لبنان: حلقة الأنفاق المفرغة

أحمد بيضون

Nov 21, 2016

حتى الساعة، لم يطل العهد كثيراً بالمسعى الذي يبذله سعد الحريري لتأليف الحكومة الأولى في عهد ميشال عون. ولكن كلّ وقت مناسب للتأمّل في البلاء الذي يجعل اللبنانيين لا يخرجون من وضع غير مألوف في دولة سويّة التكوين المؤسسي إلا ليدخلوا في وضعٍ آخر لا يقلّ عنه خروجاً عن المألوف ناهيك بالمأمول.
بل إنه يمكن القول إن اللبنانيّين تبقى أيديهم على قلوبهم ولو خرجوا، مثلاً، من نفقين تباعاً في وقت مقبول، إذ سرعان ما يلوح لهم مدخل نفق ثالث يتوقعونه مظلماً وطويلاً. صحيح أن كلّ خروج إلى ضوء النهار يمنحهم مهلة للتنفّس وللبحث أيضاً في كيفية تحويل الطريق التي تسلكها بهم بلادهم عن النفق التالي، ولكن هذه المهلة لم تطل في أيّ مرّة من زمن بات طويلاً نسبيّاً: من سنة 2005، في أدنى تقدير، ما دامت حوادث تلك السنة قد باتت تعدّ، وهي جديرة، محطّة أو بداية يؤرّخ بها، كما كان يؤرّخ قبلها باتفاق الطائف ونهاية الحرب، وكان يؤرّخ قبل نهاية الحرب بعام نشوبها.
فقد شهدت البلاد في أحد عشر عاماً تقضّت على اغتيال رفيق الحريري وخروج القوّات السورية من البلاد حالات تشبه كلّ منها هذا أو ذاك من أمراض الآدميين: فبعضها يشبه الصرع (مثلاً حرب 2006) وبعضها يمتّ بنَسَبٍ إلى الشلل (مثلاً: الشغور الأخير في كرسي الرئاسة الأولى والتمديد لمجلس النواب) وبعضها إلى داء الكزاز أقرب (مثلاً: الغِلابُ الممتدّ من تأليف المحكمة الدولية واستقالة الوزراء الشيعة في سنة 2006 إلى مؤتمر الدوحة وانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في سنة 2008) إلخ. وقد طالت هذه المرحلة، بمحطّاتها المختلفة، إلى حدّ جعل البيّنة، خلافاً للقاعدة، لا على من ادّعى بل على من أنكر أنّنا في أزمة نظام مقيمة ولسنا في أزمة سياسية من القبيل الذي يؤمل أن يستوعبه النظام: يستوعبه ولو بعد صراعٍ يقصر أو يطول وبعد إجراءاتٍ موضعية تُتّخذ فتبدو كافية لإقلاعٍ جديد وإن أُخذ عليها دائماً نقصٌ هنا وعِوَجٌ هناك.
من ثلاثة أسابيع، انتُخب، بعد عامين ونصف عامٍ من شغور الكرسي، رئيسٌ للجمهورية. وكانت قد سبقت الشغور الأخير، بين عامَي 2007 و2008، حالة شغورٍ أخرى في الكرسيّ نفسه دامت أشهراً. ولكن رَحَلت الحكومة القائمة (حكومة تمّام سلام)، مع انتخاب الرئيس الأوّل، وهو أمرٌ نظاميّ جدّاً. ولكن نظاميّة الرحيل لا تعفي من تذكّر المدّة التي كان قد استغرقها تأليف تلك الحكومة: إذ هي كانت الأطول في تاريخ شرقنا المعاصر: فبلغَت 316 يوماً متفوّقةً في الطول على أقرب سابقةٍ عراقية إليها وغير مسبوقةٍ، على نطاق العالم، في ما أعلم، إلا بحالة وَاحِدَةٍ، بلجيكية الموطن. وكانت قد سبقتها، في المرحلة نفسها، حكوماتٌ أخرى، طعن في «ميثاقية» وَاحِدَةٍ منها (والصحيح القول في توازنها الطائفي) بعد انسحاب مكوّنها الشيعي وتضامن حلفائه معه في خارجها. وكان أن المعسكر الذي ائتلف في مواجهتها راح يعتبر، بعد أن قاطعها، أن كلّ ما اتخذته من قرارات (بما فيها مشروع الموازنة العامّة) لا شرعيّةَ له بسببٍ من مخالفته «ميثاق» الطوائف. فبقيت البلاد مُذ ذاك تنفق ما تنفق بلا موازنةٍ مقَرّة، وذلك لتعذّر قَطْعِ الحساب وفقاً للأصول. وحين تشكّلت لاحقاً حكومةٌ ارتضاها هذا المعسكر (وهي حكومة نجيب ميقاتي الثانية التي طالَ مخاض تأليفها أشهراً أيضاً) ساغ للمعسكر المقصى (وهو ذاك الذي طُعِن في «ميثاقية» حكمه سابقاً ويتصدّره التيّار الحريري) أن يطعن بدوره في «ميثاقية» الحكومة الجديدة، ولكن بسبب وهن التمثيل السنّي فيها، هذه المرّة. وكان منطلق هذا التحوّل أن المعسكر الذي لم يتمكن من إسقاط الحكومة، في سنة 2006، بسحب وزرائه منها، تمكّن، في سنة 2011، من بلوغ الغاية نفسها بالطريقة نفسها، فافتتح إذّاك أزمة «الميثاقية» الثانية التي ذكرنا للتوّ.
في المدّة نفسها، كان مجلس النوّاب يموت أو يتماوت كلّما نُكبت السلطة التنفيذية بواحدةٍ من عللها المتمادية تلك. فأبوابه تغلق حين يعلن المعسكرُ الذي ينتمي إليه رئيسُه أن الحكومة باتت فاقدة الشرعية. وأبوابه تغلق حين يطول عهد البلاد بفقدان الحكومة أصلاً، ما خلا تلك المستقيلة والمكلَّفة «تصريف الأعمال». وأبوابه تغلق حين يستحيل «هيئةً ناخبة» بسببٍ من شغور كرسيّ الرئاسة الأولى، فتتعذّر مواصلة التشريع باستثناء ما ارتُجلت له تسميةُ «تشريع الضرورة» وهو يشبه كثيراً مداراة الموت السريري بآلة التّنفّس. يتعذّر انعقاد الهيئة الناخبة أيضاً لعلّة الافتقار إلى الثلثين اللازمين لتأمين النصاب، في هذه الحالة، ما دام التسليم بالشخصية المتوقّع انتخابها غير حاصل. تلك حالٌ دامت أشهراً بين عامي 2007 و2008 ثم تمادت سنتين ونصف سنة قبل أن يتيسّر الانتخاب الرئاسي الأخير. على أن الموات التشريعي، بما فيه العجز عن وضع قانون جديد للانتخابات (مجمَعٍ، في ظاهر الحال، على ضرورة وضعه)، لم يحل قطّ دون تمديد مجلس النواب ولايته مرّتين بحيث قاربت الولاية الواحدة، اليومَ، أن تُصبح ولايتين تامّتين.
ولا موجب للتنويه بأن التشريع لا يتعطّل أو يضطرب وحده، في هذه الحالة، وإنما يتعطّل أو يضطرب التسيير المنتظم لمؤسّسات الدولة أيضاً، من مدنيّة وعسكرية، بما في ذلك التعيين الضروري لبدلاء ممّن يتقاعدون وحتى التمويل الدوري لأعمال جارية، إلخ. فإذا ألقينا نظرةً إجمالية على مرحلةٍ بدأت تزيد عن عقد من السنين، وجدنا أن تعطّل الرئاسة الأولى وغياب الحكومة التامّة الصلاحية أو استعصاء العمل المنتظم على حكومة قائمة وتجميد العمل في مجلس النوّاب لعلّة دستورية أو لأخرى سياسية قد تناوبت أو تراكبت كلّها لضرب الأداء المعتاد أو المفترض لآلة الحكم بأسرها. وذاك أن العطل في واحدٍ من هذه المستويات كافٍ لإدخال الخلل الجسيم على عمل الدولة كلّه وللإشعار حين يطول الأمر سنيناً كثيرةً إلى هذا الحدّ بأن العطل قد بلغ صلب النظام واستقرّ فيه وأنه لم يبق مفرّ من البحث عنه والسعي إلى معالجته في مستقرّه العميق ذاك.
والحال أن أصل العلّة واضحٌ جدّاً وقد دأبْتُ على إبرازه من يوم أن أصبح أمراً واقعاً وظهر ثباته أي من زمن الحرب اللبنانية المعلومة. وهو أن الطوائف الرئيسة في البلاد قد اتّخذت كلّ منها، بحكمٍ من الحرب ثمّ من التسوية التي أفضت إليها الحرب ومن أعوام إعادة الإعمار، تمثيلاً سياسيّاً ظاهر الغلبة، بحيث لا يستقيم بديل منه في أيّ صيغة للحكم ويصبح استبعاده مرادفاً، على نحوٍ ما، لاستبعاد الطائفة نفسها من حومة الدولة. هذا الاستبعاد، على ما هو معلوم، يطيح النظام الطائفي من أصله إذ هو ينافي منطقه كلّياً. وأما انتصاب من لا بديل منه لتمثيل طائفةٍ من الطوائف في الحكم فمؤدّاه أن يُمْنَحَ هذا الطرف بالتالي حقّ نقضٍ صارم حيال مطالب الأطراف الأخرى أو مقترحاتها وحقاً في الاستفاضة والشطط في مطالبه أيضاً: يستند في الأمرين إلى علْمه بتعذّر الاستغناء عنه أو، في الأقلّ، إلى قدرته على الطعن في شرعية الحكم كلّه إذا حصل هذا الاستغناء. والعارف بالماجريات اللبنانية، في السنوات الأخيرة، يعلم ان هذا الكلام ما هو بالتحسّب النظري وإنما هو ما تتوصّل إليه المعاينة الحسيّة لعمل آلة الحكم اللبنانية وعمل معارضتها (أو لتعطّل هذه وتلك أيضاً) في المرحلة التي نتناول.
أمّا الوضع المتحصّل من هذا الطور في سيرة النظام الطائفي فهو الاستعصاء الذي نرى أو حلقة الأنفاق التي لا مخرج من أحدها إلا في اتّجاه مدخل الآخر. وأمّا الكيفيات الحسّية التي يتجسّد فيها هذا الاستعصاء ويفرض نفسه فتستحقّ منّا وقفةً على حدة.
كاتب لبناني

 

أحمد بيضون

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s