كلّ من النظريات المعروضة وما تهمله أو تغادره معلّق الدلالة. هكذا يعيّن فئةً من النظريّات (هي «الآثارية») تلقي ضوءاً على أصل الدول الأولى وفئةً أخرى (هي «الاجتماعية») تعتمد بصدد ما استُجدّ من الدول في عصورٍ أخرى فرضيةً «انتشارية» يراها تستار متهالكة. يُجْمع الآثاريون على خلوّ العصر الحجري القديم من الدول. وذاك أنهم يقرنون ظهور الدولة بظهور الحضارة أي بظهور الكتابة والمدن وعمارة الصروح والطبقات الاجتماعية. أما تستار فيبرز كون الدول الأفريقية القائمة على الرعي لم تخلّف «آثاراً» تذكر، مؤكّداً وجودَ ممالك لا مدنَ فيها، نافياً ضرورة ظهور الدولة في الحفريّات وإمكان الجزم بتاريخ لظهور الدول هنا أو هناك، متخلّصاً من ذلك إلى القول إن فيتفوغل وكارنيرو إنما يقترح كلّ منهما نظرية لولادة الحضارة لا لولادة الدولة. ذاك أن نظرية أصل الدولة عليها أن تعلّل ما تنفرد به الدولة أي «احتكار العنف الشرعي» وهو ما لا يفلح فيه تفسير نشوئها بالحرب أو بالبيئة أو بالدين والسحر. فهذا كلّه يستقيم بدولة وبلا دولة. وحده إنجلز – يقول تستار – ردّ وجود الدولة إلى ماهيّتها هذه إذ اعتبر لها «وجوداً فوق المجتمع». ولكن تستار يرى في النظرية الماركسية، من وجه آخر، قصوراً أشرنا إليه.
هذا يردّنا إلى «العلاقات الشخصية»، وهي الأثيرة عند تستار بما هي منطلقٌ لنشوء الدولة ولغلبة الاستبداد عليها معاً. فإن الدولة، وإن تكن دولة أقبح المستبدّين، تبقى محتاجةً إلى أجهزةٍ على حدةٍ وبشرٍ على حدةٍ، بالتالي. وليس هؤلاء هم «البيرقراطية» بالضرورة. فإن للعلاقة وللتنظيم البيرقراطيَّين أوصافاً لا نقع عليها متحقّقة في كثيرٍ من الدول. فلم لا يكون «الأوفياء» الذين وقع عليهم تستار في منظومات «العلاقة الشخصية» قد سبقوا البيرقراطية إلى تكوين أجهزة الدول وكيف كان لهم ذلك؟ لهذه المسألة نكرّس – ملازِمين عملَ تستار الجليل – عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني
أحمد بيضون