طبقتان في الاستعصاء اللبناني

أحمد بيضون

Nov 28, 2016

مراراً نوّهنا، في مدى السنين – بل العقود – الفائتة، بأن اتّخاذ كلّ من الطوائف الرئيسة في لبنان ممثّلاً لها لا بديل منه في أيّ صيغة من صيغ الحكم المتاحة إنما هو الأصل الاجتماعي- السياسي لاستعصاءٍ في النظام الطائفي لا نهاية له.
فإذا عدنا، في ضوء هذه الواقعة الأساس، إلى الشروط التي باتت تُفترض لانتظام عمل الآلة الحاكمة، أمكن أن نتخيّل طبقتين يدور عليهما الاشتراط والاستعصاء. الطبقة الأولى تتمثّل في الثبات المتمادي للأصل المشار إليه: أي في الوجود المستمر لصفّ من التشكيلات السياسية الرئيسة، وجميعُها طائفي، لا مَحيدَ عن مثولها في السلطة التنفيذية. وهو ما يبقي سيف النقض والشطط في التصرّف والمطالبة إلى حدّ الخروج الصريح على الدستور مسلطاً على عنق الحكم، بل على عنق الدولة برمّتها.
مع ذلك، لا يكفي تمثيل هذا الصفّ من القوى في الحكومات لاجتناب الأزمات. فإن كلّ خلاف بين قوّتين من هذه القوى على أمرٍ ذي خطر يُطرح في ساحة الحكم، سرعان ما يستوي خلافاً بين الطائفتين بما لهذه الصفة من منطويات. وهو، أي الخلاف، قابل بهذه الصفة نفسها، أن يتمخّض عن أزمة حكومية أو عن أزمة حكم أعمّ نطاقاً، أو عمّا هو أسوأ إن لم يتيسّر حلٌّ أو يحصلْ رضوخٌ يستعاض به عن حلّ الأزمة بإرجائها. وما يجعل هذا الأمر كثير الورود في الحكومات الجامعة، إنّما هو الاستقطاب المعلوم للقوى الطائفية من جانب دولٍ في المحيط أو في ما هو أبعد منه. وهو ما يمنح المواجهةَ بين هذه القوى ديمومةً وحدّةً ويُمدّها، لا بالطاقة الخلافية وحسب، بل ببعضٍ من أهمّ موضوعاتها أيضاً.
فوق ذلك، ظهر بالاختبار أن مثول قوى الطوائف الرئيسة كلّها في حكومة من الحكومات لا يكفي لمنح هذه الحكومة استقراراً وشرعية يقتضيهما انتظام عملها وتمتّعها بديمومة تكافئ المشقّة المحتملة في استيلادها، بل سرعان ما ينجلي مشهد الطبقة الأخرى من الطبقتين اللتين قلنا إن الاشتراط والاستعصاء المستحكمين بآلة الحكم الطائفية في طورها الأخير يدوران عليهما. تتمثّل هذه الطبقة الثانية في مقارنةٍ لا تلبث ان تفرض نفسها ما بين الأطراف الطائفية الحاكمة لجهة القوّة التي يتمتّع بها كلٌّ منها في طائفته ودرجة تمثيله لهذه الأخيرة. ولمّا كانت مسارات التشكّل السياسي لكلّ من الطوائف تخصّها إلى حدّ ما وتمليها ظروف وأحوالٌ مميّزةٌ لها، ولمّا كانت ظروف تشكيل الحكومات تضيف إلى هذا الاختلاف ما يعزّزه، فإنه يتعذّر، في العادة، أن يكون تمثيل هذه الطائفة في الحكم مساوياً في قوّته تمثيل أخرى أو أخريات. فيمكن مثلاً أن يتمثّل الشيعة بتسعين بالمئة ممّا قد تصحّ تسميته «فاعليّتهم السياسية» الإجمالية فيما يتمثّل السنّة بسبعين بالمئة من فاعليّتهم المماثلة ولا تتجاوز قوّة التمثيل الماروني أربعين بالمئة من الفاعلية المجتمعة للموارنة. ولْننبّهْ هنا إلى أن هذه الفرضية لا تصدر عن محض التخيّل، بل إن وضعاً قريباً إليها قد كان قائماً في بعضٍ من حكومات هذه المرحلة.
أمّا ما تسفر عنه هذه المقارنة فهو رفع القوى المستبعَدة في الطائفة الناقصة الحظوة قميصَ الغبن الطائفي.. وهذا الغبنُ مَطْعَنٌ مضمون الفاعلية، طالَ الزمن أم قَصُر، في الشرعية المبدئية لأيّ حكمٍ لبنانيّ قائم. يزيد من صحّة هذا الأمر أن الحرب اللبنانية جَبَّت ما كان قبلها من تسليمٍ بالأرجحية لطائفةٍ من الطوائف، كائنةً من كانت، ورفعت حسّ المساواة المبدئيّة بين الطوائف إلى أقصى حدّته. وما يتّصل بتأليف الحكومات من هذه الواقعة أن الرغبة في اجتناب مطعن الغبن راحت تزكّي، في نهاية المطاف، إدخال جملة القوى السياسية الطائفية في البلاد (ومعها حواشيها ذات المشرب «العلماني» أيضاً) في الحكومات. ويزيد هذا السعي، بطبيعة الحال، من صعوبة التوصّل إلى ميزانٍ لتوزيع الحقائب، وهي متباينة الأهمّية والمزايا، متعدّدة الفئات، يعدّ مضبوطاً على أنصبة الطوائف وأحجام القوى ومقتضيات المرحلة، إلخ. وهذا، أي الميزان المضبوط، مطلب قد يطيل من أمد التأليف. ولكن الخروج من نفق التأليف بحكومة هذه حالها (ويطلق عليها تفاؤلاً لقب «حكومة الوحدة الوطنية») لا يسعه أن يكون غير تمهيد لا يطول العهد به في العادة لدخول النفق التالي: نفق العمل الحكومي الذي تنذره الأوضاع والتوجّهات نفسها باستعصاءٍ جديدٍ قديم.
وقد يُتوهّم إمكان للنجاة من هذه الدوّامة يتيحُه اعتمادُ صيغة أخرى (أو أكثر من صيغة واحدة) في تأليف الحكومات، مغايرةٍ للصيغة الجامعة التي حازت في السابق (وتحوز اليوم) أفضليّةً بات يمليها التكوين الطائفي الذي استقرّ عليه المجتمع السياسي اللبناني منذ الحرب… وهذه أفضليّةٌ كان يزكّيها المبدأ الطائفي لنظام الحكم أصلاً. ولكن الصيغ المتاحة، في نطاق ذاك المجتمع السياسي وهذا النظام، ضئيلة العدد جدّاً. توقّفنا عند الحكومة الجامعة (أو حكومة الجميع!) وذكرنا عسر تأليفها ومناخ الاستعصاء الذي لا يلبث أن يخيّم على عملها. هي، فضلاً عن ذلك، حكومة تلغي المعارضة (ما خلا معارضةَ بعضها لبعض!) وتسهّل تحويل الوزارات إلى إقطاعات للوزراء وتغري بالفساد. ولكن ماذا عن حكومة الغلبة التي تحشد أكثريّاتٍ طائفية في وجه أكثريّةٍ لطائفةٍ أو لأكثر من طائفة تُلْجأُ إلى البقاء في خارج الحكم؟ هذه جُرّبت أيضاً وظهرت، بسببٍ من مجافاتها مبدأَ الشركة الطائفية، نُذُرٌ لخطرها على السلم الأهلي وظهر أثرُها في رفع منسوب التوتّر بين الطوائف على التعميم.
لا يبقى – إذا استبعدنا الحكومة العسكرية – سوى حكومة التكنوقراطيّين… وكان رئيس الجمهورية، بما كان له من سلطان قبل الحرب وفي أثنائها، قادراً على ارتجال رئيس للحكومة من هذه الشريحة وصفٍّ من الوزراء منها أيضاً يجسّد بهم «خطّه» في الحكم ويحكم من خلالهم… وهذا من غير أن يُشْتَرَط انتماؤهم جميعاً إلى طائفة الرئيس. ذاك زمن مضى وانقضى. في زمن ما بعد الطائف، مثّلت «هيئة الحوار الوطني»، وهي تضمّ أعيان الطوائف الكبار هيئة وصايةٍ معنوية على الحكم. هذه الوصاية تصبح فعلية – في الوضع الحالي للرئاسة الأولى – إذا جيء بحكومة من التكنوقراطيين. وهي – أي الوصاية – ستمارس إذّاك على الوزراء فرداً فرداً من جانب القادة في طوائفهم من دينيين ومدنيين، وهذا بقطع النظر عن وجود «هيئة الحوار» أو عدمها.
هي إذن – مرّةً أخرى – أنفاقٌ نخرج من أحدها لندخل في تاليه. تلك هي الصورة التي بات عليها النظام الطائفي في طوره الأخير هذا. والطائفية طاغية الحضور والقوّة بين ظهرانينا، أمس واليوم. هي تقتات من المخاوف المتبادلة ومن المطامع ومن التبعيّات ومن خشية المجهول. ويمدّها اليوم بقوّة فائضة – بعضها رمزيّ وبعضها حسّيّ مادّي – ما يشهده المحيط من صراع برز له، بين وجوهٍ أخرى، وجهٌ طائفي أو مذهبيّ غليظُ القَسَمات. فيتآزرُ الداخل والخارج في حفظ الصفة الطائفية لخريطة المجتمع السياسي ولخطوط المواجهة بين أطرافه.
ولا يرى الناظر المدقّق في أحوال لبنان، حاضره وماضيه القريب، من مخرج طائفيّ من أزْمة النظام الطائفي، وهي ما حاولنا تعيين معالمه الكبرى ههنا في مستوى الحكم. وصفوة القول فيها أن تداول السلطة قد ولّى عهده في لبنان. فإذا وُجد منه أثر اليوم فموقعه في الهوامش من السلطة لا في المتن. وذاك أن السلطة أصبحت سلطة الكلّ المتلاطم الأطراف والعاجز عن التدبير السياسي الموحّد لشؤون البلاد. ولا تنتقل السلطة من موالاة إلى معارضة إذ لا وجود يذكر لهذه الأخيرة في خارج السلطة نفسها. وإنما تتغيّر موازين السلطة لصالح هذا أو ذاك من أطرافها بالصراع الداخلي المديد نسبيّاً وبقدر من التساوق مع كلّ تغيّر يحصل في موازين المحيط.
لا مخرج طائفيّاً من أزمة هذا النظام إذن. ولكن المتطلّع إلى مخرج غير طائفي يعلم أن لا قيمةَ لمَخرجٍ من هذا القبيل ولا وجاهةَ إن هو لم يكن موضوعاً لسعي جمهور اللبنانيين وثمرةً لنضال هذا الجمهور. وهذا شرط يبدو للعيان بُعْدُه عن متناولنا. هو بعيدٌ، لا يزال، على الرغم من وقفاتٍ نضالية متنوّعة شهدتها السنوات القريبة الماضية وظهرت فيها ملامح سعيٍ شعبي إلى تحقيقه. وأخطر ما في بُعْده أن تفضي الأزْمة المتمادية إلى «حلٍّ» آخر لها أقربَ إلى المتناول: «حلٍّ» يكون أسوأَ من الأزْمة نفسها.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s